قصة معركة بلاط الشهداء وأهلها.. ميدان فداء وحسن بلاء


د.عبدالرحمن على الحجي


بَلاط الشهداء: ميدان متسع ومعركة فاصلة في فرنسا، جَنوب باريس نحو 200 كم، بين الأندلسيين والفِرنج، شعبان رمضان سنة 114ه (أواخر أكتوبر نوفمبر 732م). المسلمون بقيادة والي الأندلس عبدالرحمن الغافقي، والفرنج بقيادة شارل مارتل (المِطرقة)Charles Martel . استمرت المعركةُ تسعة أيام ، نتيجتها: انسحاب الأندلسيين بعد استشهاد الغافقي من ميدانها الواسع، لقُرابة بضعة عشر كم، بين مدينتي تورTours وبواتييه Poitiers . وساروا نحو 1500كم، من قرطبة العاصمة، عَبْرَ جبال البُرْت بمعبرها الغربي: رُنْشِفالةRoncesvall es ، المرتفع القائم الضيق، لا يسع إلا لفارس بعد الفارس.
عدم التكافؤ: الموسم شتوي ممطر لا يسمح للخيل بالحركة الحُرَّة ولا للمنازلة بالسيف. بينما أسلحة الفرنج وعُدّتهم غيرها: لعل أكثرهم رَجّالة، وجُلُّ أسلحتهم غير السيوف، في أرض يعرفون طبيعتها وتضاريسها ودروبها، المدد منهم قريب، وعددهم ليس أقل من ضعف جيش المسلمين البالغ عشرات قليلة من الآلاف.
ظروف غير متكافئة، حتى نوع الملابس. استمرت المعركة تسعة أيام، والقتال شديد، 8أيام بدت الغلبة للمسلمين، وفي تاسعها كانت قاصمة الظهر: استشهاد القائد الغافقي.
ذهب المسلمون حَسَبَ خُطَّة مُحْكَمة، هدفاً وإعداداً ومسيرةً، لرفع راية الإسلام وإنارة دروب الأرض الكبيرة، بالنور والحضارة الإنسانية الكريمة.
قُوى الظلام رفضت وحاربتهم، ما أمكنها، وأفلحت. فحَرَمَت نفسَها وقومَها الخيرَ العميم، وإن نَقلت بعضَ ثمارها، مقطوعةً عن محضنها. فهي ترفل بطعومها، حتى وهي منحرفة عن أهدافها، خارج إطارها ومدارها المتحضر الإنساني الكريم.
كان قائد المعركة الغافقي، من أفضل الولاة. أربعة منهم، اسْتُشْهِدوا في أرض المعركة.

روايات كنسية

لاحظنا قلة معلومات الفتح، الذي يسري لما بعده. ما نعرفه عن الغافقى لا يَشْفي غلّة، مما يدفع وبحدود منضبطة إلى الأخذ من الرواية الأوروبية، المُغْرِقة في الخيال، مع الحذر والتريث والغربلة، وأكثرها روايات كنسية مفترية مُهَوّلة مُهَوّمة.
نعرف عن الغافقي معلومات قليلة، نحاول قراءتها، يجيدها الأكثر إلماماً وإلفة واكتراثاً. جرت واقعَةُ بَلاط الشهداء خلال ولاية الغافقي الثانية، دامت فوق السنتين (112 114ه). كما أن جهل قادتها الآخرين، عجيب جداً!
الغافقي تابعي، روى عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، ارتضاه أهل الأندلس والياً، قبل ذلك بعشر سنوات، لِما يعلمون من دينه وأهليته وحسن إدارته. له مواقف تجعله موضع التقدير والتقديم والثقة. خلال ولايته القصيرة ارتقى بالأندلس، وأحسن إدارتها واستقرارها، هيأ أجواء الاستمرار لمواصلة الفتح. الولاة هم الذين يقودون الجهاد، إلى جانب مهماتهم المتنوعة، التي لاتقل أهمية ومقاماً وتقديماَ.

افتراءات أوروبية

توسعت الكتابات التاريخية لاسيما الأوروبية، القديمة أو الحديثة، والعربية المعاصرة وتوصلت إلى شبه إجماع، أن هزيمة المسلمين في بَلاط الشهداء تعود إلى أمرين:
أولهما: الخصومة بين الجيش، لاسيما العرب والبربر.
وثانيهما: حرصهم على الغنائم، التي نهبوها، ووضعوها خلف المعسكر. العدو هاجمها، فانكفأ المسلمون لحمايتها، انتهى الأمر بهزيمتهم. وقع القتل لعشرات الآلاف منهم أو مئاتها، وانهزم فَلُّهم لا يلوي على شيء، ولا حتى على غنائمهم ولا جرحاهم.
رُتِّبت الخصومة على حكاية مختلقة، توسعوا في الاستنباط والبناء عليها، كقضية الغنائم المنهوبة، الكنائس خَرَّبوها، القتل لساكنيها، والمدن أحرقوها، والضياع استباحوها، وسَبَوْا أهلها! متلقفين الصورة الخيالية المُغْرِقة وكأنها لوحة موناليزا Mona Lisa ، للرسام الإيطالي ليوناردو دافينشيdaVinci Leonardo وهذا هو تماماً حال المناهج الدراسية الأوروبية والغربية.

حقائق المعركة

لابد من النظر المتمكن المتمرس المتفحص، واعتبار متأنٍ مكيث، لكافة المتعلقات والظروف والأبعاد، واحتساب حقائق الحياة الإسلامية المعهودة ومنهجها، لقراءةٍ أجود لأحداث هذه المعركة، لرهافتها وتراكماتها وحساسيتها. بهذا يمكن الخروج بتصور جيد، يمكنه رسم لوحة مرجوة مدعوة، تضيء حقائقها.
أما الخصومة المفتعلة، فتؤكدها تخرصات الرواية الكنسية ومبالغاتها الأسطورية. أخذها آخرون، لأسباب عدة لعل منها شح معلومات الرواية الإسلامية، لغير الأسباب التي يسوقها البعض: فداحة المأساة وهول الفاجعة وثقل الخطب، الذي أودى بعشرات الآلاف أو مئاتها بزعمهم، دعا المؤرخين المسلمين أن يضْرِبوا صفحاً عن تدوين أخبار المعركة المحزنة، إذ تُجَدّد آلامهم وتثير أحزانهم وتقلب مواجعهم.

ضرب من الوهم

هذا التعليل ضرب من الوهم البعيد، والتخبط الشديد ورمي للأحجار في الظلام، خال من وزن وقيمة علمية واستقراء لأحداث التاريخ الإسلامي والأندلسي. لدينا في الأندلس العديد من المعارك كانت فواجع فعلاً، ذكر مؤرخونا الأندلسيون تفاصيلها المفجعة المحزنة المبكية : واقعة الخندق (329ه) أيام الخليفة عبدالرحمن الناصر (300 350ه) وبقيادته، وأشد منها واقعة العِقاب (609ه) كذلك معركة طريف(741ه).
شَحَّة معلومات: يبدو أن سبب شَحَّة معلومات الرواية الإسلامية غير ذلك، مما يمكن تعليله بما يلي:
1- بُعد الميدان حتى عن أول الحدود الأندلسية الشمالية، حيث لم تتم حيازة أخبارها بسهولة. دولة اسلامية قامت في فرنسا وما بعدها، عُرِفَت بالمجاهدين ودولتهم بعاصمتهم جبل القِلالFraxinetum) ) وكل ما نعرفه عنها لا يكاد يتجاوز سطرين، وأحداث أخرى شبيهة.
2- لم يكن فيمن حضرها له عناية بنقل تفاصيلها، مثل بقية الأحداث الماثلة السابقة التي جرت هناك.
3- أو أن ما دُوِّن من أخبارها كان في مؤلفات فُقِدَت، حيث لدينا أحداث كثيرة جرت داخل الأندلس وذهبت أخبارها.
الخلاصة:
1- موضوع الخصومة لم يُشَرْ إليه، ضمن المعلومات القليلة من الرواية الإسلامية. لابد من اعتبار الحجج المنطقية، مجاورة للمعلومات المتوافرة، مترابطة مع الصيغ المماثلة. إذن، فكيف يمكن ألا يلاحظه ويعالجه قائدها الوالي الغافقي؟! إذ لا يُعقل أن يسير لتحقيق أسمى هدف، في أرض جديدة، يتربصهم فيها عدوهم المجهز المستعد المنتظِر لكل غِرّة، وهو أدرى وأولى وأوعى ليعالجه، أَوْ لا يسير به، وإلا فهي مغامرة أو مقامرة ناحرة. لكن هذه القصة الخيالية صاغتها الرواية الكنسية، وبَنَتْها على قصة مختلَقة لوالٍ بربري (منوسة) في الشمال الأندلسي، عقد حلفاً سرياً مع عدو الأندلس: الفرنسي أودو Eudes دوق أقطانيةAquitaine))، جنوب غربي فرنسا. ولتأكيد ولاء منوسة زَوّجَ أودو ابنتََه الحسناء (لامبيجية) لمنوسة، لقاء أن يحارب المسلمين، ويخبره بكل تحرك أندلسي ضده.
ولما عرفه الغافقي أرسل فرقة لحربه، وتم قتله وأَسْرُ زوجته. ومن هنا انتقم البربر من العرب، وأظهروا ما كتموه منتهزين ومهتبلين الفرصة الذهبية في واقعة البَلاط، فكانت خصومتهم، التي لم تظهر إلا هناك، وليس في أية مناسبة قبلها!!
لكن لماذا لم يفعلوه قبلاً في معارك هذه الخَرْجَة التي استمرت نحو ثلاثة شهور، وهو أسهل عليهم، قبل المعركة الفاصلة، وصبروا طيلة المدة؟ وكيف عرفوا أن ذلك سيحدث، ليدخروها حتى المعركة؟

اختلاقات وهمية

لكن الأمر اختلاق بُنِيَ عليه وَهْمٌ تناقلته مؤلفات، كأنه حقيقة، وهي مضللة. ثم كيف أن مثل هذا الأمر الخطير والكبير المشهود، وثقله النفسي على حامليه وناظريه، لم يذكره الجند، كما أن جزءاً منه قد تم في الأندلس. ألا يدعو ذلك الجند لذكره قبل وأول شيء ويسجله المؤرخون؟ وكل الذي ورد عن هذا الأمر في مصادرنا هو أن منوسة(مقوشة)، اسم مكان وليس اسم إنسان.
والقصة فقط من الرواية الأوروبية، التي لابد من غربلتها بغربال مكين. ثم كيف لقائد محنك مثل الغافقي أن يسير في هذا الجيش، الذي يبتغي القيام بعمل يترتب عليه أحد أكبر الأهداف، مستقبل الجهاد الإسلامي ووجوده في تلك الديار؟ ولو كانت هنالك خصومة لظهرت أكثر بعد الهزيمة، وهذا أمر طبيعي، فإن أية خصومة حتى لو كانت كامنة تحت الرماد تظهر أكثر وقت الهزيمة والفشل والمشاكل، وتطفو على السطح قوية، لا تبقي ولا تذر.
2- أما الغنائم فلا يختلف الأمر وسابقه، حيث إنه مختلق؛ إذ إن هؤلاء الجند المسلمين لهم خبرة جيدة ومكررة وطويلة بالجهاد، وراء البُرْت، ما يزيد على عشر سنوات، وخَبروا طبيعة المواجهات، وأنهم قبل هذه المعركة الفاصلة فتحوا مدناً عِدّة، وتُركت فيها حاميات، وبلغت غنائمهم أطناناً، حسب زعم الرواية، فلماذ؟ا وكيف؟ وإلى متى يظلون يحملونها معهم؟ وكيف يريدون أن يحققوا أهدافهم، وهم على علم بما يواجهون؟ بل المعقول أن الأمر عكس ذلك، من أن حرصهم المزعوم على الغنائم أكثر من الجهاد، حتى ليبدو أنهم خرجوا لأجلها، كان عليهم أمام هذا الزعم أن يتركوها في المدن التي فتحت ليأتوا بغيرها. كان عليهم أن يرسلوها إلى قواعد لهم مستقرة في جنوب شرقي فرنسا، إن لم يكن إلى الأندلس. وكان لابد أن يحسبوا كل التوقعات، وفي حالة الانكسار سيخسرون الدار والديار. فالقصة مختلقة لا تقويها حبكة مرت عبر السنين.

خسارة للحضارة

من مؤرخيهم من ادعى أنه لو انتصر المسلمون في المعركة لدمرت النصرانية وبلدانها وانتقلت الهمجية والتوحش والتخلف، ولزالت حضارتهم البارعة وتقدمهم المترقي!! ولكان القرآن يُتلى في جامعاتهم، مثل جامعة أكسفورد. لو تم ذلك فعلاً لكان من حسن حظهم. فكأنهم كالذي تعود على الظلام لا يريد أن يرى النور فيخافه، لأن النور يؤذي عينيه. ولهذا هولوا أخبارها وزوروا أحداثها، في مبالغات زائفة، وبهذا اعتبروا شارل مارتل بطلاً قومياً ومنقذاً لأوروبا وحامياً للنصرانية، جديراً بالتقدير.
ومن الأوروبيين المتنورين من اعتبروا خسارة المسلمين في بَلاط الشهداء، خسارة للحضارة الأوروبية وللإنسانية، ويتحمل شارل مارتل وزر هذه الجريمة بحق الإنسانية.
فالأمر بحقيقته: أن المعركة جرت في أوضاع غير متكافئة، استمرت تسعة أيام، بدا في بعض أيامها النصر للمسلمين، ولم يَبْدُ على المسلمين انكسار، وفي آخر اليوم التاسع اسْتُشْهد القائد الغافقي، واستمر القتال حتى آخر النهار وحل الظلام، وعاد كل فريق كعادته إلى خيامه. ولا بد أن القادة والمستشارين تدارسوا الأمر واتفقوا على الانسحاب، إذ لا فائدة في استمرار المعركة في تلك الظروف والأحوال والمستجدات، وكانوا أقوياء عليه، لكن الأمر مرتبط بهدف يصعب في حالتها تحقيقه، وكل مدد وعون عنهم بعيد، وطالت كثيراً غيبتهم عن الديار. فرأوا أن العَوْدَ أحمد، وقرروا الأخذ به باتفاق. فتم ذلك بسلاسة والتئام وانسجام. فلم يَكَدْ العدو يصدق هذه النتيجة التي يتمناها.
ومن أدلة قوتهم الملحوظة في الميدان، أنهم كانوا يقاتلون بقوة وإقدام وشجاعة، حتى للعدو الذي لم يجرؤ على متابعتهم بعد انسحابهم، ظناً منه أنها كمين فتركهم. وكان بإمكانه أن يفعل، حيث المسافة بين الميدان وبين حدود الأندلس نحو 500كم. والحق يجب أن تكون صورة المعركة بيضاء ناصعة ومفخرة رائعة وسابقة مبدعة يُتَغَنى بها.


ادعاء كاذب


فأين يذهب ادعاء: أنه قُتِلَ من المسلمين، ما أوصلته الرواية المُخَرِّفة المُغْرِقة الأُسطورية، إلى ما فوق الثلثمائة ألف! انظر كيف حفظ الله تعالى المسلمين مما ادعاه وتمناه لهم الأعداء، لكن الله حماهم، بما رزقهم من الشجاعة والثبات والإخلاص.
يضاف إلى ذلك: لم تتوقف أعمال الفتح والجهاد بعد الواقعة، ولعلها أكسبتهم تجارب وخبرة إضافية، ولعل الله تعالى ادخره لجيل قادم يعلمه. وبهذا تنتهي جولتنا.