تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 25

الموضوع: هل حكم الحاكم يرفعُ الخلاف ؟

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    656

    افتراضي هل حكم الحاكم يرفعُ الخلاف ؟

    مقدمة

    الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . أما بعد :
    فهذا جزء حاولت فيه بحث بعض المسائل التي تكلم فيها مَنْ يُنْسَب إلى العلم ، وحاول تلبيس الباطل لبوس الحق الذي لاشك فيه ، والذي يجب اتباعه !
    وقد قسمت هذا البحث على مسائل :

    المسألة الأولى : ما المقصود بالمسألة ؟
    المقصود بذلك هو : أن يحكم الحاكم حكماً عاماً بالجواز أو المنع أو الصحة أو الفساد في مسألة اختلف فيها العلماء ؛ فهل يكون حكمه ملزماً رافعاً للخلاف في المسألة ؟ وهل يجوز لمن رأى خلاف رأي ولي الأمر مخالفته ؟ وإذا قلنا : بأنه يرفع الخلاف ؛ فهل يقال : بأنَّ من رأى خلافَ رأي الحاكم ، له أن يعمل بقول الحاكم دون أن يكون عليه وزرٌ ؟
    مثال ذلك : الأمر بالقنوت الدائم في الفجر ، أو بالتأمين ، أو فساد عقد شركة الأبدان ، ونحو ذلك .
    وكذلك مسألة حكم الحاكم في المسائل الخاصة بالقضاء بالفصل بين المتنازعين ونحوها ، فليست محل بحثنا ( 1 ) .

    المسألة الثانية : ما المقصود بقولهم : يرفع الخلاف ؟
    المقصود بذلك : أن المسائل التي وقع فيها خلاف بين العلماء ؛ فإن حكم الحاكم فيها يفصل النزاع بينهم ، ويسد باب الخصومات ، ولا يعني هذا أن الخلاف قد ارتفع بحيث لا يسوغ الخلاف في هذه المسألة ، وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في الفتاوى ( 3 / 238 ) : والأمة إذا تنازعت ـ في معنى آية ، أو حديث ، أو حكم خبري ، أو طلبي ـ لم يكن صحة أحد القولين ، وفساد الآخر ثابتًا بمجرد حكم حاكم ، فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة ‏.‏
    ثم قال بعد أن ذكر جملةً من المسائل المختلف فيها كلفظ القَرْءِ ، وملامسة النساء ، ومَنْ بيده عُقدة النكاح ... قال : لم يكن حكم الحاكم لصحة أحد القولين وفساد الآخر مما فيه فائدة ‏.‏

    _______________________

    ( 1 ) قال شيخ الإسلام في المجموع ( 35 / 372 ) : وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق ( حكم الحاكم ) ولو كان أفضلَ أهل زمانه ! ؛ بل حكم الحاكم العالم العادل يُلزمُ قوماً معينين تحاكموا إليه في قضيةٍ معينة ، لا يُلزم جميع الخلق ... .
    وقال – رحمه الله – في الفتاوى ( 35 / 360 ) : وأما باليد والقهر، فليس له أن يحكم إلا في المعينة التي يتحاكم فيها إليه مثل : ميت مات ، وقد تنازع ورثته في قسم تركته ، فيقسمها بينهم إذا تحاكموا إليه ، وإذا حكم هنا بأحد قولي العلماء ألزم الخصم بحكمه، ولم يكن له أن يقول‏:‏ أنا لا أرضى حتى يحكم بالقول الآخر ‏.‏
    وكذلك إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما ، فصل بينهما كما أمر الله ورسوله، وألزم المحكوم عليه بما حكم به ، وليس له أن يقول ‏:‏ أنت حكمت عليَّ بالقول الذي لا أختاره ، فإن الحاكم عليه أن يجتهد ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم‏ - :‏ ‏" ‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏ " ‏، وقد يخص الله بعض الأنبياء والعلماء والحكام بعلم دون غيره ، كما قال تعالى ‏:‏ ‏" ‏وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ‏" ‏[‏ الأنبياء ‏:‏ 78، 79‏ ]‏ .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    656

    افتراضي

    المسألة الثالثة : هل حكم الحاكم يرفع الخلاف ؟
    كلام الفقهاء – رحمهم الله – الذي وقفتُ عليه متعلق بمسألة حكم الحاكم – وهو هنا : ولي الأمر ، أو القاضي ، أو الحَكَم ( على قول ) – في مسألة اختلف فيها العلماء ، وتنازع فيها طرفان ، ورفعت القضية للحاكم ؛ فهل يرفع الخلاف أم لا ؟
    ويظهر هذا جلياً من خلال كلامهم ، و من ذلك :
    1 – أنَّ أكثر من تكلم عن هذه المسألة أشار لها في باب القضاء .
    2 – أنَّ من تكلَّم عنها ذكر من شروطها : أن يكون الحكم مبنياً على دعوى .
    3 – أنَّ من تكلم عن هذه المسألة ينص على القاضي ، وحكم القاضي ليس حكماً عاماً ، وإنما في المسائل الخاصة .
    4 – ومما يؤكد ما سبق أن بعضهم ينص على أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم من سبقه ، وهذا لا يمكن طرده على الحكم العام .
    5 – أنَّ هذه المسألة لو كان فيها رفع للخلاف لكانت هذه المسألة من مسائل الأصول ، والتي تذكر في كتب الأصول ، وهذا مما لا وجود له .
    ومما سبق يُعْلَم أنَّ نقل كلام أهل العلم حول هذه المسألة هنا غير واردٍ ، وحَمْلُ كلامهم على مسألتنا تلاعب بكلام أهل العلم .
    تنبيه مهم : قد ينازع البعض في بعض النقول التي ستأتي بكونها في قضاء القاضي ، والجواب عن ذلك أن يقال : أني حاولت نقل النصوص التي يفهم منها العموم ، سواء كان الحكم حكم القاضي أو ولي الأمر ؛ وأخصُّ بالذكر شيخَ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – حيث أكثرتُ النقل عنه ،
    فقد قال في المجموع ( 35 / 376 ) : فالشرع الذي يجب على كل مسلم أن يتبعه ، ويجب على ولاة الأمر نصره والجهاد عليه هو الكتاب والسنة ، وأما حكم الحاكم فذاك يقال له قضاء القاضي ؛ ليس هو الشرع الذي فرض الله على جميع الخلق طاعته ؛ بل القاضي العالم العادل يصيب تارة ويخطئ أخرى ...
    ثم قال ( 35 / 378 ) : وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة ، وإذا تنازع بعض المسلمين في شيءٍ من مسائل الدين – ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم – لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه باتباع حكم حاكم ؛ بل عليهم أن يبينوا له الحق كما يبين الحق للجاهل المتعلم ؛ فإن تبين له الحق الذي بعث الله به رسوله وظهر وعانده بعد هذا استحق العقاب .
    وأما من يقول : إن الذي قلته هو قولي ، أو قول طائفة من العلماء المسلمين ؛ وقد قلته اجتهاداً أو تقليداً ، فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته ، ولو كان أخطأ خطأ مخالفاً للكتاب والسنة ، ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين ... إلخ كلامه – رحمه الله – .
    ثم قال ( 35 / 387 ) : وولي الأمر إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة حكم بين الناس به ،
    وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا حتى يعرف الحق حكم به‏ ،
    وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا ترك المسلمين على ما هم عليه كل يعبد الله على حسب اجتهاده ، وليس له أن يلزم أحدًا بقبول قول غيره وإن كان حاكمًا ‏.‏
    وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله ، ووقع بأسهم بينهم قال النبي – صلى الله عليه وسلم – :‏ ‏" ‏ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم‏ " ، وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول كما قد جري مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا ...
    فهذا النقل – وغيره مما سيأتي – يوضح أن كلام شيخ الإسلام – رحمه الله – عامٌ في ولاة الأمور والقضاة .
    نرجع إلى مسألتنا ، وسأقدم بين يدي الكلام عنها بعض القيود التي توضح المسألة ، وتحرر محل النزاع :
    أولاً : حكم الحاكم بتحليل الحرام أو تحريم الحلال المجمع عليه لا أثر له في تغيير الأحكام البتة ، إذ " لا طاعة في معصية الله " ( ) .
    ثانياً : إلزام الحاكم وإكراهه للناس على قولٍ من الأقوال الفقهية مخالفٍ لما يراه ويعتقده ؛ فإن الإنسان يفعل ما أُكْرِهَ عليه وإثمه على من أكرهه ، وإن استطاع أن يتخلص من هذا الإكراه فعل .

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    656

    افتراضي

    أما مسألتنا فهي : حكم الحاكم في أمرٍ عامٍ في مسألة مختلفٍ فيها بين العلماء على قولٍ من الأقوال – كالتأمين التجاري – دون إكراه .
    فأقول مستعيناً بالله :
    اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
    القول الأول : لا يجوز للحاكم أن يلزم الناس بقولٍ من الأقوال إلا إذا رفعت إليه دعوى في قضية خاصة ليحكم فيها ؛ فالقضاء بما يترجح عند القاضي ملزم لكلا الطرفين .
    قال شيخ الإسلام في المجموع ( 35 / 372 ) : وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق ( حكم الحاكم ) ولو كان أفضلَ أهل زمانه ! ؛ بل حكم الحاكم العالم العادل يُلزمُ قوماً معينين تحاكموا إليه في قضيةٍ معينة ، لا يُلزم جميع الخلق ... .
    والدليل على ذلك ما يلي :
    الدليل الأول : أنَّ الحكم في المسائل الخلافية لله ورسوله ، والدليل على ذلك قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ؛ فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا " قال شيخ الإسلام في المجموع ( 35 / 361 ) : فأوجب الله طاعة أولي الأمر مع طاعة الرسول ، وأوجب على الأمة إذا تنازعوا أن يردوا ما تنازعوا إلى الله ورسوله إلى الكتاب وسنة رسوله... فالحكم لله وحده ، ورسلُهُ يبلغون عنه ؛ فحكمهم حكمه ، وأمرهم أمره ، وطاعتهم طاعته ، فما حكم به الرسول وأمرهم به وشرعه من الدين = وجب على جميع الخلائق اتباعه وطاعته ؛ فإن ذلك هو حكم الله على خلقه . اهـ .
    وكذلك جميع النصوص الدالة على وجوب تحكيم أمر الله ورسوله دون غيرهما ؛ كقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " ، وقوله : " إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون " ، وقوله : " إن الحكم إلا لله " ، وقوله : " وان احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم " ، وقوله : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " ، وقوله : " و لا يشرك في حكمه أحدا " وغيرها من الآيات والأحاديث ، وهي وإن كانت عامة إلا أنها توضح لنا الأصل في هذه المسائل ، وهو وجوب تحكيم قول الله ورسوله دون غيرهما من الناس كائناً ما كان .
    الدليل الثاني : أنَّ المتبع لقول الحاكم في ذلك مع علمه بأنَّ حكم الحاكم مخالفٌ لحكم الله ورسوله - وإنْ كان الحاكم مجتهداً قصده اتباع الرسول - فهو داخل في عموم قوله تعالى : " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله " قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في الفتاوى ( 7 / 70 ) : وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا - حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم اللّه وتحريم ما أحل اللّه - يكونون على وجهين‏ :‏
    أحدهما ‏:‏ أن يعلموا أنهم بدلوا دين اللّه فيتبعونهم على التبديل ، فيعتقدون تحليل ما حرم اللّه ، وتحريم ما أحل اللّه ، اتباعًا لرؤسائهم ، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل ، فهذا كفر ، وقد جعله اللّه ورسوله شركًا - وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم - فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين ، واعتقد ما قاله ذلك ، دون ما قاله اللّه ورسوله مشركًا مثل هؤلاء‏ .‏
    والثاني‏ :‏ أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتًا ( 1 ) ، لكنهم أطاعوهم في معصية اللّه ، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب ، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏: ‏‏" ‏إنما الطاعة في المعروف‏ " ( ) ، وقال‏ : ‏‏" ‏على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ، ما لم يؤمر بمعصية ‏" ( ) ‏، وقال ‏:‏ ‏" ‏لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق‏ " ( ) ‏، وقال ‏: ‏‏" ‏من أمركم بمعصية اللّه فلا تطيعوه‏ " ( ) ‏‏.‏
    ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام ، إن كان مجتهدًا قصده اتباع الرسول ، لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر ، وقد اتقى اللّه ما استطاع فهذا لا يؤاخذه اللّه بخطئه ، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه ‏.‏
    ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول ، ثم اتبعه على خطئه ، وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه اللّه ، لاسيما إن اتبع في ذلك هواه ، ونصره باللسان واليد ، مع علمه بأنه مخالف للرسول ، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه ‏.‏
    ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه ، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال ، وإن كان عاجزًا عن إظهار الحق الذي يعلمه ...
    وقال – رحمه الله – في المجموع ( 35 / 372 ) : ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله ، واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله = كان مرتداً كافراً يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : " ‏المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إليك فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إليكم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ‏"‏ ‏[ ‏الأعراف ‏:‏1 ، 3‏ ] .‏
    ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره = كان مستحقًا لعذاب الله ؛ بل عليه أن يصبر ‏ ،‏ وإن أوذي في الله فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم‏ .‏ قال الله تعالى ‏:‏ ‏" ‏الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ "‏ ‏[ ‏العنكبوت‏ :‏ 1 ، 3‏ ]‏ ، وقال تعالى‏ :‏ ‏" ‏وَلَنَبْلُوَن َكُمْ حتى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ ‏"‏ ‏[‏ محمد‏ : ‏13‏ ]‏ ، وقال تعالى ‏:‏ ‏" ‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ‏"‏ ‏[ ‏البقرة ‏:‏ 214‏ ] ‏‏.

    __________________________

    ( 1 ) هذه العبارة فيها إشكال ، ولعل الصواب : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام ، وتحليل الحلال ثابتاً .

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    656

    افتراضي

    الدليل الثالث : أنَّ هذه المسألة قد حكى بعض العلماء اتفاق المسلمين على عدم جواز العمل بما حكم به الحاكم - فضلاً عن كونه يرفع الخلاف - ، منهم :
    1 – الشافعي – كما في إعلام الموقعين ( 2 / 290 ) – : أجمع الناس على أنَّ من استبانت له سنة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن له أن يدعها لقول أحدٍ من الناس .
    2- قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في منهاج أهل السنة ( 2 / 76 ) : أهل السنة لا يجوزون طاعة الإمام في كل ما يأمر به ؛ بل لا يوجبون طاعته إلا فيما يسوغ طاعته فيه في الشريعة .
    3 – شيخ الإسلام – رحمه الله – في المجموع ( 35 / 373 ) : ‏وهذا إذا كان الحاكم قد حكم في مسألة اجتهادية قد تنازع فيها الصحابة والتابعون فحكم الحاكم بقول بعضهم وعند بعضهم سنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخالف ما حكم به = فعلى هذا أن يتبع ما علم من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويأمر بذلك ، ويفتي به ويدعو إليه ، ولا يقلد الحاكم‏ .‏ هذا كله باتفاق المسلمين‏ .‏
    الدليل الرابع : أنَّ سبل تلقي الأحكام الشرعية الكتاب والسنة والإجماع – والأدلة المختلف فيها عند الأصوليين – وليس منها : حكم الحاكم ! قال شيخ الإسلام – رحمه الله – كما في المنتقى للذهبي ( 570 ) : سبل الأحكام كلها تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام ، وإنما الإمام منفذ لما شرعه الله .
    الدليل الخامس : أنَّ القول بأن حكم الحاكم يرفع الخلاف لم يقله الخلفاء الراشدون ولا الصحابة ولا من بعدهم من السلف ، والدليل على ذلك وجود حكم الخليفة في أمرٍ من الأمور ونجد الصحابة وأهل العلم يخالفونه في ذلك ، ومنها :
    1 – قصة اجتهاد أبي بكر وعمر في حج التمتع ، وقول ابن عباس : أُراهم سيهلكون ! أقول : قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ويقول : نهى أبو بكر وعمر .
    2- أن معاوية لمَّا قَدِمَ المدينة – وهو ولي أمر المسلمين ( ) – قال : أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر ، فأخذ الناس بذلك ( ) .
    وقد خالف في ذلك أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – ( ) مع أنَّ ظاهر هذا الخبر وغيره موافقة أكثر الصحابة لقول معاوية – رضي الله عنه – .
    3 – وقصة الرشيد مع الإمام مالك – رحمه الله – حينما أراد أن يحمل الناس على رأي مالك في ( الموطأ ) منعه الإمام مالك ، وقال له : إن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تفرقوا في الأمصار ، وقد أخذ كل قومٍ بما بلغهم .
    4 – مخالفة شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لأغلب علماء عصره ؛ بل امتحن في مسألة الطلاق ثلاثاً هل يقع واحدة أم لا ؟ وغيرها من المسائل .
    ولم يُلزم أحدٌ من العلماء شيخَ الإسلام – رحمه الله – بالرجوع عن قوله أو – على الأقل – عدم الإفتاء في هذه المسألة بحجة أن حكم الحاكم يرفع الخلاف !
    الدليل السادس : أنَّ القول بأن حكم الحاكم يرفع الخلاف قولٌ فاسدٌ من وجهين :
    الوجه الأول : أنه يلزم على هذا القول تتبع أحكام الحكام والسلاطين مع ما هم فيه من الفسق والفجور ، وترك كلام الأئمة والسلف ؛ فضلاً عن الأدلة الشرعية !
    الوجه الثاني : إلى متى يستمر الخلاف مرفوعاً ؟
    فإن قيل : أبد الدهر .
    قلنا : هذا فاسد ؛ حتى على مذهب القائلين بأن حكم الحاكم يرفع الخلاف !
    وإن قيل : يستمر الخلاف مرفوعاً إلى أن يموت أو ينعزل الحاكم أو إلى أن ينقضه الحاكم الذي يليه .
    قلنا : هذا مخالف للواقع العملي ، ولا يُعلم وقوعه في عصرٍ من العصور .
    وبهذين الوجهين يتبين فساد هذا القول .
    الدليل السابع : أنَّ جماعةً من أهل العلم على عدم جواز إلزام ولي الأمر القضاةَ المجتهدين بالحكم بمذهبٍ معين ، لِمَا في ذلك من مفاسد ؛ ومن أعظمها ، وهو ما يهمنا هنا : أن القاضي يحكم بخلاف ما يعتقده راجحاً . هذا الرأي هو ما ترجح لدى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ؛ بل لا أظن أنَّ هناك خلافاً في هذه المسألة ، حيث إن حجة من يرى إلزام القضاة بالحكم بما يوضع له من أحكام هو : عدم وجود القضاة المجتهدين في هذا العصر ، ودرءاً لمفسدة تناقض أحكام القضاة ، دون تجويزهم أن يحكم القاضي المجتهد بخلاف ما يعتقده صواباً .
    وإذا كان هذا في القضاة المُوَلين من قبل ولي الأمر بشروط معينة ، فغيرهم كذلك ؛ بل من باب أولى .
    الدليل الثامن : أنَّ الفقهاء ذكروا أنَّه إذا اجتهد مجتهدان ، فاختلفا في جهة القبلة ، أنَّه لا يتبع أحدهما الآخر ؛ أما المقلد فإنه يتبع أوثقهما عنده .
    وجه الاستدلال : أنَّ الاختلاف في جهة القبلة لا يكون إلا في السفر ، والمسلمون المسافرون مأمورون بتأمير أحدهم ؛ فإذا وقع الاختلاف في القبلة فيعمل المجتهد باجتهاده – وإن خالف الأمير – ، ويعمل المقلد بعمل الأوثق والأعلم عنده – وإن خالف الأمير – .
    فتقاس هذه المسألة على مسألتنا ؛ فليس للحاكم أن يجبر الناس على رأيه ، وعلى المجتهد أن يعمل باجتهاده – وإن خالف ولي الأمر – ، وعلى المقلد سؤال أهل العلم والعمل بما يفتون به – وإن خالف قول ولي الأمر – .
    ويناقش هذا الدليل بما يلي : 1 – أنَّ هذه المسألة ليست محل اتفاق بين العلماء ؛ ولا يصح القياس على أصل متنازع فيه .
    2 – أنَّ سبب المنع من تقليد أحدهما الآخر هو : أنَّ كل واحدٍ منهما يعتقد أنه ترك أمراً مجمعاً عليه ، وهو : استقبال الكعبة – كما ذكر ذلك القرافي في الفروق 2 / 188 – ونحن نتفق معكم في أنَّ المسائل المجمع عليها ليس لولي الأمر – فضلاً عن غيره – أن يأمر بخلافها .
    الدليل التاسع : عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال : بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام ؛ فلم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا . صبأنا ! فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ، ودفع إلى كل رجلٍ منَّا أسيره ؛ حتى إذا كان يومٌ أمرَ خالد أن يقتل كل رجلٍ منَّا أسيره . فقلت : والله لا أقتل أسيري ، ولا يقتل رجلٌ من أصحابي أسيره ، حتى قدمنا على النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكرناه . فرفع النبي – صلى الله عليه وسلم – يديه ، فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد .
    وجه الاستدلال : يستدل به من وجهين :
    الوجه الأول : أنَّ ابن عمر – رضي الله عنهما – ومن معه ، لم يمنعهم من كون خالد بن الوليد هو قائدهم وأميرهم أن يخالفوه عندما حصل عندهم شك في جواز ما أمر به ؛ فكيف لو كان ذلك فيما رأوا أنه حرام ؟!
    الوجه الثاني : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يعتب على الصحابة الذين عصوا الأمير عندما شَكُّوا في جواز ما أمرهم به .

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    656

    افتراضي

    وأخيراً ؛ إليك بعض نصوص العلماء التي وقفت عليها في هذه المسألة ، وأكثرها نقول عن شيخ الإسلام – رحمه الله – ؛ فمنها :
    1 – قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في كلامه على ابن مخلوف كما في المجموع ( 3 / 235 ) : ... هل ادعى أحد عليَّ دعوى مما يحكم به ‏؟‏ أم هذا الذي تكلمتُ فيه هو من أمر العلم العام ‏؟‏ مثل تفسير القرآن ، ومعاني الأحاديث ، والكلام في الفقه ، وأصول الدين‏ .‏ وهذه المرجع فيها إلى من كان من أهل العلم بها ، والتقوى لله فيها ، وإن كان السلطان والحاكم من أهل ذلك تكلم فيها من هذه الجهة ، وإذا عزل الحاكم لم ينعزل ما يستحقه من ذلك ، كالإفتاء ونحوه ، ولم يقيد الكلام في ذلك بالولاية ‏.‏
    وإن كان السلطان والحاكم ليس من أهل العلم بذلك ولا التقوى فيه لم يحل له الكلام فيه ، فضلًا عن أن يكون حاكمًا‏ .‏
    2 – وقال – رحمه الله – في المجموع ( 3 / 238 ) : والأمة إذا تنازعت ـ في معنى آية ، أو حديث ، أو حكم خبري ، أو طلبي ـ لم يكن صحة أحد القولين ، وفساد الآخر ثابتًا بمجرد حكم حاكم ، فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة ‏.‏
    ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى : ‏" ‏يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ‏‏" ‏[‏ البقرة‏ :‏ 228‏ ]‏ هو الحيض والأطهار ، ويكون هذا حكمًا يلزم جميع الناس قوله ،
    أو يحكم بأن اللمس في قوله تعالى‏ :‏ ‏" ‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏ " ‏[ ‏المائدة‏ :‏ 6‏ ]‏ هو الوطء ، والمباشرة فيما دونه ،
    أو بأن الذي بيده عقدة النكاح هو : الزوج ، أو الأب ، والسيد وهذا لا يقوله أحد‏ .‏
    وكذلك الناس إذا تنازعوا في قوله‏ :‏ ‏" ‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏ "‏ ‏[‏ طه‏ : ‏5‏ ]‏ فقال‏ :‏ هو استواؤه بنفسه وذاته فوق العرش ، ومعنى الاستواء معلوم ، ولكن كيفيته مجهولة‏ .‏ وقال قوم ‏:‏ ليس فوق العرش رب ، ولا هناك شيء أصلا ، ولكن معنى الآية‏ :‏ أنه قدر على العرش ، ونحو ذلك‏ .‏ لم يكن حكم الحاكم لصحة أحد القولين وفساد الآخر مما فيه فائدة ‏.‏
    ولو كان كذلك لكان من ينصر القول الآخر يحكم بصحته إذ يقول ‏:‏ وكذلك باب العبادات ، مثل كون مس الذكر ينقض أو لا ، وكون العصر يستحب تعجيلها أو تأخيرها ، والفجر يقنت فيه دائمًا أو لا ، أو يقنت عند النوازل ونحو ذلك ‏.‏ اهـ
    3 – وقال – رحمه الله – في المجموع ( 3 / 239 ) : والذي على السلطان في مسائل النزاع بين الأمة أحد أمرين ‏:‏ إما أن يحملهم كلهم على ما جاء به الكتاب والسنة ، واتفق عليه سلف الأمة ؛ لقوله تعالى :‏ " ‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ‏ " ‏[ ‏النساء ‏:‏ 95‏ ]‏‏.‏ وإذا تنازعوا فَهِمَ كلامهم ‏:‏ إن كان ممن يمكنه فهم الحق ، فإذا تبين له ما جاء به الكتاب والسنة دعا الناس إليه ، وأن يقر الناس على ما هم عليه ، كما يقرهم على مذاهبهم العملية‏ .‏
    فأما إذا كانت البدعة ظاهرة - تعرف العامة أنها مخالفة للشريعة - كبدعة الخوارج ، والروافض والقدرية والجهمية ، فهذه على السلطان إنكارها لأن علمها عام ، كما عليه الإنكار على من يستحل الفواحش ، والخمر ، وترك الصلاة ، ونحو ذلك‏ .
    4 – وقال – رحمه الله – في المجموع ( 3 / 240 ) : ‏وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع بالتزام قول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين ، ولا يفيد حكم حاكم بصحة قول دون قول في مثل ذلك إلا إذا كان معه حجة يجب الرجوع إليها ، فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواءً ، وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها في العلم ‏.‏
    نعم الولاية قد تمكنه من قول حق ونشر علم قد كان يعجز عنه بدونها ، وباب القدرة والعجز غير باب الاستحقاق وعدمه ، نعم للحاكم إثبات ما قاله زيد أو عمرو ثم بعد ذلك إن كان ذلك القول مختصا به كان مما يحكم فيه الحكام ؛ وإن كان من الأقوال العامة كان من باب مذاهب الناس ، فأما كون هذا القول ثابت عند زيد ببينة أو إقرار أو خط فهذا يتعلق بالحكام‏ .
    5 – وقال – رحمه الله – في المجموع ( 3 / 245 ) : ‏ومما يجب أن يعلم : أن الذي يريد أن ينكر على الناس ليس له أن ينكر إلا بحجة وبيان ؛ إذ ليس لأحد أن يلزم أحداً بشيء ، ولا يحظر على أحد شيئًا بلا حجةٍ خاصةٍ إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبلغ عن الله الذي أوجب على الخلق طاعته فيما أدركته عقولهم وما لم تدركه ، وخبره مصدق فيما علمناه وما لم نعلمه ، وأما غيره إذا قال : هذا صواب أو خطأ ، فإن لم يبين ذلك بما يجب به اتباعه ، فأول درجات الإنكار أن يكون المنكر عالما بما ينكره ، وما يقدر الناس عليه فليس لأحد من خلق الله كائنًا من كان أن يبطل قولا أو يحرم فعلا إلا بسلطان الحجة وإلا كان ممن قال الله فيه ‏:‏ " ‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ‏ " ‏[ ‏غافر ‏:‏ 56‏ ] ‏، وقال فيه ‏:‏ " ‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ‏ " ‏[ ‏غافر ‏:‏ 35‏ ]‏ ‏.
    6 – وقال – رحمه الله – في المجموع ( 30 / 79 ) : وسئل رحمه الله عمن ولي أمرا من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز ‏[‏ شركة الأبدان ‏]‏ فهل يجوز له منع الناس‏ ؟ ‏‏.‏
    فأجاب‏ :‏ ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد ، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو في معنى ذلك ؛ لاسيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار ‏.‏
    وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل ؛ ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على ‏[ ‏موطئه ‏]‏ في مثل هذه المسائل منعه من ذلك‏ .‏ وقال ‏:‏ إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في الأمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم ‏.‏ وصنف رجل كتابا في الاختلاف فقال أحمد‏ :‏ لا تسمه ‏[ ‏كتاب الاختلاف ‏]‏ ولكن سمه ‏[ ‏كتاب السنة‏ ] ( 1 ) ‏‏.‏ ولهذا كان بعض العلماء يقول‏ :‏ إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة ‏.‏ وكان عمر بن عبد العزيز يقول ‏:‏ ما يسرني أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا ؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا ، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة ‏.‏ وكذلك قال غير مالك من الأئمة ‏:‏ ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه‏ .‏
    ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره‏ :‏ إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد ، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية ، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه ‏.‏
    ونظائر هذه المسائل كثيرة‏ مثل : تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشرته ، وفي بيع المقاثي جملة واحدة ، وبيع المعاطاة ، والسلم الحال ، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره ، والتوضؤ من مس الذكر ، والنساء ، وخروج النجاسات من غير السبيلين ، والقهقهة ، وترك الوضوء من ذلك ، والقراءة بالبسملة سرا أو جهرا وترك ذلك‏ ،‏ وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه أو القول بطهارة ذلك ، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة وترك ذلك‏ ،‏ والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين أو المرفقين ، والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة أو الاكتفاء بتيمم واحد ، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض أو المنع من قبول شهادتهم‏ .‏
    ومن هذا الباب : الشركة بالعروض ، وشركة الوجوه ، والمساقاة على جميع أنواع الشجر ، والمزارعة على الأرض البيضاء ؛ فإن هذه المسائل من جنس شركة الأبدان ؛ بل المانعون من هذه المشاركات أكثر من المانعين من مشاركة الأبدان ، ومع هذا فما زال المسلمون من عهد نبيهم وإلى اليوم في جميع الأعصار والأمصار يتعاملون بالمزارعة والمساقاة ولم ينكره عليهم أحد ، ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها ‏.‏ ولهذا كان أبو حنيفة يفتي بأن المزارعة لا تجوز ثم يفرع على القول بجوازها ويقول‏ :‏ إن الناس لا يأخذون بقولي في المنع ؛ ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها كما اختار ذلك من اختاره من أصحاب الشافعي وغيره‏ .‏ اهـ
    7 – وقال – رحمه الله –في التسعينية ( 1 / 177 ) : ومن المعلوم أنَّ هذا من المنكرات المحرمة بالعلم الضروري من دين المسلمين ؛ فإن العقاب لا يجوز أن يكون [ إلا ] ( 2 ) على ترك واجب أو فعل محرم ، ولا يجوز إكراه أحدٍ على ذلك ؛ والإيجاب والتحريم ليس إلا لله ولرسوله ؛ فمن عاقب على فعل أو ترك بغير أمر الله ورسوله ، وشرع ذلك ديناً فقد جعل لله نداً ، ولرسوله نظيراً ، بمنزلة المشركين الذين جعلوا لله أنداداً ، وبمنزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذاب ، وهو ممن قيل فيه : " أم لهم شركاؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " [ الشورى : 21 ] ، ولهذا كان أئمة أهل السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد ، ولا يكرهون أحداً عليه ؛ ولهذا استشار هارون الرشيد مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه ، فقال له : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، فإن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم ، وإنما جمعت علم أهل بلدي – أو كما قال – .
    وقال مالك – أيضاً – : إنما أنا بشر أصيب وأخطئ ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة .
    وقال أبو حنيفة : هذا رأيي ؛ فمن جاءنا برأي أحسن منه = قبلناه .
    وقال الشافعي : إذا صح الحديث ؛ فاضربوا بقولي الحائط .
    وقال : إذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق ؛ فإني أقول بها .
    وقال المزني في أول مختصره : هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبد الله الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه ، مع إعلامه نهيه عن تقليده ، وتقليد غيره من العلماء .
    وقال الإمام أحمد : ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ،و لا يشدد عليهم .
    وقال : ولا تقلد دينك الرجال ، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا .
    فإذا كان هذا قولهم في الأمور العملية وفروع الدين ، لا يستجيزون إلزام الناس بمذاهبهم ، مع استدلالهم عليها بالأدلة الشرعية ؛ فكيف بإلزام الناس وإكراههم على أقوال لا تؤثر عن الصحابة والتابعين ولا عن أحدٍ من أئمة المسلمين . اهـ
    8 – وقال – رحمه الله – في منهاج السنة ( 3 / 503 ) في ردِّه على الروافض الذين يقولون بطاعة أئمتهم المعصومين طاعة مطلقة : الوجه السابع : أن الإمام الذي شهد له بالنجاة :
    إما أن يكون هو المطاع في كل شيء - وإن نازعه غيره من المؤمنين - ،
    أو هو مطاع فيما يأمر به من طاعة الله ورسوله ، وفيما يقوله باجتهاده - إذا لم يعلم أن غيره أولى منه - ونحو ذلك ؛
    فإن كان الإمام هو الأول : فلا إمام لأهل السنة بهذا الاعتبار إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه ليس عندهم من يجب أن يطاع في كل شيء إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم يقولون كما قال مجاهد والحاكم (3 ) ومالك وغيرهم : كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،
    وهم يشهدون لإمامهم أنه خير الخلائق ، ويشهدون بأن كل من ائتم به ففعل ما أمر به وترك ما نهى عنه دخل الجنة ، وهذه الشهادة بهذا وهذا هم فيها أتم من الرافضة من شهادتهم للعسكريين وأمثالهما بأنه من أطاعهم دخل الجنة = فثبت أن إمام أهل السنة أكمل ، وشهادتهم له ولهم إذا أطاعوه أكمل ، ولا سواء ؛ ولكن قال الله – تعالى - : " آلله خير أما يشركون " [ سورة النمل : 59 ] فعند المقابلة يُذكر فضل الخير المحض على الشر المحض ، وإن كان الشر المحض لا خير فيه .
    وإن أرادوا بالإمام الإمام المقيد : فذاك لا يوجب أهل السنة طاعته ، إن لم يكن ما أمر به موافقا لأمر الإمام المطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم إذا أطاعوه فيما أمر الله بطاعته فيه ، فإنما هم مطيعون لله ورسوله ، فلا يضرهم توقفهم في الإمام المقيد : هل هو في الجنة أم لا ؟ كما لا يضر أتباع المعصوم عندهم إذا أطاعوا نوابه ، مع أن نوابه قد يكونون من أهل النار ، لاسيما ونواب المعصوم عندهم لا يُعلم أنهم يأمرون بما يأمر به المعصوم ، لعدم العلم بما يقوله معصومهم ، وأما أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهي معلومة ؛ فمن أَمَرَ بها فقد عُلِمَ أنه وافقها ، ومن أمر بخلافها علم أنه خالفها ، وما خفي منها فاجتهد فيه نائبه ، فهذا خير من طاعة نائب لمن تُدَّعى عصمته ، ولا أحد يعلم بشيء مما أمر به هذا الغائب المنتظر ؛ فضلاً عن العلم بكون نائبه موافقاً أو مخالفاً ، فإن ادعوا أن النواب عالمون بأمر من قبله ، فعلم علماء الأمة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتم وأكمل من علم هؤلاء بقول من يدعون عصمته ، ولو طولب أحدهم بنقل صحيح ثابت بما يقولونه عن علي أو عن غيره ، لما وجدوا إلى ذلك سبيلا ، وليس لهم من الإسناد والعلم بالرجال الناقلين ما لأهل السنة .
    فائدة : لشيخ الإسلام كلام طويل حول هذه المسائل ، خاصةً أن أصل بعضها الكلام في حكم القاضي ويدخل في عموم كلامه ولي الأمر ، وهي :
    1 – في ( 35 / 357 – 388 ) من مجموع الفتاوى رسالة بعنوان : فيما جعل الله للحاكم أن يحكم فيه ، وما لم يجعل لواحدٍ من المخلوقين الحكم فيه ...
    2 – في ( 27 / 214 ) من مجموع الفتاوى وذلك في سياق ردِّه على معارضة بعض القضاة على فتوى شيخ الإسلام – رحمه الله – في المنع من السفر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، وقد أمروا بحبسه وزجره ومنعه من الإفتاء !
    3 – رسالة في أول المجلد الخامس من الفتاوى الكبرى ، وهي المطبوعة باسم : التسعينية .
    وقد نقلت من هذه الرسائل بعض النتف في هذا البحث ، ولطولها تركتُ نقلها كاملة ؛ فراجعها – إن شئت – .
    9 – وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : " ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله " ( 4 / 106 ) : أي : لا نتبعه في تحليل شيءٍ أو تحريمه إلا فيما حلله الله – تعالى – ، وهو نظير قوله – تعالى – : " اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله " [ التوبة 31 ] معناه : أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم و تحليلهم لما لم يحرمه الله ... وفيه ردٌّ على الروافض الذين يقولون : يجب قبول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، وأنه يحل ما حرَّمه الله من غير أن يبين مستنداً من الشريعة . اهـ .
    ويمكن من خلال استعراض كلام أهل العلم القائلين بعدم جواز إلزام الحاكم الناس بقولٍ من الأقوال إلى أنَّ هذا مشروطٌ بشروطٍ أوضحوها في تضاعيف كلامهم يأتي بيانها في الترجيح .

    _______________________

    ( 1 ) هكذا في المطبوع ، ولعل الصواب : السعة .

    ( 2 ) زيادة لا يتم الكلام إلا بها ، وهي مثبتة في مجموع الفتاوى الكبرى ( 5 / 14 ) .

    ( 3 ) كذا المثبت في المطبوع ، وقد ذكر المحقق في الحاشية أن النسخ ( أ ، ب ، ص ، ر ) : والحكم .

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    656

    افتراضي

    القول الثاني : جواز إلزام الحاكم في الأمور العامة بما ظهر له .
    وبين القائلين بهذا القول بعض الاختلاف ؛ فلذا ينبغي تحرير محل النزاع بينهم ؛
    فقد اتفقوا أنَّ غير باب العبادات وما يتعلق بها يدخله الإلزام من ولي الأمر بما تبيَّن له ،
    واختلفوا في باب العبادات ، وأسبابها ، وشروطها ، وموانعها على قولين :
    القول الأول : أنَّ باب العبادات ، وأسبابها ، وشروطها ، وموانعها لا يدخله الحكم البتة ؛ إلا إن كان هناك صورة مشاقة للسلطان ، وأُبَهة الولاية ، وإظهار العناد والمخالفة ، فيمتثل أمره = لا لأنه موطن خلافٍ اتصل به حكم حاكم ؛ بل درءً للفتنة ، واختلاف الكلمة ؛ وهذا ما قرره القرافي في القاعدة الرابعة والعشرون بعد المائتين ( 2 / 94 ) .
    القول الثاني : أنَّ حكم الحاكم ملزم في باب العبادات ؛ وهذا ما يظهر من تعليقات ابن الشاط على فروق القرافي ، ولعل – ولا أستطيع الجزم بذلك الآن – هذا هو اختيار الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – حيث قال في مجموع الفتاوى ( 19 / 41 ) في مسألة الرؤية هل تلزم جميع البلاد أم لا ؟
    أجاب - رحمه الله - : ولكن إذا كان البلد تحت حكمٍ واحدٍ ، وأمر حاكم البلاد بالصوم ، أو الفطر وجب امتثال أمره ؛ لأن المسألة خلافية ، وحكم الحاكم يرفع الخلاف . اهـ .
    أما مسألة حكم الحاكم في غير باب العبادات وما يتعلق بها ، فقد ذهب أصحاب هذا القول إلى أنَّ إلزام الحاكم فيها لازم لجميع الناس ، واستدلوا على ذلك بما يلي :
    الدليل الأول : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " الآية [ النساء : 59 ] .
    وجه الدلالة : أنَّ الله – سبحانه – قد أمر في هذه الآية بطاعة أولي الأمر ، وحق طاعتهم خاص بالمعروف وفيما وافق الكتاب والسنة ، وأيضاً فيما لم يكن فيهما ، ولم يتعارض معهما إذا أمروا به = رعايةً للمصلحة .
    ويناقش هذا الاستدلال : أن طاعتهم تكون فيما وضح حكمه ، واتفقت عليه الأمة ؛ أما ما اشتبه أمره واختلف فيه العلماء فالمرجع في فصل النزاع فيه الكتاب والسنة فقط بدليل قوله تعالى في نفس الآية : " فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول " ، فكونها دليلاً للقول الأول أقوى من كونها دليلاً للقول الثاني .
    الدليل الثاني : فعل عثمان – رضي الله عنه – حيث جمع الأمة على حرفٍ واحدٍ من الحروف السبعة التي نزل بها القرآن ، وقصر الناس على القراءة بها دون غيرها ، وأمر بتحريق المصاحف الأخرى التي تخالف المصحف الإمام .
    وجه الاستدلال : أنَّ عثمان – رضي الله عنه – لم يقم بهذا إلا بعد علمه بأنه يسوغ للحاكم أن يقصر الأمة على قولٍ أو حرفٍ من أحرف القرآن ،
    وكذلك لم يُعْلَمْ أنه قد أُنْكِرَ عليه هذا الفعل .
    ويناقش هذا الاستدلال : 1 – أن عثمان – رضي الله عنه – ومن وافقه من الصحابة وفقهاء التابعين استندوا إلى مصلحةٍ شهدت لها أصول الشريعة ، حيث إنَّ في حفظ القرآن من الاختلاف فيه = حفظاً للدين .
    2 – أنَّ عثمان لم يمنع إلا من القراءة من غير مصحفه ؛ أما الاحتجاج بما صح من الأحرف فلم يمنع منه .
    3 – أن القراءة بالأحرف السبعة كانت على التخيير لا الإلزام في أصل الشرع ( 1 ) ؛ تيسيراً للقراءة على الناس لاختلاف ألسنتهم ، فقصر الناس على حرفٍ منها لمصلحة كبرى ظاهرة مع موافقة أهل العلم والمشورة = ليس مما يُمنع منه الإمام ، بخلاف مسألتنا .
    4 – أنَّ هذا الفعل لم يكن من قبل ولي الأمر لوحده ؛ بل بإجماعٍ من الصحابة ، وأنتم تقرون بذلك ، ودليله ما رواه مصعب بن سعدٍ حيث قال : أدركت الناس متوافرين حين حَرَّقَ عثمان المصاحف ؛ فأعجبهم ذلك ، وقال : لم ينكر ذلك منهم أحد .
    يُناقش الرد الرابع : أنَّ ابن مسعود – رضي الله عنه – كَرِهَ فعلَ عثمان – رضي الله عنه – ؛ بل كان يأمر بأن تُغْسَلَ المصاحف لئلا تحرق .
    يجاب عنه بوجوهٍ خمسةٍ : 1 – في تقريركم هذا دليلٌ على أنَّ ابن مسعود – رضي الله عنه – لا يرى هو ولا غيره بأساً بمخالفة الإمام إذا رأى أنَّ أمره غير شرعي ، وكان هذا على محفلٍ من الناس ، ولم يعترض عليه أحدٌ بمخالفته لولي الأمر ؛ كما روى ذلك ابن أبي داود في المصاحف ( 1 / 186 ) عن أبي وائل قال : خطبنا ابن مسعودٍ على المنبر ، فقال : " ومن يغلل يأتِ بما غلَّ يوم القيامة " غُلُّوا مصاحفكم ... فلمَّا نزلَ عن المنبر ، جلستُ في الحلق ، فما أحدٌ ينكر ما قال .
    2 – أنكم قررتم في استدلالكم موافقة عثمان – رضي الله عنه – دون نكير على فعله ، ثم نقضتم ذلك عندما قُلِبَ عليكم الاستدلال ، وهذا تخبط !
    3 – أنكم قررتم هنا أن ابن مسعود – رضي الله عنه – أمر بغسل المصاحف لئلا تحرق ، والنتيجة المترتبة من الغسل والحرق واحدة ، وهي : جمع الناس على حرفٍ واحدٍ ، وهذا يدل على موافقة ابن مسعود لعثمان في الجملة .
    4 – أنَّ ابن مسعود – رضي الله عنه – جاء ما يدل على رجوعه عن قوله الأول ، كما روى ذلك ابن أبي داود في المصاحف .
    5 – كل ما سبق على فرض صحة ما جاء عن ابن مسعود – رضي الله عنه – من مخالفته لأمر عثمان – رضي الله عنه – وإلا فقد ذكر بعض الباحثين أن ما ورد في ذلك ضعيفٌ – كما ذكر ذلك صاحب كتاب ( فتنة مقتل عثمان ) للغبان ( 1 / 78 ) – كيف لا ، وابن مسعود هو القائل في إتمام عثمان – رضي الله عنه – للصلاة في منى : الاختلاف شر .
    الدليل الثالث : أنَّ إطلاق القول بأنَّ حكم الحاكم لا يرفع الخلاف = يؤدي إلى الفُرْقَة والشقاق بين المسلمين ، والافتيات على ولي الأمر ؛ فالمصلحة تقضي بأن يكون حكمه رافعاً للخلاف وملزماً للأمة .
    ويناقش هذا الاستدلال بما يلي :
    أولاً : الخير كلُّ الخير في اتباع الكتاب والسنة وهدي سلفنا الصالح ، ولا عبرة بالمصالح والمفاسد المتوهمة .
    ثانياً : أنَّ الناظر إلى الضوابط والشروط المذكورة في ثنايا القول الأول يرى أنَّ الأمر منضبط لا يخشى منه فرقة ولا نزاع .
    ثالثاً : أنَّ هذه المصالح والمفاسد المدعاة ، مقابلة بمصالح ومفاسد أخرى ؛ فالاحتكام عند اختلافها إلى النصوص الشرعية ، وهي تؤيد القول الأول .
    الدليل الرابع : أنَّ أمير المؤمنين عثمان – رضي الله عنه – أتمَّ الصلاة في منى ، وخالفه جماعةٌ من الصحابة في اجتهاده ذاك ، ومع هذا صلَّى خلفه ابن مسعود – رضي الله عنه – درءً لمفسدة الاختلاف على أمير المؤمنين ، وقال : الاختلاف شر .
    يناقش هذا الاستدلال بما يلي : أنَّ عثمان – رضي الله عنه – لم يلزم الناس باجتهاده .

    ______________________________ _

    ( 1 ) قال ابن جرير الطبري – رحمه الله – في أول تفسيره ( 1 / 59 ت التركي ) : إنَّ أمره إياهم ( أي : الصحابة ) بذلك ( أي : بالأحرف السعة ) لم يكن أمرَ إيجاب وفرض ، وإنما كان أمرَ إباحةٍ ورخصة ... إلخ كلامه – رحمه الله – .

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    656

    افتراضي

    الدليل الخامس : أنه يجب على من أمره الإمام بالخروج للجهاد أن يخرج ، وهذا قول عامة العلماء ؛ فيقاس عليه غيره من الأمور التي يلزم فيها ولي الأمر بشيءٍ لم يخالف فيه نصاً ولا إجماعاً .
    ويناقش هذا الاستدلال بما يلي :
    1 – أنَّ وجوب الخروج لمن عيَّنه الإمام مرجعه النصوص الشرعية ، كقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض .... " [ التوبة : 38 ] ، وقوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث المتفق عليه : " وإذا استنفرتم فانفروا " .
    2 – أنَّ الجهاد في أصله مشروع لا يخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين ، فإذا أمر به ولي الأمر كان من الأمور الواجب طاعته فيها للنصوص الواردة في وجوب طاعة ولي الأمر في المعروف .
    وإليك بعض كلام القائلين بهذا القول :
    1 - قال محمد رشيد رضا في مجلة المنار ( 4 / 368 ) : وأما الاجتهاد في المعاملات والقضاء فهو الاجتهاد الحقيقي الذي يعجز عنه أكثر الناس ، ولا يقوم به إلا طائفة تتفرغ للاستعداد للقضاء والفتوى والتعليم ، ويُلْزِم الإمام أو السلطان سائر الناس بالعمل باجتهادهم على ما سنبينه تبيينًا ، فإن أصاب هؤلاء الحق والعدل فلهم أجران ، وإن أخطأوا بعد التحري وبذل الجهد في المعرفة فلهم أجر واحد ، ويُعذرون هم ومقلدوهم العاملون بمقتضى اجتهادهم . 2 - وقال – رحمه الله – في فتاوى المنار ( 14 / 731 ) عندما سئل السؤال الآتي : ما قولك دام فضلكم في أحكام السياسة والقوانين التي أنشأها سلطان البلد أو نائبه ، وأمر وألزم بلده وقضاته بإجرائها وتنفيذها ، هل يجوز لهم إطاعته وامتثاله لإطلاق قوله تعالى : [ وأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ]( آل عمران : 32 ) إلخ ، أم كيف الحكم ؟ أفتونا مأجورين ؛ لأن هذا شيء قد عم البلدان والأقطار . الجواب : إذا كانت تلك الأحكام والقوانين عادلة غير مخالفة لكتاب الله وما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وجب علينا أن نعمل بها ؛ إذا وضعها أولو الأمر منا وهم أهل الحل والعقد ، مع مراعاة قواعد المعادلة والترجيح والضروريات ،
    وإن كانت جائرة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي لا خلاف فيها لم تجب الطاعة فيها ؛ للإجماع على أنه ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وهذا نص حديث رواه بهذا اللفظ أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري وصححوه . ورواه الشيخان في صحيحيهما وأبو داود والنسائي من حديث علي - كرم الله وجهه – بلفظ : ( لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ) ،
    ولا يشترط أن تكون هذه القوانين موافقة لاجتهاد الفقهاء فيما أصلوه أو فرعوه برأيهم ؛ لأنهم صرحوا بأن الاجتهاد من الظن ، ولا يقوم دليل من الكتاب والسنة ولا من العقل والحكمة على أنه يجب على الناس أن يتبعوا ظن عالم غير معصوم ، فلا يخرجوا عنه ولو لمصلحة تطلب أو مفسدة تجتنب ، ولا بغير هذا القيد . وكذلك يطاع السلطان فيما يضعه هو أو من يعهد إليه ممن يثق بهم من القوانين التي ليس فيها معصية للخالق ، وإن لم يكونوا من أولي الأمر الذين هم أهل الحل والعقد لأجل المصلحة لا عملاً بالآية ، ولكن إذا اجتمع أهل الحل والعقد ووضعوا غير ما وضعه السلطان ، وجب على السلطان أن ينفذ ما وضعوه دون ما وضعه هو ؛ لأنهم هم نواب الأمة ، وهم الذين لهم حق انتخاب الخليفة ، ولا يكون إمامًا للمسلمين إلا بمبايعتهم ، إن خالفهم وجب على الأمة تأييدهم عليه لا تأييده عليهم ، وبناء على هذه القاعدة التي لا خلاف فيها عند سلف الأمة ؛ لأنها مأخوذة من نصوص القرآن الحكيم ، قال الخليفة الأول في خطبته الأولى : ( وليت عليكم ولست بخيركم ، فإذا استقمت فأعينوني ، وإذا زغت فقوموني ) وله كلام آخر في تأييد هذه القاعدة ، وقال الخليفة الثالث على المنبر أيضًا : ( أمري لأمركم تبع ) ، وقال الخليفة الرابع في أول خطبة له ، وكانت بعدما علمنا من الأحداث والفتن : ( ولئن رد إليكم أمركم إنكم لسعداء ، وأخشى أن تكونوا في فترة ) ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى : [ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ]( الشورى : 38 ) والفتنة التي قتل فيها عثمان لم تكن بالشورى بين أولي الأمر ، بل كانت بدسائس هاجت الرعاع ، وأرز ( انكمش ) فيها مثله وهو إمام أولي الأمر وأعلمهم وأعدلهم إلى كسر بيته . وما قاله بعض الفقهاء خدمة للمستبدين من الأمراء : من وجوب طاعتهم في كل شيء خوفًا من الفتنة ؛ مخالف لنص الحديث الصحيح وللإجماع على مضمونه ، ولعمل الصدر الأول ؛ وهو الذي كان السبب في إضاعة ملك المسلمين وترك العمل بشرع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فالخضوع للمستبدين الظالمين هو الذي مهد السبيل للخضوع للكافرين ، ولأجل هذا كان الحكام المستبدون يضطهدون العلماء المستقلين ، ويرفعون رتب المعممين المقلدين ، الذين كانوا أعوانهم في كل حين ، نعم .. إن مقاومة الأمة لأمراء الجور المتغلبين ؛ يجب أن يكون بالحكمة والتدبر ؛ واتقاء استشراء الفتن وانتشارها والعمل بقاعدة ارتكاب أخف الضررين . 3 - وقال الأستاذ مصطفى الزرقا – رحمه الله – في المدخل الفقهي العام ( 1 / 215 ) : والاجتهاد الإسلامي قد أقر لولي الأمر العام من خليفةٍ أو سواه أن يَحُدَّ من شمول الأحكام الشرعية وتطبيقها ، أو يأمر بالعمل بقول ضعيف مرجوح إذا اقتضت المصلحة الزمنية ذلك ، فيصبح هو الراجح الذي يجب العمل به ، وبذلك صرح فقهاؤنا ، وفقاً لقاعدة : ( المصالح المرسلة ) ، وقاعدة ( تبدل الأحكام بتبدل الزمان ) ، ونصوص الفقهاء في مختلف الأبواب تفيد أن السلطان إذا أَمَرَ بأمرٍ في موضوعٍ اجتهادي – أي : قابل للاجتهاد ، غير مصادم للنصوص القطعية في الشريعة – كان أمره واجبَ الاحترام والتنفيذ شرعاً ، فلو مَنَعَ بعض العقود لمصلحةٍ طارئةٍ واجبة الرعاية ، وقد كانت تلك العقود جائزة نافذة شرعاً ، فإنها تصبح بمقتضى منعه باطلة ، وموقوفة على حسب الأمر .
    4 - وقال أيضاً ( 1 / 221 ) : بقي أن يقال : إنَّ إعطاء هذه الصلاحية لولي الأمر العام يؤدي إلى إمكان أن يتصرف هذا الحاكم بحسب هواه في تغيير الأحكام الاجتهادية وتقييدها بأوامر أو قوانين زمنية يصدرها ، وقد لا يهمه موافقتها لقواعد الشريعة ، وقد يكون هو جاهلاً أو فاسقاً لا يبالي تهديم الشريعة ؛ فكيف تجب طاعته شرعاً في هذه الأوامر ؟
    والجواب : أنَّ هذه النصوص الفقهية مفروضة في إحدى حالتين :
    إما أن يكون الحاكم نفسه من أهل العلم والتقوى والاجتهاد في الشريعة ، كما كان في الصدر الأول من العهد العباسي ..
    وإما ألا يكون عالماً مجتهداً ؛ وعندئذٍ لا يكون لأوامره هذه الحرمة الشرعية ، إلا إذا صدرت بعد مشورةِ أهل العلم في الشريعة وموافقتهم .
    5 – ثم قال – رحمه الله – ( 1 / 222 ) : قلنا : إنَّ ولي الأمر الذي ليس بعالم مجتهد ، لا يكون لأوامره وزن شرعي إلا إذا صدرت بعد مشورة أهل العلم بالشريعة وموافقتهم .
    وها هنا تبرز مشكلة أخرى ، وهي : أنَّ موافقة أهل العلم قد تحصل ممن يخضعون للحكام أنفسهم ، ويمالئونهم رغبةً ورهبةً ، ولا يتجاسرون أن يردوا للحاكم طلباً أو يعصوا له أمراً ؛ فهؤلاء لا قيمة لموافقتهم حتى لو كانوا ذوي علم .
    وقد تأخذ هذه المشكلة صورة أخرى ، وهي : أن يعيِّن أولو الأمر لبعض المناصب المهمة شرعاً كالإفتاء من ليسوا علماء راسخين في الشريعة ، أو من يأتمرون بأمر الحاكم خوفاً وطمعاً ... فأمثال هؤلاء الحكام ما قيمة أمرهم ونهيهم باسم الإسلام ؟ وأمثال أولئك المرتزقة من علماء الدين الذين ينافقون لهم على سبيل الدنيا ، ما قيمة فتاواهم وتصريحاتهم في تأييد تصرفاتهم ورغباتهم ؟
    ثم نقل عن ابن عابدين وغيره : أنَّ أمراء زماننا لا يفيد أمرهم الوجوب ..
    ثم قال : ومما تقدم نقله وبيانه يتضح أنَّ : تفسير أولي الأمر في الآية الكريمة بالعلماء في أصح الأقوال – كما نقله الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله – إنما المقصود به : العلماء الثقات في علمهم وبصيرتهم ، وتقواهم لله ، وزهدهم فيما عند الحكام من مطامع ومغريات ، ممن لا يحملهم على النفاق لهم ترغيب أو ترهيب ، وليس المراد بهم تجار العلم والدين من العلماء المنافقين ( 1 ) .
    6 - وقال أصحاب المجلة العدلية في رسالتهم إلى عالي باشا ( الصدر الأعظم ) بشأن المجلة العدلية ( ص 84 ) : فإذا أمر إمام المسلمين بتخصيص العمل بقولٍ من المسائل المجتَهَدِ فيها تعيَّنَ ووجبَ العملُ بقوله .
    7 - وقالوا – أيضاً – في المادة ( 1801 ) : القضاء يتقيد ويتخصص بالزمان والمكان ، واستثناء بعض الخصومات … وكذلك لو صدر أمرٌ سلطاني بالعمل برأي مجتهد في خصوص لما أن رأيه بالناس أرفق ، ولمصلحة العصر أوفق ؛ فليس للقاضي أن يعمل برأي مجتهد آخر منافٍ لرأي ذلك المجتهد ، وإذا عمل لا ينفذ ( 2 ) .

    __________________________

    ( 1 ) قلت : وهذا يوقع في مشكلة أخرى ، وهي : تصنيف العلماء ، فمن يقوم به ؟ فما يراه فلان من العلماء المستقلين يراه الآخر من أعوان السلطان وحواشيه ! فما المخرج ؟!

    ( 2 ) قلت : قد يظهر من هذا النقل أن مقصودهم هنا هو ما يتعلق بالقضاء فقط .

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    656

    افتراضي

    الخاتمة : بعد تأمل أدلة كلا القولين ، وبالنظر في المقاصد الشرعية من تنصيب الولاة والحكام ، والمصالح والمفاسد التي تنبي عليه هذه المسألة = اتضح لي : أنَّ القول بأحد القولين على إطلاقه مجانب للصواب ، مخالفٌ للمقاصد الشرعية في هذا الباب ؛ فلذا : يجب الجمع بين القولين ، ووضع الضوابط التي تضبط المسألة ؛ فأقول – مستعيناً بالله – :
    أولاً : المسائل الشرعية التي وقع عليها إجماعٌ صحيح من العلماء ؛ فهذه لولي الأمر أن يلزم الناس فيها بما جاء في الإجماع .
    ثانياً : المسائل الشرعية التي دلَّ عليها النص الصحيح الصريح ووقع فيها خلاف ضعيفٌ أو شاذ ؛ فهذه لولي الأمر أن يلزم الناس فيها بما جاء به النص ، وهذا باتفاق المسلمين كما حكاه شيخ الإسلام - رحمه الله - .
    ثالثاً : المسائل الشرعية التي جاءت فيها نصوص شرعية ؛ لكن الخلاف فيها قوي ؛ فهذه ليس لولي الأمر أن يلزم الناس فيها بقولٍ من الأقوال إلا
    1 - إذا رأى المصلحة الشرعية تقتضي إلزام الناس بأحد الأقوال ،
    2 - وبشرط أن لا يكون هذا القول يوقع القائلين بالقول الآخر في حرجٍ شرعي من تأثيم أو بطلان ونحو ذلك .
    مثاله : إلزام النساء بتغطية الوجه ، واشتراط الولي في النكاح .
    رابعاً : المسائل التي لم يأت فيها نصٌ شرعي ، وإنما هي اجتهادات من الفقهاء بناءً على المصالح وسد الذرائع ونحو ذلك ؛ فللإمام أن يُلزم الناس بما رآه ، وهذا مبني على قاعدة ( تبدل الأحكام ، بتبدل الزمان والمكان ) .
    ويقيد هذا بما كان فيه مصلحة للمسلمين لا على حسب أهواء الحاكم ومصالحه الخاصة ، وقد بيَّن ذلك العلامة ابن سحمان – رحمه الله – كما في الرسائل والمسائل النجدية ( 3 / 165 ) : غلط صاحب الرسالة في معرفة الضرورة ، فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر في رياسته وسلطانه ، وليس الأمر كما زعم ظنه ؛ بل هي من ضرورة الدين وحاجته إلى من يعين عليه ، وتصلح به مصلحته ، كما صرَّح به من قال بالجواز ، وقد تقدم ما فيه . اهـ .
    خامساً : يشترط فيما تقدم أن يكون الإمام عالماً مجتهداً عادلاً ، وإن لم يكن كذلك فيجمع علماء بلده ، وأهل الحل والعقد ، ويستشيرهم ، ويعمل بقولهم .
    أما إذا كان الإمام فاسقاً جائراً مراعياً مصالح كرسيه ؛ فالحكم فيه ما قاله شيخ الإسلام – رحمه الله – في المجموع ( 29 / 196 ) : والإمام العدل وجبت طاعته فيما لم يعلم أنه معصية ، وإذا كان غير عدل فتجب طاعته فيما عُلِمَ أنه طاعة كالجهاد .
    وكذلك يجب أن يكون أهل العلم وأهل الحل والعقد الذي تتم استشارتهم محلَّ تقدير عند عموم الأمة ، وعليهم أن يبينوا الحجة الشرعية في ذلك ، كما قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في المجموع ( 35 / 383 ) : ... فعلماء المسلمين الكبار لو قالوا بمثل قول الحكام لم يكن لهم إلزام الناس بذلك إلا بحجة شرعية لا بمجرد حكمهم .
    سادساً : أن يكون هذا من الناحية العملية ، أما من الجهة العلمية فليس حكم الحاكم وإلزامه مغيراً للأحكام الشرعية ، ولا مرجحاً لقولٍ على آخر .
    ولعله بهذه الضوابط المذكورة تكون المسألة متزنة ؛ فلم تسلب الإمام صلاحياته التي أعطته إياها الشريعة الإسلامية ، ولم تعطه صلاحياتٍ تجعله في منزلة المشرع للأحكام .
    وأخيراً أقول ما قاله شيخ الإسلام – رحمه الله – في المجموع ( 10 / 267 ) : فليس لأحد إذا أمره الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأمرٍ أن ينظر : هل أمر الله به أم لا ؟ بخلاف أولي الأمر فإنهم قد يأمرون بمعصية الله ، فليس كل من أطاعهم مطيعاً لله ؛ بل لابد فيما يأمرون به أن يُعْلَمَ أنه ليس بمعصية لله ، وينظر هل أمر الله به أم لا ؟!

    هذا ما تيسر لي جمعه وكتابته حول هذه المسألة ؛ واللهَ أسأل أن أكون قد وفقتُ فيها لما هو صواب ، فما كان من صوابٍ فمن الله ، وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطان .
    والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
    حرر في آخر عصر يوم السبت الموافق 6 / 8 / 1426
    وزدت فيه ونقصت ، وكان آخر ذلك قبيل أذان الفجر من يوم الثلاثاء الموافق 29 / 9 / 1426

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    2,642

    افتراضي



    بحثٌ موفق
    بارك الله فيكم يا شيخ عبدالله



  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jul 2006
    المشاركات
    5,115

    افتراضي

    أهلا بالشيخ الكريم عبدالله المزروع، والشكر لك على هذه المادة العلمية المتميزة.

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    964

    افتراضي

    جزاكم الله خيرًا . موضوع مهم .

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    1,699

    افتراضي

    بارك الله فيكم ونفع بكم ... ما شاء الله بداية دسمة جدا (مبتسم)

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    656

    افتراضي

    جزاكم الله خيراً مشايخنا الكرام ، وبانتظار مناقشة هذه المسألة وتحريرها .

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    2,453

    افتراضي

    أحسنت أخي أبا معاذ !
    قلتَ : (( 1 ) هذه العبارة فيها إشكال ، ولعل الصواب : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام ، وتحليل الحلال ثابتاً . ) المشاركة (رقم 3) .
    التعليق : قال الشيخ في «صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتحريف» ص59 : ( وقوله هنا : «بتحريم الحلال وتحليل الحرام» : قد أشار عدد من أهل العلم إلى أنها قد تكون تصحيفًا من النساخ ، والأظهر أن العبارة هي : « بتحريم الحرام وتحليل الحلال» ) . اهـ

    قلتَ : (( 1 ) هكذا في المطبوع ، ولعل الصواب : السعة .) م5 .
    التعليق : قال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (14/159) : ( صنف رجل كتابًا سمّاه «كتاب الاختلاف» ، فقال أحمد : سمّه «كتاب السّعة» ) .اهـ
    قلتُ : وهذا الرجل – الذي أبهمه شيخ الإسلام رحمه الله – هو : الحافظ الفقيه إسحاق بن بهلول الأنباري . كذا عند ابن أبي يعلى في : «طبقات الحنابلة» (1/111) .
    وذكر الخطيب في «تاريخ بغداد» (6/368) أن لابن إسحاق بن البهلول كتابًا في الفقه سمَّاه «المتضاد» ، قلت : هو نفسه كتاب «الاختلاف» ، ففي «المسودة» لآل تيمية ص401 : ( ... وقد صرَّح ابن عقيل والدينورى عن أحمد رواية أن : كل مجتهد مصيب من دلالته على استفتاء غيره . قلت : ويؤخذ ذلك أيضًا من قوله للذى صنَّف ما فى الحديث من الاختلاف والأحاديث المتضادّة ، وسمّاه «كتاب الاختلاف» قال : لا تسمّه «كتاب الاختلاف» ، ولكن سمّه «كتاب السعة» ) . اهـ
    وينظر ترجمة إسحاق ابن بهلول في : «طبقات الحنابلة» (1/111) ، و«تاريخ بغداد» (6/366-368) ، و«سير أعلام النبلاء» (12/489-491) .

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    8

    افتراضي هل حكم الحاكم يرفع الخلاف

    الشيخ الفاضل:
    بارك الله فيك على هذا العرض القيم والمفصل لهذه المسألة

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    656

    افتراضي

    جزاك الله خيراً على إفادتك ، وجعل ما كتبته في موازين حسناتك .

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    80

    افتراضي

    جزاك الله خيراً يا أبا معاذ.

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    656

    افتراضي رد: هل حكم الحاكم يرفعُ الخلاف ؟

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طلال مشاهدة المشاركة
    جزاك الله خيراً يا أبا معاذ.
    وإياك أخي طلال .

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    656

    افتراضي رد: هل حكم الحاكم يرفعُ الخلاف ؟

    وهذان نقلان ( زيديان ) !

    التاج المذهب في حكم المذهب لأحمد بن قاسم الصنعاني الزيدي ( 4 / 199 ) : ( وَيَجُوزُ امْتِثَالُ مَا حَكَمَ بِهِ ) الْحَاكِمُ ( مِنْ حَدٍّ وَغَيْرِهِ ) فَالْحَدُّ كَقَطْعِ يَدِ سَارِقٍ أَوْ جَلْدِ زَانٍ أَوْ رَجْمِ مُحْصَنٍ أَوْ قَتْلِ حَدٍّ وَغَيْرِ الْحَدِّ كَالْقِصَاصِ , وَالتَّعْزِيرِ وَنَحْوِهِمَا , فَإِذَا قَالَ الْقَاضِي : اُرْجُمْ فُلَانًا فَقَدْ حَكَمْتُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ . أَوْ اُقْتُلْهُ أَوْ اقْطَعْ يَدَهُ فَقَدْ حَكَمْتُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَوْ قَدْ صَحَّ عِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ يَجُوزُ , فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَأْمُورِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ الْحَاكِمُ كَالْإِمَامِ فِي وُجُوبِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى الصَّحِيحِ فَأَمَّا حَالَةُ الْمُتَخَاصِمَي ْنِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا امْتِثَالُ مَا أَمَرَ بِهِ الْحَاكِمُ مُطْلَقًا لِدُخُولِ أَمْرِهِمَا فِي وِلَايَتِهِ . ( وَيَجِبُ ) فِعْلُ تِلْكَ الْأُمُورِ وَغَيْرِهَا ( بِأَمْرِ الْإِمَامِ ) فَإِذَا أَمَرَ الْإِمَامُ بِشَيْءٍ , فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُورِ امْتِثَالُ أَمْرِهِ حَيْثُ يَنْفُذُ أَمْرُ الْإِمَامِ ( إلَّا ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ ( فِي قَطْعِيٍّ يُخَالِفُ مَذْهَبَ الْمُمْتَثِلِ ) , فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ امْتِثَالُ أَمْرِ الْإِمَامِ بِذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ يَقِينًا خَطَأَ الْإِمَامِ . مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ بِبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ , وَالشِّغَارِ , وَالْمَأْمُورُ أَوْ الْمَحْكُومُ لَهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّ الْخِلَافَ قَطْعِيٌّ فِي مَذْهَبِهِ ( أَوْ ) كَانَ ذَلِكَ يُخَالِفُ الْحَقَّ فِي ( الْبَاطِنِ ) كَأَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ بِمَا قَدْ ظَهَرَ لَهُ , وَالْمَأْمُورُ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْبَاطِنَ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ , فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِامْتِثَالُ مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ بِقَتْلِ رَجُلٍ قِصَاصًا بِشَهَادَةٍ قَامَتْ عِنْدَهُ , وَالْمَأْمُورُ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُ , فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِامْتِثَالُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْهَرَبُ , فَإِنْ فَعَلَ قُتِلَ بِهِ قِصَاصًا .

    التاج المذهب في حكم المذهب لأحمد بن قاسم الصنعاني الزيدي ( 4 / 200 ) : ( وَ ) الْإِمَامُ , وَالْحَاكِمُ ( لَا يُلْزِمَانِ الْغَيْرَ اجْتِهَادَهُمَا ) وَلَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ نَحْوُ أَنْ يُلْزِمَ الْإِمَامُ أَوْ الْحَاكِمُ النَّاسَ أَنْ يَقُولُوا : إنَّ الطَّلَاقَ يَتْبَعُ الطَّلَاقَ , فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ أَوْ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ فَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا مِنْ دُونِ تَخَلُّلِ رَجْعَةٍ , وَهُوَ يَرَى أَنَّ تِلْكَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَحْتَسِبْهَا إلَّا طَلْقَةً , وَإِنْ كَانَ قَدْ أَلْزَمَ الْإِمَامُ بِالْقَوْلِ أَنَّهَا الثَّلَاثُ وَهَذَا ( قَبْلَ الْحُكْمِ ) الْجَامِعِ لِشُرُوطِ الصِّحَّةِ لَا بَعْدَ الْحُكْمِ فَيَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَلْزَمُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ امْتِثَالُهُ ; لِأَنَّهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ , فَإِذَا تَرَافَعَ الرَّجُلُ , وَالْمَرْأَةُ وَقَدْ طَلَّقَهَا كَذَلِكَ وَحَكَمَ الْإِمَامُ أَوْ الْحَاكِمُ أَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ نَفَذَ الْحُكْمُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ , وَكَذَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَبْلَ الْحُكْمِ لَا يَلْزَمُ وَبَعْدَهُ يَلْزَمُ الِامْتِثَالُ , وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ( إلَّا فِيمَا يَقْوَى بِهِ أَمْرُ الْإِمَامِ كَالْحُقُوقِ ) مِنْ زَكَاةٍ وَغَيْرِهَا ( وَالشِّعَارِ ) كَحُضُورِ الْجُمُعَةِ , وَالْجَمَاعَةِ , وَالْقَضَاءِ , وَالْوِلَايَةِ فَلَهُ الْإِلْزَامُ فِي ذَلِكَ وَيَجِبُ الِامْتِثَالُ , وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَ الْمُمَثِّلِ ( لَا فِيمَا يَخُصُّ نَفْسَهُ ) وَلَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْكَافَّةِ مِنْ خِدْمَةٍ وَغَيْرِهَا فَلَا يَجِبُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ ( وَلَا ) يُلْزِمُ أَحَدًا اجْتِهَادَهُ ( فِي ) شَيْءٍ مِنْ ( الْعِبَادَاتِ ) الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا شِعَارَ فِيهَا نَحْوُ أَنْ يُلْزِمَ جَعْلَ التَّوَجُّهِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ أَوْ قَبْلَهُ وَتَرْبِيعَ الْأَذَانِ أَوْ تَثْنِيَتَهُ , وَالضَّمَّ , وَالرَّفْعَ أَوْ تَرْكَهُمَا وَإِيجَابَ الْمَضْمَضَةِ , وَالِاسْتِنْشَا قِ , وَالْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ أَوْ الْقَصْرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ ( مُطْلَقًا ) أَيْ سَوَاءٌ أَلْزَمَا النَّاسَ بِذَلِكَ أَمْ لَا , فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ مُتَابَعَتُهُمَ ا فِي ذَلِكَ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ تُفَسَّرَ " مُطْلَقًا " أَيْ سَوَاءٌ وَقَعَ حُكْمٌ أَمْ لَا ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ فِي الْعِبَادَاتِ إذْ لَا يَقَعُ إلَّا بَيْنَ مُتَخَاصِمَيْنِ وَلَا مُخَاصَمَةَ هُنَا .

  20. #20

    افتراضي رد: هل حكم الحاكم يرفعُ الخلاف ؟

    للشيخ عبدالله ابن خنين تحقيق في مسألة : متى يرفع حكم الحاكم الخلاف ظاهرا وباطنا - ذكره في توصيف الأقضية، ولها مثال:
    امرأة طالبة علم، ومقتنعة بأن الطلاق الثلاث يقع ثلاثا، فطلقها زوجها ثلاثا بلفظ واحد، فمنعته من نفسها، فترافعا إلى القاضي فحكم بأن الطلاق الثلاث يعد طلقة واحدة، وأن له إرجاعها في العدة، فماذا تصنع؟
    هل حكم الحاكم يرفع الخلاف، أم تستمر في منعه من قربانها.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •