الدعاء هو العبادة









كتبه/ حنفي مصطفى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الدعاء من أعظم العبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه -عز وجل-، بل أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه هو العبادة؛ ففي حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ). ثُمَّ قَرَأَ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أفْضَلُ العِبادَةِ الدُّعاءُ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).

وذلك لأن الدعاء يشتمل على عبادات متنوعة، منها:

1- عبادات قلبية: من الحب، والخوف، والرجاء، والخشوع، والإنابة، والتضرع، واليقين، والمسكنة بين يدي الله -تعالى- بخضوع القلب، والتوكل، والرغبة، والإخلاص.

2-عبادات قولية: من الثناء على الله -تعالى-، والحمد، والتمجيد، والتعظيم، وذكره -جلَّ وعلا- بما يليق به من المحامد، وصفات الكمال ونعوت الجلال، وكذلك الذكر؛ فالدعاء ذكر لله -تعالى- بما فيه من التوسل له -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وكذلك من المسألة والطلب، والإلحاح في السؤال، وهكذا...

3- عبادات بدنية: من خضوع الجوارح، وتذللها وتضرعها عند الدعاء، ورفع اليدين، وانكسار الجوارح، فخضوع الجوارح علامة التذلل والتضرع والمسكنة بين يدي الله -تعالى-، والتوجه إلى القبلة وسكون الجوارح عند الدعاء، وهكذا...

والدعاء قد أمر الله -تعالى- به في كتابه، أمر عباده المؤمنين، بل أمر به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فقال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186)، وقال الله -تعالى-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) (الأعراف:55).

ووصف الله -عز وجل- أنبياءه ورسله، فقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء:90)؛ فالأنبياء والمرسلين يدعون الله -تعالى-، وعندهم من الرغبة والرجاء فيما عند الله -تعالى- من الخير والنعمة، وعندهم من الرهبة والخشوع من الله -تعالى- ما تنكسر به قلوبهم، وتخضع وتخشع به جوارحهم عند الدعاء.

ولما كان الدعاء هو العبادة كان له الصلة الوثيقة بالإيمان بأسماء الله، وصفاته، وأفعاله، فإن الداعي يدعو الله -تعالى- وهو يؤمن ويعتقد أن لله -تعالى- الأسماء الحسنى، والصفات العليا، فهو يؤمن بأن الله -تعالى:

1- قدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء: فهو يدعو الله معتقدًا كمال قدرته على إجابة دعائه، فيدعو وهو مطمئن موقن على ثقة تامة بإجابة دعائه؛ لكمال قدرة الله -تعالى- على إجابة دعائه وإعطائه ما سأل من الخير والرحمة والرزق، وكذلك القدرة الكاملة التامة على إهلاك الكافرين والظالمين، والجبابرة والطغاة.

2- الداعي يدعو الله الكريم، الجواد الذي يعطي عطاءً لا ينفد ولا ينتهي؛ لكمال كرمه وجوده، فهو يدعو الكريم البر الرحيم، وعنده من الرجاء في كرمه وجوده، وبره وإحسانه ما لا يُحد، فربه -تعالى- كريم عظيم الكرم، جواد عظيم الجود، موصوف بالكرم والجود -سبحانه وتعالى-.

3- والداعي يدعو الله المجيب، السميع، الملك، الغني، المغني، الواسع، الوهاب، الرزاق، يدعو مَنْ له الأسماء الحسنى والصفات العليا؛ فهو يؤمن ويعتقد بأن الله -تعالى- له هذه الأسماء والصفات فهو المجيب لمن دعاه، سميع الدعاء، الملك الغني فهو يعطي عطاءً لا ينتهي ولا ينفد، ولو أعطى جميع خلقه ما سألوه ما نقص من ملكه شيء -جلَّ وعلا-، وهو الواسع في عطائه وكرمه، الوهاب أي: كثير الهبات والنعم، كثير الجود والكرم، عظيم الفضل والبر والإحسان، فعطاؤه -جلَّ وعلا- بكلمة "كن"، فيكون ما أراد الله -عز وجل-.

فالداعي ما دعا الله -تعالى- وسأله، وتذلل بين يديه وخضع له، وخشعت له جوارحه وانكسر بين يديه قلبه، وذل لسانه لربه بالثناء والمدح والسؤال والطلب؛ إلا لأنه يعتقد ويؤمن بأن لله -تعالى- الأسماء الحسنى والصفات العليا، فهو يتوسل بها ويسأل بها، قال الله -تعالى-: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) (الأعراف:180).

والدعاء هو العبادة؛ لعلو منزلته وسمو مرتبته عند الله -تعالى-؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

وينقسم الدعاء إلى قسمين أو نوعين:

1- دعاء الثناء والمدح: وهو ما فيه من الثناء على الله -تعالى- بصفات كماله ونعوت جلاله، والحمد لله -تعالى-، وذكره -جلَّ وعلا- بالتعظيم والتمجيد، مثل: دعاء التوجه في الصلاة: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله غيرك"؛ فهذا دعاء ثناء ومدح، وحمد لله -تعالى-.

2- دعاء السؤل والطلب: وهو المسألة، فبدعاء العبد لربه وطلبه إياه وسؤاله له ما ينفعه في دنياه وآخرته، ودفع ما يضره، وكشف ما ألم به؛ فيكون هذا النوع من سؤال الله -تعالى-؛ لحصول مرغوب ودفع مرهوب، ويُسمى: دعاء السؤال والطلب.

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو الله -تعالى-، فأحيانًا يدعو دعاء الثناء والمدح كما ورد في دعاء التوجه في الصلاة والركوع، وكذلك يدعو دعاء المسألة والطلب كما ورد في دبر الصلوات والسجود، وأحيانًا يجمع بينهما كما في دعاء سيد الاستغفار يبدؤه بالثناء والمدح، وهو النوع الأول من الدعاء، ويختمه بدعاء المسألة والطلب، وكلا النوعين دعاء عبادة.

والدعاء عبادة سهلة ميسورة، مطلقة، غير مقيدة لا بمكان ولا زمان، ولا حال، فهي في كل الأحوال والأزمنة، والدعاء وظيفة العمر، وهو مع المسلم في أول منازل العبودية وأوسطها وآخرها؛ ليعين العبد دائمًا في الالتجاء والافتقار إلى ربه -جلَّ وعلا-، وملازمة الدعاء أخذ بأسباب رفع البلاء ودفع الشقاء، ونزول الرحمات، واستجلاب النعم الظاهرة والباطنة، وحصول النصر والعز والتمكين، ورفع الدرجات في الدنيا والآخرة، فلله ما أعظم شأن الدعاء وأعظم فضل الله ونعمته على عباده به!

والله -تعالى- يحب الملحين في الدعاء؛ لما في الإلحاح من إظهار العبودية، والحاجة والافتقار إلى ربه -جلَّ وعلا-، والدعاء عبادة وإن لم يُستجب للعبد، ولكن يعبد الله بالدعاء.

وللعبد مع الدعاء ثلاثة أحوال:

1-إما أن يستجاب له فيُعطى ما سأل.

2- أو يُدفع عنه من البلاء والشدة بقدر ما دعا به من الخير.

3- أو يُدخر له يوم القيامة في ميزانه؛ فيفرح به يوم القيامة.


وقد تناثرت نصوص الشرع المطهر على الترغيب في الدعاء بما هو نهاية في إظهار الذل والافتقار للخالق -جلَّ وعلا-، وأن العبد لا يستغني عن ربه طرفة عين، ولا خير إلا من عنده -جلَّ وعلا-، ولا دُفِع مكروه إلا بفضله -جلَّ وعلا-.

فنسأل الله -تعالى- من فضله ونعمه أن يمن علينا بعفوه وكرمه، وجوده وبره وإحسانه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.