فقه مسلكي في شأن التشدد في حراسة الخطرات



من الحَسَنِ للمؤمن أن يكون له فقه مسلكي رشيد في شأن التشدد في حراسة الخطرات؛ فإن النية شأنها عظيم، ولا قبول للعمل إلا بها، ولكن هذا لا يعني أن ينتهي الأمر بصاحبها للوسواس، فمن الناس من يتشدد في شأن الوساوس والخطرات، ويتكلف حراسة النية وملاحظتها بشكل ينغِّص عليه عيشه وعيش من حوله، ويشتت جمعيته على الله تعالى من حيث أراد جمعها، وليس تصور هذا وتحديث النفس به شرطًا لسلوك الصراط المستقيم؛ لأن العبد إذا آمن أن الله خالق كل شيء، ومالك كل شيء، ومدبر كل شيء؛ فإنه بذلك ينتظم كل توجهات وتصورات وأعمال قلبه، وهذا كافيه في الحقيقة، وهذه التفاصيل المسلكية الدقيقة إنما تصلح لمن شغل نفسه بهذا، وانهمك فيه، وانغمس في مجاهدات القلب به.


وقلنا: تصلح له؛ لأن من اشتغل بذلك فإن لم يوفَّق لتفصيل شيخ مسدد، وإلا فيُخشى عليه من أمرين؛ أولهما: متالِفُ الوساوس، حين يخلو بفكره مع نفسه بلا قيد علم، والثاني: مزالق الأباطيل، حين يأخذ بيده شيخ خرافة أو سالك بدعة.

هذا، وبيان خداع النفس وخطراتها وتلبيسات الشيطان وتسويلاته فيها ومداخله في النيات ونحوها طيِّب وفاضل، لكن لا بد من العلم والحكمة والأناة في تناولها تأصيلًا وتطبيقًا، فقد يوفَّق الكاتب في ذلك فيجلو للقارئ رينًا كان بقلبه، أو يدفع شبهة محيرة لعقله، أو خطرةً مقلقةً للُبِّهِ، فيريح قلبه من ثقل همٍّ ليس مكلفًا به، وكم من حرف أراح صدرًا! وفي المقابل قد تقصر أفهام بعض الناس عن إدراك مقصود المؤلف، وقد يَفُوتُ المصنِّفَ قيدٌ أو تبيانٌ ونحو ذلك، بل قد لا يوفَّق أصلًا للهدى في تقعيده وتأصيله، فيضلُّ ويضل!

ومن ذلك أن الحارث المحاسبي رحمه الله لما صنف كتابه "الرعاية في الخطرات والوساوس" قرأه فئام من أهل الاجتهاد والإخلاص؛ فشوَّش عليهم جمعية قلوبهم؛ لأنه فتح أذهانهم لمجاهدة وتحقيق ودفع أمور عادية تجري على كل الناس مما لم يكلفهم الله بها، فاجتهدوا فوق طاقتهم بمراقبة تلك الخطرات والوساوس، وتنقيبها وتقليب النظر فيها، فعاد عليهم ذلك بالقنوط واليأس والفشل والكآبة، وتشتَّتت جمعيتهم، وتفرقت نياتهم، فانقطع كثير منهم عما كانوا فيه من الخير والنسك قبل دخول ذلك الكتاب عليهم!

وقد تنبه الإمام أحمد لذلك فمنع من الحارث وكتبه بل ومن مصاحبته؛ وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس (ص: 161) أن أبا زرعة سُئل عن المحاسبي وكتبه، فقال للسائل: "إياك وهذه الكتب، بدع وضلالات، عليك بالأثر؛ فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب، قيل له: في هذه الكتب عبرة، فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة، فليس له في هذه عبرة، بلغكم أن مالكًا أو الثوري أو الأوزاعي أو الأئمة صنفوا كتبًا في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟!".

وعليه يا عباد الرحمن؛ فإن التدقيق والتعمق المتكرر الشديد في النية وطبيعة النفس ووسواسها قد يُوصِل المرء للحيرة والاضطراب، ومن ثَمَّ الانقطاع والفشل، بل والخبل أحيانًا عند بعض من يقصر فهمه عن دفع واردِ فكره.

وتأملوا هذه الحروف النفيسة للشيخين: قال ابن القيم رحمه الله في أقسام النفوس وطبائعها وانقسام الناس بالنسبة إليها: "وسألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والأشغال بتنقية الطريق وبتنظيفها، فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس -وهو جب القذر- كلما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه، فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيره.

فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ، فقال لي: مَثَلُ آفات النفس مثل الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السير قط، ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله، ثم امضِ على سيرك، فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدًّا، وأثنى على قائله"[1].

بارك الله لي ولكم...



[1] انظر: المدارج (2/ 313، 314)، مجموع الفتاوى (2/ 479)، المستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 229).





منقول