ما أجمل الاجتماع لا الافتراق والتلاحم لا التلاسن


يعرفُ الناسُ اليومَ كثيرًا من أمور الدِّين ومسائله الشرعيَّة، لاسيَّما فيما يتعلَّق بالحقوقِ لخاصَّة الناس والعوام، والواجبات للأقارب والأرحام، أسْهَم في ذلك انتشار العِلم، وزِيادة المحصول المعرفي، وسُهولة الحصول على المعلومة في زمن المعرفة.


وفي الوقتِ الذي قَلَبَ فيه كثيرٌ من الناس الصورَ الجميلة، وعَكَسوا الاتجاهاتِ السليمةَ، وخالفوا الطرقَ الصحيحة في التعامُل مع بعضهم في أشْقَى صور التطبيق الصحيح لمَا تعلَّموه، وما هو صحيح ليعملوه، فمع إدراكنا التام لحُرْمة كثير من الأفعال والتصرُّفات، إلاَّ أنَّنا ما زِلنا نراها ونسمعها، بل نتقبَّلها ولا نكاد نُنكرها، وربما وقَعْنا فيها، وكأنَّ العلم صار سجينًا في صفحاتِ الكتب، وحبيسًا في ورقات الصحف، حتى مع سماعِ البعض لكثيرٍ من الخطب والمحاضرات، والدروس والعظات، فإنَّ تأثرهم بما فيها تأثُّرٌ وقتي، وعمَّا قليل تراهم يَجْمَحون إلى تلك الأخطاء الشنيعة، والتناقضات القبيحة! وكأنهم لم يسمعوا شيئًا مِن ذلك كله، ولم يعقدوا العزمَ على عدم العودة لأخطائهم وسقطاتهم؛ ليعاودوا بيْعَ علومهم ومعارفهم في سوق المصالِح، متناسين معها الاقترابَ أكثر مِن الأقارب المنسيين في خضمِّ المزاعم الزائِفة، والترديد الدائم لكلمة "مشغول"، وقد علِم الجميعُ بأنَّ الشغل لا يَنتهي، ولن ينفد، وأنَّ أصحاب القبور قد وُضِعوا في قبورهم وهُم لم يكملوا أشغالَهم!

لقدْ أنستنا هذه الدنيا بمشاغلها أنفسَنا وحَرَمتْنا من أن نحسن إليها، وأن نَزيد في رصيدها مِن الحسنات بسؤالٍ عن شيخ كبير، أو يتيم صغير، وتفقد أحوال أرْمَلة مكلومة، أو مُطلَّقة محرومة، ومنعتْنا من زيارة أقاربِنا بعدَ أن تعقَّدتْ نفوسنا، وتشابكتْ ظنوننا، ورُحْنا نشغل أنفسنا بصغائرِ الأمور، متَّبعين أهواءنا التي غيَّرتْ كثيرًا مِن حياتنا البسيطة؛ فجعلتْها أكثر انشِغالاً، وأكبر تعقيدًا، مع عِلمنا بالصواب، لكنَّنا نتجاهله مِن أجل أنْ نلفتَ انتباه الناس إلينا، أو أن نظنَّ مخطئين بأننا قد انتصرْنا لأنفسنا حين انصرفنا عن الناس إلى أنفسنا، فصار هَمُّ الكثيرين منَّا هو الانطلاقَ خلف مصالحهم، دون النظر في حال مَن حولهم مِن الناس، مع أنَّ الحياة بالإيثار حياةٌ جميلةٌ تُشعر الإنسان بإنسانيته وسموِّ نفسه.

ولا يظنّ ظانٌّ بأنَّ طِيبته وحِرْصه على خِدمة الناس، والسعي مِن أجل إسعاد من حوله، أمور تدلُّ على الضَّعف، وإنْ كانت هذه نظرةَ كثير مِن الناس الذين يُعانون مِن الضعف الحقيقي، والجهل النفسي؛ لأنَّ رُقيَّ الأخلاق ورِفعتَها صفات الإنسان الحق، وعلى الإنسان أن يبدأَ بنفسه فيصلحها، دون اكتراثٍ لما يقوله الناس عنه، فلا يوجد إنسانٌ بلا أخطاء، لكن الخطأ هو الإصرار على الخطأ، أو التأثُّر بالنظرة الخاطِئة الصادِرة مِن كثير مِن ضعاف النفوس.

إنَّ رسمَ البَسْمَة على شِفاه المحزونين، وغرْس الفَرْحة في قلوب المحرومين، أعمال لا يُتقنها إلاَّ أناسٌ تهذَّبَتْ نفوسُهم بقِيم الإسلام الراقية، وتربَّت عقولُهم بأخلاق الإنسانيَّة السامية، ونَأَتْ أفئدتُهم عن قسوة الصخور الجامدة، وهذا هو الإنسان الذي يُدرِك مدى حاجته لمَن حوله، مهما بلَغ شأنه، ومهما علا قَدْرُه!

فلنبتعدْ عن تصيُّد الأخطاء، وليكُنْ هَمُّنا جميعًا الاجتماع لا الافتراق، والتلاحُم لا التلاسُن، فما أحوجَنا إلى الالتفاف حولَ بعضنا! وما أجملَنا حين نلتزمُ بمسؤولياتِنا نحو دِيننا ووطننا ومجتمعنا، نحن في وقت امتحانٍ لِصدق ولائنا لدِيننا الذي يأمرنا بضرورةِ الالتفاف حولَ بعضنا مِن أجل قوتنا.

______________________________ _____________________
الكاتب: د. ماجد محمد الوبيران