حكم تقسيم الآخبار إلى متواتر و آحادبعض طلاب العلم ممن عرف بالغيرة على علوم الكتاب والسنة ينفي تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد، وقال: إنه دخل على علوم الحديث من الأصوليين، والأصوليين تلقوه من المتكلمين، نعم، وهدف المتكلمين من تقسيم الأخبار إلى متواتر موجب للعلم القطعي الضروري، وإلى آحاد مفيد للظن لا يفيد العلم، وإن أوجب العمل، ولذا يقول: والآحاد هو الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم: هم خشوا من الآثار واللوازم على هذا الكلام، لماذا؟؛ لأن المتكلمين رتبوا أموراً، فقالوا: ما دام خبر الواحد لا يفيد العلم وإنما يفيد الظن، فالعقائد لا تثبت إلا بما يوجب العلم، فجميع ما ثبت من أخبار الآحاد في باب العقائد مردود، ونفوا على ذلك كثيراً من الصفات وأموراً مما يثبت لله -عز وجل- مما ثبت بأخبار الآحاد.
للعلامة الشيخ
عبد الكريم الخضير
جزاه الله خيرا
هؤلاء الغيورون -جزاهم الله خيراً عن الدين وأهله- نظروا إلى هذا اللازم، لكن هل يختلف أحد في أن الأخبار متفاوتة؛ منها ما يلزمك بتصديقه بمجرد سماعه، ومنها ما يغلب على ظنك صدقه، ومنها ما تتوقف فيه، ومنها ما يغلب على ظنك كذبه، ومنها ما تجزم بصدقه، ومنها ما تجزم بكذبه، الأخبار أيش؟
متفاوتة، متفاوتة وإلا لا؟ يعني ما يختلف الخبر من مجيئه من طريق واحد أو اثنين أو عشرة أو مائة؟ متفاوتة، لا يختلف في هذا أحد.
تبقى التسميات نعم، تبقى التسميات، متواتر وآحاد لم ينطق بها سلف هذه الأمة لا الصحابة ولا التابعون، لكن لو طردنا هذا الكلام نفينا كثير من الاصطلاحات العلمية في جميع العلوم الشرعية، حتى في التفسير والحديث والفقه والعقائد، نفينا جميع هذه الاصطلاحات، إذا قلنا: لا نثبت إلا ما ثبت عن الصحابة والتابعين، إذا عرفنا مأخذ هذه الكلمة، ومدلول هذه الكلمة، وما يلزم من إطلاق هذه الكلمة، واحترزنا عن هذا اللازم، واستعملت هذه الكلمة من الأئمة الموثوقين المعتبرين، لماذا لا نقول: اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح؟
شيخ الإسلام ابن تيمية -ولا يشك أحد في رسوخ قدمه في علوم الكتاب والسنة، وفي نصر السنة، وقمع البدع، والرد على المبتدعة- يقسم الأخبار إلى متواتر وآحاد، ونخشى من اللوازم، نعم، نقسم ونعتني بهذا التقسيم، ونمثل له بالأمثلة التي مثل بها شيخ الإسلام وغيره ممن اعتنى بهذا التقسيم، ولا نلتزم باللازم، ولا نلتزم باللازم الذي لزم عليه المحظور الشرعي.
شيخ الإسلام قسم إلى متواتر وآحاد، وقسم المتواتر إلى متواتر لفظاً ومعنىً، ومتواتر معنوي -معنىً فقط- ومثل للمتواتر اللفظي بحديث: ((من كذب)) كما يمثل أهل العلم، ومثل للمتواتر المعنوي بفضائل أبي بكر وعمر، وفي كل مقام يمثل بمثال مناسب، يعني في منهاج السنة -والكتاب موضوع للدفاع عن الصحابة لا سيما أبا بكر وعمر- مثل بفضائل أبي بكر وعمر وقال: متواتر تواتراً معنوياً.
حديث المسح على الخفين تبلغ التواتر، حديث الشفاعة والحوض، هل يستطيع أحد أن يدفع تصديقها عن نفسه؟ متواترة، لكنه تواتر معنوي.
ابن الصلاح وغيره يشيرون إلى أن مثل هذا التقسيم لا يوجد عند أهل الحديث، لماذا؟
على سبيل الخصوص التواتر لا يوجد عند أهل الحديث، مع أنهم أثبتوا ومثلوا له، لماذا لا يوجد عند أهل الحديث، المتواتر؟؛ لأنهم ليس بحاجة إليه، الحديث يبحث في الخبر من حيث الثبوت وعدمه، علماء الحديث يبحثون عن الأخبار من حيث الثبوت وعدمه -وعدم الثبوت- خبر متواتر هل يحتمل الثبوت وعدمه؟ لا يحتمل إذن لا يبحثون.
فالمقصود أن إقرار مثل هذا التقسيم لا يلزم عليه أي محظور، والشيخ أحمد شاكر لما اعتمد هذا التقسيم -رحمه الله- وقال بعد ذلك: ولا تنظر إلى لوازم المبتدعة فإنهم يريدون بالآحاد ويقصدون من ورائه غير ما تقصده أنت؛ لأنهم حينما يقسمون إلى متواتر وآحاد، ويقولون: الآحاد ظني يوجب العلم، لا يوجب العلم، إنما هو موجب للظن، هو موجب للعمل عند جميع من يعتد بقوله من أهل العلم، موجب للعمل في جميع أبواب الدين، إذا وصل إلى درجة القبول موجب للعمل عند جميع من يعتد بقوله من أهل العلم.
إذا أوجب العمل في جميع أبواب الدين بما في ذلك العقائد والأحكام والفضائل والتفسير والقراءات وغيرها موجب للعمل.
ننظر في مسألة العلم، ماذا يراد بالعلم؟
العلم عندهم الذي لا يحتمل النقيض، يعني خبر صادق مائة بالمائة، ما يحتمل نقيض، خلاص بلغك هذا الخبر الزم، ولا يجوز لك بحال من الأحوال أن تشكك فيه؛ لأنه لا يحتمل النقيض، إذا قلنا: هذا العلم، هذا هو العلم، والظن: الاحتمال الراجح -يعني الذي يغلب على الظن ثبوته- الظن هو الاحتمال الراجح، نأتي براو من الرواة، وليكن إمام من أئمة المسلمين مالك بن أنس نجم السنن، مالك بن أنس نجم السنن، يعني إذا نقل الإمام مالك، وجاءنا حديث من طريق الإمام مالك نحلف عليه ونجزم بأن الإمام مالك ما أخطأ ولا سها ولا غفل، نجزم بهذا؟ نعم؟
حفظ لمالك -رحمه الله تعالى- بعض الأوهام، ومادام حفظ له بعض الأوهام، وهو ما يندرج تحت الأصل المقرر في الشرع أنه غير معصوم، ومن يعرو من الخطأ والنسيان؟ ما في لا مالك ولا غير مالك، حفظ عليه بعض الأوهام، إذن إذا جاءك خبر من طريق مالك كم تعطيه نسبة؟ تعطيه مائة بالمائة؟ ألا يحتمل أنه وهم في هذا الخبر؟
إذن نزلت النسبة ولو واحد بالمائة، وما دام نزل عن مائة بالمائة إلى تسعة وتسعين ثمانية وتسعين، وقل في كثير من الثقات إلى تسعين إلى خمسة وثمانين، إلى ثمانين هذا ظن غالب، إذن مفيد لأيش؟ للظن.
إذا عرفنا الاصطلاحات وعرفنا ما يلزم على هذه الاصطلاحات وتنصلنا من هذه اللوازم وصار التقسيم، يحدد لنا الأنواع بدقة، ولا يلزم عليه شيء؛ لأنها اصطلاحات، ولا مشاحة في الاصطلاحات، أو في كل علم من علوم الشرع اصطلاحات يعتني به أهل ذلك العلم.
إذا قلنا: إن رأي الإمام مالك -رحمه الله تعالى- يحتمل الخطأ إذن الإمام مالك -كما هو مقرر- ليس بمعصوم، وقل مثل هذا في من دون الإمام مالك -رحمه الله- فعلى هذا خبر الإمام مالك يفيد الظن، يفيد الظن الغالب.
يعني جاءك شخص من أوثق الناس عندك، فقال: جاء زيد، جاء زيد، تستطيع أن تحلف أن زيداً جاء، كأنك رأيته أنت؟ نعم؟ هل تستطيع أن تقول: إن فلاناً أخبرك -أوثق الناس عندك- بأن فلاناً من الناس زنى بفلانة، وهو أوثق الناس عندك هل تستطيع أن تشهد عليه، أو تحلف على أنه زنى؟!
إذن يحتمل خبره النقيض، فما أفادنا العلم اللي هو نتيجته مائة بالمائة، إذن نزل عن هذه النسبة، وهو أوثق الناس عندك، ومثلنا بنجم السنن مالك، إمام مجمع على إمامته وتحريه وتثبته.
أقول: خبر الواحد بهذا التقرير، وهو بمعرفة..، بعد معرفة العلم والظن، ويقابل الظن الوهم، الذي هو الاحتمال المرجوح، والاحتمال المساوي يسمونه الشك.
أقول: إذا استوعبنا هذا التقرير، قلنا: إن خبر الواحد لا يوجب العلم، وإنما يفيد الظن -هذا في الأصل- مع أنه موجب للعمل اتفاقاً بإجماع من يعتد بقوله من أهل العلم، دع عنك من يقول: إن خبر الواحد لا يقبل في العقائد من أشاعرة وغيرهم، ودع عنك من لا يحتج بخبر الواحد أصلاً كالمعتزلة، هؤلاء ما لنا بهم لازم، ما لنا بهم لازم، هؤلاء ما لنا بهم دعوة؛ لأننا لا نعتد بخلافهم، فإذا قلنا: إنه موجب للعمل في جميع أبواب الدين، وعرفنا وفرقنا بين العلم والظن، وقلنا: إنه يفيد الظن، يبقى أنه قد يفيد العلم بالقرائن، يفيد العلم بالقرائن ليش؟؛ لأن الاحتمال -احتمال الخطأ- في خبر الثقة ضعيف، ولولا هذا الاحتمال لقلنا: إنه موجب للعلم، هذا الاحتمال الضعيف إذا وجد قرينة تقابل هذا الاحتمال ارتفع هذا الاحتمال، فصار خبره موجباً للعلم، موجباً للعلم، وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمه الله- في الصواعق، وابن حجر، وجمع غفير من أهل العلم، يقولون: الخبر الواحد..، وأيضاً ابن رجب في شرح البخاري في مواضع يقرر أن خبر الواحد إذا احتفت به قرينة يوجب العلم، أيش مفهومه؟ أنه إذا لم تحتف به قرينة فاحتمال الخطأ قائم.
من القرائن التي قررها أهل العلم -التي تحتف بخبر الواحد حتى يصل إلى درجة إفادة العلم –وعرفنا كيف ترقى خبر الواحد بالقرينة إلى أن يفيد العلم-؛ لأن الاحتمال الذي أنزله أصلاً من إفادة العلم ضعيف، فجاءت هذه القرينة فقاومت هذا الاحتمال فكأن هذا الاحتمال غير موجود، قالوا: كون الحديث في الصحيحين أو في أحدهما هذه قرينة؛ لشدة تحري الشيخين وانتقائهما للمتون والأسانيد.
كون الحديث مروياً بطرق متباينة سالمة من القوادح والعلل، كون الحديث متداولاً بين الأئمة يرويه إمام عن إمام عن إمام عن إمام مالك، أحمد عن الشافعي عن مالك؛ يعني لو وهم مالك يحتمل أن يوافقه الشافعي على الوهم ويرويه عنه؟ لا يحتمل، إذا وهم مالك والشافعي يوافقهم الإمام أحمد والحديث فيه خطأ؟ لا يمكن.
إذن هذه القرائن قابلت ذلك الاحتمال فارتقى خبر الواحد إلى إفادة العلم.
----
من شرح كتاب الورقات للشيخ عبد الكريم الخضير .
رقم الشريط 8
المدة : 24:55بالتمام