قراءة تاريخية لمواقف ابن تيمية



من يتأمل في تراث شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وعلومه وفتاويه وجهاده ودعوته، يلحظ أن توصيفه (بشيخ الإسلام) لم يكن من مبالغات المدح، ولا من تحسينات الخطاب، ولا من التوسع في الأوصاف؛ وإنما من رسوخ في حقائق الدين، وشمولية لعلوم الإسلام، وفهم محكم لنصوص الشريعة، وتأصيل دقيق لقواعد الاجتماع وضوابط الافتراق حتى صار بحق إمام الأمة، وعالم الملة، وفقيه السنة، وهو المرجع في تحقيق الأدلة النقلية وتحرير الأدلة العقلية، والمعوّل عليه في إزالة الشبهة وتوضيح الاعتقاد والسنة.

لهذا وصف بشيخ الإسلام لرئاسته وريادته في علوم الإسلام تأصيلاً وتنزيلاً وتفصيلاً وتحقيقاً وتوضيحا وتحقيقًا، والأمر لم يقف عند حدود المعرفة والعلم والفهم، وإنما في العمل والانقياد والامتثال، فكانت دعوته العملية ترجمةً حقيقيةً لتأصيلاته العلمية؛ فكان (إماماً في التأصيل وفقيهًا في التنزيل).

وكانت تقريراته مع المخالفين وردوده عليهم تمثل تجسيدًا، (للحكام العدول الأخيار، فكان يحاكم الفرق والملل بالعدل، ويعاملهم بالعلم، ويشهد في أخبارهم بصدق) فقد جمع بين الإنصاف في العلم، والعدل في الحكم، والصدق في الشهادة؛ حتى صار أنموذجًا للتوسط الشرعي عند المتأخرين، وتمثيلاً لمنهج الاعتدال العلمي عند المتقدمين، لهذا ارتبط وصفه بشيخ الإسلام بحفظه لثوابت الإسلام وأصول الإيمان وحقائق الإحسان، ولتمكنه من مناظرة أهل الأديان ولبذله النصح والبيان لجميع فرق الإسلام ولسعيه في بذل الخير والنفع في جميع الأمصار.

فهذه حقيقة وصفه بشيخ الإسلام، وهو وصف جامع لفظا ومعنى، والدي يمكن تلخيصه بعبارة جامعة، وهي: (شموليةٌ وموسوعيةٌ ومنهجيةٌ في العلم والعمل والبيان في موارد الوفاق وفي موارد النزاع، وفي الاختيار والاضطرار)، وشرح هذه العبارة يحتاج إلى مجلدات، لكن الفطن يكفيه التأمل لكي يستخلص الضمائم من المدفون.

وهنا وقفة مهمة لأجلها قدمت هذه المقدمة، وهي أن بعض الدعاة يذهب إلى تاريخ شيخ الإسلام وأيامه وسيرته ليأخذ منها المواقف أو ليقف على الواجب الذي كان شيخ الإسلام ينهض به عند حلول المدهمات والمتغيرات وظهور النوازل والتحديات.

لهذا نقول لهذا الناظر في سيرة شيخ الإسلام ليأخذ منها المواقف والواجبات: عليك أولا يا رعاك الله أن تعلم الواقع الذي كان يعيشه شيخ الإسلام؛ لأن الشريعة جاءت بالأمر بالواجب والعلم بالواقع، ففهم مواقف شيخ الإسلام تحتاج إلى تصور واقعه، هذا أولاً.

الأمر الثاني؛ فإن شيخ الإسلام قد التزم في جميع مواقفه بالاحتكام إلى العلم؛ لهذا كانت مواقفه بمثابة ثمرة لعلومه، لهذا لن نفهم مواقف شيخ الإسلام إلا إذا وقفنا على الأصول العلمية والقواعد الشرعية الني خرّج شيخ الإسلام مواقفه عليها من باب تخريج الفروع على الأصول.

وأمر ثالث، وهو بيت القصيد والشاهد من هذا التطويل أو التفصيل: وهو الوقوف على منهج شيخ الإسلام في الإصلاح هذا المنهج الشامل والقائم على النظر المصلحي والفهم المقاصدي الدقيق.

لهذا كان شيخ الإسلام في منهجه الإصلاحي: عالمًا فقيهًا مصلحًا؛ لأن المنهجية في الإصلاح هي ثمرة الموسوعية في العلم والفهم.

وعندما تغيب المنهجية العلمية في الحكم على الأشياء فلا تنتظر الإصلاح إلا الإنكار هنا أو هناك تارةً بالإفراط وتارة أخرى بالتفريط.


الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ