تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: إذا غم الهلال لا يجوز العمل بالحساب (الظني) ، فكيف في حال الصحو ؟!

  1. #1

    افتراضي إذا غم الهلال لا يجوز العمل بالحساب (الظني) ، فكيف في حال الصحو ؟!

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفي .
    فهذه بعض المسائل الفقهية المتعلقة بشهر رمضان المبارك ، والتي يتكرر النقاش حولها كل عام وتكثر الحاجة إلى قطع النزاع فيها .
    وأرجو من الله عز وجل التوفيق والسداد ، وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
    المسألة الأولى : إذا غمَّ هلال الشهر .
    روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له ) .
    أولاً بيان معنى الغم :
    قال العراقي في طرح التثريب (4/113) : [غم عليكم بضم الغين المعجمة وتشديد الميم أي الهلال معناه حال بينكم وبينه غيم يقال غم وأغمي وغمي وغمي بتخفيف الميم وتشديدها والغين مضمومة فيهما وهو من قولك غممت الشيء إذا غطيته فهو مغموم، ويقال أيضا غبي بفتح الغين المعجمة وكسر الباء الموحدة أي خفي، ورواه بعضهم غبي بضم الغين وتشديد الباء الموحدة لما لم يسم فاعله وهما من الغباء بالمد وهو شبه الغبرة في السماء، وذكر القاضي أبو بكر بن العربي أنه روي فيه أيضا فإن عمي عليكم بالعين المهملة من العمى قال وهو بمعناه لأنه ذهاب البصر عن المشاهدات أو ذهاب البصيرة عن المعقولات ] .
    ثانيا : الإجمال في قوله صلى الله عليه وسلم : (فاقدروا له) ومذاهب العلماء تبعا لذلك .
    أ*- الرجوع إلى الحساب بمسير الشمس والقمر ، ونقل عن مطرف بن الشخير ، وحكاه ابن سريج عن الشافعي ، ونقل عن ابن قتيبة.
    ب*- إذا كان هلال أول الشهر صيم اليوم الثاني، وهو قول ابن عمر، ورواية عن أحمد.
    ت*- ذهب جمهور العلماء إلى أنه تكمل عدة شعبان ثلاثين يوما كما جاءت بذلك الروايات المفسرة – كما سيأتي بإذن الله –
    توثيق الأقوال :
    - المذهب الأول:
    قال ابن بطال في شرح البخاري : ( وحكي محمد بن سيرين أن بعض التابعين كان يذهب في معنى قوله عليه السلام: « فاقدروا له » ، إلى اعتباره بالنجوم، ومنازل القمر، وطريق الحساب ، ويقال: إنه مطرف بن الشخير.)
    قال ابن عبد البر في التمهيد (14/352) : (لم يتعلق أحد من فقهاء المسلمين فيما علمت
    باعتبار المنازل في ذلك وإنما هو شيء روي عن مطرف بن الشخير وليس بصحيح عنه والله
    أعلم ولو صح ما وجب إتباعه عليه لشذوذه ولمخالفة الحجة له وقد تأول بعض فقهاء البصرة في معنى قوله في الحديث ( ب ) فاقدروا له نحو ذلك والقول فيه واحد وقال ابن قتيبة في قوله فاقدروا له أي فقدروا السير والمنازل وهو قول قد ذكرنا شذوذه ومخالفة أهل العلم له وليس هذا من شأن ابن قتيبة ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب وقد حكي عن الشافعي أنه قال من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغم عليه جاز له أن يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلا برؤية أو شهادة عادلة ... ) . وانظر الاستذكار (3/278) .
    قال تقي الدين في مجموع الفتاوى (25/182) : (وقد روى عن محمد بن سيرين قال خرجت في اليوم الذي شك فيه فلم ادخل على احد يؤخذ عنه العلم إلا وجدته يأكل إلا رجلا كان يحسب ويأخذ بالحساب ولو لم يعلمه كان خيرا له وقد قيل أن الرجل مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو رجل جليل القدر إلا أن هذا إن صح عنه فهي من زلات العلماء وقد حكي هذا القول عن أبى العباس بن سريج أيضا وحكاه بعض المالكية عن الشافعي أن من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر لم يتبين له من جهة النجوم ان الهلال الليلة وغم عليه جاز له أن يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه وهذا باطل عن الشافعى لا أصل له عنه بل المحفوظ عنه خلاف ذلك كمذهب الجماعة وإنما كان قد حكي بن سريج وهو كان من أكابر أصحاب الشافعي نسبة ذلك إليه إذ كان هو القائم بنصر مذهبه).
    قال الحافظ في الفتح (4/122) : (والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور ونقل بن العربي عن بن سريج أن قوله فاقدروا له خطاب لمن خصه الله بهذا العلم وأن قوله فأكملوا العدة خطاب للعامة قال بن العربي فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد قال وهذا بعيد عن النبلاء وقال بن الصلاح معرفة منازل القمر هي معرفة سير الآهلة وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد قال فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم وهذا هو الذي أراده بن سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوب ذلك عليه وإنما قال بجوازه وهو اختيار القفال وأبي الطيب وأما أبو إسحاق في المهذب فنقل عن بن سريج لزوم الصوم في هذه الصورة فتعددت الآراء في هذه المسألة بالنسبة إلى خصوص النظر في الحساب والمنازل أحدها الجواز ولا يجزئ عن الفرض ثانيها يجوز ويجزئ ثالثها يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم رابعها يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم خامسها يجوز لهما ولغيرهما مطلقا وقال بن الصباغ أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا قلت ونقل بن المنذر قبله الإجماع على ذلك فقال في الأشراف صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته هكذا أطلق ولم يفصل بين حاسب وغيره فمن فرق بينهم كان محجوجا بالإجماع قبله).
    مذهب ابن عمر وقول للحنابلة ( وقد حملوا التقدير على التضييق لعدة شعبان):
    روى أحمد (2/5) وغيره بإسناد صححه الألباني والأرناؤوط عن نافع عن بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له) قال نافع: فكان عبدالله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر فإن رؤى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر
    أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما .
    وروى عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر كان إذا كان سحاب أصبح صائما وإن لم يكن سحاب أصبح مفطراً )
    قال ابن مفلح في الفروع (3/7) : [وان حال دون مطلعة غيم أو قتر أو غيرهما ليلة الثلاثين من شعبان وجب صومه بنية رمضان اختاره الأصحاب وذكره ظاهر المذهب وأن نصوص أحمد عليه كذا قالوا ولم أجد عن أحمد أنه صرح بالوجوب ولا أمر به فلا تتوجه إضافته إليه ولهذا قال شيخنا لا أصل للوجوب في كلام أحمد ولا في كلام أحد من الصحابة رضي الله عنهم]. وانظر أيضا :الإنصاف (3/269)، وشرح منتهى الإيرادات (1/470) .
    قول الجمهور :
    قول الشافعية :
    قال الشافعي في الأم ( 8/ 658) : ( أختار أن يفطر الرجل يوم الشك في هلال رمضان إلا أن يكون يوما كان يصومه فأختار صيامه ) .
    قال النووي في المجموع : (6/276) : ( قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلف : معناه قدروا له تمام العدة ثلاثين يوما ) ( ).
    الأدلة والمناقشة :
    ومذهب الجمهور هو الراجح لقوة أدلته فالرواية المجملة جاءت مفسرة في الروايات الأخرى بإكمال العدة ثلاثين يوما كما هو معروف ومشهور .
    روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ : (لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ)
    ورواه الإمام البخاري في صحيحه من طريق آخر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ)
    ورواه الإمام مسلم في صحيحه من طريق آخر عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ فَقَالَ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ثُمَّ عَقَدَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ)
    وفي هذا الحديث بطرقه فوائد عظيمة منها :
    1- أن النبي  علق الصوم والفطر برؤية الهلال لا بالعلم بوجوده وإن لم يرَ .
    2- أن النبي  نهى عن الصوم قبل رؤية الهلال .
    3- أن معنى قوله  : (فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) هو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً كما جاء ذلك في الروايات المفسرة .
    *** وسوف نعرض فيما يلي - بإذن الله – توجيه الأدلة للأقوال الأخرى .
    أولاً : الرد على من قالوا أنه يعمل بالحساب الفلكي :
    وقد ذهب البعض إلى العمل بالحسابات الفلكية لمعرفة وجود الهلال وذلك في حالة الغيم والقتر ، وهذا القول لم يعرف في القرون الفاضلة وانعقد إجماع العلماء على تحريم العمل بالحساب الفلكي للدلالة على وجود الهلال تحت الغيم .
    ثم جاء قوم آخرون من المتأخرين فتوسعوا في القول بالعمل بالحسابات الفلكية لمعرفة أوائل الشهور العربية في حالة الصحو والغيم فابتدعوا قولاً لم يسبقوا إليه .
    قال الشيخ تقي الدين في مجموع الفتاوى (21/ 132-133) : (نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز والنصوص المستفيضة عن النبي  بذلك كثيرة ، وقد اجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا ولا خلاف حديث إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا ، وهذا القول وإن كان مقيدا بالإغمام ومختصا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم) .اهـ
    فلما رأيت القول بالتوسع في العمل بالحسابات الفلكية لمعرفة أوائل الشهور العربية في حالتي الصحو والغيم عمَّ وطمَّ وصار أصلاً وجعلوه قطعياًً تُرَدُُّ به الطرق الشرعية وأخذوا يستدلون عليه ببعض الشبه التي يموهون بها على العامة أخذت في كتابة هذه الكلمات لبيان خطأ هذا القول ، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل .
    *** أولاً ذكر كلام بعض أئمة المذاهب الأربعة في بيان تحريم استخدام الحساب الفلكي لتحديد أوائل الشهور العربية :
    أولاً مذهب الأحناف :
    قال السرخسي في المبسوط (3/78) : (ومنهم من قال يرجع إلى قول أهل الحساب عند الاشتباه , وهذا بعيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من أتى كاهنا , أو عرافا وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد }( ) والذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { فإن غم عليكم فاقدروا له } معناه التقدير بإكمال العدة كما في الحديث المبين...) .
    قال الجصاص في أحكام القرآن (1/279) : (وقد اختلف في معنى قول النبي  : { فإن غم عليكم فاقدروا له } فقال قائلون : " أراد به اعتبار منازل القمر ... وقال آخرون : " فعدوا شعبان ثلاثين يوما " أما التأويل الأول فساقط الاعتبار لا محالة لإيجابه الرجوع إلى قول المنجمين ومن تعاطى معرفة منازل القمر ومواضعه , وهو خلاف قول الله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } فعلق الحكم فيه برؤية الأهلة , ولما كانت هذه عبادة تلزم الكافة لم يجز أن يكون الحكم فيه متعلقا بما لا يعرفه إلا خواص من الناس ممن عسى لا يسكن إلى قولهم . والتأويل الثاني هو الصحيح , وهو قول عامة الفقهاء وابن عمر راوي الخبر , وقد ذكر عنه في الحديث أنه لم يكن يأخذ بهذا الحساب ...) .
    ثانياً مذهب المالكية :
    قال الخرشي في شرح مختصر خليل (2/237) : (الصوم يثبت بما تقدم لا بقول منجم( )
    فلا يثبت به لا في حق غيره ولا في حقه هو ; لأن صاحب الشرع حصر الثبوت في : الرؤية , أو الشهادة , أو إكمال العدد فلم يخبر بزيادة على ذلك فإذا قال المنجم مثلا : الشهر ناقص أو زائد لم يلتفت إلى قوله , ولا إلى حسابه , وقع في القلب صدقه أم لا) .
    قال الشيخ عليش( ) في منح الجليل (2/113-114) : (( لا ) يثبت رمضان ( ب ) حساب ( منجم ) بضم ففتح فكسر مثقلا في حق غيره وحق نفسه , ولو وقع في القلب صدقه لأمر الشارع بتكذيبه , وهو الذي يحسب قوس الهلال ونوره . وقيل هو الذي يرى أن أول الشهر طلوع نجم معلوم , والحاسب الذي يحسب سير الشمس والقمر وعلى كل لا يصوم أحد بقوله ولا يعتمد هو في نفسه على ذلك وحرم تصديق منجم ويقتل إن اعتقد تأثير النجوم وأنها الفاعلة بلا استتابة إن أسره , فإن أظهر . وبرهن عليه فمرتد فيستتاب فإن تاب وإلا قتل...)
    قال الشنقيطي في أضواء البيان (6/347) : (ترك النظر في علم الهيئة عمل بهدى القرءان العظيم؛ لأن الصحابة رضي اللَّه عنهم لما تاقت نفوسهم إلى تعلم هيئة القمر منه صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: يا نبيّ اللَّهٰ ما بال الهلال يبدو دقيقًا ثم لم يزل يكبر حتى يستدير بدرًا؟ نزل القرءان بالجواب بما فيه فائدة للبشر، وترك ما لا فائدة فيه، وذلك في قوله تعالىٰ: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجّ}، وهذا الباب الذي أرشد القرءان العظيم إلى سدّه لما فتحه الكفرة كانت نتيجة فتحه الكفر، والإلحاد وتكذيب اللَّه ورسوله من غير فائدة دنيوية، والذي أرشد اللَّه إليه في كتابه هو النظر في غرائب صنعه وعجائبه في السمٰوات والأرض، ليستدلّ بذلك على كمال قدرته تعالىٰ، واستحقاقه للعبادة وحده، وهذا المقصد الأساسي لم يحصل للناظرين في الهيئة من الكفار).
    ثالثاً مذهب الشافعية :
    قال أبو زرعة العراقي في طرح التثريب : (4/112) : (وذهبت فرقة ثالثة إلى أن معنى الحديث قدروه بحساب المنازل حكاه النووي في شرح مسلم عن ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون . وقال ابن عبد البر روي عن مطرف بن الشخير وليس بصحيح عنه ولو صح ما وجب اتباعه عليه لشذوذه فيه ولمخالفة الحجة له ثم حكى عن ابن قتيبة مثله , وقال ليس هذا من شأن ابن قتيبة ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب ثم حكى عن ابن خويز منداد أنه حكاه عن الشافعي ثم قال ابن عبد البر والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه وجمهور العلماء خلافه ( قلت ) لا يعرف ذلك عن الشافعي أصلا والله أعلم . وبالغ ابن العربي في المعارضة في إنكاره مقالة ابن سريج هذه قال المازري عن الجمهور ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين ; لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم ; لأنه لا يعرفه إلا أفراد والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم ...وقد ظهر بما بسطاه صحة مذهب الجمهور في تعليق الحكم بالرؤية دون غيرها وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء من السلف والخلف)
    رابعاً مذهب الحنابلة :
    قال ابن قدامة في المغني (3/9) : (لو بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب , فوافق الصواب , لم يصح صومه, وإن كثرت إصابتهم , لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه , ولا العمل به , فكان وجوده كعدمه , قال النبي صلى الله عليه وسلم: { صوموا لرؤيته , وأفطروا لرؤيته }. وفي رواية: { لا تصوموا حتى تروه , ولا تفطروا حتى تروه }) .
    قال تقي الدين في الفتاوى الكبرى (2/464 – 465) : (ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم , كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : { إنا أمة أمية لا نكتب , ولا نحسب , صوموا لرؤيته , وأفطروا لرؤيته } " . والمعتمد على الحساب في الهلال , كما أنه ضال في الشريعة , مبتدع في الدين , فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب . فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي , وإنما غاية الحساب منهم إذا عدل أن يعرف كم بين الهلال والشمس من درجة وقت الغروب مثلا ; لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدودة , فإنها تختلف باختلاف حدة النظر وكلاله , وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال , وانخفاضه , وباختلاف صفاء الجو وكدره . وقد يراه بعض الناس لثماني درجات , وآخر لا يراه لثنتي عشرة درجة ; ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعا مضطربا , وأئمتهم : كبطليموس , لم يتكلموا في ذلك بحرف , لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي . وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم , مثل كوشياز الديلمي , وأمثاله . لما رأوا الشريعة علقت الأحكام بالهلال , فرأوا الحساب طريقا تنضبط فيه الرؤية , وليست طريقة مستقيمة , ولا معتدلة , بل خطأها كثير , وقد جرب , وهم يختلفون كثيرا : هل يرى ؟ أم لا يرى ؟ وسبب ذلك : أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب , فأخطئوا طريق الصواب , وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع , وبينت أن ما جاء به الشرع الصحيح هو الذي يوافقه العقل الصريح ) .
    *** ثانياً بيان خطأ العمل بالحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور العربية :
    ولنتدرج معاً من خلال عرض هذه النتائج لنصل إلى هذه الحقيقة :
    1- من المهم أن نفرق في البداية بين نوعين من الحساب المتعلق بالهلال ، النوع الأول هو حساب موقع القمر الحقيقي، و النوع الثاني هو حساب رؤية القمر:
    أ- حساب موقع القمر الحقيقي:- وهو حساب يعتمد على قوانين الجاذبية والتي هي
    سنة من سنن الله في كونه أذن سبحانه لخلقه بمعرفتها واستخدامها. وقد اكتشف قوانينها الحسابية نيوتن حتى تطورت إلى النسبية الخاصة والعامة وما بعدها.
    وتبعا لهذا القانون يُعرف موقع القمر بالنسبة للأرض بدقة عالية جدا ، لكن هذا الموقع هو حقيقة مكان القمر، لا ما يراه الراصد بعينه لكن وكما نعلم أن الشارع أمرنا أن نرى الهلال كما يظهر في السماء لا كما هو على حقيقته فيكون حساب موقع القمر الحقيقي غير صالح لحساب هلال أول الشهر، بالرغم من دقته العالية.
    ب- حساب رؤية القمر:- وهذا النوع يعتمد على النوع الأول من الحساب، ولكن يُضيف أثار الانكسار وغيرها ما أمكن، فيقدر لنا موقع القمر كما يمكن أن يُرى بالعين المجردة، وهذا النوع من الحساب هو الذي يعتمده أكثر الحاسبين لحساب هلال أول الشهر. وهنا لا يمكن القول بأن الحسابات بدقة عالية كما سبق، حيث أن ظواهر الغلاف الجوي كثيرة ونحن نريد أن نقدر آثارها على امتداد البصر على الأفق، والذي يصل لراصد على سطح البحر لمسافة خمس كيلومترات.
    فإذن سيكون حساب أثر الغلاف الجوي بدقة عالية من الأمور شبه المستحيلة، حيث لو افترضنا وجود عاصفة رملية على بعد خمسة كيلومترات عن الراصد للهلال فإنه لن يشعر بـها، وسيكون من الصعب إدخالها في حساباته للهلال، ومثل هذه العاصفة - أو ماشابه - يمكن أن تغير عوامل الرؤية وأثر الانكسار فيصبح الهلال أعلى مما تتوقعه الحسابات التي لم تأخذ أثر الانكسار في الحسبان، فيقال غرب الهلال في الوقت الفلاني، لكن وبسبب الظروف الجوية تكون هناك صورة وهمية للهلال لم تغرب بعد فيراه بعض رائي الهلال. فيقال لذلك أخطأ الحاسبون - ولا مشاحة في الاصطلاح -، لكن هذا ليس خطأ في الحساب بل هو نقص في الفرضيات الابتدائية للحساب، أي أن أثر هذه الظاهرة - العاصفة - لم يُؤخذ في الحسبان، فهو إذا نقص وليس خطأ، وعليه لا يمكن القول أننا اكتشفنا سنة الله في رؤية الهلال. وهناك دراسات كثيرة على عوامل الغلاف الجوي لحساب أدق لظواهره وأثرها في تغيير مواقع الأجرام السماوية، لكن غالبيتها تتفادى القرب من الأفق لصعوبة ذلك وكثرة العوامل المؤثرة.
    2- اختلاف الفلكيين في حسابات دخول الشهر تبعاً لاختلافهم في التعاريف التي تقوم عليها الحسابات :
    فمنهم من يعتمد الاقتران : وهو التعريف العلمي (الغربي) للشهر القمري، بأن يكون المدة بين كل اقترانيين للقمر مع الشـمس، وهذه تكون تـارة بعد (30 يوما) وأخرى بعد (29) وقد يتوالى شهران أو ثلاثة على وتيرة واحدة (30 أو 29). وتقوم هذه الطريقة على أن لحظة الاقتران لحظة كونية لجميع أهل الأرض وغيرهم - وهذا يعتمد على حساب موقع القمر الحقيقي ويُهمل أثر الغلاف الجوي -، فيعتبر أن ما قبل الولادة يكون القمر محاقا وبعدها يولد القمر ليصبح هلالا.
    وهناك من لا يستخدم تعريف الاقتران فقط ، بل يزيد عليه عمراً معيناً للقمر الوليد.
    ومن الملاحظ أن هذين التعريفين لا يقومان على اعتماد الرؤية فتكون التعاريف السابقة غير صالحة لاثبات أوائل الشهور شرعاً . أما التعريف الذي يعتمد الرؤية فهو ما يلي :
    اعتماد موقع القمر (الرؤية) : وهذا التعريف هو أقرب التعاريف للرؤية ، حيث لا يهتم بولادة القمر من عدمها ، بل يحسب موقع القمر بالنسبة للراصد والشمس ، ويحسب موقع الشمس ، ثم يقارن بين موقع الشمس والقمر عند غروب الشمس ليرى مدى ارتفاع القمر فوق الأفق ، أي أنه يعتمد حساب رؤية الهلال السابق ذكره.
    وهنا يُؤخذ في الاعتبار ما يلي :
    1- أثر الانكسار بسبب الغلاف الجوي الأرضي، بأكثر دقة ممكنة .
    2- موقع الراصد بدقة من حيث الموقع الجغرافي ، والارتفاع عن سطح الأرض وانبساط الأرض حوله - الذي يقف على جبل حاد القمة ، قد يرى الهلال ، في حين أن راصداً على هضبة بالارتفاع نفسه لذلك الجبل يكون الهلال قد غرب عنده منذ فترة ، ويغرب الهلال قبل ذلك أيضا لمن يرصد من ارتفاع سطح البحر- والاعتباران السابقان لا يمكن أن يحسبا بدقة متناهية -.
    والحاسبون بـهذا التعريف فريقان :
    الأول : يُعين حجم معين للهلال إذا قل عنه لا يدخل الشهر على اعتبار أنه لا يمكن رؤية الهلال ، وكذلك يعتبر بُعد معين للهلال عن الشمس إن كان بعد الهلال أقل منه لا يدخل الشهر. وقد تضاربت الأقوال في أصغر هلال يُمكن رؤيته وأقل مسافة من الشمس يمكن رؤية الهلال منها. وهذا يعتمد على مقدرة العين ، ولا يُقبل شرعا أن نأخذ متوسط مقدرات الأعين، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يختبر عيون الراصدين ولم يلغي شهادة ذوي الإبصار القوية ، بل كان يقبل الشهادة بدون تعقيد.
    الثاني : لا يعتبر أي حجم أو بعد للقمر عن الشمس ، بل يحسبون مكان الهلال كما يُتوقع أن يظهر للراصدين ، مهما كان عمره أو بعده عن الشمس. ويمكن أن نسمي هذه الطريقة "بحساب الرؤية" ، وتتم بطريقتين:
    الأولى: نسميها " حساب الرؤية العام": وتكون بحساب ظروف الرؤية لمساحة كبيرة من الأرض (دولة مثلا) ويحدد أفضل الأماكن للرؤية ، وهذه يحدث فيها خطأ حيث انه سيفترض أن ارتفاعات الراصدين عن سطح البحر، وظروفهم الجوية متقاربة.
    الثانية: نسميها " حساب الرؤية الخاص": فيكون الحساب لكل موقع بحسب مكانه وارتفاعه
    وظروفه الجوية .
    ومما سبق يمكن أن نخلص إلى النتائج التالية :
    1- أغلب الأساليب والتعاريف الفلكية لبداية الشهر الإسلامي لا تتفق مع التعريفات الشرعية.
    2- تلك الطرق التي تحاول أن تتقرب من التعريف الشرعي لبداية الشهر الإسلامي، لا زالت تواجه بعضاً من النواقص في تعريفات متغيراتـها الأولية مثل:
    (أ) أثر الانكسار الجوي بدقة عالية (وهذا من الأمور الصعبة جداً).
    (ب) أثر ظاهرة السراب (وهو من الأمور الصعبة جداً).
    (ج) الموقع الحقيقي للراصد وارتفاعه عن مستوى سطح البحر (وهذا ممكن لكن كل راصد سيُحسب له وحده).
    *** ثالثاً ظنية الحساب الفلكي( ) :
    و ذلك للأمور الآتية :
    1- أن قطعية الحساب لا تقبل إلاّ بنتائج تفيد العلم اليقيني بصدق نتيجته ، و إطّرادها ومدى سلامة مقدماته شرعاً ، و هذا لو جَعل الشرع المصير إليه . والواقع أنه ليس لدينا دليل متوفر على هذا المنوال ليُكسب إفادته اليقين ، إلاّ شهادة بعض الفلكيين لأنفسهم بأن حسابهم يقيني ، و الأدلة المادية الآتية تقدح في مؤدى شهادتهم و تقوى بنفي نظرائهم في الفلك من عدم إفادته اليقين ، كما قررته اللجنة الشرعية الفلكية بالأزهر في قراراتها المطبوعة ، إضافة إلى أن الشرع لا يعتبر صدق الخبر والشهادة إلاّ من مبرز في العدالة الشرعية .
    2- قيام دليل مادي في الساحة المعاصرة على أن الحساب أمر تقديري اجتهادي يدخله الغلط ، و ذلك في النتائج الحسابية التي ينشرها الحاسبون في الصحف من تعذر ولادة رمضان أو شهر الفطر مثلاً ليلة كذا ، ثم تثبت رؤية الهلال بشهادة شرعية معدلة ، أو رؤية فاشية في ذات الليلة التي قرروا استحالته فيها .
    3- و من شواهد المعاصرين على ذلك أنا رأينا بعض البلدان الإسلامية تعلن الصوم بموجب الحساب الفلكي ، و الفارق بينها و بين البلدان التي تثبته بالرؤية يومان أو ثلاثة ، فهل يكون في الدنيا فارق في الشهور القمرية الشرعية كهذه المدة ؟ و هذا هو عين دخول الخلل في مواسم التعبد مما يقطع كلٌ بفساده
    4- الحساب الفلكي المعاصر قائم على الرصد بالمراصد الصناعية الحديثة ، و الراصد كغيره من الآلات التي يؤثر على صلاحيتها و نتائجها أي خلل فني فيها ، قد لا يشعر به الراصد .
    و هذا فيه ظنية من حيث الآلة .
    وفي الختام لابد من بيان معنى قوله  في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ) .
    قال الشيخ تقي الدين في مجموع الفتاوى (25/164) : (قوله : (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ) هو خبر تضمن نهيا فانه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط أمية لا تكتب ولا تحسب فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة فيكون قد فعل ما ليس من دينها ، والخروج عنها محرم منهي عنه فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهيا عنهما ... المراد إنا لا نحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا حساب إذ هو تارة كذلك وتارة كذلك والفارق بينهما هو الرؤية فقط ليس بينهما فرق آخر من كتاب ولا حساب -كما سنبينه- فإن أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر وإنما يقربوا ذلك فيصيبون تارة ويخطئون أخرى . وظهر بذلك أن الأمية المذكورة هنا صفة مدح وكمال من وجوه : من جهة الاستغناء عن الكُُتَّاب والحُسَّاب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال ومن جهة أن الكتاب والحساب هنا يدخلهما غلط ومن جهة أن فيهما تعبا كثيرا بلا فائدة فان ذلك شغل عن المصالح إذ هذا مقصود لغيره لا لنفسه وإذا كان نفى الكتاب والحساب عنهم للاستغناء عنه بخير منه وللمفسدة التي فيه كان الكتاب والحساب في ذلك نقصا وعيبا بل سيئة وذنبا فمن دخل فيه فقد خرج عن الأمة الأمية فيما هو من الكمال والفضل السالم عن المفسدة ودخل في أمر ناقص يؤديه إلى الفساد والاضطراب) .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    109

    افتراضي رد: إذا غم الهلال لا يجوز العمل بالحساب (الظني) ، فكيف في حال الصحو ؟!

    شكرا لك ... بارك الله فيك ...

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •