في زمن ماضٍ، كان صيادٌ مستلقياً على شاطئ البحر، ممسكاً بيدٍ سنارته، ويده الأخرى تلعب برمل الشاطئ الأبيض، يسرح بخياله ويمرح بأفكاره، وعيناه تجوبان الفضاء، وتسبحان _كما خياله_ في ملكوت السماء، ونفسه تحادث نفسه بهدوءٍ هدوءَ النسيم البارد الذي يصافح وجنتيه، وهو يتأمل السماء مرة والبحر أخرى، فتسأل عيناه نفسَه: من الذي اقتبس الزرقة من الآخر، آلبحر أم السماء؟، لكن نفسه الهادئة تفضل الإجابة الهادئة؛ فتصمت.

مرّ بهذا الصياد رجل تكسو ثيابه ثياب، قد دهمت طلائع الشيب عارضيه، نحيل البدن إلا بطنه، يسرع خطوه تارة، ويبطئ السير تارة أخرى، وهو مع ذلك سارح الفكر، شارد الذهن، يحسب من يراه أن وراءه مملكةً مترامية الأطراف، لا يدري كيف يُسيِّر أمورها بعد وفاة أبيه الملك، أو أن خلفه مالاً عظيماً قد بعث به عامله في البحر، وهو يخشى غرق ماله، ولا يأمن جانب عامله.

حانت من هذا الرجل _أثناء سيره_ التفاتة نحو البحر، ليُريَ نفسه خيال السفينة التي تحمل تجارته قادمةً بالربح الوفير مع عامله وخدمه، ولكنه توقف فجأة عندما أبصر هذا الصياد المستلقي، وحدّق فيه طويلاً، ثم تقدم نحوه بثقة وثبات.

أحس الصياد بوقع خطوات إنسان تقترب منه، فرفع رأسه بهدوء، ثم خفضه، وردُّ التحية واقفة على شفتيه تنتظر الإذن بالخروج، وسرعان ما خرجت.

وقف التاجر على رأس الصياد برهة ثم قال: ماذا تفعل هنا؟
قال الصياد: كما ترى، أصيد سمكاً يسد جوع بطني وبطون أولادي.
فقال التاجر _وهو يحس بنشوة أسئلة الخبرة والتجارة_: كم تصيد في اليوم؟
رد الصياد دون تفكير: سمكةً واحدة.
تعجب التاجر وقال: سمكة واحدة فقط في اليوم كله؟!
قال الصياد: نعم، سمكة واحدة تكفيني وتكفي أولادي اليومَ كلَّه.
فقال التاجر: ألم تفكر بغير هذا الأمر؟
قال الصياد: كيف؟
قال التاجر: تصيد في اليوم ما تستطيعه من السمك، ثمان سمكات أو تسع.
قال: ثم ماذا؟
قال: ثم تبيعها، إلا واحدة تأكلها أنت وأولادك.
قال: ثم ماذا؟
قال: ثم تعمل على هذا شهراً أو شهرين، يجتمع لك بعد ذلك ثمن القارب.
قال: ثم ماذا؟
قال: ثم تشتري قارباً تدخل به البحر، والسمك داخل البحر أكثر من سمك الشاطئ وأجود، فتصيد سمكاً أكثر.
قال: ثم ماذا؟
قال: ثم تكسب مالاً أكثر، وتشتري بذلك قارباً أكبر، وتستخدم معك عمالاً يعملون لك، فتصيد كمية من السمك كبيرة، فيكثر مالك.
قال: ثم ماذا؟
قال: ثم تشتري سفينة تدخل بها البحر، وتصيد أضعاف صيدك في القارب.
قال: ثم ماذا؟
قال: ثم تؤسس لك في البلدة دكاكين ومحلات، تبيع فيها بضاعتك، وتوظف عمالاً يديرونها.
قال: ثم ماذا؟
قال: ثم تكبر تجارتك، ويكون عندك محلات وموظفون ومحاسبون، وحينذاك يعمل لك العمال في السفن، وفي البلدة، وفي البلدات الأخرى التي تصدر لها بضاعتك.
قال: ثم ماذا؟
قال: ثم تشتري أراضي ومنتجعاتٍ وقصوراً على شاطئ البحر، تستلقي فيها على الشاطئ الأبيض وتنعم بالراحة والهدوء.
قال الصياد: متى أبلغ هذه المرحلة؟
فقال التاجر: ربما تصل إلى ذلك إذا بلغت الخمسين أو الستين.

ضحك الصياد _وهو مستلقٍ_ ثم قال:
فأنا الآن مستلقٍ على الشاطئ الناعم، وعمري لم يصل الثلاثين بعد، وأنا وزوجتي وأولادي نعيش كل يوم في راحة وهدوء و"استلقاء على الشاطئ"، ولم يكدر صفو عيشي اليوم إلا حديثك معي آنفاً.

_ _ _ _ _

سألت أبي قبل سنوات: لماذا _يا والدي_ اخترت هذا التخصص في دراستك؟ ثم أنت اليوم تُرغِّبني في تخصص غيره؟
فقال: التوجيه يا بنيّ، لم أجد في بداية شبابي من يوجهني لاختيار التخصص الذي يناسبني.

والدي نظر إلى الموضوع من زاوية، ولو أخذتكم معي إلى زاوية أخرى لوجدنا الخطأ نابعاً من قصر النظر، وهذه هي طبيعة الشباب، ولذلك رأى أبي أن الشاب في هذه المرحلة يحتاج إلى نظارة تعالج قصر النظر الذي يصيبه، وهذه النظارة لا يمتكلها إلا الرجال أصحاب الخبرة في هذه الحياة.

كم امرئٍ ندم على مسيرته الوظيفية أو العلمية أو غيرهما، ولكن لم يكن ذلك الندم إلا بعد أن شاب الشعر، وتجعد الوجه.

كانت بداية ذلك حماسَ شاب ممتلئٍ شباباً، رأى في الأفق منصباً رفيعاً ينتظره بعد خمس عشرة سنة، أو قصراً منيفاً يسكنه بعد عشرين سنة، أو ألقاباً وأبحاثاً علمية ينتظر أن يُحلَّى بها اسمه بعد ثلاثين أو أربعين عاماً، أو _ربما_ بعد وفاته!

إذا لم تقرأ _يا صاحِ_ اللوحة الإرشادية التي تكون في بداية كل طريق تنطق بحروف عالية: (ثم ماذا؟)، إذا لم تقرأها بعقل وتمعن قبل أن تضع أول خطوة في هذه الطريق فلسوف تقرؤها ذاتها في نهاية الطريق، ولكنك ستقرؤها حينئذٍ بمشاعر مختلفة.

إن أردت أن تنتفع بنصحي فاقرأها قراءةً ذكية قبل أن تسلك أي طريق؛ فكر بهذه الجملة جيداً قبل أن تضع أموالك في تجارة فيها شبهة _بله المحرمة_، فلنقل: إنك قد ربحت وزاد مالك وصرت تاجراً غنياً، تركب ما تشتهي، وتشتري ما تريد، ثم ماذا؟ لكل شيء نهاية، و"كل شيء هالك إلا وجهه"، بعد كل هذا ستكون العاقبة: مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنِّداً، أو موتاً مُنسياً، وحينئذٍ لن يغني عنك مالك الذي شقيت بجمعه، وكان أصله حراماً.

قل لنفسك (ثم ماذا؟) قبل أن تقع عيناك في عينيها، أصابك سهمها كما أصابها سهمك، ثم ماذا؟ ثم وصلك الشيطان بها، فحدّثتَها وحادثتك أحاديث العاشقين، ولم يدَعْك إبليس حتى جمعكما، ثم ماذا؟ أوقعكما في الرذيلة، ثم ماذا؟ تمتعت وتلذذت، ولكن ثم ماذا؟!

قل لنفسك: ثم ماذا؟ لن تحري إجابة! لأن النتائج بعد ذلك محزنة لك: إما حمل سفاح بسببك، وإما عقاب من الله بمرض أو فضيحة، وإن نجوت من هذين فلن تنجو من الهم الطويل وضيق الصدر، ولا تنس أن لقب (الزاني) يطلق على من فعل فعلك، هذا في الدنيا، "ولعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى"، هل أدركت الآن الفرق بين قراءة (ثم ماذا) قبل الإقدام وقراءتها في نهاية الطريق؟

إذا نزغك من الشيطان نزغ أن انظر إلى مقطع أو صورة أو فيلم يجمع حيوانات من البشر تتسافد لتتمتع بها وتملأ بمشاهدها عينيك وعقلك فقل لنفسك: (ثم ماذا؟) شاهدت وتمتعت وزنت عيناي، وقضيت شهوتي وتمنى قلبي ما تمنى، ثم ماذا؟! زاد رصيد السيئات، وضعف الإيمان في القلب، وتأثرت الصحة، وكسب الشيطان الجولة.

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الإثم والعارُ
وإذا التفَتَتْ نفسك إلى أنظار الناس وطفقت تنتظر مدحهم لها وثناءهم عليها، وصارت تقول لك: أنفق وتصدق ليزيد مدحي بالكرم، واكتب وناقش وجادل ليقال: كاتب متحدِّث، وجمل صوتك بالقرآن وتباكَ لتكون عند الناس قارئاً خاشعاً بكَّاءً، إذا قالت نفسك لك ذلك فقف وقل لها بحزم: ثم ماذا؟! لن ينفعني الناس عندما أكون أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة.

لماذا تتقدم _إذاً_ وتعقد صفقة تعلم سلفاً أنها صفقةٌ خاسرة؟!