رسالة إلى الدعاة - أين مواطن القوة في دعوتكم؟



من أسباب الثبات على الدعوة الصحيحة والنهوض بها ونشر مقاصدها بين العامة والخاصة، العلم بمواطن القوة فيها؛ إذ الجهل بمواطن القوة في الدعوة يفضي إلى الجهل بأولوياتها من جهة، وإلى عدم فهم وسائل الدعوة فهمًا دقيقًا من جهة ثانية، وإلى التعامل مع خصوم الدعوة بطريقة خطأ من جهة ثالثة؛ ولهذا كل من يريد أن ينهض بأمر ما على وجه التوفيق والسداد، عليه أن يحيط علما بنقطة القوة في هذا الأمر، وإلا كان عاجزًا أو مقصرًا في حمله أو الدفاع عنه.


وقد يكون موطن القوة في الشيء حسيا وقد يكون معنويا، وقد يكون قيمةً فكريةً أو أصلاً علميا أو سلوكا اجتماعيا، وقد ترتبط مواطن القوة بزمان أو مكان أو حال؛ لهذا بذل الباحثون والمتخصصون والمفكرون - قديمًا وحديثًا - جهودًا عظيمة في فهم مواطن القوة وتشخيصها في الأشياء التي تعاملوا معها حتى تكون قراراتهم في التصحيح أو التغيير صحيحةً أو قريبةً من الصحة.

الحفاظ على مواطن القوة

لهذا لم تنتصر الجيوش الكبيرة على أعدائها إلا من الحفاظ على مواطن القوة فيها، والعلم بمواطن القوة في أعدائها التي تصير بعد العلم بها نقطة ضعف وسبب انهيار؛ فأجهزت عليها في ساعة غفلتها من موضع قوتها: {وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}، لهذا من المصيبة أن يجهل بعض الدعاة مواطن القوة في دعوته، وخصومه يعلمونها ويستشهدون بها، وبالتالي لن يتمكن هذا الداعية من تعليم الجاهل ولا هداية الضال ولا تذكير الغافل؛ لأنه قد شُغل عن مقاصده ووظيفته وأهدافه إلى الحد الذي ربما ترك حصاد زرعه لغيره، وهذه هي مشكلة الدعوة في زماننا المعاصر، الدعاة يزرعون والأعداء يحصدون.

مواطن القوة في الدعوة الصحيحة

والشاهد من هذا أنَّ مواطن القوة في الدعوة الصحيحة التي سار دعاتها على منهج الأنبياء والسلف الصالح والأئمة الأعلام تكمن في كلمتين ومطلبين وحقيقتين:

الأولى: وضوح الحجة.

والثانية: اجتماع الكلمة.

فالدعوة الصحيحة التي عليها سلف الأمة: دعوة صحية واضحة وحججها قاطعة وأدلتها ظاهرة، يقرها العقل وتؤيدها الفطرة السليمة، وهي تدعو إلى اجتماع الكلمة والحفاظ على المصلحة وحفظ الضرورة، وهذه هي مواطن القوة في هذه الدعوة المباركة، التي ذكرها القرآن وذكر بها: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}؛ فالدعوة بينة والحجة واضحة والغاية ظاهرة، وهي العبادة والخضوع لله -تعالى-، ووحدة الأمة ووجود الجماعة واجتماع الكلمة مطلوبة ومقصودة في الخطاب؛ فتحقيق العبادة وإظهارها بالحجة غاية، والوصول إلى هذه الغاية بالجماعة وسيلة.

نقطة الضعف في الدعوة

لهذا كانت نقطة الضعف في الدعوة في أمرين:

(1) عدم وضوح حجة الدين والإسلام إلى حد التعبد بالشبهات والأهواء.

(2) وتفرق الكلمة إلى حد الاقتتال والبغضاء.

لهذا تقع المسؤولية الشرعية التاريخية على كل داعية ألا يبدأ بمشروع دعوي ولا ببرنامج علمي إلا بعد أن يعلم نقطة القوة في دعوته حتى تساهم مشاريعه وكلماته إلى توضيح الحجة واجتماع الكلمة.

انقسامات خطيرة ومنازعات كبيرة

ولكن ما نراه اليوم من انقسامات خطيرة ومنازعات كبيرة ومجادلات كثيرة في الميدان الدعوي أدت إلى (إضعاف الحجة وتمكين الشبهة)؛ ففي كل يوم دعوة جديدة، وفي كل ساعة تصورات غريبة، وفي كل ميدان أفكار جديدة؛ ثم تنقسم الجموع عليها بين مؤيّد ومعارض، وبين مادح وطاعن، وكل من الناصر والمعارض معجب برأيه فرح بتنظيراته عنيد بقوله، والموفق والمعتدل في آرائه وأحكامه، غاية ما يفعله أن يكون مدافعا عنها من تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين؛ بعد إذ كان مظهرا للحجة داعيا بها؛ فانتقلنا من مرحلة الهجوم إلى مرحلة الدفاع، ومن حال الثبات إلى حال التشكيك وهذه هي الحقيقة، وهذا هو الواقع.

لقد تجاهلنا مواطن القوة في دعوتنا، وطال علينا الأمد من طول غفلتنا، وتنافسنا على التفرق في دعوتنا؛ فكان شاغل بعض الدعاة هو الجدل في إخراج الناس من الإسلام وليس التفكير في طريقة إدخالهم أو تثبيتهم على الإسلام، وخاض آخرون في مباحث إخراج الناس من السنة حتى آلت بهم الأمور إلى إخراج العدول الثقات من دائرة السنة بشبه كاسدة وتعليلات فاسدة.

الامتحان الأشدّ

لهذا الامتحان الأشدّ يكون عندما يتجاهل الداعية أو يتغافل مواطن القوة في دعوته؛ تارة من تقصيره في فهم الحجة وتوضيحها، وتارة من وقوع الخلاف بين أهلها إلى الحد الذي يقع الاشتباه في حججها؛ فيتمكن منها الأعداء بشبهاتهم الباطلة وشهواتهم الرائجة وتنظيراتهم الهابطة؛ فلا ترى الحجة البالغة ولا الكلمة الجامعة ولا الأخوة الصادقة، وصار حظ بعضهم في الانتساب إلى الأسماء الكبيرة كأهل السنة والجماعة اللفظ دون المعنى ؛ فلا للحجة أظهروا، ولا لاجتماع الكلمة ناصروا، وقد فاتهم أن مواطن القوة في الدعوة إلى الله موجودةً في مضامين هذا الاسم؛ فالسنة موضوعة لتوضيح الحجة، والجماعة موضوعة لاجتماع الكلمة.

الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ