كيف أعرف القول المعتمد في المذهب الشافعي؟
أحمد بن فخري الرفاعي
الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد؛
فإن القول المعتمد في المذهب : أقوال الامام الشافعي والأوجه لأصحابه المنتسبين إلى مذهبه التي يخرجونها على أصوله ويستنبطونها من قواعده.وقد مر المذهب بعدة مراحل حاله في ذلك حال المذاهب الفقهية الأخرى، وأستطيع أن أوجزها بالتالي :
المرحلة الأولى : مرحلة البناء والتأسيس :
وهي تنقسم الى قسمين :
1- المذهب القديم . 2- المذهب الجديد
المرحلة الثانية: مرحلة التبليغ والتعريف بالمذهب .
المرحلة الثالثة : مرحلة التخصص والانتشار .
المرحلة الرابعة : استقرار المذهب .
المرحلة الخامسة : مرحلة التنقيح الأول وتحرير المذهب .
المرحلة السادسة : مرحلة التنقيح الثاني .
هذا بإيجاز ، وأما التفصيل فعلى النحو التالي :
1- قول الامام الشافعي يرحمه الله ، وله حالات :
الحالة الأولى : اذا كان للامام الشافعي قول واحد، فهو نصّ في الموضوع ، وهو المعمول به في المذهب .
الحالة الثانية : اذا ورد عن الامام الشافعي أكثرمن قول ولم تتعارض ، فالمعوّل عليه القول الجديد .
والمقصود بالجديد : ما قاله الامام الشافعي بمصر ، كتابة أو افتاء ، ويطلق عليه المذهب الجديد ، ومن رواة المذهب الجديد: البويطي والمزني والربيع المرادي والربيع الجيزي ويونس بن عبد الأعلى وعبد الله بن الزبير المكي .
ويقابل الجديد : القول القديم، أو المذهب القديم ، وهو ما قاله الامام الشافعي قبل انتقاله الى مصر كتابة او افتاء ، سواء رجع عنه أم لم يرجع، ويمثل مذهب الشافعي القديم كتابه المسمى بـ "الحجة" ، ومن رواة مذهب الشافعي القديم الإمام أحمد بن حنبل وأبو ثور والكرابيسي والزعفراني في آخرين.
الحالة الثالثة : اذا ورد عن الامام الشافعي أكثر من قول وتعارضت ، فالمعول على الجديد أيضا الا في بعض المسائل
قال الامام النووي في " المجموع " 1/66 : ولم يشذ إلا مسائل قليلة يتراوح عددها بين أربع عشرة مسألة وثلاثين مسألة. المجموع (1/66) ، وسأذكرها بحول وتوفيقه في غير هذا المبحث .
الحالة الرابعة : اذا تعارض قديم مع قديم حيث لا جديد ، أوجديد مع جديد ، يُقدم الراجح بالنظر الى قوة دليل كل منها ،ويسمى الراجح بالأظهراذا كان الاختلاف بين القولين او الأقوال قويا ، وأما اذا كان الاختلاف ضعيفا فيسمى الراجح بالمشهور .
الحالة الخامسة :كالتي قبلها لكن حيث لا ترجيح ، وهذا لم يقع الا في ست عشرة مسألة او سبع عشرة مسألة وقد نص عليها علماء الشافعية ورجحوا بينها .
2- أقوال أئمة المذهب بعد وفاة الامام الشافعي ، واجتهاداتهم التي خرّجوها على أصول الامام واستنبطوها من خلال قواعده ويطلق عليهم ( الأصحاب) ، وتسمى اجتهاداتهم (الوجوه ) ، والوجوه في المذهب كثيرة ، وقد اتفق الأصحاب على جملة كبيرة منها ، واختلف اجتهادهم في جملة كبيرة ايضا ، وظهرت المدرستان الفقهيتان المشهورتان في المذهب : المدرسة العراقية وكان رأسها وشيخها الامام أبو حامد احمد بن محمد الاسفراييني 344-406 ، والمدرسة الخراسانية وكان رأسها وشيخها الامام أبو بكر عبدالله بن أحمد المروزي المعروف بالقفال الصغير 327-417 ، وقد تكاثرت المصنفات التي حملت لنا رأي ائمة المذهب ، ومن هذه الكتب :
أ*- مختصر المزني لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق المزني 264
ب*- التعليقات على مختصر المزني لأبي حامد المروزي المتوفى سنة 326 ، وابي الطيب الطبري المتوفى سنة 450 ، والقاضي حسين المتوفى سنة 562 .
ت*- الحَاوِيْ الكَبِيْرُ شَرْحُ مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ : للامام العلامة أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي المتوفى سنة 450 هـ
ث*- المهذب والتنبيه: للامام أبي اسحق ابراهيم بن محمد الشيرازي المتوفى سنة 476 .
ج*- الإبانة في فقه الشافعي : للإمام أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد الفُوْراني المروزي الشافعي ، مقدم الشافعية بمرو ، المتوفى سنة461
ح*- التتمة : للامام أبي سعد عبدالرحمن بن مأمون المعورف بالمتولي النيسابوري الشافعي المتوفى سنة 478 .
خ*- نهاية المطلب في دراية المذهب لأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، ، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين، المتوفى سنة 478 .
د*- بحر المذهب لشافعي زمانه أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد الروياني، الطبري، الشافعي ، المتوفي سنة 502
ذ*- البسيط والوسيط والوجيز لحجة الاسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، المتوفى سنة 505
3- دخول مرحلة تنقيح المذهب الأولى : وكان عمودها الامام أبو القاسم عبدالكريم الرافعي المتوفى سنة 624 فقد شرع في تنقيح المذهب واخرج مجموعة من الكتب ، منها :
أ*- المحرر : وهذا الكتاب قال فيه الامام النووي في " المنهاج" : " وهو كتاب كثير الفوائد عمدة في تحقيق المذهب، معتمد للمفتي وغيره من أولي الرغبات، وقد التزم أن ينص على ما صححه معظم الأصحاب ووفى بالتزامه " .
ب*- الشرح الصغير: وهو شرح لكتاب الوجيز للغزالي .
ت*- العزيز شرح الوجيز: ويسمى بالشرح الكبير ، وهو مطبوع ، قال في الامام النووي : في " الروضة " :" فوفق الله سبحانه وتعالى، وله الحمد - من متأخري أصحابنا من جَمَعَ هذه الطرق المختلفات، ونقّح المذهب أحسن تنقيح، وجمع منتشره بعبارات وجيزات، وحوى جميع ما وقع له من الكتب المشهورات، وهو إلامام الجليل المبرز المتضلع من علم المذهب أبو القاسم الرافعي ذو التحقيقات ، فأتى في كتاب (شرح الوجيز) بما لا كبير مزيد عليه من الاستيعاب مع الايجاز والاتقان وإيضاح العبارات " .
ثم جاء الامام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 فأكمل ما بدأه الامام الرافعي عليهما رحمة الله وصارت كتبه عمدة المذهب ، فمن كتبه :
أ*- روضة الطالبين وعمدة المفتين ، وهو اختصار لشرح وجيز الامام الغزالي للامام الرافعي .
ب*- المجموع شرح المهذب ، وهو كتاب عظيم النفع ، مات الامام ولم يتمه .
ت*- منهاج الطالبين ، وهو مختصر لكتاب محرر الامام الرافعي، وقد حرره الامام النووي وأتمه فصار عمدة المذهب . وعليه التعويل ، وتناوله علماء المذهب درسا وحفظا وشرحا ونظما . حتى زادت شروحه على الألف شرح .
ث*- التحقيق شرح التنبيه لأبي اسحق الشيرازي مات ولم يتمه .
ج*- التنقيح شرح الوسيط لأبي حامد الغزالي.مات ولم يتمه .
ح*- تصحيح التنبيه
خ*- النكت على التنبيه
د*- شرح صحيح مسلم .
وصار التعويل على كتب الامامين الرافعي والنووي بين علماء المذهب ، أما الكتب المتقدمة فلا يعتمد على شيء منها الا بعد الفحص والتحري .
قال النووي في " المجموع" 1/47: " لا يجوز لمفت على مذهب الشافعي، إذا اعتمد النقل أن يكتفى بمصنف ومصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين واكثر المتأخرين، لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والترجيح، لان هذا المفتى المذكور انما ينقل مذهب الشافعي ولا يحصل له وثوق بأن ما في المصنفين المذكورين ونحوهما هو مذهب الشافعي، أو الراجح منه، لما فيها من الاختلاف، وهذا مما لا يتشكك فيه من له أدنى أُنس بالمذهب، بل قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشئ وهو شاذ بالنسبة إلى الراجح في المذهب، ومخالف لما عليه الجمهور، وربما خالف نص الشافعي أو نصوصا له " .
وقال الرملي: "ومن المعلوم أن الشيخين قد اجتهدا في تحرير المذهب غاية الاجتهاد، ولهذا كانت عنايات العلماء وإشارات من سبقنا من الأئمة متوجهة إلى ما عليه الشيخان من الأخذ بما صححاه بالقبول والإذعان، مؤيدين لذلك بالدليل وبالبرهان" .
وقال الشيخ الكردي في "الفوائد المدنية " ص 19 : "وقد أجمع المحققون على أن المفتى به ما ذكراه".
قلت : وان اختلف الامامان فيقدم قول النووي ، وان وُجِد للرافعي ترجيح دون النووي فهو المعتمد ، الا إن ثبت أن ما قالاه سهو، فالمعتمد حينئذ قول المتأخرين .
قال ابن حجر الهيتمي في " تحفة المحتاج " : 1/39 : " وَهَكَذَا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ أَيْ مَا لَمْ يُجْمِعْ مُتَعَقِّبُو كَلَامِهِمَا عَلَى أَنَّهُ سَهْوٌ وَأَنَّى بِهِ .... فإن اختلفا فالمصنف (النووي) ، فإن وجد للرافعي ترجيح دونه فهو "
قلت : وتتفاوت كتب الامام النووي من حيث الترجيحات على النحو التالي :
اولها التحقيق فالمجموع فالتنقيح فالروضة فالمنهاج ثم الفتاوى فشرح صحيح مسلم فتصحيح التنبيه ثم النكت .
قال ابن حجر الهيتيمي في " التحفة" : " بَل الْغَالِبُ تَقْدِيمُ مَا هُوَ مُتَتَبَّعٌ فِيهِ كَالتَّحْقِيقِ فَالْمَجْمُوعِ فَالتَّنْقِيحِ ثُمَّ مَا هُوَ مُخْتَصَرٌ فِيهِ كَالرَّوْضَةِ فَالْمِنْهَاجِ وَنَحْوِ فَتَاوَاهُ فَشَرْحِ مُسْلِمٍ فَتَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ وَنُكَتِهِ مِنْ أَوَائِلِ تَأْلِيفِهِ فَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ عَمَّا ذُكِرَ وَهَذَا تَقْرِيبٌ ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ تَعَارُضِ هَذِهِ الْكُتُبِ مُرَاجَعَةُ كَلَامِ مُعْتَمِدِي الْمُتَأَخِّرِي نَ وَاتِّبَاعُ مَا رَجَّحُوهُ مِنْهَا " .
4- دخول مرحلة التنقيح الثانية :
وهذه المرحلة خطّ طريقها شيخُ الاسلام زكريا الأنصاري ، وعبّده شهاب الدين أبو العباس أحمد الهيتمي المصري المكي المتوفى سنة 974 هـ ، و شمس الدين محمد الرملي المصري المتوفى سنة 1004 هـ .
وصار الشيخان ابن حجر الهيتمي والرملي عمدة المذهب عند المتأخرين إن اتفقا ، وإن اختلفا في غير شرح "منهاج الطالبين" للنووي فيقدم القول الذي في شرح "المنهاج" لكل منهما .
وأما اذا اختلفا في شرح " المنهاج" فعلى النحو التالي :
أ- اعتمد أهل الشام وحضرموت والأكراد وداغستان وأكثر أهل اليمن ما قرّره ابن حجر الهيتمي .
ب- اعتمد أهل مصر ما قرّره الرملي .
ت- أما أهل الحجاز ، فلهم طريقان :
أحدهما : اعتماد تقريرات ابن حجر الهيتمي .
والثاني : حكاية ما يقرره الشيخان دون ترجيح .
هذا ما قرره الكردي في "الفوائد"
فائدة : ذكر الشيخ الكردي في " الفوائد " عن الشيخ سعيد سنبل قوله :
" اذا اختلفت كتب ابن حجر الهيتمي فالمعول عليه التحفة ، ثم فتح الجواد ، ثم الامداد ، ثم الفتاوى ، وشرح العباب "
4- ذكر الكردي في " الفوائد" أن ما فات ابن حجر والرملي ، يكون بحسب الآتي :
أ*- يؤخذ باختيارات شيخ الاسلام زكريا الأنصاري ، والمقدم من كتبه " شرح البهجة " الصغير ، ثم كتاب "المنهج" وشرحه له .
ب*- اختيارات الخطيب الشربيني .
ت*- اختيارات أصحاب الحواشي على شروح "المنهاج" شريطة عدم مخالفة شرحي المنهاج لابن حجر والرملي ، وهم على الترتيب :
• علي بن يحيى الزيادي المصري المتوفى سنة 1024 هـ ، له حاشية على شرح فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب لشيخ الاسلام زكريا الأنصاري .
• أحمد بن قاسم العبادي المتوفى سنة 994هـ .
• شهاب الدين أحمد البرلسي الشافعي المشهور بعميرة ، صاحب الحاشية المشهورة .
• أبو الضياء نور الدين علي بن علي الشبراملسي القاهري 997-1087 هـ، صاحب الحاشية المشهورة على "نهاية المحتاج" .
• أبو الحسن علي بن ابراهيم بن احمد بن علي الحلبي القاهري نور الدين 975- 1044، صاحب السيرة الحلبية المشهورة .
وانظر " الفوائد " للكردي ، وإعانة الطالبين 4/19.