شرح إن وأخواتها
أبو أنس أشرف بن يوسف بن حسن
الكلام في باب (إن وأخوتها) يشمل المباحث التالية:
المبحث الأول: عملها.
المبحث الثاني: عددها ومعناها.
المبحث الثالث: أنواع اسمها.
المبحث الرابع: أنواع خبرها.
وفيما يلي تفصيل الكلام على هذه المباحث الأربعة:
المبحث الأول: عملها:
لَمَّا فرغ ابن آجروم رحمه الله من الكلام على القسم الأول من نواسخ المبتدأ والخبر - وهو ما يرفع الاسم، وينصب الخبر[2] - أخذ يتكلم على القسم الثاني، وهو ما ينصب الاسم، ويرفع الخبر، وهو (إن) وأخواتها[3].
فـ(إن) وأخواتها تدخل على المبتدأ والخبر، فتنصب المبتدأ ويُسمَّى اسمها، وترفع الخبر؛ بمعنى: أنها تُجدِّد له رفعًا غير الذي كان له قبل دخولها[4]، ويُسمَّى خبَرها[5].
ومثال نصب (إن) المبتدأ اسمًا لها، ورفعها الخبر خبرًا لها: قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20]، فقد عمِل الحرف الناسخ (إن) في هذه الآية:
النصب في المبتدأ (الله)، وسمي اسم (إن).
والرفع في الخبر (قدير)، وسمي خبر (إن)[6].
وإعراب هذه الآية هكذا:
إن: حرف ناسخ، يفيد التوكيد[7]، وهو ينصب المبتدأ، ويسمى اسمًا له، ويرفع الخبر ويسمى خبرًا له، وهو مبني على الفتح، لا محل له مِن الإعراب[8].
الله: اسم (إن) منصوب بها، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة؛ لأنه صحيح الآخر.
قدير: خبر (إن) مرفوع بها، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة؛ لأنه صحيح الآخر.
ولقد أخَّر ابنُ آجرُّوم رحمه الله (إن) وأخواتها في الذِّكر بعد (كان) وأخواتها؛ لأنها أحرف، و(كان) وأخواتها أفعال، والحروف أدنى مرتبةً مِن الأفعال.
وبذلك يتبيَّن لنا أن الفرق بين (كان) وأخواتها، و(إن) وأخواتها من وجهين:
الوجه الأول: مِن جهة العمل، وذلك أنَّ:
(كان) وأخواتها ترفع المبتدأ، وتنصب الخبر؛ نحو قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 17].
بينما (إن) وأخواتها تنصب المبتدأ، وترفع الخبر[9]؛ نحو قوله عزَّ وجلَّ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 173].
والوجه الثاني: مِن جهة النوع؛ فإن (كان) وأخواتها أفعال، بينما (إن) وأخواتها أحرف.
المبحث الثاني: بيان عددُ هذه الأحرف ومعناها:
(إن) وأخواتها ستة أحرف، هي[10]:
1- إِنَّ[11].
2- أَنَّ[12].
وهما يُفيدان التوكيد[13]، والتوكيد بهما يدلُّ على أن خبرهما محقَّق عند المتكلِّم[14]، وليس موضع شكٍّ[15]، ومثال دلالة (إن) على معنى التوكيد مع عملها النصب في المبتدأ، والرفع في الخبر، قولُ الله عزَّ وجل: ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ ﴾ [طه: 15][16].
ومثال دلالة (أن) على معنى التوكيد، مع عملها النصب في المبتدأ، والرفع في الخبر: قوله سبحانه: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ﴾ [الجن: 18].
3- لكنَّ، وهي تفيد الاستدراك[17]، والاستدراك هو: اتباع وتعقيب الكلام السابق: بنفي ما يتوهم ثبوته؛ نحو: زيد عالم، فيوهم ذلك أنه صالح لملازمة الصلاح للعلم، فتقول: لكنه فاسق[18]، فتدفع بـ(لكن) توهم أنه صالح.
أو إثبات ما يتوهم نفيه؛ نحو: ليس زيد غنيًّا، فيوهم ذلك أنه ليس بكريم، فتقول: لكنه كريم[19].
4- كأنَّ[20]، وهي تدل على تشبيه المبتدأ بالخبر[21]؛ نحو قول الله عز وجل: ﴿ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ﴾ [الطور: 24]، وقوله سبحانه: ﴿ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ﴾ [القمر: 7]، وقوله صلى الله عليه وسلم في وصف الملائكة التي تنزل لقبض روح العبد المسلم: ((كأن وجوهَهم الشمسُ)).
5- ليت، وهي للتمني[22]، والتمنِّي هو طلب الشيء المحبوب المستحيل حدوثه[23]؛ نحو قول الشاعر:
ألا ليتَ الشباب يعود يومًا ♦♦♦ فأُخبِرَه بما فَعَلَ المشيبُ[24]
ونحو قول الله تعالى: ﴿ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ﴾ [الأنعام: 27]، وقوله سبحانه: ﴿ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 73].
أو العسير تحققه؛ كقول مَن يريد الحج وليس لديه مال: ليت لي مالًا فأحجَّ منه؛ فإنَّ حُصول المال ممكن، ولكن فيه عُسر[25].
6- لعل: ذَكَر ابن آجرُّوم رحمه الله في متن الآجرومية للحرف الناسخ (لعل) معنيين؛ هما:
المعنى الأول: الترجي[26]، والترجي هو: طلب الأمر المحبوب، ولا يكون هذا إلا في الممكن الميسور التحقُّق؛ نحو قولك: لعل زيدًا يقدم غدًا، وأنت تعرف أنه قريب المجيء غدًا بإذن الله تعالى، ومن ذلك قولُ الله تعالى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ﴾ [غافر: 36].
والمعنى الثاني: الإشفاق والتوقُّع[27]، وهو: انتظار وقوع الأمر المكروه في ذاته؛ كقولك: لعل زيدًا هالكٌ، فأنت هنا لا ترجو أن يكون زيد هالكًا، ولكن تتوقع أن يَهلِك[28]، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ [الشورى: 17]، فإن الساعة مخوفة في حق المؤمنين، بدليل قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا ﴾ [الشورى: 18][29].
فائدة: تسمى (إن) وأخواتها الأحرف المشبَّهة بالفعل، وقد سميت بذلك لعدة أسباب نذكُر منها:
1- أن أواخرها كلها مفتوحة كالفعل الماضي[30].
2- ولوجود معنى الفعل في كل واحدة منها؛ فإن التشبيه والتوكيد والاستدراك والتمني والترجي هي من معاني الأفعال.
3- ولأنها تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده[31].
وبهذا ينتهي المبحث الثاني من مباحث باب (إن) وأخواتها.
وخلاصة ما مضى أن (إن) وأخواتها ست أدوات، تشترك كلها في أمرين، وتختلف في أمر:
فأما الأمران اللذان تشترك فيهما، فهما:
1- أنها كلها أحرف.
2- أنها كلها تعمل عملًا واحدًا، وهو نصب اسمها ورفع خبرها.
وأما الأمر الذي تختلف فيه، فهو المعنى؛ فإن معناها مختلف[32]، باستثناء اثنين منها معناهما واحد، وهما: (إنَّ، وأنَّ) كما مَضَى.
المبحث الثالث: أنواع اسم (إن) وأخواتها:
ينقَسِم اسم (إن) وأخواتها إلى نفس القسمينِ المذكورين فيما سبق من أبواب مرفوعات الأسماء[33]، فينقسم إلى:
1- اسم ظاهر؛ نحو: الكلمات (الساعة، المساجد، هدى) في قوله تعالى: ﴿ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ [الشورى: 17]، وقوله سبحانه: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ﴾ [الجن: 18]، وقوله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ [البقرة: 120].
2- ومُضمر، واسم (إن) وأخواتها المضمر لا يكون إلا ضميرًا متصلًا مِن ضمائر أربعة[34]؛ هي:
1- هاء الغَيبة بأشكالها الخمسة[35]؛ نحو قول الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3]، وقوله عز وجل: ﴿ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 4]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ﴾ [الرحمن: 58].
2- كاف المخاطب بأشكالها الخمسة([36])؛ نحو قول الله تعالى: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ﴾ [الشعراء: 3]، وقوله سبحانه: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203].
3- ياء المتكلم؛ نحو قول الله تعالى: ﴿ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ ﴾ [النساء: 73]، وقوله سبحانه: ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ ﴾ [القمر: 10].
4- نا الفاعلين[37]؛ نحو قول الله تعالى: ﴿ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ ﴾ [الشعراء: 40]، وقوله عز وجل: ﴿ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ﴾ [الأنعام: 27]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ [فصلت: 5].
فائدة: مما ذكرناه هنا، ومما سبق ذكرُه، يتضح لنا أن الضمير (نا الفاعلين) قد يكون في محل:
1- رفع، وذلك إذا اتصل بفعل ماضٍ، وبني معه على السكون؛ نحو قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وقوله عز وجل: ﴿ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 58]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا ﴾ [البقرة: 246][38].
2- وقد يكون في محل نصب، وذلك - كما تقدم - إذا اتصل بـ:
حرف ناسخ؛ (إن) أو إحدى أخواتها، وقد تقدمت الأمثلة على ذلك في الصفحة الماضية[39].
أو بفعلٍ مضارع؛ نحو قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [البقرة: 286][40].
أو بفعل أمر؛ نحو قوله تعالى: ﴿ وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286][41].
أو بفعل ماضٍ مبني على الفتح أو الضم؛ نحو قول الله تعالى: ﴿ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ﴾ [المائدة: 19]، وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ [الزخرف: 55][42].
3- وقد يكون في محل جر، وذلك إذا اتصل به: حرف جر؛ نحو قول الله تعالى: ﴿ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ [هود: 91][43]، أو اسم؛ نحو قوله تعالى: ﴿ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾ [البقرة: 246][44].
والخلاصة: أنَّ الضمير (نا) الفاعلين يختلف حكمُه الإعرابي رفعًا ونصبًا وجرًّا، بحسب ما اتصل به.
يتبع