تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: أين العمل بأول وسائل الدعوة إلى الله؟

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    244

    افتراضي أين العمل بأول وسائل الدعوة إلى الله؟

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    الحكمة مثلا!
    الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
    أما بعد،
    فإن أول وسيلة من وسائل الدعوة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى: الحكمة، فقال: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ }
    وذلك بأن يوجه المتكلم كلامه إلى عموم الناس، وأن لا يجرح الأفراد، وأن لا يتكلم فيهم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه شيء عن إنسان وقف على المنبر فقال: ( ما بال أقوام يفعلون كذا )، ولم يقل: إن فلاناً قد فعل كذا.
    أو: يا فلان لا تفعل كذا.
    فهذا تشهيرٌ على المنبر أمام الناس، ولو ناداه بخاصة نفسه فنهاه عن ذلك الفعل لأمكن أن لا يبلغ ذلك الناس، فوسيلة الإعلام إذ ذاك هي المنبر، فكان يقف على المنبر فيقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا)، فيكون هذا أبلغ الزجر للناس، ويستفيد منه صاحب النازلة ومن سواه، ويشيع في الناس ولا يكون فيه ما ينفر من التجريح والفضيحة، فهذا مناف للنصيحة، ولذلك قال القاضي عياض رحمه الله: النصيحة ضد الفضيحة.
    النصيحة أن تنصح الإنسان وأنت تريد هدايته، وتحرص عليها غاية الحرص، فتحب له ما تحب لنفسك، وهذه لا بد أن تؤثر، ولا بد أن يستجيب لها الناس.
    وأما الفضيحة فهي أن تشهر به أو تجابهه بالكلمات النارية والكلام الشديد، وهذا ربما يكون قاطعاً لطريقه عن الهداية وصارفاً له عن وجه الحق، فتكون أنت من المنفرين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيها الناس! إن منكم منفرين، إن منكم منفرين )، قال راوي الحديث: (ما رأيته في موعظة أشد منه غضباً من يومئذ)، فقد اشتد غضبه غاية الغضب عندما بلغه عن بعض أصحابه شدتهم على الناس، فلذلك لابد أن يأخذ الدعاة إلى الله تعالى بهذه الحكمة، وأن لا يتشددوا في خطابهم للناس، وأن يكونوا كما وصف الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } ، فالله تعالى يقول: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } ، ويقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } .
    وهذه الحكمة مقتضية لرحمة المؤمنين والغلظة والشدة على الكافرين والمنافقين، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } ، وكما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ }.
    أما أهل الإيمان حتى لو فسقوا وبغوا فإن المؤمن عليه أن يكون حريصاً على هدايتهم، وأن يخاطبهم باللين بالتي هي أحسن، وكذلك خطابه مع الكفار الذين يريد هدايتهم ولم تنقطع الشعرة بينه وبينهم عليه أن يخاطبهم أيضاً بأسلوب مؤدب، كما قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام حين أرسلهما إلى فرعون: { فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه:44] ، فهذا تنبيه لموسى وهارون على أمر من أبجديات الدعوة، وهو من المخاطبة، فلا بد أن يوطد له الكلام، وأن يهيئه له، وأن يخاطبه بلين لعله يتذكر أو يخشى؛ لأنه إذا وجدت الشدة فسيقول له ما قاله عمرو بن كلثوم :
    ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
    وإذا خوطب بالتي هي أحسن فربما لان وهو ذو قسوة، وربما ضعف وهو ذو شدة؛ لأنك تصادف مكان اللين فيه، وتخاطبه من مقتله، وقد وصلت إلى قلبه، والنافذة ليست مغلقة، أما إذا خاطبته بالشدة فسيغلق الباب أمامك وستصطدم بالجدار ولن تصل إلى القلب، ومن هنا فإن العاقل إذا أراد الدخول يبحث عن النوافذ والأبواب المفتوحة، ولا يحاول اختراق الجدار، فالذي يريد الوصول إلى القلوب واختراق النفوس ينبغي أن يبحث عن النوافذ والأبواب المفتحة ويدخل منها بكل لطف ولين، وحينئذ يصل إلى مطلوبه بالتي هي أحسن.
    وليس معنى هذا أن يتنازل الإنسان عن دعوته وأمور دينه ليوصف بأنه هيّن لين، بل يأخذ ذلك مرحلياً فقط، ويجعله وسيلة لإبداء حرصه وحسن نيته للناس لعل الله أن يهدي به رجلاً واحداً.
    فمن أجل هذا تجد كثيراً ممن تعامله يومياً إذا خاطبتهم باللين وجدت فيهم ليناً، وإذا خاطبتهم بالشدة قابلوك بالمثل أو بأشد، ولذلك يحسن بك أن تأتي بلطف ولين، وأن تدخر قوتك لوقت الحاجة إليها، ولا تهمل قوتك ولا تكن من المستضعفين الأذلة، لكن ادخر هذه القوة إلى وقت الحاجة، أما قبل أن تحتاج إليها فإن إهدارها في غير موضعها ليس من الحكمة، وكثيراً ما يؤدي إلى نتائج عكسية.
    وإني لأذكر أن مجموعة من الطيبين الخيرين ذهبوا إلى مسجد في عدن قد بني على قبر، وكان فيه جماعة من المصلين يصلون، فأرادوا تغيير منكر معين وهو الطواف حول هذا القبر، فهدموا المسجد على المصلين، فقتلوا عدداً من المصلين وهم في سجودهم، فكانت طامة كبرى ومصيبة عظمى، وقتل هؤلاء وشرّد بهم من سواهم، وأعيد بناء المسجد بأشد مما كان، وحرس أشد مما كان محروساً به.
    فهذا من التصرفات الرعناء التي يتصرفها بعض الناس من غير حكمة، فرسولنا صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، وقد مكث ثلاث عشرة سنة بمكة لم يكسر صنماً واحداً، وكان على الكعبة حينها ثلاثمائة وستون صنماً، وقد كان يسكن في دار الأرقم وهي على الصفا، وعلى الصفا صنم (إساف)، وعلى المروة صنم (نائلة)، بل كان أهل الجاهلية يسمون المروة والصفا إسافاً ونائلة، كما قال أبو طالب :
    وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم بمفضى السيول من إساف ونائل
    ومع ذلك لم يكسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صنماً واحداً من هذه الأصنام، حتى جاء الفتح فوقف عليها وكسرها جميعاً، وكان يقول وهو يهدمها: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } ثم أرسل السرايا فهدم كل الأصنام في البلدان المجاورة.
    ولو كان هدمها في وقت الاستضعاف وقوة المشركين لبنوها من الذهب بعد أن كانت من حجارة، وما كان من طين بنوه من فضة، وهكذا أخذ بالحكمة وعلمنا ذلك.
    وهذه الحكمة ليست مقتصرة على لين الكلام في الخطاب للناس، بل هي تشمل كذلك تأخير بعض التصرفات عن بعض الأوقات، وتعجيل بعض التصرفات في بعض الأوقات، وتعجيل إبداء الموقف من بعض الأمور، وإخفاء الموقف من بعض الأمور، وكذلك تقتضي أن يقدم لشخص الأولويات ويؤخر ما دونها، وأن يأخذ بأخف الضررين والحرامين، كما قال تعالى: { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، وكما قال تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: { هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } .
    ومن أنواع هذه الحكمة في الدعوة أنه إذا أراد الإنسان أن يغير سلوكاً لدى آخر لا يجابهه بأن هذا السلوك محض ضلال وابتداع وشرك ونحو ذلك، بل يتعرف عليه أولاً، ويحاول أن يحصل على ثقته وصداقته، ثم يسأله عن هذا التصرف ما دليله عليه، وما حاجته إليه، فإن بين له دليلاً مرضياً قال: الحمد لله؛ فصاحبي غير مشرك وغير مبتدع، وإنما كان مجتهداً فإن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران.
    ومن الحكمة في الدعوة أن لا تحتكر أنت الصواب، وتجعل الحق هو ما عندك فقط، فتكون أنت المحتكر للحق وحده ومن سواك أهل باطل، فهذه طريقة غير مرضية ولا صحيحة، كل الناس خطاؤون وخير الخطائين التوابون، ولا معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر، ومن هنا فعليك أن تنظر إلى الناس على أنهم عباد الله جميعاً كما أنك عبد من عباد الله، وأن لا تنظر إليهم على أنك رب وهم مملوكون لك، وأن لا تنظر إليهم على أنهم جميعاً أهل خطأ وأنت وحدك صاحب الصواب، بل تنظر إليهم على أنهم بشر مثلك مكلفون بنفس التكليف الذي أنت مكلف به، فقد امتن الله عليك ببعض النعم، فلا ينبغي لك أن تتجاهل تلك النعمة ولا أن تتغطى بها، ولا تقتضي منك العدول عن منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
    إخوتاه :
    على من أراد منا أن يدعو إلى الله عز وجل أن تكون دعوته إلى الله موافقة لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشدة ومخاطبة الناس بما يكرهون ليستا من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من سنته ولا سيرته، ومن هنا فإن احتكار الصواب حتى مع المشركين لم يكن من منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ونحن نقرأ في سورة سبأ قول الله تعالى: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي كلام أبلغ إنصافا من هذا؟
    هذا نزل به الروح الأمين من عند الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمره الله أن يخاطب المشركين فيقول: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } ، فلا يمكن أن يجتمع ما عندنا وما عندكم فهما متناقضان، لكن أحدهما حق والآخر باطل.
    فما قال لهم: إن ما معنا هو المقطوع به أنه الحق، وما معكم هو المقطوع ببطلانه - مع أنه كذلك - بل قال: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }.
    ثم تأتي آيات أخرى في مراحل لاحقة تبين أن الصواب هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الخطأ ما لدى المشركين، وترد عليهم ما لديهم مما يخالف ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
    لكنهم في بداية دعوتهم لابد أن يخاطبوا بهذا الأسلوب اللين الهين، فإن الإنسان إذا جاء بالعنتريات وأراد أن يبدي للناس قوته ويحاول تغييرهم بالشدة لا يمكن أن يكون عمله هذا مجدياً ولا مثمراً، بل سيواجه بمثل ما قال الشاعر:
    جاء شقيق عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح
    ومن هنا فلا يفيد تصرفه شيئاً، بل ربما أدى هذا التصرف إلى تصرفات معاكسة، ومن أجل ذلك فمن أراد الإصلاح فعليه أن يأخذ بأسلوب الإصلاح، إذا رأى أمراً يمكنه إصلاحه فعليه أن يتكلم فيه بعموم، وأن لا ينزل ذلك على أفراد وأشخاص بأعيانهم.
    وإذا رأى منكراً لدى شخص معين فأراد أن يغيره، فليعلم أن تغيير المنكر درجات:
    الدرجة الأولى: محاولة نصيحته، وتغييره بيد الإنسان الذي فعله، فإذا أردت تغيير منكر بارز فأبلغ شيء في تغييره أن تغيره باليد التي فعلته، وإذا أقنعت صاحبه أن يتراجع عنه ويأتي لنفس الموقف الذي كان يتصرف فيه فيتصرف فيه على خلاف تصرفه الأول فهذا أبلغ تغيير للمنكر، وهو الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين، فعمر بن الخطاب الذي كان أشد الناس على المسلمين، عندما أسلم لم يترك موقفاً من المواقف التي كان يميل فيها على المسلمين إلا وقف فيه ينافح عنهم ويدافع عنهم، فغير منكره بيده.
    وكذلك وحشي الذي قتل حمزة رضي الله عنه، عندما أسلم قال: إن كل موقف وقفته مع المشركين لا بد أن أقف في مقابله موقفاً في نصرة الله ورسوله، وإن هذه الحربة التي قتلت بها حمزة لابد أن أقتل بها أشد أعداء الله لله، فخرج بها إلى مسيلمة حتى قتله بها، فأبلغ تغيير للمنكر أن يكون بيد أصحابه.
    الدرجة الثانية: أن يكون بيد أقرب الناس إلى من فعله، فإذا أتيت بولد الإنسان فربيته على خلاف منهجه فجاء لتغيير منكر أبيه فهذا أبلغ شيء لطمس أثر أبيه، فإذا أتيت بأخيه فغير منكره فهذا أبلغ شيء، ومن هنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أتاه جبريل بعد معركة أحد، فأبلغه أن الحارث بن سويد بن الصامت هو الذي قتل المجذر بن زياد رضي الله عنهما، وأنه قتله غيلة في وقت المعركة، وأراد بذلك الاقتصاص؛ لأن المجذر كان قد قتل أباه في الجاهلية، وحين أخبره جبريل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف، ولم يأخذ معه أحداً من المهاجرين، بل خرج وحده، فأتاهم في دارهم، فتعجبوا من مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، فقالوا: ما جاء به وحده إلا أمر فجاؤوا فقالوا: ما جاء بك يا رسول الله؟! فدعا عباد بن بشر ، فقال: اضرب عنق الحارث بن سويد بن الصامت -وهو ابن عمه-.
    فقال الحارث : ولم يا رسول الله؟ والله ما أشركت ولا نافقت منذ أسلمت! فقال: أما إني لم أقتلك نفاقاً ولا شركاً، ولكني أقتلك بـ المجذر بن زياد ، فقد أنزل الوحي أنك قتلته فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ووالله ما رآني أحد، وما جاءك ذلك إلا عن طريق الوحي، ومد عنقه فضربه ابن عمه وقتله.
    فلم تنتطح في أمره شاتان، ولم يستنكر هذا أحد، فالذي قتله ابن عمه.
    وكذلك الحال عندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة بن دليم على رأس كتيبته الخضراء، وبيده لواء المهاجرين والأنصار، فركزه ببطحاء مكة وقال: اليوم ذلت قريش وخابت، فجاءت قريش يشكونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء شاعرهم ضرار بن الخطاب فوقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
    يا نبي الهدى إليك لجا حيي قريشٍ ولات حين لجاء
    حين ضاقت عليهم سعة الأر ض وعاداهم إله السماء
    والتقت حلقتا البطان على القوم ونودوا بالصيلم الصلعاء
    إن سعداً يريد قاصمة الظهــر بأهل الحجون والبطحاء
    خزرجي لو يستطيع من الغيــظ رمانا بالنسر والعواء
    وغِرُ الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدما وسبي النساء
    قد تلظى على البطاح وجاءت عنه هند بالسوءة السوآء
    إذ ينادي بذل حي قريش وابن حرب بذا من الشهداء
    فلئن أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواء
    م ثابت إليه من بهم الخز رج والأوس أنجم الهيجاء
    لتكونن بالبطاح قريش فقعة القاع في أكف الإماء
    فانهينه فإنه أسد الأسـ ـد لدى الغالي والغ في الدماء
    إنه مطرق يريد لنا الأمـ ـر سكوتاً كالحية الصماء
    حينها نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً فأخذ منه اللواء، فتوقع الناس أن يدفعه إلى رجل من قريش، فما فعل، بل دفعه إلى قيس بن سعد بن عبادة ، فوقف قيس في مكان أبيه وركز اللواء في نفس المكان وقال: اليوم عزت قريش وطابت.
    فخالف مقالة أبيه، وغير ما كان عليه أبوه دون أن يقع خلاف بين المسلمين، ودون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتزع المكرمة من الأنصار بعد أن أعطاهم إياها، فكان هذا من أساليب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوية البليغة.
    كذلك الأسلوب الآخر بعد هذا أن يحاول الإنسان أن يكون تغيير المنكر بيد غير متهمة فيه، وأهل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأهل الخير ملأ قليل وعددهم قليل في الناس، ولو اصطلموا وأخذوا من بين الناس لم يبق فيهم خير، كما قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ( اللهم! إن تهلك هذه الطائفة لا تعبد في الأرض أبداً )، فمن الحكمة لهم أن يكون تغيير المنكر بأيد غير أيديهم، وأن يستغلوا أيد أخرى في تغيير ذلك، كما قال الشاعر:
    وكنا الأيمنـين إذا التقينا وكان الأيسرين بنو أبينا
    فصالوا صولة فيمن يليهم وصلنا صولة فيمن يلينا
    فآبوا بالنهاب وبالسـبايا وأُبنا بالملوك مصـفدينا
    وكما قال الآخر:
    ترد زمامه أيدي رجال عليهم قد رددنا ما يلينا
    فيكون التغيير حينئذٍ بأيد غير متهمة فيه، وهذا من أبلغ التغيير، ثم إذا احتاجوا إلى التغيير بأيديهم كانوا على أتم استعداد لذلك، وقد بذلوا الجهود قبل ذلك، وعملوا بالتي هي أحسن، وقد أنصفوا وأنصفهم الناس، وعلموا أنهم لم يتسرعوا ولم يبادروا مبادرة سلبية، وجاءت أفعالهم في وقتها المناسب.
    إن الحكمة مقتضية لانتقاء الأماكن والأوقات للكلام والتصرفات، فيا رب كلمة تقول لصاحبها: دعني ويا رب كلمة لو قيلت في مكان كانت مفيدة مثمرة، ولو قيلت في مكان آخر كانت سيئة قبيحة، ويا رب فِعل لو فُعل في مكان كان حسناً، ولو فُعل في غيره كان قبيحاً.
    ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه يتبختر يوم أحد بين الصفوف قال: ( إنها لمشية يبغضها الله في غير هذا الموقف ).
    وكذلك قال لعمر رضي الله عنه حين أراد أن ينتزع ثنيتي سهيل بن عمرو فقال: يا رسول الله، دعني أنتزع ثنيتي سهيل لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم!
    قال: ( عسى أن يجعل له مقاماً تحمده عليه )، فكان ذلك عندما ارتد العرب عن دين الله، فوقف سهيل خطيباً في قريش بمكة فثبتهم على الدين.
    وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حصلت قضية الإفك، وأراد المنافقون أن يفرقوا بين المهاجرين والأنصار، وقال عبد الله بن أبي : { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ } رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فلم يعطهم فرصة للمناقشة، بل رحل وما زال بهم من وقت الظهيرة، حتى نزل في الليل، وقد واصل بهم أربعاً وعشرين ساعة من السفر الجاد المضني، ويريد بذلك أن يشغلهم عن المناقشات الجانبية، وعن الأمور التي لا تدخل في الأولويات، فانشغلوا بذلك حتى وصلوا إلى المدينة.
    وكذلك ثبت في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه -وهو في حجته التي مات بعدها بقليل- أن رجالاً يقولون: إن بيعة أبي بكر كانت شتى، ولئن مات عمر لنبايعن فلاناً أو فلانا.
    فأراد أن يقوم في الناس خطيباً فيبين لهم سياسة الإسلام بعرفة، فأتاه عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإنك هنا يغلب عليك الرعاع، ويحيطون بك من كل جانب، فيحملون قولك كل محمل، ولا يضعونه في موضعه، ولكن إذا رجعت إلى المدينة ونزلت بالدار واجتمع عليك المهاجرون والأنصار، فقل ما شئت.
    ففعل ذلك عمر .
    فانظر فقه القوم في تنزيل الكلم في مواضعه.
    فمن هذه الحكمة أن يدرك الإنسان الظروف المحيطة به، وأن لا يغامر المغامرات التي لا تجدي و لا تنفع، فالمغامرات غير المضمونة وغير الموزونة هي من المبادرات المنهي عنها، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل حذيفة إلى الأحزاب قال له: ( ولا تحدث حدثاً حتى ترجع إليّ ).
    فلذلك ليس من الحكمة في الدعوة أن يقوم الإنسان بمغامرة ليس وراءها ما يمدها ويقتضي استمرارها.
    وكثيراً ما يتصرف أقوام على غير مشورة فيغامرون مغامرة ربما جاءت ببلايا فيجر الحبل أحبلا، كما قال أبو طالب :
    ففي فضل حبل لا أباك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا
    وقد شاهدنا تصرفاً يشبه هذا، فقد رأى أحدهم سائحة إيطالية فأطلق عليها رصاصة فجرح إصبعها فقط، فأخذ هو وكل من حوله، وتضرر بذلك عدد كبير من الصالحين الأتقياء، وأوذوا إيذاءً شديداً بسبب هذا التصرف الطائش.
    إن هذا النوع من المغامرات التي هي غير مضمونة وغير موزونة ليس من الحكمة ولا من الدعوة.
    إن من الحكمة في الدعوة أن يزن الإنسان أموره بميزان المصلحة، وأن لا يتعجل، ويعلم أن العاقبة للمتقين، وأن الحق لابد أن يظهر، ومن هنا لا ينهزم ولا يضعف، ويزول عنه كل الخور، ويطول حينئذٍ نَفَسُه، وتقوى قوته، ويعد العدة ليوم آخر، كما قال الحارث بن هشام :
    الله يعلم ما تركت قـتالهم حتى رموا فرسي بأشـقر مزبد
    فعلمت أني إن أقاتل واحداً أقتل ولا ينكي عدوي مشهدي
    ففررت منهم والأحبة فيهم طمعاً لهم بلقـاء يـوم مفسد
    وإذا أعد عدته واستعد للمواجهة فحينئذٍ يمكن أن يكون هو صاحب القرار، أما أن يتجرَّأ على مواجهة غير موزونة وهي محسومة في البداية وقواها غير متكافئة فهذا ليس من الحكمة في شيء، وكثيراً ما يؤدي إلى أضرار تستمر العقود من السنين.
    وما زالت المغامرات التي حصلت في بعض البلاد الإسلامية إلى الآن والناس في بعض أضرارها، مغامرات غير موزونة وتصرفات ليست عن رويّة، فيحصل بسببها كثير من الفساد المستشري.
    و يتبع إن شاء الله ...
    لا يكذب المرء إلا من مهانـته *** أو عادة السوء أو من قلة الأدب
    لجيفة الكلب عندي خير رائحة *** من كذبة المرء في جد وفي لعب

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2008
    الدولة
    (غـزَّة - فلسطين).
    المشاركات
    179

    افتراضي رد: أين العمل بأول وسائل الدعوة إلى الله؟

    بورك فيك .

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Sep 2008
    الدولة
    المملكة المغربيّة
    المشاركات
    244

    افتراضي رد: أين العمل بأول وسائل الدعوة إلى الله؟

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    أحسنتم بارك الله فيكم. يا ليتنا نستمع و نطبّق.
    دمتم سالمين.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    244

    افتراضي رد: أين العمل بأول وسائل الدعوة إلى الله؟

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمود الغزي مشاهدة المشاركة
    بورك فيك .
    وفيك أخي الفاضل
    لا يكذب المرء إلا من مهانـته *** أو عادة السوء أو من قلة الأدب
    لجيفة الكلب عندي خير رائحة *** من كذبة المرء في جد وفي لعب

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    244

    افتراضي رد: أين العمل بأول وسائل الدعوة إلى الله؟

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عامّي مشاهدة المشاركة
    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    أحسنتم بارك الله فيكم. يا ليتنا نستمع و نطبّق.
    دمتم سالمين.
    أكرمك الله أخي
    لا يكذب المرء إلا من مهانـته *** أو عادة السوء أو من قلة الأدب
    لجيفة الكلب عندي خير رائحة *** من كذبة المرء في جد وفي لعب

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •