والقول بأن دم الآدمي طاهر ما لم يخرج من السَّبيلَين قول قويٌّ، والدَّليل على ذلك ما يلي.
- أنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة حتى يقوم دليل النَّجاسة، ولا نعلم أنَّه صلّى الله عليه وسلّم أمَر بغسل الدَّمِ إِلا دم الحيض، مع كثرة ما يصيب الإِنسان من جروح، ورعاف، وحجامة، وغير ذلك، فلو كان نجساً لبيَّنه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك.
- أنَّ المسلمين ما زالوا يُصلُّون في جراحاتهم في القتال، وقد يسيل منهم الدَّمُ الكثير، الذي ليس محلاًّ للعفو، ولم يرد عنه صلّى الله عليه وسلّم الأمرُ بغسله، ولم يَرِدْ أنهم كانوا يتحرَّزون عنه تحرُّزاً شديداً؛ بحيث يحاولون التخلِّي عن ثيابهم التي أصابها الدَّم متى وجدوا غيرها.
ولا يُقال: إِن الصَّحابة رضي الله عنهم كان أكثرهم فقيراً، وقد لا يكون له من الثياب إِلا ما كان عليه، ولا سيَّما أنهم في الحروب يخرجون عن بلادهم فيكون بقاء الثِّياب عليهم للضَّرورة.
فيُقال: لو كان كذلك لعلمنا منهم المبادرة إِلى غسله متى وجدوا إِلى ذلك سبيلاً بالوصول إِلى الماء، أو البلد، وما أشبه ذلك.
- أنَّ أجزاء الآدميِّ طاهرة، فلو قُطِعَت يده لكانت طاهرة مع أنَّها تحمل دماً؛ ورُبَّما يكون كثيراً، فإِذا كان الجزء من الآدمي الذي يُعتبر رُكناً في بُنْيَة البَدَن طاهراً، فالدَّم الذي ينفصل منه ويخلفه غيره من باب أولى.
- أنَّ الآدمي ميْتَته طاهرة، والسَّمك ميْتته طاهرة، وعُلّل ذلك بأن دم السَّمك طاهر؛ لأن ميتته طاهرة، فكذا يُقال: إِن دم الآدمي طاهر، لأن ميتته طاهرة.
فإِن قيل: هذا القياس يُقابل بقياس آخر، وهو أنَّ الخارجَ من الإِنسان من بولٍ وغائطٍ نجسٌ، فليكن الدَّم نجساً.
فيُجاب: بأن هناك فرقاً بين البول والغائط وبين الدَّمِ؛ لأنَّ البول والغائط نجس خبيث ذو رائحة منتنة تنفر منه الطِّباع، وأنتم لا تقولون بقياس الدَّم عليه، إِذ الدَّم يُعْفَى عن يسيره بخلاف البول والغائط فلا يُعْفَى عن يسيرهما، فلا يُلحق أحدُهما بالآخر.
فإِن قيل: ألا يُقاس على دَمِ الحيض، ودم الحيض نجس، بدليل أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ المرأة أن تَحُتَّه، ثم تقرُصَه بالماء، ثم تَنْضِحَه، ثم تُصلِّي فيه () ؟.
فالجواب: أن بينهما فرقاً:
أ- أن دم الحيض دم طبيعة وجِبِلَّة للنساء، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ هذا شيءٌ كتبه اللَّهُ على بنات آدم» () ، فَبَيَّنَ أنه مكتوب كتابة قَدريَّة كونيَّة، وقال صلّى الله عليه وسلّم في الاستحاضة: «إِنَّه دَمُ عِرْقٍ» () ففرَّق بينهما.
ب- أنَّ الحيضَ دم غليظ منتنٌ له رائحة مستكرهة، فيُشبه البول والغائط، فلا يصحُّ قياس الدَّم الخارج من غير السَبيلَين على الدَّم الخارج من السَّبيلَين، وهو دم الحيض والنِّفاس والاستحاضة.
فالذي يقول بطهارة دم الآدمي قوله قويٌّ جداً؛ لأنَّ النَّصَّ والقياس يدُلاّن عليه.
والذين قالوا بالنَّجاسة مع العفو عن يسيره حكموا بحكمين:
أ- النَّجاسة.
ب- العفو عن اليسير.
وكُلٌّ من هذين الحُكْمَين يحتاج إِلى دليل، فنقول: أثبتوا أولاً نجاسة الدَّمِ، ثم أثبتوا أنَّ اليسير معفوٌّ عنه، لأنَّ الأصل أنَّ النَّجس لا يُعْفَى عن شيء منه، لكن من قال بالطَّهارة، لا يحتاج إِلا إِلى دليل واحد فقط، وهو طهارة الدَّم وقد سبق () .
فإِن قيل: إِنَّ فاطمة رضي الله عنها كانت تغسل الدَّمَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في غزوة أُحُد () ، وهذا يدلُّ على النَّجاسة.
أُجيب من وجهين:
أحدهما: أنَّه مجرَّد فِعْل، والفعل المجرَّد لا يدلُّ على الوجوب.
الثاني: أنه يُحتَمَل أنَّه من أجل النَّظافة؛ لإِزالة الدَّم عن الوجه، لأنَّ الإِنسان لا يرضى أن يكون في وجهه دم، ولو كان يسيراً، فهذا الاحتمال يبطل الاستدلال.