تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الاعتبار، بأن الله حفظ هذا الدين ومن تمسك به، وأيدهم بالنصر على ضعفهم وقلتهم،

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي الاعتبار، بأن الله حفظ هذا الدين ومن تمسك به، وأيدهم بالنصر على ضعفهم وقلتهم،

    قال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
    وقد أخبر شيخنا، رحمه الله تعالى أنه كان في ابتداء طلبه للعلم، وتحصيله في فن الفقه وغيره، لم يتبين له الضلال،
    ... الذي كان الناس عليه من عبادة غير الله، من جن أو غائب، أو طاغوت أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك.
    ثم إن الله جعل له نهمة، في مطالعة كتب التفسير والحديث، وتبين له من معاني الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة أن هذا الذي وقع فيه الناس، من هذا الشرك: أنه الشرك الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بالنهي عنه، وأنه الشرك الذي لا يغفره الله لمن لم يتب منه.
    فبحث في هذا الأمر مع أهله، وغيرهم من طلبة العلم،
    فاستنار قلبه بتوحيد الله، الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، فأعلن بالدعوة إليه، وبذل نفسه لذلك على كثرة المخالفين، وصبر على ما ناله من الأذى العظيم في ابتداء دعوته.
    فلما اشتهر أمره أجلبوا عليه بالعداوة،
    خصوصا العلماء والرؤساء، وحرصوا على قتله؛
    فأتاح الله له من ينصره على قلة منهم وحاجة،
    وتصدى لحربهم القريب والبعيد،
    واستجلبوا على حربهم الدول.
    ونذكر بعض ما جرى عليهم ممن عاداهم، وتأييد الله لهم ونصره على قلة منهم وضعف،
    وقوة من عدوهم وكثرة،
    لما فيه من العبرة،
    والشهادة لهم أنهم على الحق، وعدوهم على الباطل،
    فأخذت من حفظي بعض الوقائع، التي جرت عليهم من عدوهم في الدين، وفيها شبه بما جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم من عدوه، ونصر الله له،
    فأقول:

    ... المقام الأول:
    أن شيخنا شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى،
    لما ألهمه الله رشده وفتح بصيرته في تمييز الحق من الضلال،
    وأنكر ما عليه الناس من الشرك فبادروه بالعداوة والإنكار لمخالفتهم
    ما قد اعتادوه ونشؤوا عليه هم وأسلافهم من الشرك والبدع;
    وأعظم من عاداه ونفر الناس من دعوته العلماء والرؤساء،
    كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [سورة غافر آية: 83]،
    وفيه مشابهة لنبينا صلى الله عليه وسلم فيما ناله من الرؤساء، والأحبار في الابتداء;
    فإن شيخنا رحمه الله تعالى أظهر هذه الدعوة في بلد العيينة -
    وهي في أعلى وادى حنيفة -،
    فاستحسن دعوته من استحسنها، وقبلها من قبلها، وأنكرها من أنكرها.
    ثم إن أهل الأحساء، لما استصرخوا شيخهم سليمان آل محمد، شيخ بني خالد، وأرسل إلى ابن معمر شيخ العيينة، بأن يقتله، فهاجر إلى الدرعية بلد محمد بن سعود، فتلقاه هو وأولاده بالقبول، وتابعهم على ذلك أكثر أهل بلده وقبيلته، على قلة منهم، وضعف، كما قدمناه.
    فصبروا على مخالفة الناس، والملوك ممن حولهم، والبعيد عنهم؛ وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب؛ ولهذا تحمل هذا الرجل وأتباعه، عداوة كل من عادى هذا الدين، قال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة البقرة آية: 105]. وقد قال هرقل لأبي سفيان: وسألتك هل


    ص -15- ... يرتد أحد سخطه لدينه، فذكرت أن لا، فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
    فأشبه أمر هذا الشيخ، رحمه الله تعالى ما جرى لخاتم النبيين، حتى في مهاجره، وأنصاره، وكثرة من عاداه وناوأه في الابتداء، كما هو حال الحق في المبادي، يرده الكثير وينكرونه، ويقبله القليل وينصرونه; فأول من عاداهم: أقرب الناس إليهم بلدا، وأقواه كثرة ومالا، بلاد دهام بن داوس.
    وهو أول من شن الغارة عليهم على غفلة وغرة، وعدم الاحتساب منهم، فخرجوا إليه على فشل، فقتل منهم رجالا، منهم فيصل بن سعود، وسعود بن محمد بن سعود، فسبحان من قوى جأش هذا الرجل على نصرة هذا الدين، حين قتل ابناه; ثم سطا عليهم مرة ثانية، فقتل كثيرا ممن سطا بهم، فأخذ المسلمون الثأر منهم. ثم بعد ذلك استمر الحرب بينهم وبينه، أكثر من ثلاثين سنة، وفي تلك الثلاثين السنة أو أكثر، أعانه على حربهم أهل نجران، وابن حميد شيخ بني خالد، مرارا، فيأتونهم بأنواع الكيد والكثرة، فينصرهم الله عليهم، وفي ذلك أعظم عبرة.
    وبعد هذه المدة وقع بينه وبين المسلمين وقعة بين البلدين، فقتل فيها ابناه "دواس" و "سعدون" فانتهى أمره، فخرج من بلده هاربا في يوم صيف شديد الحر، وتبعه من تبعه؛ فصارت بلده فيئا للمسلمين، ولم يبق لآل دواس بعد ذلك عين تطرف،


    ص -16- ... فاعتبروا يا أولي الأبصار!
    المقام الثاني: ما في دعوة هذا الشيخ رحمه الله ابتداء، من المشابهة لما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم: في أول دعوته قريشا والعرب، إلى التوحيد، والإيمان بالقرآن، وقد قال صلى الله عليه وسلم "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" 1.
    وفي حديث عمرو بن عبسة، الذي رواه مسلم وغيره، "أنه قدم مكة فاجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته، فأخبره أن الله بعثه بأن يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئا"، وغير ذلك مما هو مذكور في الحديث، من نفي عبادة الأوثان، والأمر بمكارم الأخلاق; فقال له عمرو: "من معك على هذا؟ قال: حر وعبد; ومعه يومئذ أبو بكر وبلال". فما زال الحق يزيد بزيادة من قبله، ودخل فيه، حتى أكمل الله لهذه الأمة الدين، وأتم عليهم النعمة.
    وقد قال هرقل لأبي سفيان، لما سأله عن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون، قال هرقل: وكذلك أتباع الرسل. وبهذه المشابهة يتحقق المنصف أن هذا الدين الذي دعا إليه هو الحق، وأنه هو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه الآيات المحكمات، التي لا يخفى معناها إلا على من عميت بصيرته، وفسدت سريرته.
    فتأمل حماية الله ونصره لمن قبل هذه الدعوة، ونصرها، على ضعف منهم في الحال، وقلة من العدد والرجال، مع كثرة


    ص -17- ... من خالفهم من قريب وبعيد، وكثير وقليل مع الكيد الشديد، فأبطل الله كيدهم، وصارت الغلبة للحق وأهله، ومحق الله الباطل وأهله.
    المقام الثالث: وفيه حجة أيضا ومعتبر، ودليل على صحة هذا الدين، ومدكر لمن عقل وافتكر، وذلك أن الذين أنكروا هذه الدعوة، من الدول الكبار، والشيوخ وأتباعهم من أهل القرى والأمصار، أجلبوا على عداوة هذا العدد القليل، في حال تخلف الأسباب عنهم وفقرهم، فرموهم عن قوس العداوة.
    من أهل نجد: دهام بن داوس المتقدم ذكره، وابن زامل، وآل بجاد أهل الخرج، ومحمد بن راشد صاحب الحوطة، وتركي الهزاني، وزيد، ومن والاهم من الأعراب والبوادي، كذلك العنقري في الوشم ومن تبعه، وشيوخ قرى سدير والقصيم، وبوادي نجد، وابن حميد ملك الأحساء، ومن تبعه من حاضر وباد.
    كلهم مجمعون لحرب المسلمين، مرارا عديدة مع عريعر، وأولاده.
    منها: نزولهم على الدرعية، وهي شعاب لا يمكن تحصينها بالأبواب والبناء؛ وقد أشار إلى ذلك العلامة: حسين بن غنام رحمه الله، حيث يقول شعرا:
    وجاؤوا بأسباب من الكيد مزعج ... مدافعهم يزجي الوحوش رنينها
    فنَزلوا البلاد، واجتمع من أهل نجد حتى من يدعي أنه


    ص -18- ... من العلماء؛ ولما قيل لرجل منهم، وهو من أمثل علمائهم وعقلائهم: كيف أشكل عليكم عريعر وفساده، وظلمه، وأنتم تعينونه وتقاتلون معه؟ فقال: لو أن الذي حربكم إبليس لكنا معه.
    والمقصود: أن الله تعالى ردهم بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال، وحمى الله تلك القرية، فلم يشربوا من آبارها.
    وأما وزير العراق، فسار مرارا عديدة بما يقدر عليه من الجنود والكيد الشديد، وأجرى الله عليهم من الذل ما لا يخطر ببال، قبل أن يقع بهم ما وقع.
    من ذلك: أن ثويني في مرة من المرار، مشى بجنوده إلى الأحساء بعد ما دخل أهلها في الإسلام، في حال حداثتهم بالشرك والضلال، فلما قرب من تلك البلاد، أتاه رجل مسكين لا يعرف، من غير ممالأة لأحد من المسلمين، فقتله فمات؛ فنصر الله هذا الدين برجل لا يعرف، وذلك مما به يعتبر، فانفلّت تلك الجنود، وتركوا ما معهم من المواشي والأموال، خوفا من المسلمين ورعبا، فغنمها من حضر; وقد قال الشيخ حسين بن غنام في ذلك:
    تقاسمتم الأحساء قبل منالها ... فللروم شطر والبوادي لهم شطر
    ثم جددوا أسبابا لحرب المسلمين، وساروا بدول عظيمة يتبع بعضها بعضا، وكيد عظيم، فنَزلوا الأحساء، وقائدهم


    ص -19- ... "علي كيخيا" فتحصن من ثبت على دينه في "الكوت" و "ثغر صاهود" فنَزل بهم، وصار يضربهم بالمدافع والقنابل، وحفر اللغوب؛ فأعجزه الله، ومن معه ممن ارتد عن الإسلام، فولى مدبرا بجنوده.
    فاجتمع بسعود بن عبد العزيز في "تاج" وغزوه الذين معه رحمه الله; والذين معه من المسلمين أقل من "المنتفق" و "آل ظفير" الذين مع الكيخيا، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرتهم، وقوتهم، فصارت عبرة عظيمة؛ فطلبوا الصلح على أن يدعهم سعود يرجعون إلى بلادهم، فأعطاهم أمانا على الرجوع، فذهبوا في ذل عظيم; فلما قدم كل منهم مكانه، مات سليمان باشا؛ وذلك من نصر الله لهذا الدين، فأهلك الله من أنشأ هذه الدولة.
    تم قام علي كيخيا فصار هو الباشا، فأخذ يجدد آلة الحرب، فجمع من الكيد والأسباب، أعظم مما كان معه في تلك الكرة. فلما كملت أسبابه، وجمع الجموع، فلم يبق إلا خروجه لحرب المسلمين، لينتقم من أهل هذا الدين، سلط الله عليه صبيين مملوكين عنده يبيتونه، فقتلوه آخر الليل؛ فخمدت تلك النيران، وتفرقت تلك الأعوان، فما قام لهم قائمة حتى الآن.
    فيا لها من عبرة ما أظهرها لمن له أدنى بصيرة! فاعتبروا يا أولي الأبصار! فأين ذهب عقل من أنكر هذا الدين وجادل، وكابر في دفع الأدلة على التوحيد وماحل؟!


    ص -20- ... المقام الرابع: ما جرى من العبر في حرب أشراف مكة، لهذه الدعوة الإسلامية، والطريقة المحمدية، وذلك أنهم من أول من بدأ المسلمين بالعداوة، فحبسوا حاجهم، فمات في الحبس منهم عدد كثير، ومنعوا المسلمين من الحج أكثر من ستين سنة؛ وفي هذه المدة سار إليهم غالب الشريف، بعسكر كثيف، وكيد عنيف، فقدم أخاه عبد العزيز قبله بالخروج، فنَزل على قصر بسام، فأقام مدة يضرب بالمدافع والقنابل، وجر عليه الزحافات؛ فأبطل الله كيده على هذا القصر، الضعيف بناؤه، القليل رجاله، فرحل منه.
    ووافى غالبا ومعه أكثر الجنود، ومعه من الكيد مثل ما كان مع أخيه أو يزيد، فنَزلوا جميعا "بالشعرى"، فأخذ في حربهم بكل كيد، فأعجزه الله، هو ومن معه، عن ذلك البناء الضعيف، الذي لم يتأهب أهله للحرب بالبناء، ولا بالسلاح، فأبطل الله كيده، ورده عنهم بعد الإياس والإفلاس.
    فسلط الله المسلمين على من كان معه من الأعراب، خصوصا "مطير" فأوقع الله بهم في العداوة ومعهم مطلق الجربا، فهزمهم الله تعالى، وغنم المسلمون جميع ما كان معهم من الإبل والخيل، وسائر المواشي؛ فصار ما ذكرناه من نصر الله، وتأييده لأهل هذا الدين، عبرة عظيمة، وفي جملة قتلاهم حصان إبليس.
    وبعد ما ذكرناه، جد غالب في الحرب، واجتهد، لكن صار حربه للأعراب، ولم يتعد النير، فيعدو على من استضعف


    ص -21- ... ويغير، فأعطى الله أعراب المسلمين الظفر عليه في عدة وقعات، من أعظمها وقعة الخرمة على يد ربيع، وغزوه من أهل الوادي وقحطان، فهزمه الله تعالى، واشتد القتل في عسكره، فأخذوا جميع ما كان معه من المواشي وغيرها، فصار بعد ذلك في ذل وهوان.
    وفتح الله الطائف للمسلمين، وصار أميره عثمان بن عبد الرحمن، فاجتمع فيه دولة للمسلمين، وساروا لحرب الشريف، ومعهم عبد الوهاب أبو نقطة أمير عسير، وسالم بن شكبان أمير أكعل بيشة، فنَزلوا دون الحرم. فخرج إليهم عسكر من مكة فقتلوهم، فطلب الشريف المذكور منهم الأمان، فلم يقبلوا منه إلا الدخول في الإسلام، والبيعة للإمام سعود، فأعطاهم البيعة على يد رجال بعثوهم إليه، هذا بعد وقعات تركنا ذكرها كراهة الإطالة، لأن القصد بهذا الموضع: الاعتبار بما جرى لأهل هذه الدعوة، من النصر والتأييد، والظهور على قلة أسبابهم، وكثرة عدوهم وقوته، وذلك من آيات الله وبيناته على أن ما قام به هذا الشيخ في حال فساد الزمان، أنه الدين الذي بعث الله به رسله؛ وتبين أن هذه الطائفة في هذه الأزمنة، هي الطائفة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وهم على ذلك".


    ص -22- ... وقد كانت هذه الطائفة قبل ظهور الشيخ فيما تقدم، موجودة في الشام، والعراق ومصر وغيرها، بوجود السنة وأهلها، وأهل الحديث في القرون المفضلة وبعدها، فلما اشتدت غربة الإسلام، وقل أهل السنة، واشتد النكير عليهم، وسعى أهل البدع في إيصال المكر إليهم، من الله بهذه الدعوة، فقامت بها الحجة، واستبانت بها المحجة؛ فيا سعادة من قبلها وأحبها ونصرها و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الجمعة آية: 4].
    وأهل العلم من أتباع السلف، والأئمة، لهم المصنفات المفيدة في بيان التوحيد، توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، والكثير منها موجود بأيدي علماء المسلمين؛ وما علمنا أحدا بعد القرن الثامن في حال اشتداد غربة الإسلام، يذكر، بمعرفة ما عليه أهل السنة في أنواع التوحيد، أو يلتفت إلى كتبهم، ولا عرفوا الشرك الذي لا يغفره الله.
    فلذلك لم ينكر منهم منكر، ولا أخبر بوقوعه من علمائهم مخبر، حتى أظهر الله هذا النور، وشفى الله به الصدور، وظهرت كتب أهل السنة، وعظمت بمعرفتها والدعوة إليها المنة؛ يعرف ذلك من عرفه، وشكره وأحبه وقبله، فلا عبرة بمن أخلد إلى الأرض، والغفلة والإعراض والجهل.
    المقام الخامس: أن كل من ذكرنا ممن عاداهم، من أهل نجد والأحساء، وغيرهم من البوادي، أهلكهم الله، ولحقتهم


    ص -23- ... العقوبة حتى في الذراري، والأموال، فصارت أموالهم فيئا لأهل الإسلام، كما يروى عن زيد بن عمرو بن نفيل، حيث يقول:
    عجبت وفي الليالي معجبات ... وفي الأيام يعرفها البصير
    بأن الله قد أفنى رجالا ... كثيرا كان شأنهم الفجور
    وأبقى آخرين ببر قوم ... فيربو منهم الطفل الصغير
    وانتشر ملكهم، وصار كل من بقي في مكانهم سامعا مطيعا لإمام المسلمين، القائم بهذا الدين؛ فانتشر ملك أهل الإسلام، حتى وصل إلى حدود الشام مع الحجاز وتهامة وعمان، وصاروا - بحمد الله - بأمن وأمان، يخافهم كل مبطل وشيطان؛ ففي هذا معتبر لأهل الاعتبار، مع ما وقع بمن حاربهم من الخراب والدمار، واستيلاء المسلمين على ما كان لهم من العقار والديار. فلا يرتاب في هذا الدين بعد هذا البيان، إلا من عميت بصيرته، وفسدت علانيته وسريرته.
    المقام السادس: أن كل من أظهر النفاق، وأضمر الشقاق، صار مكروها مبغضا ممقوتا، وكل ما أبداه المشبهون والمموهون، من زخارفهم، وكذبهم وباطلهم وعنادهم، وفسادهم في أقوالهم، وأحوالهم انعكس عليهم المراد، وحرموا التوفيق والسداد، وصاروا مثلة، حتى استوحش منهم أكثر العباد، ومقتهم كل حاضر وباد؛ فما صار لهم باطل يظهر، ولا شبهة تذكر، اللهم إلا ما كانوا يستخفون به عن الناس - حين ظهرت


    ص -24- ... أنوار التوحيد، واستعلت وزال بها الالتباس - مخافة المقت والشناعة، حين كسدت لهم تلك البضاعة؛ وهذه العبر يعتبر بها الأريب، إذ هو من الحق وقبول العلم قريب.
    المقام السابع: أن كثيرا ممن عاداهم ابتداء، تبين له صحة ما دعا إليه هذا الشيخ، وأنه الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وأنه علم من اتبعه ما أوجبه الله عليهم وحرمه، وعلمهم مكارم الأخلاق، ونهاهم عن سفاسفها.
    فمن ذلك: ما حدثنا به عثمان بن عبد الرحمن المضايفي - لما أتى راغبا في هذا الدين - أن جاسر الحسيني الذي جلا من حرمه، لعداوة هذا الدين، سكن بغداد، ثم صار في سنين ظهور الإسلام في نجد وما والاه، حضر عند الشريف غالب مجاورا، فسمع الشريف المذكور يسب شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب.
    فقال له: يا شريف، لك علي من المعروف، ما يوجب أن أنصح لك. لا تقل هذا في الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإنه قام بنجد وهم في أسوإ حال من الفساد، والظلم والضلال، فجمعهم الله تعالى به بعد التفرق والاختلاف، وعلمهم مكارم الأخلاق، حتى ما ينبغي أن يقولوه في مخاطباتهم، وما لا ينبغي أن يقولوه من الألفاظ المستكرهة. فاحذر أن تذكره بسوء!
    وهذا الذي ذكره جاسر للشريف، اعترف به كثير؛ حتى من أهل مصر والشام، والعراق، اعترفوا بصحة هذه الدعوة


    ص -25- ... الإسلامية، والسنة المحمدية، وأكثروا الدعاء له؛ وهذا من العبر والدلالة على صحة ما جدده شيخ الإسلام من الدين، بعد ما اشتدت غربته في كل زمان ومكان، وصار من يطلب العلم ويعلمه، لا يعرف حقيقة التوحيد، ولا ما ينافيه من الشرك والتنديد، مع قراءتهم للقرآن، والأحاديث، لكن جهلوا ما هو المراد من الحق، الذي يأمرهم به رب العباد.
    فظهر الحق بعد الخفاء، وتبين ما دلت عليه الآيات المحكمات، والبراهن البينات، وتبين الحق بعد أن كان مجهولا، وعرف الباطل، فصار بهذه الدعوة مخذولا. فهذا مقام لا يخفى إلا على من جحد الحق، وكابر وعاند، ممن عميت بصيرته؛ نعوذ بالله من رين الذنوب، وموت القلوب.
    المقام الثامن: أن الله سبحانه ألبس هذه الطائفة أفخر لباس، واشتهر في الخاصة والعامة من الناس، فلا يسميهم أحد إلا بالمسلمين، وهو الاسم الذي سمى الله به عباده المؤمنين، من أصحاب سيد المرسلين، فقال جل ذكره: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [سورة الحج آية: 78]. فهذا الاسم ألحقه الله أصحاب رسوله، وألحقه هذه الطائفة، كما ألحقه إخوانهم من السابقين الأولين. فيا لها من عبرة، ما أقطعها لحجة من شك وارتاب، وما أنفعها في الاعتبار لمن أراد الحق وطلبه، وإليه أناب؛ فهذا إتمام الثمانية فاقرأها، وتدبرها سرا وعلانية.
    وقد اقتصرت فيها غاية الاقتصار، وأشرت إلى بعض


    ص -26- ... الوقائع بإيجاز واختصار. نسأل الله أن يجعلها نافعة، لمن أبداها وكتبها وانتفع بها شافعة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الاعتبار، بأن الله حفظ هذا الدين ومن تمسك به، وأيدهم بالنصر على ضعفهم وقلتهم،

    المقام التاسع: وأما الدول التركية المصرية، فابتلى الله بهم المسلمين لما ردوا حاج الشام عن الحج، بسبب أمور كانوا يفعلونها في المشاعر، فطلبوا منهم أن يتركوها، وأن يقيموا الصلاة جماعة، فما حصل منهم ذلك، فردهم سعود رحمه الله تدينا؛ فغضبت تلك الدولة التركية، وجرى عندهم أمور يطول عدها، ولا فائدة في ذكرها.
    فأمروا محمد علي، صاحب مصر أن يسير إليهم بعسكره، وبكل ما يقدر عليه من القوة والكيد، فبلغ سعود ذلك، فأمر ابنه عبد الله أن يسير لقتالهم، وأمره أن ينْزل دون المدينة. فاجتمعت عساكر الحجاز، على عثمان بن عبد الرحمن المضايفي، وأهل بيشة وقحطان وجميع العربان، فنَزلوا بالجديدة.
    فاختار عبد الله بن سعود القدوم عليهم والاجتماع بهم، وذلك أن العسكر المصري في ينبع، فاجتمع المسلمون في بلد حرب، وحفروا في مضيق الوادي خندقا، وعبؤوا الجميع، فصار في الخندق من المسلمين أهل نجد، وصار عثمان ومن معه من أهل الحجاز في الجبل فوق الخندق.
    فحين نزل العسكر أرزت خيولهم، وعلموا أنه لا طريق


    ص -27- ... لها إلى المسلمين، فأخذوا يضربون بالقبوس، فدفع الله شر تلك القبوس الهائلة عن المسلمين، إن رفعوها مرت ولا ضرت، وإن خفضوها اندفنت في التراب فهذه عبرة، وذلك أن أعظم ما معهم من الكيد أبطله الله في الحال.
    ثم ساروا على عثمان ومن معه في الجبل، فتركهم حتى قربوا منه، فرموهم بما احتسبوهم به، وما عدوه لهم حين أقبلوا عليهم، فما أخطأ لهم بندق، فقتلوا العسكر قتلا ذريعا. وهذه أيضا من العبر، لأن العسكر الذي جاءهم أكثر منهم بأضعاف، ومع كل واحد الفرود والمزندات، فما أصابوا رجلا من المسلمين، وصار القتل فيهم؛ وهذه أيضا عبرة عظيمة، هذا كله وأنا أشاهده.
    ثم مالوا إلى الجانب الأيمن من الجبال، بجميع عسكرهم من الرجال، وأما الخيل فليس لها فيه مجال، فانهزم كل من كان على الجبل، من أهل بيشة وقحطان، وسائر العربان، إلا ما كان من حرب فلم يحضروا، فاشتد على المسلمين لما صاروا في أعلى الجبل، فصاروا يرمون المسلمين من فوقهم، فحمي الوطيس آخر ذلك اليوم، ثم من الغد. فاستنصر أهل الإسلام ربهم الناصر لمن ينصره.
    فلما قرب الزوال من اليوم الثاني، نظرت فإذا برجلين قد أتيا، فصعدا طرف ذلك الجبل، فما سمعنا لهم بندقا ثارت، إلا أن الله كسر ذلك البيرق ونحن ننظر، فتتابعت الهزيمة



    ص -28- ... على جميع العسكر فولوا مدبرين، وجنبوا الخيل والمطرح، وقصدوا طريقهم الذي جاؤوا معه، فتبعهم المسلمون يقتلون ويسلبون؛ هذا ونحن ننظر إلى تلك الخيول قد حارت، وخارت.
    وظهر عليهم عسكر من الفرسان من جانب الخندق، ومعهم بعض الرجال، فولت تلك الجنود مدبرة، فتبعتهم خيول المسلمين في أثرهم، وليس معهم زاد ولا مزاد ; فانظر إلى هذا النصر العظيم من الإله الحق رب العباد، لأن الله هزم تلك العساكر العظيمة برجلين; فهذه ثلاث عبر لكن أين من يعتبر؟ فأخذوا بعد ذلك مدة من السنين.
    ثم بعد ذلك سار "طوسون" كبير ذلك العسكر الذي هزمه الله، فقصد المدينة فورا، فأمر سعود على عبد الله، ومن معهم من المسلمين أن ينهضوا لقتالهم، فوجدوهم قد هجموا على المدينة ودخلوها، وأخرجوا من كان بها من أهل نجد وعسير، فحج المسلمون تلك السنة.
    فأقبل ذلك العسكر ونزل رابغا، ونزل المسلمون وادي فاطمة; فخان لهم شريف مكة وضمهم إليه، وجاؤوا مع "الخبت" على غفلة من المسلمين، فعلم المسلمون أنه لا مقام لهم مع ما جرى من الخيانة; فرجعوا إلى الطائف، وإلى أوطانهم.
    فخاف عثمان وهو بالطائف أن يكون الحرب منهم، ومن الشريف عليه، لما يعلم من شدة عداوتهم، فخرج بأهله وترك


    ص -29- ... لهم الطائف أيضا، مخافة أن يجتمعوا على حربه، وليس معه إلا القليل من عشيرته، ولا يأمن أهل الطائف أيضا.
    فنَزل المسلمون بتربة بعد ذلك نحوا من شهر، ثم رجعوا حين نفد ما معهم من الزاد، فجرى بعد ذلك وقعات، بينهم وبين المسلمين، ولا فائدة في الإطالة بذكرها.
    والمقصود: أن استيلاءهم على المدينة ومكة والطائف، كان بأسباب قدرها الملك الغلاب.
    فيريك عزته ويبدي لطفهو العبد في الغفلات عن ذا الشان
    وفيها من العبر: أن الله أبطل كيد العدو، وحمى الحوزة وعافى المسلمين من شرهم، وصار المسلمون يغزونهم فيما قرب من المدينة ومكة، في نحو ثلاث سنين أو أربع؛ فتوفى الله سعود رحمه الله تعالى، وهم غزاة على من كان معينا لهذا العسكر من البوادي، فأخذوا وغنموا؛ فبقي لهم من الولاية ما كانوا عليه أولا، إلا ما كان من مكة والطائف وبعض الحجاز.
    وبعد وفاة سعود تجهزوا للجهاد، على اختلاف كان من أولئك الأولاد; فصاروا جانبين، جانبا مع عبد الله، وجانبا مع فيصل أخيه، فنَزل عبد الله الحناكية، ونزل فيصل تربة باختيار وأمر من أخيه له، فوافق أن: "محمد علي" حج تلك السنة، فراسل محمد علي فيصلا هناك، فطلب منه أن يصالحه على الحرمين فأبى فيصل، وأغلظ له الجواب، وفيما قال:
    لا أصلح الله منا من يصالحكم ... حتى يصالح ذئب المعز راعيها


    ص -30- ... فأخذت "محمد علي" العزة والأنفة، فسار إلى "بسل". الظاهر أنه كان حريصا على الصلح، فاستعجل فيصل بمن معه، فساروا إليه في بسل، وقد استعد لحربهم خوفا مما جرى منهم، فأقبلوا وهم في منازلهم، فسارت عليهم العساكر والخيول فولوا مدبرين؛ لكن الله أعز المسلمين فحبس عنهم تلك الدول، والخيول، حتى وقفوا على التلول، فسلم أكثر المسلمين من شرهم، واستشهد منهم القليل.
    [رجوع محمد علي إلى مصر ونزول طوسون الحناكية]
    ولا بد في القتال من أن ينال المسلم أو ينال منه; قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 140] الآيات، وقال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [سورة آل عمران آية: 146] إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 146] الآيات.
    وقد قال هرقل لأبي سفيان: فما الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، ينال منا وننال منه; فهذه سنة الله في العباد، زيادة للمؤمنين في الثواب، وتغليظا على الكافرين في العقاب.
    وأما عبد الله فرجع بمن معه، فلم يلق كيدا دون المدينة، فتفكروا في حماية الله لهذه الطائفة، مع كثرة من عاداهم، وناوأهم، ومع كثرة من أعان عليهم، ممن ارتاب في هذا الدين، وكرهه، وقبل الباطل وأحبه، فما أكثر هؤلاء لا كثرهم الله، لكن الله قهرهم بالإسلام، ففي هذا المقام عبرة، وهو: أن الله أعزهم وحفظهم من شر من عاداهم، فلله الحمد والمنة.


    ص -31- ... وبعد ذلك رجع محمد علي إلى مصر، وبعث الشريف غالب إلى إصطنبول، وأمر ابنه طوسون أن ينْزل الحناكية دون المدينة، وأمر العطاس أن يسعى بالصلح بينهم، وبين عبد الله بن سعود، ويسير له من مكة. وأراد الله أن أهل الرس يخافون، لأنهم صاروا في طرف العسكر، واستلحقوا لهم طائفة من المغاربة، وطوسون على الحناكية.
    وصار في أولاد سعود نوع من العجلة في الأمور، فأمروا على الرعايا بالمسير إلى الرس، فنَزلوا الرويضة، فتحصن أهل الرس بمن عندهم; فأوجبت تلك العجلة أن استفزع أهل الرس أهل الحناكية، فلما جاء الخبر بإقبالهم نصرة لأهل الرس، وارتحل المسلمون يلتمسون من أعانهم من حرب ما بينهم وبين المدينة، فصادفوا خزنة العسكر، فقتلوهم وأخذوا ما معهم.
    فهذا مما يسره الله من النصر من غير قصد، ولا دراية، فرجع المسلمون إلى عنيزة، والعسكر نزلوا الشبيبية قريبا منهم، ويسر الله للمسلمين أسبابا أخر، وذلك من توفيق الله ونصره، جهزوا جيشا وخيلا، فأغاروا على جانب العسكر، فخرجوا عليهم فهزمهم الله، وقتل المسلمون فيهم قتلا كثيرا، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرة من أعانهم، وقوة أسبابهم، وذلك من نصر الله لهذا الدين.
    فرجعوا إلى الرس خوفا من هجوم المسلمين عليهم،


    ص -32- ... فتبعهم المسلمون، ونزلوا الحجناوي فقدم العطاس على الأمر الذي عمد عليه محمد علي فوجد الحال قد تغيرت، فصدهم ابتداء، فامتنعوا مما جاء له؛ ثم إنهم سعوا في الصلح، والمسلمون على الحجناوي وكل يوم يجرى بين الخيل طراد، فمل أكثر المسلمين من الإقامة، فلم يبق منهم إلا شرذمة قليلة.
    فجاء منهم أناس يطلبون الصلح، فأصلحهم عبد الله رحمه الله، وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلا من أهل بيته، خوفا أن يعرض لهم أحد من المسلمين في طريقهم، فسار معهم محمد بن حسن بن مشاري إلى المدينة.
    والمقصود: أن الله سبحانه أذلهم، وألقى الرعب في قلوبهم، وحفظ المسلمين من شرهم؛ بل غنمهم مما بأيديهم، من حيث بذلهم المال في شراء الهجن فاشتروا من المسلمين الذلول بضعفي ثمنها، وهذا مما يفيد صحة هذا الدين، وأنه الذي يحبه الله ويرضاه، وهو الذي يسر أسباب نصر من تمسك به، وخذلان من ناواهم وعاداهم في هذا الدين.
    فتفكر يا من له قلب، ولو لا ما صار في أهل هذا الدين، من مخالفة المشروع في بعض الأحوال، لصار النصر أعظم مما جرى، لكن الله سبحانه عفا عن الكثير، وحمى دينه عمن أراد إطفاءه؛ فلله الحمد والمنة لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه خلقه.
    فتدبر هذه الوقائع وما فيها من الألطاف العجيبة، والدلالات


    ص -33- ... الظاهرة، على صدق هذه الدعوة إلى التوحيد والإخلاص في العبادة لله والتجريد، وإنكار الشرك والتنديد، والاهتمام بإقامة حقوق الإسلام، على ما شرعه الله ورسوله، والنهي عما حرمه الله ورسوله، من الشرك والبدع، والفساد الذي وقع في آخر هذه الأمة، لكن خفي على أهل الشقاق والعناد.
    فلو ساعد القدر وتم هذا الصلح، لكان الحال غير الحال، ولكن ما أراد الله تعالى واقع على كل حال; لكن جرى من عبد الله بن سعود رحمه الله تعالى، ما أوجب نقض ذلك الصلح; وهو أنه بعث عبد الله بن كثير لغامد وزهران، بخطوط مضمونها: أن يكونوا في طرفه وأمره. فبعثوا بها إلى محمد علي، فلم يرض بذلك، وقال: إنهم من جملة من وقع عليهم الصلح، فهذا سبب النقض.
    فأنشا عسكرا مع إبراهيم باشا، ونزلوا الحناكية، ودار الرأي عند عبد الله بن سعود، وأهل الرأي; يقولون: اضبط ديرتك، واحتسب بالزهبة، كذلك أهل البلدان، واتركوه على هيئته، فإن سار تبين لكم الرأي، وربما أن الله يوفقكم لرأي يصير سبب كسره. وجاء حباب وغصاب، يريدان أن يخلوا بعبد الله في السفر، وملازمته في مجلسه ومأكله ومشربه، ونومه وتغطيته، فأدركاه على الخروج بالمسلمين والعربان، فوصلوا الماوية، وفيها عسكر، فضربوهم بالمدفع، ووقع هزيمة وقى الله شرها، واستشهد فيها قليل من المسلمين.


    ص -34- ... وبعدها، جسر إبراهيم باشا على القدوم، فنَزل القصيم وحربهم قدر شهرين، وأيدهم الله بالنصر لما كانوا مستقيمين صابرين، وعزم على الرجوع عنهم؛ لكن قوى عزمه فيصل الدويش قاتله الله، وطمعه وخوفه، وبعد هذا صالح أهل الرس وعبد الله بمن معه على عنيزة، ورجع إلى بلده; وأشار عليه مبارك الظاهري أنه يجيء بثلاثة آلاف من الإبل عند ابن جلهم، ويجعل عليها الأشدة، ويحمل عليها كل ما كان له، ولا يدع في الدرعية له طارفة.
    ويصد مع عربان قحطان ونحوهم، وكل من كان له مروءة من بدوي أو حضري راح معه، كذلك الذي يخاف، فلو ساعد القدر لم يظفر به عدوه، وتبرأ منهم من أعانهم بالرحيل، من مطير وغيرهم؛ ولله فيما جرى حكم قد ظهر بعضها لمن تدبر وتفكر، وهذا الرأي أسلم له، والذي يريد القعود يقعد، ويكون ظهره على السعة ; ويذكر له: أنك يا عبد الله إذا صرت كذلك، صار لك في العسكر مكائد، منها قطع سابلة ما بينه وبين المدينة، وهذا الرأي سديد، ولكن لم يرد الله قبوله، لأن الأقدار غالبة، ولو قدر ذلك لكان.
    فنَزل الدرعية، وأخذوا قدر ثمانية أشهر متحصنين عنه، وهو يضربهم بالقنابل والقبوس، فوقى الله شره. وأراد الله بعد ذلك أنه يزحمهم مع أماكن خالية ما فيها أحد، لأن البلاد متطاولة، وليس فيها سور ينفع والمقاتل قليل، وانتهى الأمر


    ص -35- ... إلى الصلح، فأعطاهم العهد والميثاق على ما في البلد، من رجل أو مال، حتى الثمرة التي على النخل.
    لكن لم يف لهم بما صالحهم عليه؛ لكن الله تعالى وقي شره عن أناس معه عليهم حنانة، بسبب أناس من أهل نجد يكثرون فيهم عنده، فكف الله يده ويد العسكر، وغدروا بسليمان بن عبد الله، وآل سويلم، وابن كثير عبد الله بسبب البغدادي الخبيث، حداه عليهم، فاختار الله لهم؛ وبعد هذا شتت أهل البلد عنها، وقطع النخل، وهدم المساكن إلا القليل.
    وانتقل للحور بعسكره، وأرسل من أرسل لمصر، بعد إرسال عبد الله بن سعود رحمه الله، وتبعه عياله وإخوانه، وكبار آل الشيخ; وبعد ذلك حج، فسلط الله على عسكره الفناء، ولا وصل مصر إلا القليل. فلما وصل مصر حل بهم عقوبات أهل الإسلام، فسار على السودان ولا ظفره الله، فرجع مريضا.
    ثم إن محمد علي بعث ابنه إسماعيل، وتمكن منهم بصلح؛ فلما رأوا منه الخيانة بأخذ عبيد وجوار، أحرقوه بالنار ومن معه في بيته، ومن كان معه من العسكر، ثم بعده أرسل لهم دفتر دار، ولا ذبل منهم شيئا.
    فأما عسكر الحجاز التي وصلت إلى مصر، قبل إبراهيم باشا حسين بيه الذي صار في مكة، و عابدين بيه الذي


    ص -36- ... صار في اليمن، فسيرهم محمد علي قبل هذا الحرب، إلى موره، وجريده، لما خرجوا على السلطان، فاستمده السلطان على حربهم، فأمده بهذين العسكرين، فهلكوا عن آخرهم، ولم يفلت منهم عين تطرف.
    وذلك أن موره وجريده، في أصل ولاية السلطان، فخرجوا عليه، فهلك من عسكر السلطان، والعساكر المصرية في حربهم ما لا يحصى. وهذه عقوبة أجراها الله عليهم، بسبب ما جرى منهم على أهل الإسلام، حتى العرناووط في جبلهم، عصوا على السلطان قبل حادثة موره وجريده. وبعد هذا اشتد الأمر على السلطان، وبعث يستنصر محمد علي، فبعث لهم عسكرا كبير هم قار علي فهلكوا في البحر قبل أن يصلوا.
    ثم إن السلطان بعث نجيب أفندي لمحمد علي يطلب منه أن يسير بنفسه، فبعث إليه يعتذر بالمرض، وأن إبراهيم باشا يقوم مقامه، وقبل ذلك بعث ابنه حسين بيه، الذي سبا أهل نجد، وقتل منهم البعض في ثرمداء، قاتله الله؛ أرسل للسلطان نجيب، قبل إرسال إبراهيم باشا بعسكره الذي كان معه بنجد، وتبعه إبراهيم باشا يمده، ونزلوا موره لحرب أهلها، فأذلهم الله لهم، فقتلوا فيهم قتلا عظيما. فأما عسكر حسين بيه فما قدم مصر منهم إلا صبي.
    وأما إبراهيم باشا، فاشترى نفسه منهم بالأموال ; فانظر إلى هذه العقوبات العاجلة، التي أوقعها الله سبحانه وتعالى على


    ص -37- ... الآمر والمأمور، وأكثر الناس لا يدري بهذه الأمور. وهذا الذي ذكرناه فيه عبرة عظيمة، وشاهد لأهل هذا الدين: أن الله لما سلط عليهم عدوهم، ونال منهم ما نال، صار العاقبة والسلامة لمن ثبت على دينه، واستقام على دين الإسلام.
    ثم إن الله تعالى أوقع بعدوهم ما ذكرنا وأعظم; لكن ذكرنا الواقع على سبيل الاختصار لقصد الاعتبار،{فَاعْ َبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية: 2]. ثم إن الله أجرى على من أعانهم من أهل نجد، ممن شك منهم في هذا الدين، وأكتر الطعن على المسلمين، أن الله سبحانه وتعالى أفناهم؛ وهذه أيضا من العبر، لم يبق أحد ممن أظهر شره، وإنكاره وعداوته للمسلمين، إلا وعوجل بالهلاك والذهاب، ولا فائدة بالإطالة بعدهم، ومن سألنا أخبرناه عنهم بأعيانهم.
    وأما ظهور خالد وإسماعيل، فإنهم لما جاء الخبر بأنهم وصلوا المدينة، وخرجوا منها، استشارنا فيصل رحمه الله في الغزو والإقامة.
    فأشرت أن اخرج بالمسلمين، ويكونوا في البطينيات، من الدجاني إلى ما دونه، وينْزل قريبا من العربان، لأن أكثر رعيهم من الدهناء، ويؤلف كبارهم بالزاد، وينقل البر من سدير والوشم، وزاد الأحساء والقطيف من تمر وعيش، ويقرب منه كبار العربان بالزاد; وكذلك من معه من المسلمين، ويصير له رجال في القصيم عند من ثبت وينتظر.


    ص -38- ... فلو ساعد القدر وتم هذا الرأي، لم يقدر العسكر أن يتعدى القصيم للوشم والعارض، وخافوا من قطع سابلتهم، ولا لهم قدرة على حرب فيصل، وهو في ذلك المكان. فلو قدرنا أن بعض عسكرهم يريد أن يقصده، هلكوا في الدهناء والصمان، إذا ماج عن وجوههم يوما أو يومين; فلو قدر أن يفعل هذا الرأي لما ظفروا به، ولا وصلوا إلى بلده، لأسباب معروفة.
    لكن لما أراد الله سبحانه خيانة أهل الرياض في الإمام فيصل، وهم معه في الصريف قدم الرياض وتركها لهم خوفا منهم، فساروا على الفرع هم والذين معه، من البادية والحاضرة، وصار هلاكهم أن هجموا على الحلوة على غفلة، وأخلى أهل الحلوة البلد لهم.
    وأراد الله أن تركي الهزاني، وبعض أهل الحوطة يغيرون عليهم، وكسر الله تلك العساكر العظيمة، فيما بين قتل وهلاك، وصاروا يتتبعونهم موتى تحت الشجر، يأخذون السلاح والمال؛ والذي أغار عليهم ما يجيء عشير معشارهم، فصارت آية عظيمة.
    ورجع أقلهم إلى الرياض، وساعدهم من ساعدهم - والله حسيبهم -، وتصلبوا إلى أن جاءهم خرشد مددا. ونزل فيصل الدلم، وأشير عليه أنه ما يقعد به، ويتحصن بمن معه مر المسلمين في بعض الشعاب، التي بين الحوطة ونعام، ويجعل


    ص -39- ... ثقله وراءه، فإن حصل منهم مسير، جاهدهم بأهل تلك القرى، ولا أراد الله أن يفعل ذلك.
    فلما تمكنوا من فيصل وأخذوه، وأرسلوه إلى مصر، صار عسكرهم في ذهاب، وعذاب وفساد؛ فأوقع الله الحرب بين السلطان، ومحمد علي، ورد الله الكرة لأهل نجد، فرجعوا كما كانوا أولا، على ما كانوا عليه قبل حرب هذه الدولة، كما قال تعالى في بني إسرائيل: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُ مْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [سورة الإسراء آية: 6-7].
    فنسأل الله أن يمن علينا بالإحسان، وينفي عنا أسباب التغييرات، إنه ولينا، وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الاعتبار، بأن الله حفظ هذا الدين ومن تمسك به، وأيدهم بالنصر على ضعفهم وقلتهم،

    والمقصود بما ذكرنا هو الاعتبار، بأن الله حفظ هذا الدين ومن تمسك به، وأيدهم بالنصر على ضعفهم وقلتهم، وأوقع بأسه بهذه الدول على قوتهم وكثرتهم، وأسباب كيدهم.
    ثم إن الله تعالى أهلك تلك الدول، بما جرى عليهم من حرب النصارى؛ في بلد الروم، فكل دولة سارت إلى نجد والحجاز، لم يبق منهم اليوم عين تطرف، وكان عددهم لا يحصيه إلا الله تعالى، فهلكوا في حرب النصارى، فصارت العاقبة والظهور، لمن جاهدهم في الله من الموحدين، فجمع الله لهم بعد تلك الحوادث العظيمة من النعم، والعز والنصر، ما لا يخطر بالبال،


    ص -40- ... ولا يدور في الخيال.
    فلا يشك في هذا الدين بعد ما جرى ممن ذكرناه، إلا من أعمى الله بصيرته، وجعل على قلوبهم أكنة عن فهم أدلة الكتاب والسنة، ويعتبروا بما جرى لهذا الدين، من ابتدائه إلى يومنا هذا، وكل ما ذكرناه من الدول، والبادي والحاضر، رام إطفاءه; وكلما أرادوا إطفاءه استضاءت أنواره، وعز أنصاره.
    فهذا ما جرى على الدول التي زعم ابن منصور أن شيخنا جرها على أهل نجد، وما جرى بسبب تلك الدول، من ظهور هذا الدين، والعز والتمكين، وذهاب من ناوأهم، من هذه الدول وغيرها. فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، وهو المرجو أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا، من هذا الدين الذي رضيه لعباده، وخص به المؤمنين.
    ومن عجيب ما اتفق لأهل هذه الدعوة أن محمد بن سعود - عفا الله عنه - لما وفقه الله لقبول هذا الدين ابتداء، مع تخلف الأسباب، وعدم الناصر، شمر في نصرته، ولم يبال بمن خالفه من قريب أو بعيد، حتى إن بعض الناس ممن له قرابة به، عذله عن هذا المقام الذي شمر إليه، فلم يلتفت إلى عذل عاذل، ولا لوم لائم، ولا رأي مرتاب، بل جد في نصرة هذا الدين، فملكه الله تعالى كل من استولى عليه في حياته من أهل القرى.
    ثم بعد وفاته صار الأمر في ذريته، يسوسون الناس بهذا


    ص -41- ... الدين، ويجاهدون فيه كما جاهدوا في الابتداء، فزادت دولتهم، وعظمت صولتهم على الناس بهذا الدين، الذي لا إشكال فيه، ولا التباس، فصار الأمر في ذريته لا ينازعهم فيه منازع، ولا يدافعهم عنه مدافع؛ فأعطاهم الله القبول والمهابة، وجمع الله عليهم من أهل نجد وغيرهم، ممن لا يمكن اجتماعهم على إمام واحد، إلا بهذا الدين.
    وظهرت آثار الإسلام في كثير من الأقاليم النجدية وغيرها، مما تقدم ذكره، وأصلح الله بهم ما أفسدت تلك الدول، التي حاربتهم، ودافعتهم عن هذا الدين، ليطفئوه، فأبى الله ذلك، وجعل لهم العز والظهور، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
    فنسأل الله أن يديم ذلك، وأن يجعلهم أئمة هدى، وأن يوفقهم لما وفق له الخلفاء الراشدين، الذين لهم التقدم في نصرة هذا الدين؛ وعلينا وعلى المسلمين أن ندعو لمن ولاه الله أمرنا من هذه الذرية، أن يصرف عنا وعنهم كل محنة وبلية، ويحيي الله بهم ما درس من الشريعة المحمدية، ويصلح الله لنا ولهم القلوب، ويغفر لنا ولهم الذنوب، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
    فإن قيل: ما ذكرتموه حق، لكن الله تعالى سلط الدولة المصرية على بلدتهم، وقتلوا من قتلوا، وقطعوا النخيل، وهدموا المساكن، وأخذوا ما بأيديهم من الأموال، وعم فسادهم بنجد.
    قلنا: نعم، هذه آثار الذنوب التي حدثت، لما عمت


    ص -42- ... البلوى فيهم بفتنة الشهوات،
    وذلك بأسباب; منها:
    توفر الدنيا عليهم، وإقبالهم على طلبها، والإسراف فيها، وتمكن بطانة السوء وكثرتهم، وقربهم من الإمام، وقبول ما زينوه وزخرفوه.
    فضعف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وقل جدا، وكثر عليه الأذى، فوقع إهمال، وإعراض، فوقعت العقوبة بسبب ما وقع من التفريط، والغفلة
    ،
    وتمكن أهل الأهواء{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 49 ].
    لكن الله سبحانه منّ على كثير من أهل نجد، بحفظ دينهم، وهجرتهم إلى ما يمنعهم من هذا العدو، من أرض الله، فاعتصموا بحبل الله،
    وصارت لهم العاقبة على هذا العدو، الذي سلط بسبب ذنوب من أذنب، وتفريط من فرط، وغفلة من غفل،
    ورد لهم الكرة المرة بعد المرة،
    فالحمد لله على فضله و عدله ؛ ففي هذا أيضا عبرة عظيمة، ونعمة جسيمة،
    وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
    فالحمد لله على فضله و عدله ؛ ففي هذا أيضا عبرة عظيمة، ونعمة جسيمة،
    نعم
    فهل من معتبر اليوم بتسلط العدو بسبب الذنوب وتفريط من فرط وغفلة من غفل
    الحمد لله على فضله و عدله
    قلنا: نعم، هذه آثار الذنوب التي حدثت، لما عمت

    ص -42- ... البلوى فيهم بفتنة الشهوات،
    وذلك بأسباب; منها:
    توفر الدنيا عليهم، وإقبالهم على طلبها، والإسراف فيها، وتمكن بطانة السوء وكثرتهم، وقربهم من الإمام، وقبول ما زينوه وزخرفوه.
    فضعف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وقل جدا، وكثر عليه الأذى، فوقع إهمال، وإعراض، فوقعت العقوبة بسبب ما وقع من التفريط، والغفلة،
    وتمكن أهل الأهواء{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}
    نعم
    {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}
    الكتاب : الدرر السنية في الأجوبة النجدية

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •