" محمد أركون ومشروع "نقد العقل الإسلامي "


محمد العواودة( )


(ننشر هذه الدراسة عن أركون كونه صاحب منهج منحرف في دراسة الإسلام، وله تأثير على بعض الأوساط المسلمة ذات الثقافة العصرية. بهدف بيان حقيقته والتنبيه على خطورة منهجه. الراصد)
تشكل آراء المفكر الجزائري الدكتور محمد أركون( ) التي يحاول تمريرها من خلال مشروعه الفكري الضخم " نقد العقل الإسلامي " امتدادا معرفياً للعلمانية الغربية الليبرالية التي تنطلق من مفاهيم "التحديث " أو العلمانية المنفتحة التي تتخذ من الإنسان مرجعية عقدية، متخذا في نفس الوقت من الفلسفة التاريخانية منهجا في مشروعه هذا الذي رسم خطوطه العريضة وأفكاره الرئيسية في كتابه " تاريخية الفكر العربي الإسلامي".
كما أن أركون اخذ بقوة في اتمام مشروعه - التدميري للعقل الإسلامي - من شتى مناهج المدرسة التفكيكية الغربية، ووظف له بعض العلوم الإنسانية مثل "الانثروبولوج ا" - الدينية منها بخاصة – ( ) و"علم اجتماع المعرفة "( ) و"علوم النقد اللاهوتي " ذات الصلة مثل "الهرمونيطيقي "( )، ليرتكز على هذه العلوم والأفكار في نقده للتراث الإسلامي والنص الديني متمثلا في " القرآن الكريم "ومحاولة إحالته إلى لحظة زمنية تاريخية، تنزع عنه القداسة لصالح تقديس الإنسان، على أساس النظرية التي أسس لها "فيكو" في الغرب والتي تقول "إن البشر هم الذين يصنعون التاريخ، ولا دخل للقدرة الإلهية في ذلك ولا القوى الغيبية، وبالتالي فالتاريخ كله بشري من أقصاه إلى أقصاه.
--------------------------------------

حاشية :

(1) Awawdeh_98@yahoo.com
(2) محمد أركون: مفكر جزائري الأصل يعيش ويتنقل في أوروبا ويعمل في فرنسا التي درس فيها، وله اهتمامات في الدراسات التاريخية والاستشراقية، والنظم المعرفية الغربية والفلسفية، كانت رسالة الدكتوراه "نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكوية والتوحيدي" هي فاتحة مشروعه "نقد العقل الإسلامي" الذي قدمنا له.
(3) الانثروبولوجيا الدينية: نظرية تتلخص في أن الإنسان منذ القدم قد استرعت انتباهه بعض الظواهر مثل: الأحلام، الرؤى، المرض، اليقظة، النوم، الموت فان تلك العقائد والطقوس الصورة الأولى للأديان – كما يزعمون – عبد الرزاق هرماس، تفسير القران الكريم في كتابات المستشرقين (ص140). نقلا عن مبحث الدكتور محمد بن سعيد السرحاني، "الاتجاهات الحديثة للمستشرقين ومن تابعهم في تفسير القران الكريم" / مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية (ص139، عدد (70).
(4) علم اجتماع المعرفة: علم يبحث في طرق تأثير الظروف الاجتماعية في المنتجات الذهنية أو المعرفة / المصدر نفسه (ص140).
(5) الهرمونيطيقيا: علم يرتكز على مبدأ التأويل آو التأويل المرتكز على البنيوية والتفكيك الذي يخضع لذاتية القاري دون أي اعتبار لمقاصد المتكلم أو الكاتب، المصدر نفسه (ص145).


-------------------------------

والتاريخية بشكل عام هي: نسق منظومي يحاول أن يخضع النصوص لتصبح قضية تفسيرية أو تأويلية على أساس أن الحقيقة تاريخية، بمعنى أنها تتصف بالنسبية التاريخية، أي إنها تتطور بتطور التاريخ والمجتمعات، وعرف أركون التاريخية بأنها "تحول القيم وتغيرها بتغير العصور" أي أن القيم لم تعد تنطلق من الحقيقة الثابتة كالنص الديني، إنما مرجعها إلى التطور التاريخي والمجتمعي التي تفرضه اللحظة الزمنية، متساوقا في ذلك من نيتشة، - الفيلسوف الغربي القائل بموت الله، كناية عن موت القيم - وهو ما يحاول محمد أركون أن يجعله منطقاً في نقده للعقل الإسلامي الذي يتمحور على مهمة "أنسنة القرآن" أي جعل القرآن مصدراً بشرياً لا مصدراً ربانياً، بمعنى أن تتحول العلاقة بين الإنسان "المسلم" والقرآن من علاقة ما بين الخالق والمخلوق إلى علاقة ما بين الإنسان والإنسان، فالإنسان هو محور الكون ومصدر الثقافة وصاحب القرار فيه.
من هنا يبدأ محمد أركون يصيغ أفكار مشروعه "نقد العقل الإسلامي" الذي يقصد - كما قلنا – "أنسنة القران" من خلال تسليطه النقد على التراث الإسلامي كمنتج تاريخي بشري يمتد إلى الكتاب العزيز " على شاكلة النقد التاريخي الأوروبي للأناجيل التي مارسها "دانييل روجيه"( ) وهذه هي روح الحداثة التي يعنيها أركون من مشروعه، أو القول الفلسفي للحداثة كما أوضحها الفيلسوف الألماني "مورغن هابر ماز"، هذه الحداثة التي يراها أركون وحدها القادرة على زحزحة الموضوعات التقليدية نحو إشكاليات جديدة، وعلى زحزحة العقائد الراسخة والمسلم بها في التنظيرات التقليدية والارثوذكسية التي تصب في النهاية في العلمنة التي يعنيها أركون للعقيدة - بالمعنى الإيماني لكلمة عقيدة - على حد تعبيره -، والتي تصبح هدفا في مشروعه كله" .
والمعنى الإيماني للعقيدة عند أركون لا يتحقق - عند المسلمين - إلا بالخروج مما أسماه بـ "السيادة اللاهوتية" للفكر الذي يشتغل عليه العقل الإسلامي؛ الذي لا يتحقق إلا على أيدي الفلاسفة الذين يهتمون باللاهوت، ولكن ينظرون إلى اللاهوت بمعايير عقلانية خاصة بالفلسفة، وهذا - كما يقول - ما يجب أن ندرسه ونفهمه حتى نقرأ النص القرآني ونستخرج الخصائص التي يختص بها هذا الخطاب القرآني عن جميع الخطابات التي نجدها عند الفقهاء، عند الفلاسفة اللاهوتيين، عند المفسرين، عند المؤرخين.... ، وهذا هو البرنامج الحقيقي لنقد العقل الإسلامي".
تأسيسا على ذلك، يمكن القول أن محمد أركون يفاصل – في مشروعه – بين عقلين فلسفيين: العقل الفلسفي الذي يخضع النصوص المقدسة إلى الفلسفة التي وضعها الإنسان ونزع البعد الإلهي عنها، وهو ما يحاول ممارسته على القرآن، وبين العقل الفلسفي الذي يؤطر النص الديني بالإلهي...
... كما هو متأطر معرفيا في الممارسة الإسلامية، وهو ما يحاول إقصاءه عن إدراك الفكر الإسلامي في مشروعه التجديدي حيث أنسنة القران، أي محاولة صناعة قطيعة معرفية بين المدرك الفكري الإسلامي ومصدرية التشريع الرباني، وذلك من خلال صياغة مفاهيمية جديدة للنص القرآني في سياق أدبي يتكئ على بعد زمني تاريخي، وهو ما يعنيه بقوله "الانسنة ترجمة لكلمة عربية منتشرة جدا في الأدب العربي الكلاسيكي وتعني الآداب، كالشعر والرواية..الخ وهو ما يعطي العقل الاستقلالية الكاملة عن اللاهوت الديني، ليصبح في هذه الحالة النص الديني عبارة عن نصوص بشرية خارجة عن فضاء المقدس".
يمكن ملاحظة مدى تقاطع هذه المقاربة الاركونية الأدبية الشعرية الروائية للقران، ورواية القران في تكذيب هذه الدعوة التي ادعتها "الوضعانية - الاعتقاد بمعزل عن الوحي - العربية في الجاهلية "قديما في عصر البعثة النبوية وتنزيل القرآن؛ بغية فصل النص القرآني عن مصدره الرباني وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ووضعه - القرآن - في سياق زمني بشري ( شعر، أسطورة، كهانة،...الخ، قابل للشك في يقينيته الربوبية، حيث يرد الله تعالى هذه الفرية عن صاحب الرسالة [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ] (70) " [يس:69-70]. وهذا تماما ما يعنيه الدكتور علي حرب - أحد اليساريين المتقاطعين مع فكر محمد أركون - في فلسفة نقد الدين، واصفا المشروع الأركوني بالقول "إنه لا يقتصر على نقد الأحاديث والتفاسير، ولا يكتفي بتفكيك الأنساق الفقهية والمنظومة العقائدية، بل يتوغل في نقده وتفكيكه وصولاً إلى الأصل الأول أي إلى الوحي الإلهي".
هذه الرؤية الناقدة للوحي هي التي تتجسد عند أركون فيما بعد لوضع مبدأ عالمية القران، " لأن القرآن - بحسب زعمه - يؤسس وعيا خاصا بالعلم والتاريخ والدلالة "، وهو يريد أن يتجاوز تمهيد هذه الرؤية وذلك الوعي إلى انسنة القرآن بجعله عالميا أي غير مرتبط بالفكر الإسلامي من جهة، ومن جهة أخرى يمكن لأي قارئ أن يفسره بحسب تكوينه الثقافي ومتغير الواقع بخضوع النص - كنص تاريخي - لذاتية المفسر، متأثرا في هذا بالفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا" في نقده للنص اللاهوتي في الغرب، إذ يقرر أسبقية الصوت على الكتابة ليخرج بنتيجة منطقية مفادها انه ليس للنص معنا ثابتا، حيث لا تعني نوايا الكاتب شيء إذا ما أردنا خلق للمعنى، وهذا ما يحاول أركون تنزيله على النص القرآني بفصل معانيه عن حاكمية السلطة البيانية للقرآن – خروج المعنى عن سياق النص وفضائه اللغوي - التي يصالحها عليها محمد عابد الجابري في تمكين النزعة البرهانية على النزعة البيانية السائدة في الخطاب الإسلامي، وهو ما يرده أركون إلى خصائص العقل التفكيكي عند ممارسته في الثقافة العربية التي ستجد وعيا إنسانيا جديدا في المجتمع العربي منعتقا من النظرة اليقينية المطلقة أو ما يسميه السياج الدوغمائي المغلق – الجمود على الحقيقة والموروث - للعقل الإسلامي.

وفي مقابل دوغمائية العقل الإسلامي وأحكامه اليقينية القطعية – تراثا كان أو نصا دينيا- " يميز أركون بينه وبين العقل الحديث أو العقل المنبثق الذي يتميز بأنه عقل شكاك وارتيابي؛ لأنه يعرف أن الواقع أكثر تعقيدا وغزارة من أي فكر يمكن استنفاذه تماما، فهناك دائما مفاجآت وانقطاعات وصدف فريدة عجيبة، أما الفكر الدوغمائي فيستسلم لقناعاته وينام عليها، في حين أن الواقع يمشي ويتحرك " يعتقد أركون قصور القران عن حركة هذا الواقع ؛ مما ينبغي إيجاد لغة موحدة للقرآن من خلال المعاني التي تنطبع في العقل من المحتوى الثقافي للقارئ أو المفسر، لها قدره على مساوقة روح العصر والحداثة التي تصب في صالح استقلال الإنسان "كلما راح العقل يكتسب استقلاليته وينتزعها من السيادات العليا الخارجة عليه - الوحي - أو الشريعة، كلما كبرت مسئوليته في جعل المعرفة ذروة عليا للسيادة والهيبة المحترمة والمقبولة من الجميع".
وهكذا ، يحاول أركون نزع قداسة النص القرآني بتفكيك أبعاده الثلاثة : الثبات، الحقيقة، اليقين، لينطلق في مشروعه من منطلق " كون سلطة العقل اجتماعية، تاريخية، فإنها ضد الأحكام القطعية اليقينية الحاسمة، لأنها تتعامل مع العالم الواقع والنصوص بوصفها مشروعات مفتوحة متجددة "حداثوية الفهم، نسبية الحقيقة، متحولة الثبات، مستريبة المعنى.
"ومن ثم يحذر أركون من التورط مرة أخرى في بناء منظومة معرفية أصيلة ومؤصلة للحقيقة، لأنها سوف تؤدي لا محالة إلى سياج دوغمائي مغلق كما في الممارسة الفكرية الإسلامية،" ولأن العقل – الحداثوي - المنبثق حاليا يحارب هذه السياجات المغلقة التي تبقى في منأى عن أي نقد، في حين يسمح هذا العقل لذاته بان يحتج وبأن يلغي ما كان أنتجه سابقا ويقبل بالعودة إلى خطاه ضمن مناهج النقد لفلسفة المعرفة في عقل لا يكتسب معارفه بصورة حاسمة ونهائية ، بل ثمة دوما مجال للعودة والتراجع".
عن ضرورة تكريس الإيمان بنسبية المعرفة ونسبية الحقيقة لدى العقل الإسلامي، يقول أركون "ينبغي أن نتقبل شيئا أساسيا يعبر عن منجزات الحداثة العقلية ألا وهو نسبية الحقيقة، ونسبية الحقيقة تتعارض جذريا مع مطلق الحقيقة أو الاعتقاد بوجود الحقيقة كما ساد سابقا في كل الأوساط الدينية، فالعقل المنبثق حديثا ؛عقل يقبل تعدد التأويلات ولا يدفع عن طريقة واحدة في التأويل".
ضمن هذا المنظور يعتقد أركون انه " بات من الضروري التخلي عن تلك الرؤى الإسلامية "الأرثوذكسية" التي تعرض على أنها تمثل "دين الحق" وتقدم للناس حقيقة مطلقة، ثابتة، متعالية على مختلف الحقائق النسبية المتحولة، لان الحق نفسه خاضع للتاريخية!!".
ولنلاحظ أن أركون يعمم هذه الأفكار على النصوص، تراثا كانت أو نصا دينيا، ومن هنا تبدأ المصيبة.

يحاول أركون إذا الدعوة إلى إسلام جديد بكل ما في الكلمة من معنى، بتفريغه المحتوى العقدي الإسلامي من مضامينه وأصوله المتعالية القائمة على الحق والتصرف الإلهي المستغرق لجميع مفردات الرسالة معنىً ومقصدا، واستبدالها بإسلام دنيوي يتقزم عند حدود الإنسان وفهمه والبنى المجتمعية والعلوم الانثروبولوجية محاولا أن يماهي بين النصوص المحرفة كالإنجيل والتوراة وممارسة النقد عليها، وبين القرآن الذي ينبثق من خطاب الوحي أصالة، ولذلك صلة بالعقل الإنساني الحداثوي عند أركون، العقل الذي يحترم الحقائق التاريخية، الحقائق المجتمعية، الحقائق اللغوية، التي تترجم الفكر الواحد والمعنى الواحد.
ويقول: "فعندما نقول الدين باللغة العربية، العرب يفهمونه شيء، ولكنْ الفرنسيون والألمان والهولنديون يفهمونه شيئا آخر، ويضيف أركون بكل صفاقة، " كيف نتحاور مادمنا لم نخضع مفهوم الدين إلى نفس التحليلات والدروس والبحوث التي اخضع لها مفهوم الدين في اللغات الأوروبية!".
من هنا يدخلنا محمد أركون إلى مفهوم جديد في كتاباته يسميه "الإسلاميات التطبيقية "وهو مصطلح بديل لمصطلح "الإسلاميات التقليدية"، حيث يدعي أركون أنه وجد نفسه مرغما على الدخول في دراسة كبرى للعقل الإسلامي تمتد من لحظة المعاصرة إلى لحظة انبثاقه.
فالإسلاميات التطبيقية تقوم بدراسة الفكر الإسلامي المعاصر لتمس المشكلات الحارقة للمجتمعات الإسلامية وحاجتها الراهنة وتناقش مفاهيم الحداثة الغربية ذاتها لإغناء الإشكالية المتعلقة بالحداثة ، فقد حاول أركون من خـلال نقده للإستشراق ودعوته لمشروع الإسلاميـات التطبيقية ، فتح طرق جديدة في البحث عن الفكر العربي الإسلامي ، ولكنه لم يلبث أن وجد نفسه أمام النتيجة المنطقية للإسلاميات التطبيقية وهي "نقد العقل الإسلامـي" مستفيدا من مصطلحـات الفيلسوف الفرنسي "فرانسوا فوريية" في كتابه "إعادة التفكير في الثورة الفرنسية" الذي كان أول من استخدم نقد العقل من أجل هدف تاريخي".
يعود مصدر مصطلح الإسلاميات التطبيقية بحسب أركون " إلى انه استوحى هذه التسمية من كتاب صغير" لروجيه باستييد " بعنوان "الانثروبولجي التطبيقية"، وهو ما يفهم منه أن علم "الإسلاميات التطبيقية مرتبط بالانثروبولوجيا بصورة عامة وتتعدى الجانب النظري إلى الجانب العلمي لكونها تريد أن تأخذ على عاتقها طرح المشاكل الفعلية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية ثم حلها والسيطرة عليها وفق المسار العلمي والمنهجية العلمية، فالإسلاميات التطبيقية تتموضع داخل المجتمعات الإسلامية لكي تتعرف على مشاكلها القديمة والحديثة".


تنطلق الإسلاميات التطبيقية في فكر أركون إذا "من واقع المسلمين وحاضرهم ومشكلاتهم ثم استنباط ما يتعلق بها من تعليم ديني وأغراض سياسية ومصالح اقتصادية وغير ذلك من العوامل المؤثرة في الحركة التاريخية الشاملة للمجتمعات.
وهو ما يدعوه أركون بالمعركة النقدية للواقع والتي تسمح بتعبيره " بتعرية ما هو مطموس ومخفي من اللغة الشائعة، والخطاب الشائع، الذي يستخدمه المسلمون والهدف من ذلك إيجاد آفاق جديدة لتأويل التراث وذلك عن طريق التفكيك المنهجي ومن ثم الوصل إلى فهم أفضل للمحتوى الموضوعي للرسالة القرآنية والسنة النبوية! وفكر العلماء المؤسسين للتراث الإسلامي " وقد أشار أركون إلى بعض المنهجيات التي يقترحها لإنجاز مهمة الإسلاميات التطبيقية نوردها بحسب ما عرض لها الأستاذ فارح مسرحي وهي:
1- المقاربة الدلالية الألسنية:
تحتل هذه المقاربة الصدارة في المنهجية التي يقترحها أركون، لأن التحليل الألسني الدلالي يساعد على إقامة مسافة بيننا - كمسلمين - وبين العقائد الإيمانية الموروثة منذ نعومة أظافرنا (...) فالتحليل الألسني يقوم بعملية تجديد لكل الأحكام الفلسفية التشريعية المسبقة الموروثة عن العصور الوسطى، كما تقتضي هذه المقاربة - بتعبير أركون - ضرورة تنظيف اللغة بكل مفرداتها وتراكيبها من الدلالات الحافة والمحيطة الموروثة عن اللغة ذات النظرة الإلهية الثابتة (الأرثوذكسية) لكي نستطيع التفكير في الإسلام بشكل جذري أو بشكل علمي فلسفي، ومن أمثلة المفردات المشحونة بالدلالات: الدين، الوحي، المقدس، الحرام، وشتى مفردات الإيمان والعقيدة التي نستخدمها وكأنها بديهيات واضحة الدلالالة، فبالنسبة لكلمة وحي مثلا، يرى أركون انه لا يمكننا استخدامها بسهولة لأنها بحاجة لأن تخضع لدراسة جديدة ودقيقة، فنحن لا نعرف حتى الآن ماهو الوحي!!، وهكذا باقي الكلمات الأخرى ".
2- المقاربة التاريخية والانثروبولوجية والاجتماعية:
يجيء دور التحليل التاريخي والاجتماعي والأنثروبولوجي عند أركون لإضاءة النصوص والكشف عن مشروطيتها التاريخية. التحليل التاريخي الذي يطبقه أركون هو ذلك الذي نجده عند مدرسة " الحوليات الفرنسية" و"ميشيل فوكو" الذي يميز بين تاريخ الأفكار وتاريخ الأنساق الفكرية، وفي إطار التحليل التاريخي يوظف أركون مفهوما آخر تقاسمته العديد من التحليلات النقدية للفلسفة المعرفية المعاصرة، والمتمثل في مفهوم القطيعة، خاصة القطيعة بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي منذ القرن




السادس عشر".
إن التحليل وفق العامل الاجتماعي،" الغرض منه هو تقويض الفكرة التي يؤمن بها المسلمون والقائلة بتعالي الإسلام على الأمور الدنيوية التاريخية المتحولة (...) لأن الدين القويم يؤثر في المجتمع ويسيره ويوجهه ولكن العكس لا يصح، فواقع الظاهرة الدينية في المجتمع يؤكد " أن الدين إنما هو ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية، تلاحظ وتوصف كسائر الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية".
على المستوى الانثروبولوجي، فان هذا المستوى يوفر بحسب أركون قراءة الوجه الآخر من التاريخ اللارسمي، وهذه القراءة تسمح لنا بالاستماع إلى ما قاله المهمشون، والمنبوذون، والمعارضون على مر العصور التي حذفها التاريخ الرسمي وجعل من المستحيل التفكير به " قاصدا من ذلك استدعاء الفرق الضالة الخارجة عن مقتضى الرسالة الاسلاميه التي حاربها الإسلام من التاريخ، ومراجعتها كنسق من أنساق الفكر الإسلامي الصحيح ثم البناء عليها في تكوين الرؤية عن الإسلام، وهي طريقة في المناسبة اخترعتها المستشرقون كمدخل ومادة دسمة لنقد الدين الإسلامي.
3- المقاربة لفلسفة التشريع:
انطلاقا من كون أركون يهدف إلى " كسر طوق الاحتكار الذي يلف التفسير التقليدي للنصوص المقدسة، لذلك فانه يصرح بكل جرأة انه لا يستبعد العقيدة من حقل التفحص والدراسة وفق مقتضيات العلوم الإنسانية الاجتماعية فينبغي على العقيدة في نظر أركون "أن تخضع للقواعد والمناهج المشتركة المطبقة على كل معرفة علمية خاصة وانه أصبح من الممكن معالجة مسألة الفكر العقائدي أو الديني أو الأصولي بمنهج عقلاني وفي ضوء قراءة جديدة ومستقلة للتاريخ والمجتمع "، وكلام أركون هذا، يوضح بما لا شك فيه وبكل صراحة إقامة نظام أو هيكلية جديدة للعقائد الإسلامية مغايرة تماما للمبادئ الإسلامية التي دائما يحب أن يوصفها بالنظام القروسطي، إشارة إلى المرجعية اللاهوتية "المتجردة" عن أبعاد العقلانية والمتجمدة على الحقيقة المطلقة والعمل بالموروث.
من خلال ما سبق، نصل إلى أن المشروع الاركوني يدعو لتبني علمنة منفتحة على مختلف أبعاد الإنسان بما فيها البعد الديني ما يعني تذويب العقائد الدينية في العامل المجتمعي والعامل الانثروبولوجي لنتوصل إلى نتيجة منطقية عامة عندئذ تجعل من الدين عبارة عن منتج ذهني صادر عن الخيال الديني للإنسان، كل بحسب نشأته الاجتماعية والتربوية ليساوي في النهاية بين الخيال والحقيقة الدينية.
ففي البعد الإسلامي يتوصل القارئ لفكر محمد أركون إلى نتيجة مفادها أن الإسلام والجاهلية وجميع الديانات الوضعية الدينية شيء واحد، يتوحد فيه البعد الإنساني الذي يجب أن تتمحور حوله



العلاقة الانساينة في العالم اجمع.
ومن هنا فان أركون يدعو إلى نظام تربوي جديد في العالم العربي والإسلامي يقوم على فكرة " علمنة المناهج الدراسية " تؤصل لذلك في الوعي العربي الإسلامي ، والتي تقوم - كما يقول -"على الحقوق، كلية الحقوق ،أو ما نسميه اليوم الحقوق مش الشريعة " كتشريع بديل عن التشريع الرباني في الإسلام، كما ويرفض أركون أي تسليم لأي حقيقة دينية في الإسلام، سواء كان قرآنا أو سنة، " لان العقائد الإسلامية في هذا السياق مثلها مثل الهندوسية البوذية والعقائد العلمانية السياسية والمذاهب الفلسفية العلمانية، فكل ذلك يجب أن يعاد فيه النظر".
وعلى ذلك، فان الباحث في الإسلام بحسب النظرة الاركونية يجب أن "يتحرر من كل المسلمات واليقينيات التي يتلقاها منذ الطفولة من بيئته وعائلة أو من دينه ومذهبه، لأن هذا التحرر يمثل الشرط الأولي والضروري من اجل أن ينخرط في ساحة البحث العلمي والتحريري المعاصر "وبهذا يريد أركون من المسلم أن لا يكون مسلما إلا في سياقه الإنساني وليس الديني ليكون شريك العالم المعاصر المتحضر، مسلما فاقدا لعقيدته وأخلاقه وقيمه ومتجردا عن أي روابط ووشائج إيمانية مع ربه، حتى يصبح إنسانا عالميا يرتبط بالنظام العلماني الممأسس حداثويا على المنتج المعرفي العقلاني كما في الغرب.
هكذا تغدو الديانة الإسلامية في نظر أركون عقيدة اسطورية من مخاييل أو تخاريف عقلية ذات منتج إنساني قابلة للتأويل العقلاني الخارج عن حاكمية اللغة كأي أسطورة إنسانية تخضع للنقد والتحليل الأدبي، مثلها مثل أي نص بشري، حاملا على عاتقه – أركون - مهمة العلمانية الحداثوية العقلانية والمشوار التكميلي للدراسات الاستشراقية بعقل أعجمي ولسان عربي مبين؛ ليهاجم الأصول الإسلامية ويقوض المقدس في الوعي الإسلامي بنزوعه عن مضامين الوعي الحق وشرف معانيه ، ووصفه في سياق تراثي خاضع للنقد، والتفحص، والتنقل، والتحول، حتى تنهار الفروع تباعا بعد أن تتفكك الأصول مغنية في ذلك عن الطريقة العلمانية الكلاسيكية التي كانت تتمركز في الاجتزاء الموضوعي بحسب المقتضى المعرفي في دائرة البحث ومجال التداول السائد آنذاك القائم على أسس المفاصلة بين الشؤون الروحية والشؤون الزمنية.
إن محمد أركون وهو يكرس لإلغاء الشريعة الإسلامية من العقل الإسلامي تحت اسم مشروع "نقد العقل الاسلامي" ، فانه يكرس في المقابل جاهلية بمفاهيم حديثة، علموية الشكل ، عقلانية الطابع، بشرية المضمون ، وهو ينفض عنه آخر وشيجة إيمانية بالقول "إن الخطاب القرآني قد صيغ لغويا بصفته جهدا ذاتيا مبذولا لرفع نفسه إلى مستوى كلمة الله الموحى بها " ، وهو ما يعنى أن الخطاب القرآني ليس مرتبطا بالوحي ولا هو من عند الله تعالى ،إنما هو خطاب بشري صاغه الرسول صلى الله عليه وسلم لغويا ليعبر فيه عن معتقده القابع من المخيال ، الهذيان ، العادة ، التقليد ،أساطير الآباء وخرافاتهم – كما في سائر المجتمعات الإنسانية - ونسبتها إلى كيان متعال عن الحس " الله " ، تعالى الله عن ذلك ورسوله علوا كبيرا.
ولكن، وفي الختام، لعلنا نتساءل ما دام أن أركون عرض للقران وآياته بالتحليل والنقد كما يدعي، هل أوقع نفسه تحت التساؤل القرآني ولو مرة واحدة وهو يحاول أن يخضع القران للتحليل المجتمعي والتاريخي ليكرس فكرة الانسنة، إذ يقول الله تعالى متحديا هذه الشاكلة " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)"[البقرة:23-24] .

هل حاول أركون أن يأتي بمثل هذا القران أو يبدله مادام أنه منتج إنساني يحاول أن يرفع نفسه إلى مستوى كلمة الله الموحى بها كما حاول أسلافه في العصر الجاهلي وفشلوا فآمن منهم من آمن، وعاند منهم من عاند مع اعترافه بالعجز وبقي على كفره ووضعانيته؟
أعتقد أن ذلك جواب كاف لأركون ومن سعى سعيه في هذه المهاترات الفكرية والنباشات السخيفة في أعماق حاويات نفاية الفكر الفلسفي الغربي ومؤسسات الهدم العقدي وتسويقها على المسلمين بمسميات الحداثة والتقدم، وكأن جلب الحداثة رهن بزوال العقيدة، وإذ ذاك، إلا متابعة حثيثة لسير خطى الدراسات الاستشراقية الاستعمارية في المزيد للإساءة إلى الإسلام وحيا وكتابا ونبيّا، لزعزعة البناء العقدي حيث يستقي المؤمن سر الحياة وسر القوة والدفع عن مقدسه وكيانه".
أهم المراجع والتعريفات:
1. عبد الرحمن الحاج/ جريدة الغد الأردنية ( 28. كانون الثاني. 2008).
2. مقابلة تركي الدخيل مع أركون/ قناة العربية ( 3 مارس 2008 ).
3. لقاء محمد الحروب مع محمد أركون/ قناة الجزيرة ( 10. 12. 2006 ).
4. أقطاب العلمانية - طارق منينة.
5. "معجم الفلاسفة".
6. الحداثة في فكر محمد أركون / فارح مسرحي.
7. "ضوابط في فهم النص" ، الدكتور عبد الكريم حامدي / سلسلة كتاب الأمة.
8. مبحث الدكتور محمد بن سعيد السرحاني، الاتجاهات الحديثة للمستشرقين ومن تابعهم في تفسير القران الكريم /مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد (70).



مجلة الراصد