اثناء قرآتي لشرح الشيخ سعد الشثري - حفظه الله- لمنظومة القواعد الفقهية مرت بي هذه الفائدة، فأعجبت بها ووجدت فيها توجيها لمن يكرس منهج التيسير بإطلاق..!
يقول -حفظه الله- في شرحه لقول الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- :
ومن قواعد شرعنا التيسيرُ ،،،فـي كل أمر نابَهُ تعسيرُ
والعلماء يعبرون عن هذه القاعدة بتعبير يخالف تعبير المؤلف هنا، المؤلف هنا يقول: التعسير سبب للتيسير، والعلماء يعبرون عنها بلفظ آخر، فيقولون: المشقة تجلب التيسير، ولعل لفظ المؤلف أولى من لفظ الفقهاء، وذلك لعدد من الأمور:
الأمر الأول: أن الشريعة إنما جاءت بنفي العسر، ولا يوجد فيها نفي المشقة.
والأمر الثاني: أن أحكام الشريعة لا تخلو من نوع مشقة، لا شك أن الجهاد فيه مشقة، وأن الأمر بالمعروف فيه مشقة، بل إن الصلاة فيها مشقة كما قال -سبحانه-: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ لكن هذه المشقة ليست هي الغالبة على الفعل، هذا من جهة، والجهة الثانية: أن هذه المشقة التي في الفعل مقدورة للمكلَّف، ومن جهة ثالثة: أن المصلحة في هذا الفعل أعظم من المشقة الواقعة فيه؛ ولذلك نجد الطبيب يصف للمريض الدواء مرًّا، لكن المصلحة المترتبة على الدواء أعظم، وهي الخاصية التي جعلها الله -عز وجل- في الدواء يُشفَى بها المريض هذه المصلحة أعظم من المشقة الحاصلة في الدواء، وكذلك أحكام الشريعة.
والشارع لا يقصد المشقة لذات المشقة وإنما مقصوده المصلحة الواقعة في الفعل، وسبب آخر أن المشقة ليست منضبطة؛ متى يوصف الفعل بأنه مشقة؟ هذا أمر تختلف فيه وجهات النظر؛ ولذلك لا نجد الشريعة تعوّل على المشقة في بناء الأحكام، وإنما تعوّل على رفع العُسر ورفع الحرج.
ونمثل لذلك بمثال: لو قال قائل بأن المسافر يجوز له الفطر في رمضان للمشقة، فالمشقة هي العلة، لقيل له بأن البنَّاء عليه مشقة، والخباز عليه مشقة، والعمال عليهم مشقة، حينئذ وجدت فيهم العلة، فيجوز الحكم وهو جواز الفطر! بل قد يقول له قائل: إن لاعبي الكرة والممثلين والموظفين، والطلاب والمدرسين، تلحقهم المشقة فحينئذ لا يلزمون بهذا الحكم!
فتعليق الأحكام بالأوصاف غير المنضبطة يؤدي إلى التفسخ من الشريعة وعدم العمل بها، ولم يعهد من الشارع أن يسند أحكامه إلا إلى أسباب منضبطة؛ فلذلك التعبير بلفظ المؤلف أولى من التعبير بغيره، وليعلم بأن العسر ليس جالبا للتيسير بذاته، وإنما الجالب للتيسير هو الشارع، فإنما يقال: العسر سبب للتيسير، أو يقال :المشقة سبب للتيسير، ولا يصح أن يقال: المشقة تجلب التيسير، يعني: ليست هي الجالبة بذاتها وإن كانت هي تجلب بأمر الله، لكن ظاهر العبارة أنها تجلب بنفسها.
إذا تقرر ذلك وأن الشريعة لم تقصُد المشقة لذاتها؛ فإنه لا ينبغي لنا أن نقصد المشقة، لو كان الفعل يمكن أن يؤدّى بدون مشقة؛ فإن قصْد المشقة ليس مشروعا، مثال ذ لك: من قال سأحج على قدمي من أجل أن أتعب في الحج فيعظُم أجري، قيل له: قصْدُ المشقة ليس مشروعا؛ لأن الشارع لا يقصد المشقة، فأنت مخالف في فِعلك لمقصود الشارع، فإن قال قائل: جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أجرُك على قدر نَصَبك قيل: هنا ليس المراد بالحديث النّصَب المقصود للمكلَّف، وإنما المراد النصب الواقع في العبادة الذي لم يقصده المكلف