مَــــدَدُ ربّ السمـــاءِ
حينما أمر المولى عزَّ وجل أبانا آدم _ عليه الصلاة والسلام _ بالنزول من الجنة إلى الأرض دار الجدّ والاجتهاد، والشدة والمشقة، فقال عزَّ من قال: {قلنا اهبطوا منها جميعاً} [ البقرة : 38 ] .. لطفَ اللطيفُ الرحمن بكريم خلقه .. لم يتركه ونفسه ، أو يُمَلّك العدوّ أمره {ما ودّعك ربك وما قلى} [ الضحى : 3 ] ، بل هبّت نسمات الفضل، وتَنزَّلت أُعطيات الكرم ، وحلّت سحائب الرحمة من الرؤوف الودود على الفور، فقال سبحانه وتعالى :{فإمَّا يأتينّكم مني هدىً فمَن تبع هُداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} [ البقرة : 38 ] أرقّ مواساة، وأعذب طمأنينة، وأحسن سكينة ، وأحكم توجيه، وأرشد تربية، وأبلغ موعظة، وأعظم وصية!
هذا بعد أن تاب عليه.. تدبّر كيف كان ذلك ؟! {فتلقّى آدم من ربه كلماتٍ فتاب عليه إنّه هو التواب الرحيم } [ البقرة : 37 ] علّمه كيف يتوب ليتوب عليه ، فسبحانك من غافرٍ للذنبِ ، وقابلٍ للتوب .. !
الإنسان مخلوقٌ ضعيفٌ ، حقيقة قررها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ، إذ قال : {وخُلق الإنسان ضعيفاً}[النساء: 28 ] .. ضعيف النفس .. ناقص القُوى .. قليل الحيلة ، وَهن التدبير .. وإن كان أذكى الأذكياء! قد تتمرّد عليه نفسه فلا يستطيع أن يملك زمامها، قد تغلبه شهوته فيُحرر لها خِطامها ، قد يفتر عن طاعة، وتشقّ عليه عبادة ، ويعجز عن صبر ساعة ، و يصعب عليه مفارقة عادة ، تعتريه الأمراض والأسقام، وتُصيبه البأساء والضرآء، يُكسر فيحتاج إلى جابرٍ، يُمنع فيحتاج إلى مُعْطٍ ، يضل فيحتاج إلى هادٍ .. ذلك لنعلم حقيقة أخرى قررها ربنا سبحانه وتعالى{ ومن أصدق من الله قيلاً } [النساء: 122]،، ولنعرف من نحن ؟! كما عرَّفنا بنا من خلقنا، فقال الباري سبحانه: {يآ أيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغني الحميد} [ فاطر : 15 ] فارعها سمعك، واحضر لها قلبك .. !
أنتَ يا عبدَ الله الفقير المسكين المحتاج ..، الذي لا تقوم لك قائمة ، ولا يصلح لك حال ، ولا تملك لنفسك نفعا ً ولا ضراً ومن باب أولى لا تملكه لغيرك ، ولا تشاء إلا أن يشاء سيّدك، الذي امتنّ عليك ابتداءً بنعمة الإيجاد في هذه الحياة من العدم، سَخَّر لك من البشر مَن جعل فيهم محبتك ورعايتك جبلةً و فِطرةً منذ خروجك إلى هذه الدنيا، وإلى أن يبلغ بكَ العمر مايبلغ ، بل إلى ما بعد مماتك .. إن هم شهدوا ذلك..إنهما والداك ، وسخّر لك من الملائكة من يحفظك من كل مكروه غير ما قُدّر لك {له مُعَقّباتٌ من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } [ الرعد : 11 ] ، شقّ لك السمع والبصر وآلة المنطق وسائر الجوارح {ألم نجعل له عينين * ولساناً وشفتين} [ البلد : 8 _ 9 ] ، علّمك ما لم تكن تعلم، ربَّاك وهذّبك وطهَّرك بشرائع الدين وأحكامه.. ، بسط لك الأرض وهيَّأها لتسير في طلب مصالحك ولتُعمرّها ، رزقك قُوتك ولُقمة عيشك من غير حولٍ منك ولا قوة، رفع السماء بلا عمدٍ وزيّنها بمصابيح، وجعل الشمس سراجاً والقمر نوراً..آيات للسائلين ، ومسح بالجمال على كثيرٍ من مخلوقاته.. فتأمّل عظمة الجميل! هو فارجُ الهمٍّ ومُنَفسَ الكرب، وشافِ المريض وُمقَضٍ الدين عن المدينين ..هو قَريب مجيب، حَيّي .. يستحي أن يرد يديك صفراً إن أنت رفعتهما إليه..فسبحان من خلق وأمر فيسّر وأعان!
إنه مَدد رب السمـاء.. إنه التوفيق والسداد، إنه الهداية والرشاد .. إنها رعاية رب الأرباب.. إنها الحول والقوة على مكابدة وعورة الطريق، فاستمطرها من القوىّ العزيز سبحانه ، يقول تعالى على لسان هود عليه الصلاة السلام : {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يُرسل السمآء عليكم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوتكم ولا تتولَّوا مجرمين} [ هود : 52 ] .
واعلم أن من استغنى بالله عن الناس كفاه الله كل أحد، ومن استغنى بالناس عن الله أحتاج كل أحد..
فاللهم يا حي يا قيوم .. برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كلّه ، ولا تكلني إلى نفسي طرفه عين ، و لا إلى أحدٍ من الناس .
بقلم : إيمان الغامدي .
رمضان : 1429 هـ .
تم نشره في مجلة " المتميزة " في عددها الصادر لشهر ذي القعدة 1429 هـ .