إخواني الكرام :
سؤالي هو : ما حكم من يتعلم الكفر دون اعتقاد صوابه كحال بعض من يدرس القوانيين الوضعية في الجامعات والمعاهد الحقوقية من أجل مصلحة دينية أو دنيوية .
من كان عنده تفصيل في هذه المسألة فليذكره لنا جزاكم الله خيراً .
وهذه بعض أقوال العلماء في المسألة لعلكم تعلقوا عليها بارك الله فيكم .
يقول الإمام القرافي رحمه الله : ( وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ تَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ كُفْرٌ فَفِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ فَقَدْ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ لِبُرْجِ الْأَسَدِ وَحَكَى الْقَضِيَّةَ إلَى آخِرِهَا فَإِنَّ هَذَا سِحْرٌ فَقَدْ تَصَوَّرَهُ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ فَهَذَا هُوَ تَعَلُّمُهُ فَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَلُّمُ إلَّا بِالْمُبَاشَرَة ِ كَضَرْبِ الْعُودِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كُتُبُ السِّحْرِ مَمْلُوءَةٌ مِنْ تَعْلِيمِهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ كَتَعَلُّمِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَكْفُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ كَمَا نَقُولُ إنَّ النَّصَارَى يَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَا وَالصَّابِئَةَ يَعْتَقِدُونَ فِي النُّجُومِ كَذَا وَنَتَعَلَّمُ مَذَاهِبَهُمْ ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى نَرُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَهُوَ قُرْبَةٌ لَا كُفْرٌ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنْ كَانَ تَعَلَّمَ السِّحْرَ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ إنْ عَمِلَ السِّحْرَ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ لِيُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِين َ عَلَى الزِّنَا أَوْ قَطْعِ الطَّرِيق ، الْبَغْضَاءِ وَالشَّحْنَاءِ أَوْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِجَيْشِ الْكُفْرِ فَيَقْتُلُونَ بِهِ مَلِكَهُمْ هَذَا كُلُّهُ قُرْبَةٌ أَوْ يَصْنَعُهُ مَحَبَّةً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ مَعَ جَيْشِ الْإِسْلَامِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ كُلَّهَا فَالْمَوْضِعُ مُشْكِلٌ جِدًّا .
وقال في موضع ثاني : ( وَقَوْلُهُمْ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قُلْنَا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ السِّحْرِ لَا مُحَالٌ فِيهِ غَايَتُهُ دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِي الْعُمُومِ بِالْقَوَاعِدِ وَهَذَا هُوَ شَأْنُنَا فِي الْعُمُومَاتِ .
وَأَمَّا التَّكْفِيرُ بِغَيْرِ سَبَبِ الْكُفْرِ فَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ ، وَلَا شَاهِدَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ ، وَأَيُّ دَلِيلٍ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ أَوْ تَعْلِيمَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْكُفْرِ وقَوْله تَعَالَى : " وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ " فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ : " يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ " نَمْنَعُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ " كَفَرُوا " بَلْ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ بَعْدَ تَقَرُّرِ كُفْرِهِمْ بِغَيْرِ السِّحْرِ ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ إذَا كَانَتْ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُفَسِّرَةً لِلْأُولَى سَلَّمْنَا أَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لَهَا لَكِنْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السِّحْرَ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْكُفْرِ وَكَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَعْتَقِدُ مُوجِبَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ ، كَالنَّصْرَانِي ِّ إذَا عَلَّمَ الْمُسْلِمَ دِينَهُ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ مُوجِبَهُ ، وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ إذَا عَلَّمَ تِلْمِيذَهُ الْمُسْلِمَ دِينَ النَّصْرَانِيِّ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ وَيَتَأَمَّلَ فَسَادَ قَوَاعِدِهِ فَلَا يَكْفُرُ الْمُعَلِّمُ ، وَلَا الْمُتَعَلِّمُ ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ ، وَأَمَّا جَعْلُ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ مُطْلَقًا كُفْرًا فَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ وَلِنَقْتَصِرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى غَوْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وقد عقب ابن الشاط على كلام القرافي فقال : ( كَوْنَ أَمْرٍ مَا كُفْرٌ أَيَّ أَمْرٍ كَانَ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ بَلْ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْوَضْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ فِي أَمْرٍ مَا هُوَ كُفْرٌ فَهُوَ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ إنْشَاءً أَمْ إخْبَارًا فَإِذَا تَمَهَّدْت الْقَاعِدَةُ فَنَقُولُ مَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ مِنْ أَنَّ دَلِيلَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْله تَعَالَى : " وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ " أَيْ بِتَعَلُّمِهِ قَوْلٌ صَحِيحٌ وَاسْتِدْلَالُ الْمَالِكِيَّةِ بِذَلِكَ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ لِتَعَذُّرِ حَمْلِ قَوْلِهِ : " فَلَا تَكْفُرْ " عَلَى الْكُفْرِ بِغَيْرِ التَّعْلِيمِ لِعَدَمِ الْتِئَامِ قَوْلِهِ : " فَلَا تَكْفُرْ " عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْكُفْرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُ التَّعَلُّمِ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَبِهَذِهِ الْقَرِينَةِ نَصٌّ فِي أَنَّ التَّعَلُّمَ هُوَ الْكُفْرُ وَلَكِنْ يَبْقَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ إخْبَارٌ عَنْ وَاقِعٍ قَبْلَنَا ، وَخِطَابٌ عَنْ غَيْرِنَا فَلَا يَتِمُّ الإسْتِدْلَال إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمَنْصُوصُ فِي الْمَذْهَبِ .) إهـ
وقال أيضاً في حكم تعلم السحر : ( بَلْ تَعَلُّمُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا لِيَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ خَاصَّةً إمَّا لِتَجَنُّبٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ بِكُفْرٍ .
وَالْوَجْهِ الثَّانِي : أَنْ يَتَعَلَّمَهُ قَاصِدًا بِتَعَلُّمِهِ تَحْصِيلَ أَثَرِهِ مَتَى احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اقْتَضَى ظَاهِرُ الْكِتَابِ أَنَّهُ كُفْرٌ.) إهـ من كتاب الفروق .