المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الإمام الدهلوي
إذا تبين هذا ونظرنا في حال أغلب ديار المسلمين اليوم وما يعلوها من أحكام الكفر والجاهلية من القوانين الوضعية ، ... إذا تبين هذا وعلمنا أن مناط الحكم على الديار – ألا وهو اعتبار الأحكام التي تعلوها وتهيمن عليها- قد وجد فيها وغدا واضحا جليا وسمة بارزة مميزة لها استطعنا أن نحكم على هذه الديار التي صفتها ما ذكرنا بأنها ديار حرب وكفر وردة ، وإن كان صوت الأذان يرفع فوق مآذنها أو الجماعات تقام في مساجدها ، أو العيدين تصلى في مصلياتها أو المنابر تهتز بالخطب فوقها ، أو أن أكثر سكانها من المسلمين ، فكل هذا لا يغير من الحكم شيئا ، لأنه ليس مناطا للحكم ، ولا مداره عليه، .....منقــوا بتصرف بسيط .
أولاً، وقبل أن أرد على تلك الشبهة (الصلعاء)!؛ ينبغي أن يعلم الجميع أن (جميع) الفقهاء قد (اتفقوا) على أن مناط الحكم على الدار بالإسلام هو: ((سيطرة المسلمين على الدار وسيادتهم عليها وامتلاكهم لها)) إلا أنه قد وقع منهم عبارات متباينة في التعبير عن هذا المناط حسبها البعض اختلافًا متباينًا؛ فعدوها أقوالاً مختلفة؛ وليس كذلك!.
فإن كثيرًا من الفقهاء من ((ينص)) على هذا المناط بعينه، ومنهم من ((يعبر)) عنه بلوازمه وعلاماته من:
[1] ظهور وغلبة أحكام الإسلام،
[2] أو ظهور بعضها،
[3] أو ظهور أمن وأمان الإسلام المطلق.
لأن ظهور (جميع) هذه الأشياء أو (بعضها) تكفي عندهم في الدلالة على سيادة المسلمين وتمكنهم من الدار (=مناط الحكم على الدار). ولذلك فإن النبي -كما ثبت عنه- كان يمسك عن الدار التي يُسمع فيها الأذان.
والدليل على أن هذا المناط -وهو (سيطرة المسلمين على الدار وسيادتهم عليها وامتلاكهم لها)- هو المناط المعتبر: حديث بريدة ررر؛ قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ ... ثُمَّ قَالَ:...وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ [1]...[2] ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى (((دَارِ الْمُهَاجِرِينَ))) ...[3]...» أخرجه مسلم.
وفي هذا الحديث أن النبي أضاف دار الإسلام (=المدينة) إلى المهاجرين لوجودهم فيها وسيادتهم عليها.
◄وأقوال الفقهاء في الحكم على الدار ((بالإسلام)) على النحو الآتي►
◄ أولاً: من ((نَصَّ)) على هذا المناط ((صراحة)):
(1)- ابن تيمية:
قال "الفتاوى" (27/ 143-144)، و"الكبرى" (2/ 445):
«والبقاع تتغير أحكامها ((بتغير أحوال أهلها)). فقد تكون البقعة دار كفر إذا كان أهلها كفارا ثم تصير دار إسلام إذا أسلم أهلها كما كانت مكة -شرفها الله- في أول الأمر دار كفر وحرب»اهـ.
وقال -"الفتاوى" (18/ 282)-: «وكون الأرض دار كفر ودار إيمان أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها؛ بل هي صفة عارضة ((بحسب سكانها))»اهـ
(2)- أبو محمد بن حزم:
قال في "المحلى" (11/ 200): «الدار إنما تنسب ((للغالب عليها والحاكم فيها والمالك لها))»اهـ. قلتُ: قصد بـ«الحاكم فيها»: أي هل الحكم فيها بِيَدِ المسلمين أم بيد الكافرين.
◄ ثانيًا: من عَبَّرَ ((بلوازم)) هذا المناط وأراده ((تلميحًا)):
(1)- فمنهم من عبر عن هذا المناط بظهور أحكام الإسلام في الدار ((على الغلبة والاشتهار)):
لأن ذلك من علامات غلبة المسلمين وسيادتهم على الدار. قال السرخسي -موضحًا وجهة صاحبي أبي حنيفة-: «لأن البقعة إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة، فكل موضع ظهر فيه حكم الشرك فالقوة في ذلك الموضع للمشركين؛ فكانت دار حرب. وكل موضع كان الظاهر فيه حكم الإسلام؛ فالقوة فيه للمسلمين»اهـ. انظر "المبسوط" (10/114)، وكذلك "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 130)، و"المعتمد" لأبي يعلى (267)، و"الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/212). وهذا مذهب صاحبي أبي حنيفة وبعض الحنابلة.
(2)- ومنهم من عبر عن هذا المناط بظهور ((بعض)) أحكام الإسلام كالأذان:
فجعلوه علامة مفرقة بين الدارين. ووجهة هؤلاء: إمساك النبي عن الدار -وأمره بذلك- عندما كان يسمع فيها الأذان؛ لأنه أيضًا من علامات غلبة المسلمين وسيادتهم على الدار وامتلاكهم لها؛ حيث تمكنوا من إظهار شعائرهم الظاهرة دون حرج. "الاستذكار" (4/ 18) و"التمهيد/مرتب" (3/ 61) كلاهما لابن عبدالبر، و"الذخيرة" للقرافي (2/ 58) و"الدرر السنية" (12/ 127)، و"شرح الزرقاني" (1/ 148)، و"المنتقى" للباجي (1/ 133)، و "التاج والإكليل" للعبدري (1/ 451)، و"الفواكه الدواني" للنفراوي (1/ 171). وهذا مذهب المالكية.
(3)- ومنهم من عبر عن المناط بشرط متاخمة (=مجاورة) الدار للمسلمين، وأن يأمن أهلها بأمن وأمان الإسلام (المطلق):
ووجهة هؤلاء -كما يوضحها الكاساني-: أنه «لا تظهر أحكام الكفر إلا عند وجود هذين الشرطين -أعني المتاخمة وزوال الأمان الأول-؛ لأنها [أي: أحكام الكفر] لا تظهر إلا بالمنعة، ((ولا منعة إلا بهما))»اهـ. "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 130)، وانظر "المبسوط" (10/ 114) و"شرح السير" (5/ 1073) كلاهما للسرخسي. وهذا قول أبي حنيفة.
◄◄ أقول:
وما أدل على ((اتفاقهم)) -على ذلك المناط- من نقل الحافظ أبي بكر الإسماعيلي لذلك كما في كتابه "اعتقاد أهل السنة" (ص56/ رقم 49)؛ حيث قال:
«ويرون -[أي أهل السنة]- الدار دار إسلام لا دار كفر -كما رأته المعتزلة!!- ما دام:
[1] النداء بالصلاة والإقامة بها ظاهرين،
[2] وأهلها ممكنين منها
[3] آمنين»اهـ
فالمقصود أن المعول عليه في الحكم على الدار بالإسلام هو: ((السيادة والغلبة والسلطان والامتلاك للدار))، ثم يتبع ذلك علامات أخرى قد تضعف وتزيد أحيانًا؛
[1] كظهور الأحكام،
[2] أو(بعضها)،
[3] وكذلك أمن وأمان المسلمين المطلق.
وهذا المناط -(=سيادة المسلمين وامتلاكهم للدار)- متحقق والحمد لله في ديار أهل الإسلام الآن -وإن حكموا بالقوانين الوضعية!-؛ فالمسلمون هم المالكون لهذه الديار، وهم السائدون عليها، كما أن الغلبة لهم على غيرهم، وهذا ظاهر للعميان!.
◄◄أقوال الفقهاء في تَحَوُّلِ دار ((الإسلام)) إلى دار ((للكفر))►►
أما الحكم على دار الإسلام بالكفر، وهو مربط الفرس، وأساس الشبهة المطروحة!؛ فإن أهل العلم وإن كانوا ((متفقين)) -على وجه التحقيق- على مناط الحكم على الدار بالإسلام؛ إلا أنهم ((اختلفوا)) في أنه: بِمَ تصير الديارُ الإسلامية ديارًا كفرية؟!. واختلافهم هذا يرجع إلى رؤيةٍ خاصةٍ لِكُلٍّ منهم في مدى (ثبوت) هذا المناط من (انعدامه).
و(مجمل) اختلافهم -في صيرورة دار الإسلام إلى دار كفر- يتمثل في المذاهب الآتية:
◄ المذهب الأول:
أن الدار التي ثبت كونها دارًا للإسلام؛ لا تصير دارَ كفر ((مطلقًا))!؛ وإن استولى عليها الكفار!، وأظهروا فيها أحكامهم!، وزاد بعضهم: طالما أن المسلمين في منعة منهم. وعلل ذلك الرافعي بأن: «الاستيلاء القديم يكفي [عندهم] لاستمرار الحكم»اهـ. واحتج هؤلاء بحديث: «الإسلام يعلو ولا يُعْلَى» [حسنه الألباني]، وهو قول ابن حجر الهيتمي، ونسبه إلى الشافعية. انظر: "تحفة المحتاج" (8 / 82)، و"أسنى المطالب" (4 / 204)
◄ المذهب الثاني:
أن دار الإسلام لا تتحول إلى دار كفر بمجرد باستيلاء الكفار عليها، وإظهار أحكامهم فيها؛ إلا بانقطاع شعائر الإسلام فيها؛ وهو قول الدسوقي المالكي والاسبيجابي الحنفي والرملي الشافعي. انظر: "حاشية الدسوقي" (2/ 188)، "فتاوى الرملي" (4/52)
◄ المذهب الثالث:
أن دار الإسلام تتحول إلى دار كفر (((بتمام))) القهر والغلبة من المشركين؛ وذلك يتحقق بشروط ثلاث:
[1] بأن تنعزل الدار عن سائر ديار المسلمين،
[2] وأن يذهب الأمن والأمان الأولان (=أمن وأمان الإسلام)،
[3] وأن يظهر فيها أحكام الكفر.
وهذا قول أبي حنيفة. "المبسوط" للسرخسي (10/ 114)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 130).
◄ المذهب الرابع:
أن دار الإسلام تتحول إلى دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها (((على الغلبة والاشتهار))). وهذا قول صاحبي أبي حنيفة. "المبسوط" للسرخسي (10/ 114)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 130).
◄ المذهب! الخامس!:
أن دار الإسلام تتحول إلى دار كفر بارتكاب الكبائر!؛ وهذا قول طوائف من الخوارج والمعتزلة.
والآن، وبعد هذا ((العرض المجمل)) لمسألة الحكم على الدار:
- من جهة الحكم بإسلامها،
- ومن جهة تحولها من الإسلام إلى الكفر
وقد ذكرنا مذاهب الناس في ذلك؛ أشرع الآن في الرد على قول القائل بأن: ((ديارنا الآن أصبحت ديارًا كفرية)).
فأقول -مستعينًا بالله-: إن هذا الكلام مردود من وجوه:
◄◄((الوجه الأول))►►
أنه بالرغم من اختلاف أهل العلم في صيرورة دار الإسلام إلى دار كفر -كما أسلفنا-؛ إلا أن ديارنا لا تتحول إلى دار كفر على مذهب أي منهم -خلا مذهب الخوارج! والمعتزلة!- ((وإن حكمت بالقوانين الوضعية))؛ حتى على مذهب الصاحبين! القائلين بصيرورة الدار للكفر بظهور أحكام الكفر فيها. وبيان ذلك كالتالي:
◄ فعلى المذهب الأول -وهو مذهب الشافعية-:
فلا تصير ديارنا الإسلامية -التي تحكم بالقوانين- ديارًا كفرية مطلقًا؛ قولاً واحدًا؛ وهذا واضح لا يحتاج بيان!.
◄ وعلى المذهب الثاني -وهو مذهب المالكية-:
فلا تصير ديارنا الإسلامية -التي تحكم بالقوانين- ديارًا كفرية -وإن استولى عليها الكفار-؛ لأن ديارنا لا تزال شعائر الإسلام فيها قائمة ولم تنقطع والحمد لله.
◄ وعلى المذهب الثالث -وهو مذهب أبي حنيفة-:
فلا تصير ديارنا الإسلامية -التي تحكم بالقوانين- ديارًا كفرية لعدم تحقق ((الشروط الثلاثة)) فيها؛ فديارنا:
[1] لم تنعزل عن سائر ديار المسلمين،
[2] وكذلك لم يذهب منها أمن وأمان الإسلام.
(إلا) أنه تظهر فيها أحكام الكفر؛ وهي القوانين الوضعية -عند من يفسرها بذلك!-؛ وسيأتي بيان خطأ هذا التفسير؛ فَتَرَقَّبْ!!.
فالدار لا تزال إسلامية لعدم انطباق ((جميع)) الشروط عليها. قال الكاساني -موضحًا مذهب أبي حنيفة-: «فما لم تقع الحاجة للمسلمين إلى الاستئمان؛ بقي الأمن الثابت فيها على الإطلاق، فلا تصير دار الكفر»اهـ.
وكذلك ((يصرح)) السرخسي –"المبسوط" (10/ 114)- موضحًا وجهة إمامه قائلاً: «لأن هذه البلدة كانت من دار الإسلام محرزة للمسلمين فلا يبطل ذلك الإحراز إلا ((بتمام القهر)) من المشركين؛ وذلك (((باستجماع الشرائط الثلاث)))»اهـ.
◄◄وعلى المذهب الرابع -وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة-:
فلا تصير ديارنا الإسلامية -التي تحكم بالقوانين الوضعية- ديارًا كفرية أيضًا؛ وذلك للآتي:
أولاً:-
أن الصورة المفروضة -عند أصحاب هذا المذهب- لصيرورة دار الإسلام دارًا للكفر؛ هو إذا ما ظهرت أحكام الكفر (((نتيجةً لِتَغَلُّبِ الكفار على الدار واستيلاءهم عليها))). بمعنىً أوضح: أن هذا المذهب مفترض فيما إذا ((استولى الكفار)) على دار الإسلام، وليست صورته فيما إذا كان المسلمون لهم السيادة والسيطرة والحكم؛ وإن حكموا بخلاف الشرع.
قال الكاساني –"بدائع الصنائع" (7/ 130)- بعد سوقه رأي أبي حنيفة وصاحبيه والاختلاف بينهم: «وقياس هذا الاختلاف: في (((أرض لأهل الإسلام ظهر عليها المشركون)))، وأظهروا فيها أحكام الكفر، (أو) كان أهلها أهل ذمة فنقضوا الذمة، وأظهروا أحكام الشرك؛ هل تصير دار الحرب؟؛ فهو على ما ذكرنا من الاختلاف»اهـ.
وجاء في "الفتاوى الهندية" أن:
«((صورة المسألة)) على ثلاثة أوجه:
[1] إما أن ((يغلب)) أهل الحرب على دار من دورنا،
[2] أو ارتد أهل مصر ((وغلبوا)) وأجروا أحكام الكفر،
[3] أو نقض أهل الذمة العهد, ((وتغلبوا)) على دارهم»اهـ.
والشاهد هاهنا: أن يتقرر ((غلط)) من ينزل هذا المذهب على بلادنا الإسلامية؛ فإن الغلبة فيها والسيادة لازالت للمسلمين. ورأي الصاحبين مفترض فيما إذا ((غلب الكفار)) على ديار الإسلام، وسيطروا عليها، وأظهروا أحكامهم فيها بقوتهم وصولتهم وسيادتهم؛ وهذا ليس بمتحقق في بلادنا الإسلامية والحمد لله.
ولذلك لا يصح تنزيل قولهما -بحال!- على ديارنا الإسلامية التي يسودها ويملكها المسلمون؛ حتى لو ظهرت فيها أحكام الكفر -(=القوانين الوضعية عند من يفسرها بذلك!!)-. وهذا واضح جدًا لكل من تأمل مذهبهما كما بينه الكاساني في "البدائع"، وغيره من أهل العلم.
ثانيًا:-
أن الفقهاء القائلين بأن الدار تصير دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها -أي على الغلبة والاشتهار- ((لم يشترط)) أحد منهم إجراء ((جميع)) أحكام الإسلام فيها لبقائها على الإسلام؛ بل إنهم يحكمون على ديار الكفر بالإسلام بإجراء ((بعض)) أحكام الإسلام فيها.
وهذا يؤيد بقاء ديارنا على الإسلام؛ فقد بقي فيها كثرة كاثرة من مظاهر الإسلام كالجمع والجماعات والأعياد..إلخ، بالإضافة إلى بقاء (بعض) الأحكام القضائية الإسلامية كالحكم بشرع الله في مسائل الأحوال الشخصية وغير ذلك، وقد تقرر في الأصول أن بقاء شيء من العلة يبقي الحكم.
ولو سلمنا -جدلاً- أن مذهب الصاحبين أن ديارنا الإسلامية تنقلب!! ديارًا كفرية بتطبيق أحكام الكفر فيها -(=القوانين الوضعية عند من يفسرها بذلك!!)-؛ فإن تطبيق ((بعض)) أحكام الإسلام فيها يحولها من دار للكفر إلى دار للإسلام عند ((جميع الأحناف)) -وعلى رأسهم الصاحبان- ((بلا خلاف))؛ فـ(جميعهم) يقولون بصيرورة دار الكفر دارًا للإسلام بإجراء ((بعض)) أحكام الإسلام فيها.
قال التهانوي في "الكشاف" (2/92): «((ولا خلاف)) في أنه يصير دار الحرب دار إسلام بإجراء ((بعض)) الأحكام فيها»اهـ.
وهذا ابن عابدين -في "الدر المحتار" (4/ 356)- يكتفي بالشعائر؛ فيقول: «ودار الحرب تصير دار الإسلام بإجراء أحكام أهل الإسلام فيها؛ كجمعة وعيد، وإن بقي فيها كافر أصلي، وإن لم تتصل بدار الإسلام»اهـ.
ثالثًا:-
أن (القوانين الوضعية) وإن كانت من (بعض) أحكام الكفر؛ إلا أنها (لم تظهر بسبب غلبة الكفار وسيطرتهم على دار الإسلام)؛ وإنما ظهرت بإذن!! حكام المسلمين مع استطاعتهم! تطبيق جميع أحكام الإسلام فيها. وقد تبين -كما سبق من قول الكاساني في (أولاً)- أن الضابط المؤثر (فقط) عند الصاحبين في الحكم على الدار؛ هو: إظهار أحكام الكفر بـ((غلبة الكفار وسيطرتهم على الدار))، وليس مجرد ظهور أحكام الكفر فقط -ولو بإذن المسلمين!- دون غلبة الكفار.
ولقد سبق أيضًا من كلام السرخسي –في "المبسوط" (10/ 114)- الإشارة إلى أن المعنى الذي اشترطه الصاحبان -وهو ظهور الأحكام-؛ إنما كان المقصد منه: الاستدلال على سيادة وغلبة المسلمين من عدمها، كما قال السرخسي -موضحًا ذلك-: «لأن البقعة إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة»اهـ.
فظهر بذلك أن ديارنا -على مذهب الصاحبين- ديار إسلامية؛ ((وإن ظهرت فيها أحكام الكفر ))؛ وهي القوانين الوضعية عند من يفسرها بذلك!!.
ويقرر الشوكاني -في "السيل الجرار" (4/575)- ما ذهبنا إليه هنا؛ فيقول:
«الاعتبار ((بظهور الكلمة)) فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره إلا لكونه مأذونا له بذلك من أهل الإسلام فهذه دار إسلام. ((ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها))؛ لأنها ((لم تظهر بقوة الكفار، ولا بصولتهم))، كما هو مشاهد في أهل الذمة -من اليهود والنصارى والمعاهدين- الساكنين في المدائن الإسلامية. وإذا كان الأمر العكس؛ فالدار بالعكس»اهـ.
رابعًا:-
أن جميع أهل العلم -وبما فيهم الصاحبان- (((مجمعون))) على الحكم بالإسلام على دار الكفر التي فتحها المسلمون؛ فملكوها، وأقروا عليها أهلها بخراج للأرض وصالحوهم على ذلك. وما من شك أن هؤلاء الكفار -أهل هذه الديار- يحكمون في هذه الدار بقوانينهم الكفرية!؛ فالأَوْلَى أن يُحكم بإسلام الدار التي يسودها ويمتلكها المسلمون لاسيما وهم يحكمون فيها بجملة مما أنزل الله من إقامة الشعائر الظاهرة، وأحكام المواريث والأحوال الشخصية وغير ذلك.
قال ابن عابدين في "حاشتية" (4/ 355-356): «وبهذا ظهر أن ما في الشام من جبل تيم الله المسمى بجبل الدروز وبعض البلاد التابعة كلها دار إسلام، لأنها ((وإن كانت لها حكام دروز أو نصارى، ولهم قضاة على دينهم)) وبعضهم يعلنون بشتم الإسلام والمسلمين، لكنهم تحت حكم ولاة أمورنا، وبلاد الإسلام محيطة ببلادهم من كل جانب وإذا أراد ولي الأمر تنفيذ أحكامنا فيهم نفذها»اهـ.
ولقد سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله -كما في "رسائله" (1/ 203) و"الدرر السنية" (9/ 254-255)-؛ سئل عن البلدة يكون فيها شيء من مشاهد الشرك، ((والشرك فيها ظاهر))، مع كونهم يشهدون الشهادتين، مع عدم القيام بحقيقتها، ويؤذنون، ويصلون الجمعة والجماعة، مع التقصير في ذلك، هل تسمى دار كفر، أو دار إسلام؟.
فأجاب:
«فهذه المسألة: يؤخذ جوابها مما ذكره الفقهاء، في بلدة ((كل أهلها)) يهود، أو نصارى، أنهم إذا بذلوا الجزية، صارت بلادهم بلاد إسلام; وتسمى دار إسلام.
فإذا كان أهل بلدة نصارى، يقولون في المسيح أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، أنهم إذا بذلوا الجزية سميت بلادهم بلاد إسلام، فبالأولى -فيما أرى- أن البلاد التي سألتم عنها، وذكرتم حال أهلها، أولى بهذا الاسم، ومع هذا يقاتلون لإزالة مشاهد الشرك، والإقرار بالتوحيد والعمل به....."اهـ. قلتُ: وهذا القتال -كما أسلفنا- له ((ضوابط)) ليس هنا محل تفصيلها.
خامسًا:-
أنه إذا كان في الدار أحكام للكفر وأحكام للإسلام -وهذا هو الواقع للأسف-؛ فينبغي أن يحكم على الدار بالإسلام تغليبًا للإسلام للحديث الذي حسنه الألباني: «الإسلام يَعْلُو ولا يُعْلَى».
قال ابن عابدين -في "حاشيته" (4/ 355)-: «قوله: (بإجراء أحكام أهل الشرك) أي: على الاشتهار، وأن لا يحكم فيها بحكم أهل الإسلام، ... وظاهره أنه لو أجريت أحكام المسلمين، وأحكام أهل الشرك لا تكون دار حرب»اهـ.
ولا يقال إن القوانين الوضعية أكثر من الشرعية عددًا؛ فالعبرة -في هذا الأمر- ليست بالعدد؛ ألا ترى أن الفقهاء يحكمون لِلَّقِيطِ -في الدار التي فيها مسلم واحد وبقيتها كفار- بالإسلام؛ كما هو مبسوط في كتب الفقه.
سادسًا:-
أنه على فرض تنازعنا في الأدلة والأقوال والشرائط؛ فاختلفت وجهات النظر في كون ديارنا إسلامية أو كفرية، ولم نتفق على شيء من ذلك؛ فإنه يبقى الوضع على ما كان عليه استصحابًا للأصل؛ وذلك بترجيح جانب الإسلام احتياطًا.
◄◄◄ أما على المذهب الخامس! -وهو مذهب الخوارج والمعتزلة-:
فديارنا تحولت إلى ديار كفرية لظهور (بعض) أحكام الكفر فيها؛ وذلك رغم وجود الآتي:
1- سيطرة المسلمين عليها وامتلاكهم لها.
2- ظهور وقيام غالب الشعائر الإسلامية.
3- التوفر التام لأمن وأمان الإسلام.
◄◄((الوجه الثاني))►►
أن هذا القول (يوجب) أن تكون غالب الدول -التي يسكنها المسلمون الآن- ديارًا كفرية!؛ وهذا محال!. فإن ذلك يستلزم هجرة (جميع) المسلمين منها إلى دار الإسلام -إن وُجِدَتْ-!!، كما يستلزم الحكم على هذه الدور بالحرب!؛ فكل من لم يهاجر فهو محارب؛ يُحَارَبُ كما يحارب الكفار لبقائه مع المحاربين.
◄◄((الوجه الثالث))►►
وهو ما اختم به ردي هذا، وهو سؤال موجه للعلامة الفقيه -بحق- الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين -كما في سلسلة "تفسير القرآن"/سورة العنكبوت الشريط رقم (13) الوجه (أ) الدقيقة (00:26:00)-:
سُئِلَ -رحمه الله-: ما حد دار الإسلام وحد دار الكفر؟
فأجاب:
«دار الإسلام هي التي تقام فيها شعائر الإسلام ((بقطع النظر عن حكامها))، حتى ((لو تولى عليها رجل كافر)) -وإن لم يأمر بشرائع الإسلام- (((فهي دار إسلام)))؛ يؤذن فيها، تقام فيها الصلوات، تقام فيها الجمعة، يكون فيها الأعياد الشرعية، والصوم، والحج وما أشبه ذلك؛ ((هذه ديار إسلام حتى لو كان حكامها كفارًا)). لأن النبي أمرنا إذا رأينا كفرًا بواحًا أن نقاتل، ومعنى ذلك أن بلادنا بقيت بلاد إسلام تقاتل هذا الكافر وتزيله عن الحكم.
فأما قول من يقول إن بلاد الكفر هي التي يحكمها المسلمون أي يكون حكامها مسلمين؛ فهذا ليس بصحيح!، ولو أننا طبقنا هذا القول على واقع الناس اليوم؛ فكم تكون بلاد الإسلام؟!!؛ ممكن [يكون] بلد أو بلدين؛ والله أعلم. وعلى كل حال ما هذا بصحيح. فإذا كانت شعائر الإسلام تظهر في هذه البلاد؛ فإنها بلاد إسلام.
بقى علينا [أن نجيب]: إذا كان يظهر فيها شعائر الإسلام وشعائر الكفر!؛ كما لو كان يسمع فيها الأذان، وتقام فيها الجماعة والجمعات، ولكن يسمع فيها أيضًا أبواق اليهود ونواقيس النصارى في نفس الوقت، وتقام فيها [أيضًأ] صلوات النصارى واليهود؛ فماذا نسميه [أي هذا البلد]؟ في هذا الحال قد نرجع إلى الحكام والأغلبية لأنه الحاكم قد يعجز عن إزالة شعائر الكفر؛ فإذا كان غالب البلد مسلمين، وحكامها مسلمين؛ فإن هذه بلاد إسلام وإن كان بها شيء من شعائر الكفر لأن الغلبة كميةً وسلطةً للمسلمين، لكن هذه معاصي يعجزون أن يزيلوها، وواجب إزالتها ومنعها لأنه حتى إظهار الصليب ممنوع في بلاد الإسلام؛ فكونه يعلن الصليب مثلاً على الكنائس أو الطرقات أو ما أشبه ذلك؛ فهذا ممنوع في بلاد الإسلام.
[ثم سئل عن بلدة ماردين فقال:]
هذا الحكم بغض النظر عن أي بلد؛
[فالدار] إذا ما ظهرت فيها شعائر الإسلام؛ فهي بلاد إسلام،
و[إذا] ما ظهرت فيها شعائر الكفر؛ فهي بلاد كفر،
و[إذا] ما ظهر فيها هذا وهذا؛ فنرجع إلى الحاكم والأغلبية...» انتهى كلامه رحمه الله.
قلتُ: يقصد الشيخ -رحمه الله- بـ«الحاكم» أي: هل الحكم فيها بِيَدِ المسلمين أم بيد الكافرين؟!؛ بدليل أنه قال في مطلع الإجابة: «دار الإسلام هي التي تقام فيها شعائر الإسلام ((بقطع النظر عن حكامها))، حتى ((لو تولى عليها رجل كافر))»اهـ. فثبت ما قررنا والحمد لله.
◄◄((أما بخصوص معنى ظهور الأحكام من عدمها))►►
فنقول: إن الكثير ممن لم يتأصلوا في فهم مصطلحات أهل العلم لا يفهمون كلامهم -غالبًا- (بصورة صحيحة)!. ويزداد هذا الأمر إذا ما وافق ذلك الفهم أهواءً مكبوتة!، وأفكارًا منشودة!، ورغبات! مرصودة!؛ فيضل هؤلاء بذلك، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا!!. وصدق العلامة ابن القيم إذ يقول -كما في "المدارج" (3/ 521)-: «والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل!!، ويريد بها الآخر محض الحق»اهـ.
ومن هذا؛ ما فهمه الكثيرون! من عبارة «أحكام الكفر» أو «حكم الكفر»، وعبارة «أحكام الإسلام» أو «حكم الإسلام».
فهم يفهمونها فهمًا خاطئًا، أو إن شئت فقل: فهمًا محدودًا وضيقًا (!)؛ فإنهم يفسرونها بـ «قوانين الإسلام»، و«قوانين الكفر»؛ وهذا خطأ ظاهر!، فليس المقصود من هذه العبارات القوانين الحاكمة (فقط)!!؛ وإنما المقصود بذلك: (جميع) أحكام الإسلام من تحكيم الشرع وتحريم المحرمات، وإقامة الشعائر الظاهرة كالصلاة والجمعات والأعياد والحج..إلخ.
ثم إن مقصود أهل العلم بظهور هذه الأحكام؛ أنها إذا ظهرت (باشتهار) و(غلبة) وأمن؛ فالدار دار إسلام. لأن ظهورها بهذه الكيفية مما يدل على سيادة المسلمين وغلبتهم على هذه الدار؛ ولذلك اكتفى بعض العلماء بظهور (بعضها) لا (كلها) للحكم بإسلام الدار؛ فإن ظهور ذلك البعض مما يؤكد المناط المذكور آنفًا؛ ألا وهو سيطرة المسلمين وأمنهم وامتلاكهم للدار، وقد سبق طرفًا من أقوالهم في ذلك.
- ويوضح هذا المصطلح صاحب "الدر المحتار" (4/ 356) فيقول: «ودار الحرب تصير دار الإسلام بإجراء أحكام أهل الإسلام فيها ((كجمعة وعيد))»اهـ
- وكذلك يصرح صاحب "الدر الحكام" (1/ 331)؛ فيقول: «ودار الحرب تصير دار إسلام بإجراء أحكام أهل الإسلام فيها؛ ((كإقامة الجمع والأعياد))، وإن بقي فيها كافر أصلي!»اهـ.
- وفي "قضايا معاصرة" (1/ 182): « المقصود من ظهور أحكام الإسلام فيها: ظهور الشعائر الإسلامية الكبرى؛ ((كالجمعة والعيدين وصوم رمضان والحج))، دون أي منع أو حرج. وليس المقصود بها أن تكون القوانين المرعية كلها إسلامية!!».اهـ
ويؤكد ذلك؛ ما نقلتُه عن (جميع) الفقهاء؛ أنهم يعتبرون الدار التي غلب عليها المسلمون؛ فملكوها، وصالحوا أهلها بخراج؛ أنهم يعتبرونها دار إسلام، وإن حُكِم فيها بحكم الطاغوت!.
وبرهان ذلك -من بعض ما نقلتُ- أن الشيخ أبا بطين قال: «فدارُ الإسلامِ: هَي التي تجري أحكام الإسلام فيها، ((وإن لم يكن أهلُها مسلمين))، وغيرها دار كفرٍ»اهـ.
قلتُ:
فتأمل! قوله: «تجري أحكام الإسلام» مع قوله «وإن لم يكن أهلُها مسلمين»؛ فهل يجري الحكم بقوانين الإسلام على اليهود والنصارى ؟!.
فهذا يدلك أن المقصود من «ظهور أحكام الإسلام»: أن أحكام الإسلام من شعائر ظاهرة تجري في أي وقت وباشتهار وأمن الإسلام في هذه البلاد، متى شاء المسلمون ذلك؛ فهذا -كما سبق بيانه- مما يدل على أن للمسلمين السيادة فيها؛ فهي دار إسلام.
وأخيرًا، وليس آخرًا إن شاء الله:
أقول: إنه من العجيب أن ينتسب إنسان للعلم والسلفية؛ وأن يسمي نفسه تبجحًا بالإمام!!، ثم هو يتخبط! بين آراء العلماء؛ فينتقي منها بما يناسب هواه!؛ دون أن يبين الدليل الشرعي من الكتاب أو السنة الدال على صحة اختياره!!.
فنصيحتي لمثل هذا الرجل!:
أَنْ عليك بالدليل، ودعك من الأقاويل!؛ فالكلام كثير!!، والآراء أكثر!!!؛ وكُلٌ مجتهد؛ غير أنه لم يصب منهم إلا من وافق الدليل اجتهاده. فلم التشتت بين الاقوال؟!.
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}
وللكلام بقية إن شاء الله .....