بسم الله الرحمن الرحيم
سعادة رئيس تحرير جريدة الجزيرة سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكل عام وأنتم بخير، ونشكر لكم الجهود الموفقة التي تنشر في الجزيرة دائماً حول قضايا المسلمين عموماً ورمضان المنصرم خصوصاً، والتي أفاد منها الكثير وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالمساجد، فأنا واحد من المتابعين لكل ما يكتب حولها. لقد مر شهر رمضان على الناس، وحمل معه تلك الصفحات التي دوّن الناس فيها أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وكل سيلقى ما قدمت يداه، شهد الناس عجباً في رمضان في المساجد: إقبال على أنواع من الطاعات ما بين قائم وراكع وساجد ومرتل للقرآن وذاكر لله، وهذا كثير ولله الحمد، وفي الجانب الآخر شهد الناس في رمضان في بعض المساجد ومن أئمة المساجد ما يجب أن تصان عنه بيوت الله فضلاً عن أن يجلب إليها وتحدث فيها هذه المخالفات بحجة أو بأخرى، أذكر من هذا القبيل ما ييسر الله راجياً أن ينفع الله به ثلاثة أمور تصدرت هذه المخالفات: أجهزة مكبرات الصوت، التكلف في الدعاء والمخالفات فيه، اتباع الغرائب المخالفة لما عليه سائر المجتمع.
أولا: مكبرات الصوت: هذه نعمة من الله، ولكن حوّلها بعض أئمة المساجد إلى مصيبة ونقمة، شعر بذلك أو لم يشعر. لقد شُرع رفع الصوت في بعض العبادات التي تكون في المسجد فجاءت النصوص الشرعية بها وهي: الأذان، والإقامة، وخطبة الجمعة وما في معناها، وما سوى ذلك فمن يقوم برفعه على مكبر الصوت فهو مطالب بالدليل، فإن أتى به وإلا فما أحرى أن ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). رفع الصلاة على مكبرات الصوت الخارجية ليس لمن يفعل ذلك مستند - إن سلّمنا بحسن النية - إلا الاستحسان وما يردده العوام من عباراتهم الحماسية التي لا تمتّ للدين بصلة (وليسمح لي القارئ الكريم أن أنقل هذه العبارات بالكلام العامي كما هو الحاصل) يقول بعضهم: هذا أحسن خل الشياطين تروح، خل القرآن يسمعه الناس، خل الخير ينتشر، كل الناس يفعلون هذا، هذا أنشط للناس على العبادة، جماعة المسجد موافقون على هذا.. ونحو ذلك مما هو معلوم. ومن العجيب المضحك المبكي أني سمعت من بعضهم من يستدل بالحرمين الشريفين، ويريد أن يقارن بين مسجد حيه الذي لا يتجاوز عدد المصلين فيه عشرة أشخاص بحال الحرمين! أيّ مستوى وصلت إليه عقول بعض بني جلدتنا؟ وهذا الكلام لا يخفى ما فيه، فلو كان الدين باستحسانات العقول وآراء الناس فقد يرضى البعض ويخالف البعض، ولكن الدين كتاب وسنة بفهم سلف الأمة، فالعبادات مبناها على التوقيف إلا بدليل، فهل يفقه بعض أئمة المساجد هذه القاعدة؟ ثم لو سلمنا جدلاً بأن هذا جائز - أي رفع الصلاة على مكبرات الصوت خارج المسجد - فما الذي يجيز رفع دعاء القنوت على مكبرات الصوت خارج المسجد {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} إن هذه المخالفة التي أصبحت ظاهرة اليوم لها من السلبيات الشيء الكثير؛ فمن هذه السلبيات: إنه أقرب إلى الإحداث في الدين ما ليس منه، وأمر المحدثات في الدين لا يخفى؛ فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، فإن القراءة في الصلاة الجهرية شرعت لإسماع المأمومين داخل المسجد، فما بال مَن بالشوارع والبيوت والمصلين في المساجد المجاورة يقحمون في ذلك؟ إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجهر أحد على أحد في القرآن، روى مالك في الموطأ عن البياضي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون، وقد علت أصواتهم بالقرآن، فقال: إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن. ونهى أن يرفع المسلم صوته بالدعاء فقال: أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً. بل قال الله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} بل لو قيل إن رفع الدعاء على مكبرات الصوت خارج المسجد من الاعتداء في الدعاء لكان له وجه. ومنها: أي من السلبيات و المفاسد: إنه إيذاء للمرضى ولكبار وصغار السن ومن عذرهم الله عن الصلاة في المسجد، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}، ثم إن من الأمراض العصرية اليوم ما أثبت الطب من الصخب واللجاجة، وكثرة الأصوات وتزيد فيها، فبأي حق يفعل ذلك إمام المسجد بهؤلاء؟ فهذا ضرر والضرر يُزال شرعاً.
ومنها: ارتكاب الإثم في مخالفة أمر ولي الأمر الذي قضى بمنع رفع الصلاة خارج محيط المسجد؛ فالله الذي أمرنا بأركان الإسلام والإيمان وغيرها هو الذي أمرنا بطاعة ولي الأمر، فهذا الأمر من الإسلام، والله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً}، ونهانا أن نأخذ بعض الدين ونترك البعض. ومنها: إنه فتح باب ومدخل لمن أراد النَّيل من أئمة المساجد، حيث وجد من قضى رمضان خارج البلاد متذرعاً بهذه الأخطاء، ونحن أحوج ما نكون لإغلاق منافذ المتربصين، ولا يكون ذلك إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة.
وأما عن الدعاء فقد خالف هؤلاء آدابه فجهروا فيه برفع الصوت، ورتلوه كترتيل القرآن بمدوده وإدغامه وإظهاره، وأطالوا فيه مع التكرار حتى وصل الأمر ببعض المأمومين أن يؤمن وهو يتمنى أن ينتهي الإمام من الدعاء، فذهب الخشوع والرغب والرهب عند المؤمِّن، وقد قال بعض أهل العلم إن من لم يكن في دعائه تضرع وخفية فقد اعتدى في الدعاء لأنه خالف أمر الله {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، واعتدى البعض فدعا على أشخاص ودول، والنبي صلى الله عليه وسلم لما دعا على المشركين يوم أُحد نهاه الله وقال له {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ..} الآية.
وأما عن اتباع الغرائب والمخالفات فقد وُجد من يقتصر على أحد عشر ركعة طيلة شهر رمضان بحجة التمسك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وليس الأمر كذلك وإنما ليتحدث الناس، وكذلك إنكار ختمة القرآن وتسميتها بدعة وهذه لها أصل من عمل الصحابة وعليها عمل المسلمون، ولكن ليس بهم إلا حب الإغراب والمخالفات.
وهناك أشياء وأشياء، مَن سبر واقع الناس اليوم رأى العجب العجاب.
قلة الفقه في أحكام المساجد، وحب الظهور، والأمن من المساءلة، ومحاكاة ما في نفوس الناس وعواطفهم غير المنضبطة، وحب تجميع الناس وصرفهم إلى بعض الأئمة، وغير ذلك كثير هو الذي جعل هذه الأمور تحصل. والمرجو ممن له من الأمر شيء حسم هذه الأمور، ورد الناس إلى نصاب الحق، وعدم ترك مساجد المسلمين ألعوبة في يد من لا علم ولا فقه له، وإن كان هذا الحاصل قليلاً بالنسبة للخير والصلاح ولله الحمد والمنة، إلا أن الخوف على الأجيال القادمة من الجرأة على الاجتهادات الفردية والاستحسانات المخالفة للحق؛ فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ما سيحصل في آخر الزمان من هذه المصائب، روى الإمام أحمد في المسند عن رجل من أصحاب النبي، قال يزيد لا أعلمه إلا عبسا الغفاري، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول... (وذكر كلاماً) ثم قال: ونشوا يتخذون القرآن مزامير يقدمونه يغنيهم وإن كان أقل منهم فقهاً.
وروى أبو داود في حديث طويل عن معاذ بن جبل جاء فيه قوله: إنَّ من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة.. الحديث.
وقال عليه الصلاة والسلام (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد). ولا شك أن من التباهي في المساجد هذه الأخطاء.
نايف بن حمود الرضيمان
معلم العلوم الشرعية في ثانوية تحفيظ القرآن الكريم بحائل
جريدة الجزيرة
http://www.al-jazirah.com/208751/rv1.htm