مقدمة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . أما بعد :
فهذا جزء حاولت فيه بحث بعض المسائل التي تكلم فيها مَنْ يُنْسَب إلى العلم ، وحاول تلبيس الباطل لبوس الحق الذي لاشك فيه ، والذي يجب اتباعه !
وقد قسمت هذا البحث على مسائل :
المسألة الأولى : ما المقصود بالمسألة ؟
المقصود بذلك هو : أن يحكم الحاكم حكماً عاماً بالجواز أو المنع أو الصحة أو الفساد في مسألة اختلف فيها العلماء ؛ فهل يكون حكمه ملزماً رافعاً للخلاف في المسألة ؟ وهل يجوز لمن رأى خلاف رأي ولي الأمر مخالفته ؟ وإذا قلنا : بأنه يرفع الخلاف ؛ فهل يقال : بأنَّ من رأى خلافَ رأي الحاكم ، له أن يعمل بقول الحاكم دون أن يكون عليه وزرٌ ؟
مثال ذلك : الأمر بالقنوت الدائم في الفجر ، أو بالتأمين ، أو فساد عقد شركة الأبدان ، ونحو ذلك .
وكذلك مسألة حكم الحاكم في المسائل الخاصة بالقضاء بالفصل بين المتنازعين ونحوها ، فليست محل بحثنا ( 1 ) .
المسألة الثانية : ما المقصود بقولهم : يرفع الخلاف ؟
المقصود بذلك : أن المسائل التي وقع فيها خلاف بين العلماء ؛ فإن حكم الحاكم فيها يفصل النزاع بينهم ، ويسد باب الخصومات ، ولا يعني هذا أن الخلاف قد ارتفع بحيث لا يسوغ الخلاف في هذه المسألة ، وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في الفتاوى ( 3 / 238 ) : والأمة إذا تنازعت ـ في معنى آية ، أو حديث ، أو حكم خبري ، أو طلبي ـ لم يكن صحة أحد القولين ، وفساد الآخر ثابتًا بمجرد حكم حاكم ، فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة .
ثم قال بعد أن ذكر جملةً من المسائل المختلف فيها كلفظ القَرْءِ ، وملامسة النساء ، ومَنْ بيده عُقدة النكاح ... قال : لم يكن حكم الحاكم لصحة أحد القولين وفساد الآخر مما فيه فائدة .
_______________________
( 1 ) قال شيخ الإسلام في المجموع ( 35 / 372 ) : وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق ( حكم الحاكم ) ولو كان أفضلَ أهل زمانه ! ؛ بل حكم الحاكم العالم العادل يُلزمُ قوماً معينين تحاكموا إليه في قضيةٍ معينة ، لا يُلزم جميع الخلق ... .
وقال – رحمه الله – في الفتاوى ( 35 / 360 ) : وأما باليد والقهر، فليس له أن يحكم إلا في المعينة التي يتحاكم فيها إليه مثل : ميت مات ، وقد تنازع ورثته في قسم تركته ، فيقسمها بينهم إذا تحاكموا إليه ، وإذا حكم هنا بأحد قولي العلماء ألزم الخصم بحكمه، ولم يكن له أن يقول: أنا لا أرضى حتى يحكم بالقول الآخر .
وكذلك إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما ، فصل بينهما كما أمر الله ورسوله، وألزم المحكوم عليه بما حكم به ، وليس له أن يقول : أنت حكمت عليَّ بالقول الذي لا أختاره ، فإن الحاكم عليه أن يجتهد ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " ، وقد يخص الله بعض الأنبياء والعلماء والحكام بعلم دون غيره ، كما قال تعالى : " وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا " [ الأنبياء : 78، 79 ] .