الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه
أما بعد
كثيرا ما نسمع بعض اخواننا من طلبة العلم ومشايخنا يرددون هذه العبارة اذا ما سألهم السائل نحو: وما القول عندكم في كذا؟ أو اذا ما تكلم هو عما أفضى اليه نظره وبحثه في مسألة من المسائل فيقول: (عندي أن الصواب كذا وكذا)، يتبعها بقوله (ومن أنا حتى يكون لي عند؟).. يقولونها من باب التورع!.. بل وأحيانا يتهيبون التعبير عن مذهبهم بلفظة "عندي" أصلا! وقد كنت أقلدهم في ذلك أحيانا فيما أكتب وما أحرر حتى تأملت فيها، فوجدت أن هذا في الحقيقة أمر فيه نظر..
فالذي تصدر لافتاء الناس - ان كان شيخا مجازا للفتيا وله طلبته الذين يفتيهم ويعلمهم - هذا لم يصل الى هذه المنزلة الا أن كان أهلا للنظر في مسائل العلم ابتداءً. والذي هو أهل للنظر في مسائل العلم، فانه يفضي به نظره - ولا بد - الى الترجيح بين الأقوال! فان لم يكن هذا التجريح هو القول الصائب "عند" قائله وفي ظنه، فما معنى قوله بعد ذلك "ومن أنا حتى يكون لي عند"؟؟
وكذا طالب العلم - حتى المبتدئ من أمثالي - اذا ما نظر في أقوال أهل العلم وأدلتهم في مسألة من المسائل وبحث فيها فظهر له - على قدر علمه - رجحان قول على قول أو مذهب على مذهب، ألا يكون ذلك الرجحان، والذي هو نتاج النظر والبحث منه، هو مذهبه الذي انتهى اليه بحثه ونظره - أصاب في ذلك أو أخطأ - هو القول في المسألة "عنده" والذي يدين الله به؟
فما الحرج في أن يقول: الراجح "عندي" هو القول بكذا وكذا؟
ومن الذي قال أن قول القائل من طلبة العلم "عندي أن الصواب هو كذا" يلزم منه الايهام بتبوؤ ذلك المتكلم منزلة فوق منزلته، أو بلوغه مرتبة فوق مرتبته، أو تطاوله على مراتب أئمة الاجتهاد والفقه؟
لعل مشايخنا واخواننا يريدون بذلك الترهيب من جناب العلم الشرعي ومن التطاول على أمر الاجتهاد في مسائل الشريعة المطهرة، وهذا أمر يجب أن يرسخ في نفوس الطلبة جميعا ولا شك، ولكن أن يفتي شيخ ممن تصدر لأمر الفتيا وأصبح الناس يقصدونه في مسائلهم على أنه من أهل النظر والاستنباط، فاذا به في تضاعيف فتواه يقول "ومن أنا حتى يكون لي عند؟".. فهذا يستتبع السؤال: "فبأي حق أفتيت الناس أصلا، ان لم يكن عندك نظر وترجيح؟؟"
لك "عند" ولا شك لأن لك مذهب تفتي به الناس.. وهو ما يترجح في نظرك!
وما دمت قد رجحت قولا على قول، فهذا هو "العند"!
ولعل الصواب أن يقال أن لكل مقام مقال
فان كنت في مقام مدارسة بين اخوانك طلبة العلم، فلك عند ولهم عند، وما تناقشتم أصلا الا للبحث عن أرجح الأقوال فيما عند كل واحد منكم..
وان كان مقام استفتاء لمن هو أعلم منك، كشيخك أو معلمك، فلا تقدم بين يديه وتقول: "عندي أن الصواب كذا!"
وان كان مقام افتاء في الناس وتعليم لهم.. فقولك هذا - أنك ليس لك عند - لازمه أنك ليس لك ان تفتيهم ولا أن تعلمهم!
والحق أن كل من له قدر من النظر في مسائل الشرع، وله تحصيل لأصول ذلك، وله حظ من الفهم.. فانه يكون له "عند"!
أما أهليته للفتيا ولأن يأخذ عنه الناس ما عنده، فهذه مسألة أخرى..
والا فكلنا مقلدون عميان ننقل كلاما لا نفهمه، ولا فرق في ذلك بين العامي والطالب القادر على النظر والترجيح.. وقد نهينا عن التقليد وعن اتباع الأقوال بلا دليل ولا برهان!
والله المستعان.