السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
جزاكم الله خيرًا يا شيخ عبد الله .
الموقر العزيز / زين العابدين الأثري :
بوركت ؛
وإليك بحـث الأخ الحمادي :
« حديثُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه -
في مسأَلةِ التنفُّلِ َبعْدَ صلاةِ العَصْر »
للشيخ الفاضل أبي محمّد عبد الله بن جابر الحَمَادِيِّ
13 / 1 / 1424 هـ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمــــين ، والصــلاة والســلام على نبينــا محمدٍ وعلى آلــه وصحبه أجمعــين أما بعد :
فهــذا تخريجٌ لحديثــين من الأحاديث الواردة في التنفُّل بعــد صلاة العصر ، وكلاهما من حــديث علي بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه - ؛ وهما :
حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تُصَلُّوا بعدَ العصر ، إلا أن تُصَلُّــوا والشمـسُ مرتفعةٌ " .
والآخر قـوله : كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي في إِثـرِ كلِّ صلاةٍ ركعتين ، إلا الصبح والعصر .
ومسألة التنفُّل بعد العصر من المسائل التي وقعَ فيها نزاعٌ بين أهل العلم من الصحابة ومَنْ بعدهم ؛ وذلك
لاختلاف الآثار الواردة في هذه المسألة .
وفي هذا البحث دراسةٌ لحديثين من تلك الأحاديث ؛ أحدُهما يــؤيد القــــولَ بالجواز ؛ والآخر لا يؤيده .
أسألُ الله تعالى أن ينفعَ بهذا البحث .
حديثُ علي بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - قـال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تُصَلُّوا بعدَ العصر ، إلا أن تُصَلُّــوا والشمـسُ مرتفعةٌ " .هذا الحـديث مداره علـى ( منصور بن المعتمر السلمي ) وقد اختُلف عليـه وعلى أحـد الرواة عنـه :
فأولاً / روى هذا الحديث سفيان الثوري ، واختُلف عليه على ثلاثة أوجه :
1 / فرواه عبدالرحمن بن مهـدي عن الثوري عن منصور بن المعتمر عن هـلال بن يساف عن وهب بن الأجدع عن علي بن أبي طالب .
رواه النسائي في الكبرى ( 1 / 485 ) ومن طريقه ابن حزم في المحلى ( 3 / 31 ) .
وابن خـزيمة في صحيحه ( 1285 ) وابن حبـان ( 1547 ) والبيهقي في الكبرى ( 2 / 459 ).
والإمام أحمد في مسنده ( 2 / 322 " 1073" ) ومن طريقه الضياء ( 764 ) .
وأبو يعلى في مسنده ( 411 ) والشافعي في الأم ( 7 / 166 ) والفاكهي في أخبار مكة ( 515 ) .
من طـرقٍ عن عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري به .
2 / ورواه إسحاق بن يوسف الأزرق عن الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن عليٍ.
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ( 1286 ) والإمام أحمد في مسنده ( 2 / 324 "1076" ) والدارقطني
في العـلل ( 4 / 148 ) من طـرقٍ عن إسحاق الأزرق عن الثوري به .
قـال الدارقطني بعد ذكره لطريق إسحاق هذه : " ولم يُتابَعْ عليه " .
3 / رواه أبو داود الحفري عن الـثوري عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن وهب بن الأجـدع عن علي بن أبي طالب.
وقد أشار إلى هذه الطريق الدارقطني في العـلل ( 4 / 148 ) .
والوجه الأول هو الصحيح ، فـإن عبدالرحمن بن مهدي من أثبت النـاس في الثـوري .
وأما الوجهـان الثـاني والثالث فهما خطـاٌ ، حيث تفـرَّد إسحاق الأزرق بالوجـه الثـاني .
وإسحـاق ثقـة ، إلا أنه كثير الخطأ عن سفيان الثوري ؛ كما قـال الإمام أحمد ( العلل 2 / 34- ).
وتفـرَّد أبو داود الحَفَري بالوجـه الثـالث ، وهو ثقـةٌ ، تَكَلَّم في حديثـه عن الثـوري يحيى بنُ معـين كما في( شرح العلل 2 / 544) .
ولذلـك قال الدارقطني في العـلل ( 4 / 148 ) : " والصحيح حديثُ منصورٍ عن هـلال بن يساف " .
كما نصَّ "رحمه الله " على وهم أبي داود الحفري في ذكر سالم بن أبي الجعد ، وعلى أن إسحـاق الأزرق لـم يتـابَعْ على روايتـه .
ثانيـاً / روى هذا الحديث منصور بن المعتمر ، واختُلف عليه :
1 / فرواه شريك بن عبد الله عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن وهب بن الأجدع عن علي .
ذكر هذا الوجـه الدارقطني في العلل ( 4 / 147 ) .
وتابع شريكاً على ذلك الثوريُّ فيما رواه عنه أبوداود الحفري ( وهو خطأٌ كما سبق ) .
2 / وروي عن منصور عن هـلال بن يساف عن وهب عن علي .
وقد رواه عن منصور على هذا الوجـه جماعةٌ من الثقـات الحفاظ ، ومنهم :
( سفيان الثـوري ) في الوجه الثابت عنه ، وقد سبق تخريجه .
( شعبة بن الحجاج ) وأخرج حديثه أبو داود في سننه ( 1274 ) والنسائي في الكبرى ( 1/485 )
وابن الجارود ( 281 ) وابن خزيمة في صحيحه ( 1485 ) وابن حبــان
( 1547 ) وأحمد في مسنده ( 2 / 322 " 1073" ) ومن طريقه الضياء
في المختـارة ( 764 ) .
وأبو داود الطيالسي ( 108 ) ومن طريقه البيهقي في الكبرى ( 2 / 459 ).
وأبو يعلى ( 411 ) ومن طريقه الضياء ( 765 ) .
والفاكهي في أخبار مكة ( 515 ) والضياء في المختارة ( 763 ) .
( جرير بن عبد الحميد ) وأخرج حديثه النسائي في المجتبى ( 574 ) ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد
( 13 / 35 ) وابن حزم في المحلى ( 3 / 31 ) .
وابن خزيمة في صحيحه ( 1284 ) ومن طريقه ابن حبـان ( 1562 ) .
وأحمد في مسنده ( 2 / 46 " 610 " ) ومن طريقه الضياء في المختارة (766)
والمـزي في تهذيب الكمال ( 31 / 112 ) . وعزاه الضياء إلى إسحـاق في
مسنده عن جـرير به .
وأبو يعلى ( 581 ) وابن أبي شيبـة في المصنَّف ( 2 / 348 ) ومن طريقـه
ابن عبد البر في التمهيـد ( 13 / 35 ) .
والفاكهـي في أخبار مكة ( 514 ) .
( أبو عوانة الوضَّاح ) وأخرج حديثه ابن المنـذر في الأوسط ( 2 / 388 " 1085 " ) .
والوجـه الثـاني عن منصور هو الصواب ، وأما الوجه الأول فلا يصح ، لتفـرُّد شريكٍ به عن منصور ، وهو متكلَّـمٌ في حفظه .
وأما متابعة الثوري لـه فهي خطـاٌ كما سبق ؛ أخطأ فيها أبو داود الحفري ، ولا يصح أن يُجعل الخطأُ متابعـاً أو شاهـداً .
ولذلـك قال الدارقطني : ( ذِكْـرُ سالم بن أبي الجعد وهـم ، وإنما هو هلال بن يسـاف ) .
والخُــلاصة : أن حـديث عليٍ-رضي الله عنه - في النهي عن الصلاة بعد العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة ، روي من أوجهٍ متعـددة :
1 / فروي عن الثـوري عن أبي إسحـاق السبيعي عن عاصم عن علي .
وهذا الإسنـاد تفـرَّد به إسحاق الأزرق ؛ فأخطـأ .
وقـد جعل الشيخ الألـباني "رحمه الله " هـذه الطريق ؛ مقوِّيةً لطريق وهب بن الأجدع .
2 / وروي عن منصور بن المعتمر عن سـالم بن أبي الجعد عن وهب بن الأجدع عن علي .
وهذا الـوجه لا يصح ، أخطـأ فيه شريك عن منصور ، وأبو داود الحفري عن الثـوري عن منصـور .
3 / وروي عن منصور عن هـلال بن يساف عن وهب عن علي .
رواه عن منصور جمعٌ من الحفـاظ ، وهو الوجـه الصحيح .
ويبقـى البحـثُ الآن في إسنـاد حديث علـيٍ من وجهـه الثـابت ، فأقـول :
في سنـد هـذا الحـديث ( وهـب بن الأجـدع ) وقد وثقـه العجلي ، وذكره ابن حبـان في الثقـات وأورده ابن سعد في الطبقـة الأولى من أهـل الكوفـة ، وقـال : ( كان قليل الحديث ) .
وقال الذهلي : ( وهب بن الأجدع قد ارتفع عنه اسم الجهـالة ، قد روى عنه الشعـبي وهـلال بن يساف ) .
صحيح ابن خزيمة ( 2 / 266 ) .
وقال ابن حزم : ( وهب بن الأجدع ثقةٌ مشهور ، وسـائر الرواة أشهر من أن يُسـأل عنهم ، وهذه زيادة عدلٍ
لا يجوز تركها ) المحـلى ( 3 / 31 ) .
وقـد صحح الحديثَ ابنُ الجارود وابنُ خزيمة وابن حبـان وابن حزم والعراقي في طـرح التثريب ( 2 / 187 ) وحسَّن ابن حجر إسناده في الفتح ( 2 / 61 ) وقال مرةً : إسناده صحيح قوي (2/ 62).
بينما غَمَـزَ في هذا الحديث البيهقيُّ في الكبرى ؛ حيثُ قـال :
( ووهب بن الأجدع ليس من شرطهما ، وهذا حديثٌ واحد ، وما مضى في النهي عنهما ممتداً إلى غروب الشمس
حـديثُ عددٍ ، فهو أولى أن يكون محفـوظاً ) .
والذي يظهـر لي أن هذا الحديث شـاذٌ مَتْنـاً ، حيث تفـرَّد به ( وهب بن الأجدع ) وهذا التفـرُّد من مثـله بمثـل هذا الحديث المتضمِّـن حكماً فيه إشكـالٌ ، فكيـف وقد تضمَّن هذا الحديثُ حكماً مخالفاً لصريح مـا هو أصـحُّ منـه ، ومن تـلك الأحاديث الصريحة :
أولاً / حديث أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قـال : ( لا صلاة بعد صلاة العصر … ) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه ( 827 ).
ثانياً / حديث عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قـال : ( صـلِّ صلاةَ الصبحِ ثم أَقْصِرْ عن الصـلاة حتى تطلع الشمس … ) إلى أن قال : ( فإذا أقبلَ الـفيءُ فصَـلِّ فإن الصلاةَ مشهودةٌ محضورةٌ حتى تصـلي
العصرَ ثم أَقْصِرْ عن الصلاة حتى تغرب الشمس ) أخرجه مسلم ( 832 ) .
فهذان الحديثان يدلان دلالـةً صريحة على أن وقت النهي يبـدأُ بعد فعل صلاة العصر ، وهما أصحُّ من حديث وهب بن الأجدع الذي يـدلُّ على خـلاف ذلـك .
وقد اقتصرتُ على هذين الحديثين لأنهـما أصـحُّ ما وقفتُ عليه ، وإلا فثمـةَ أحاديثُ أخرى ، ومنـها :
حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنه- قال : حدثني رجـالٌ مرضيُّون ، وأرضاهم عندي عمر ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قـال :
( لا صلاة بعد صلاة العصر … )
أخرجه أبو داود في سننه ( 1276 ) وأحمد في المسـند ( 1/ 266 "110 ") وغيرهما .
وهذا الحديث مداره على قتـادة عن أبي العاليـة عن ابن عبـاسٍ -رضي الله عنه- ، وهو من الأحاديث التي نصَّ الأئمـة على سماع قتادة لهـا من أبي العـالية ، وممن نصَّ على ذلك شعبة .
والراوي عن قتادة هنـا ؛ هـو : ( أبان بن يزيد العطـار البصري ) .
ولكنْ ؛ قـد روى هذا الحديثَ جماعةٌ عن قتـادة ( في الصحيحين و غيرهمـا ) دون التقييد بلفظة : ( صلاة ).
و من تلك الأحاديث أيضاً ، حديث أبي أسيد -رضي الله عنه- ، عند الطبراني في الكبير ( 19/ 268 " 593 " ) . وغـيرهما من الأحاديث .
والمـراد أن حديثي ( أبي سعيد وَ عمرو بن عبسة ) دالان على شـذوذِ حديث وهبٍ عن علي -رضي الله عنه- .
حديثُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- قـال :
(( كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصلي في إِثـرِ كلِّ صلاةٍ ركعتين ، إلا الصبح والعصر )) .
روى هـذا الحديثَ سفيـانُ الثوري ، واختُـلف عليه في إسناده على وجهـين :
الأول / رواه معاوية بن هشـام ( وهو صدوق ) عن الثوري عن أبي إسحـاق عن الحارث الأعور عن علي .
أخرجه الدارقطني في العلل ( 4 / 69- ) من طريق شعيب بن أيوب عن معاوية عن الثوري به .
الثاني / رُوي عن الثوري عن أبي إسحـاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي .
وقد رواه عن الثوري على هـذا الوجـه جماعةٌ ، منهم :
( عبدالرحمن بن مهدي ) وأخرج حديثـه النسائيُّ في الكبرى (341) وابن خزيمة في صحيحه (1196)
والإمـام أحمـد في المسنـد ( 2/294 "1012 ") وأبو يعـلى ( 573 )
والبـزار ( 674 ) .
( وكيع بن الجـراح ) وأخرج حديثَه ابن خزيمة في صحيحه ( 1196 ) وأحمد في المسند ( 2 / 294
" 1012 " ) وعبدالله بن أحمد في زوائده على المسند ( 2/294 " 1226 " )
وأبو يعـلى ( 617 ) وابن أبي شيـبة في المصنَّف ( 2 / 350 ) .
( محمـد بن كثـير ) وأخرج حديثه أبو داود في سننه ( 1275 ) .
( أبو نُعيم ؛ الفضل بن دُكَين ) أخرجه عنه عبد بن حُمـيد في مسنده ( 71 ) .
( عبد الـرزاق بن همـام ) رواه في مصنَّفـه ( 4823 ) .
( أبو عامـر العقـدي ) وأخرج حديثه الطحـاوي في شرح المعـاني ( 1 / 303 ) .
( الحسـين بن حفص ) وأخـرج حديثه البيهقي في الكبرى ( 2 / 459 ) .
( أبو خالـد الأحمر ) وأخرج حديثه ابن خزيمة في صحيحه ( 1196 ) وغـيرُهم .
كلُّهم يروون الحـديثَ عن الـثوري عن أبي إسحـاق عن عاصم عن علـي .
و لاشكَّ في نكارة الوجه الأول ، لتفـرُّد معاوية بن هشـامٍ به ، خلافاً لعامَّـة أصحـاب الـثوري ، ولو كان معاوية ثقـةً لم يُقبل ذلك منه ، فكيف وقـد تُكُلِّمَ في حفظـه ، ولذلـك قـال الدارقطني :
( والمحفـوظ حديثُ عاصـمٍ عن علي ) .
وقـد تـابعَ الـثوريَّ على هذا الوجه ( مطرِّف بن طريف ) حيثُ روى الحديثَ عن أبي إسحـاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي -رضي الله عنه- ، ولكنه لم يَسْـتثنِ صلاتي الفجـر والعصـر ، فقال :
( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي صلاةً إلا صلَّى بعدهـا ركعتـين ) .
أخرجه النسائي في الكبرى ( 346 ) وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسـند ( 1217 وَ 1227 ) من طريق جـرير بن عبد الحميد .
وعبد الله بن أحمـد في الموضعين السابقـين من طريـق محمد بن فُضيـل .
وأبو يعلـى ( 347 ) من طريـق أسبـاط بن محمد .
ثلاثتهـم عن مطـرِّف بن طريف عن أبي إسحــاق به .
والحديث عند الـبزَّار في مسنده ( 689 ) من طريـق محمد بن فُضَيـل ، وفيـه : ( إلا الصبـح والعصـر ) .
وعلى أيِّ حـالٍ ؛ فإمـا أن يؤخَـذَ بالزيادة الـتي عند الـبزار ؛ ويؤيد ذلك روايةُ الثوري لـها ، أو يُحـكم على لفظ مطرِّف بالشذوذ ، لأن الـثوريَّ قد روى هـذه الزيادة ، وهو من أثبتُ النـاسِ في أبي إسحـاق ، بل هو وشعبة أثبتهم على الإطـلاق ، كما نصَّ على ذلك ابن معـين حيث قال : ( وإنمـا أصحابُ أبي إسحـاق سفيـان وشعبـة ) يُنظر : ( مسند ابن الجعد ، النص رقم " 2579 " ) وشرح العلل ( 2 / 519 ).
بـل قال أبو حاتم : ( سفيان أتقن أصحـاب الـثوري ، وهو أحفظ من شعبة ، وإذا اختلف الـثوري وشعبة فالـثوري ) شـرح العلل ( 2 / 520 ) .
والخــلاصة : أن حديث عاصم بن ضمرة عن علي : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في إثرِ كل صـلاة ركعتين إلا الصبح والعصر ) حديثٌ ليس بالقوي ، لتفـرُّد عاصمٍ به عن علي ، وإن كنتُ أرى أنه لـم يأتِ بما يُنكَر ، وذلك أنََّ قوله : (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في إثر كل صلاة ركعتين )) يشهد لـه حديث ابن عمر وغيره في بيـان السنن الرواتب ، ومنها :
( ركعتان بعد صلاة الظهر وَ المغرب وَ العشاء ) .
وأمـا قوله : " إلا الصبح والعصر " فهو مخالفٌ لحديث أمِّ سلمـة وَ عائشة "رضي الله عن الجميع"
حيث أثبـتتا أنه كان يصلي بعد العصر ، إلا أنه يمكن القول بـأن عليـاً قـد روى مـا رأى
وأم سلمـة و عائشـة رَوَتَا مـا رَأَتا .
ولـذلك فالذي يظهـر لي فيما يتعـلق بحديثَـي علـيٍ -رضي الله عنه- :
أن حديث عاصمٍ عن علي – على ما فيه من التفـرُّد المشـار إليه – أقوى من حديث وهب بن الأجدع عن علي وذلك لأن حديث وهبٍ مخالفٌ لصريح قـولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - الـثابتِ عنه .
وأمـا حديث عاصم بن ضمرة فإنما خالف الفعلَ – على أنه يمكن الجمعُ من غير تكلُّفٍ ؛ كما سبق – ومعلومٌ أن
مخـالفةَ الفعـل أهـون من مخـالفة القـول – خاصـة إذا كـان القـولُ صـريحاً ؛ كما في مسألـتنا – إذ الفعـل يدخـله من الاحتمـال ما لايدخل الـقول .
( أقـول هـذا وأنا لم أبحث بعدُ حديثَ أمِّ سلمـة وَ عائشـة "رضي الله عنهما " ، هـل همـا حديثٌ واحدٌ أو لا ؟ ومـا اللفظ الثـابت فيـهما ؟ ) .
فـــائدة : يرى الإمـام الشافعي "رحمه الله " أن حديث وهب بن الأجدع عن علي مخالفٌ لحديث عاصم بن ضمرة عن علي ( الأم 7 / 166 ) .
وتبعه على ذلك الإمـام البيهـقي "رحمه الله " حيث قال – بعد ذكره لحديث وهبٍ عن علي - :
( وقـد رُوي عن علي -رضي الله عنه- ما يخالـف هـذا ، ورُوي مـا يوافقـه :
أمـا الذي يُخالـفه في الظاهـر …) وسـاق بسنده إلى عاصم بن ضمرة عن علي قوله :
" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في إثر كل صلاة ركعتين ، إلا الصبح والعصر " .
ثم قـال : ( وأمـا الذي يوافقه … ) فسـاق بسنده من طريق شعبـة عن أبي إسحـاق عن
عاصم بن ضمرة قـال :
" كنا مع علي -رضي الله عنه- في سفرٍ فصلَّى بنـا العصر ركعتين ، ثم دخل فسطاطـه وأنا أنظر ، فصلى ركعتين ".
وقد حكى الشافعي "رحمه الله " هذه الأحاديث الثلاثة عن علي -رضي الله عنه- ثـم قال :
هذه أحاديث يخالف بعضها بعضاً ، قال الشيخ : فالواجب علينا اتباع ما لم يقع فيه الخلاف ، ثم
يكون مخصوصاً بما لا سبب لهـا من الصلوات ، ويكون ما لهـا سببٌ مستثناةً من النهي بخـبر أم سلمة وغيرها ، والله اعلم ( السـنن الكـبرى 2 / 459 ) .
وقـد أجـاب الشيخ الألبـاني "رحمه الله " عن دعوى الاختلاف بين الحديثـين ، فقـال : ( وهـذا "يعني حديث عاصمٍ بن ضمرة " لا يخالف الحديث الأول "يريد حديثَ وهب بن
الأجدع " إطـلاقاً ؛ لأنه إنما ينفـي أن يكون النـبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين بعد صلاة العصر
والحديث الأول لا يُثبت ذلك حتى يُعارِضَ هـذا ، وغـايةُ مافيـه أنه يـدلُّ على جـواز
الصـلاة بعد العصر إلى ما قبـل اصفرار الشمس وليس يلـزم أن يفعـل النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ما أثبت جوازه بالدليل الشرعي كما هو ظـاهر .
نعم ، قـد ثبت عن أم سلمة وعائشة "رضي الله عنهما " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين سنة الظهر
البعدية بعد صلاة العصر وقالت عائشة : إنه - صلى الله عليه وسلم - داوم عليها بعد ذلك ، فهذا يعارض حديث
عليٍ الثاني ، والجمع بينهما سهل ، فكلٌ حدَّثَ بما علم ،ومن علم حجةٌ على من لم يعلم …). السلسلة الصحيحة ( 1 / 389 ؛ حديث رقم "200 " ) .
وهـذا الجواب مُقنـعٌ – فيما يظـهر لي – فلا تعـارض بين حديث ( وهب بن الأجدع )
وَحديث ( عاصم بن ضمرة ) ، وكذلك لا تعارض بين حديث ( عاصم بن ضمرة ) وحديث ( أمِّ سلمـة وَ عائشـة ) .
ولكن التعـارض هو فيما بين الأحاديث الصريحة التي ذكرتهُـا سابقاً في صـ 4 وَ 5 وبيـن حديث وهب بن الأجدع .
ولم أجـد للشيخ الألباني "رحمه الله " جـواباً عن هذه الأحاديث ، وإن كان قـد أجاب عن بعض الألفاظ ؛ كرواية : ( لا صلاة بعد العصر … ) وهو جـوابٌ مقبـول لولا تـلك الروايـات الصريحة التي تبـيِّن أن النهـي يدخـل بمجـرَّد الفراغ من الصـلاة .
وختــامـاً ، أقــول :
لسـتُ أجـزم في هذه المسألـة بقولٍ معـين ، وإن كنـتُ إلى المنـع أَمْيـَلُ مني إلى الجـواز ، لعمـوم أحـاديث النهي وصـراحتِها ، ومَـنْ رأى الجـواز فعنده مـا يُسنـد قولَـه ؛ ولـه في ذلـك قـدوةٌ.
ولذلك لمـا ذكر الحـافظُ ابن رجبٍ "رحمه الله " قولَ الإمـام أحمد : ( لا نفعـله ؛ ولا نعيبُ فاعـله )
قـال : ( وهـذا لا يـدلُّ على أنَّ أحمد رأى جـوازَه ، بـل رأى أن مَنْ فعـله متـأولاً أو مقلِّـداً لمـن تأوَّلـه لا يُنكَـر عليه ولا يُعـابُ قـوله ، لأنَّ ذلك من موارد الاجتهاد السـائغ ) .
يُنـظَر / فتح الباري ( 3 / -278- ) .