عروة بن الورد: أمير الصعاليك أو الصعلوك النبيل


المصطفى المرابط






في هذا المقال الأدبي سنتعرَّف على واحدة مِن أعظم شخصيات الشِّعر العربيِّ القديم، شاعر ترَكَ بصمةً واضِحةً في سجلِّ الشِّعر الجاهلي؛ لما عُرفَ به مِن إنسانية ونبْل وتضحيَة وفَناءٍ للذات ونُكرانٍ لها في سبيل الإنسانية والحياة والعدل والمُساواة، لقد غيَّر عُروة بنُ الوردِ أميرُ الصَّعاليك نظرة العالم لهذه الشريحة المهمَّشة البائسة والمعذَّبة، فهو لم يقمْ بأعمال الإغارة والسلب والنَّهبِ مِن أجل نفسه أو بغيةَ الاغتناء وتحصيل الثروة، بل كانت مُغامراته وإغاراته من أجل جماعة الفقراء التي كانت تأتي عنده كلما اشتدَّ بها الحال وضاق بها العيش، كان ينهَب الأغنياء ويَمنحُ الفُقراء ويُساعدهم.



اسمه ونسبُه:

هو عُروة بن الورد بن زيد، وقيل: ابنُ عُمر بن زيد بن عبدالله بن ناشب بن هريم بن لديم بن عوذ بن عالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الحريث بن غطفان بن سعد بن قَيس بن عَيلان بن مضر بن نزار.



وهو شاعر مِن شُعراء الجاهلية، وفارس مِن فرسانها، وصعلوك مِن صعاليكها المعدودين المقدَّمين الأجواد، وكان يلقَّب بعروة الصعاليك؛ لجَمعِه إياهم، وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم، ولم يكن لهم مَعاش ولا مغزى، وقيل: لقِّب بعروة الصعاليك لقوله:


لحى اللهُ صُعلوكًا إذا جنَّ ليلُه

مضى في المشاشِ آلفًا كلَّ مجزَرِ



يعدُّ الغِنى مِن دَهرِهِ كلَّ ليلةٍ

أصابَ قِراها مِن صَديقٍ ميسَّرِ



وللهِ صُعلوكٌ صفيحَةُ وَجهِهِ

كضَوء شِهابِ القابِسِ المُتنوِّرِ[1]





أما أمُّه، فليس ثمة من الأخبار ما يشير إليها، ولكنَّ عروةَ نفسه قد كفى الدارسين مشقَّة البحث عنها؛ إذ يذكر في شعره أنها من نهد، من قضاعة، غير أن ما يلفت النظر في حديثه عن أمه، أنه دائم السُّخط على تلك الصِّلة التي ربطت بين أبيه وأمِّه، ويَهجو أخواله هجاءً مرًّا؛ ربما لأن قبيلة نهد كانت أقل شرَفًا مِن عبْس[2].



وقد امتاز عروة بأنه أضفى على الصعلكة نوعًا مِن الاحترام والتقدير؛ فقد كاد يجعل منها تيارًا فكريًّا يُترجِم رؤيةً وفلسفةً خاصة في الحياة، تحلَّى بمكارم الأخلاق من سخاء، كما اضطلع بمسؤولية تفريج الكربات وضوائق العيش عن كل محتاج ألمَّت به الشدائد؛ من أجل ذلك قال فيه معاوية بن أبي سفيان: "لو كانَ لعُروةَ بنِ الورد ولد، لأحببتُ أن أتزوَّج إليهم"[3]، وقد سارت بذكر أحاديثِ كرَمِه الرُّكبان، حتى قال عبدالملك بن مروان: "مَن زعَم أنَّ حاتمًا أسمَحُ الناس فقد ظلم عروة بن الورد"، كما أن الأصمعي قد وصفَه بأنه شاعر كريم، وهي في الحقيقة خصال وشهادات لا أهمية لها في ذِكرها ما دامتْ أخبار عروة نفسها تفيض بأحاديث كرمه.



كما أنَّ أشعاره التي ينطوي عليها ديوانه توحي بروح التضحية والفناء في سبيل إسعاد الفقراء والمظلومين، التي كانت تجتاح عمق هذا الشاعر، الفارس النبيل.



يقول عروة بن الورد:


إنِّي امرؤٌ عافِي إِنائي شِركَةٌ

وأنتَ امرؤٌ عافِي إنائك واحِدُ



أتَهزَأُ منِّي أنْ سمنتَ وقد تَرى

بجِسميَ مسَّ الحقِّ، والحقُّ جاهِدُ



أقسِّمُ جِسمي في جُسومٍ كَثيرةٍ

وأحسُو قَراحَ الماءِ، والماء باردُ[4]





وبسبب هذه الأبيات وما تُحدثه من أثر في نفس قارئها ومتلقِّيها، قال عبدُالملك بن مروان: ما يسرُّني أن أحدًا من العرب ممَّن ولدَني لم يَلدْني، إلا عروة بن الورد[5].



كان عروة بن الورد يَكره القعود ويَعتبرهُ خذلانًا وضعفًا في النفس، وفي مقابل ذلك كان يشجع على الخُروج والسَّير في الأرض من أجل الإصابة من خيراتها، وفي الأخبار أن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب قال لمعلم ولده: لا تروهم قصيدة عروة بن الورد التي يقول فيها:

دَعيني للغِنَى أَسعى فإني رأيتُ النَّاسَ شرهُمُ الفَقيرُ[6]



ويقول: إن هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم.



وهكذا فقد كان عروة بن الورد العبسي من أهل نجد، ومِن دهاة العرب وشُجعانها الموصوفين، ترَكَ اسمَه خالدًا في سجل الشعر العربي القديم، وفي سجل التاريخ العربي بشكل عام؛ ذلك أن رؤيته لمجتمعه وفلسفته العميقة في حل مشاكل الحياة، قمينةٌ بالدراسة والبحث وإعادة القراءة، ليس فقط من قِبَل الأدباء والنقاد واللغويِّين، ولكن أيضًا مِن طرف المنظرين للعلوم السياسية والاجتماعية والقانونية، إنه كان حالة فريدة في مجتمع جاهلي يَحتكم لمنطق حق القوَّة لا قُوَّة الحق.



وفاته:

لقد توفي عروة بن الورد مقتولاً في بعض غاراته، قتله رجل من طيهة، وكان ذلك قبل الإسلام بست وعشرين سنة في 596 م؛ وذلك حسبما ذكره "فانديك" في اكتفاء القنوع (مصر 1313 ص 334).



أما شيخو في شعراء النصرانية (ص: 912)، فإنه قال: كانت وفاة عروة بن الورد قبل الهجرة بقليل نحو سنة 616 م[7].



ديوانه:

يذكر ابن النديم أن شعر عروة قد جمعه اثنان من الرواة: الأصمعي وابن السكِّيت، ولكن لم يصل إلينا إلا الثاني، وقد طبع هذا الديوان عدة مرات، طبعه "نولدكيه" في جوتنجن سنة 1293 هجرية مع مقدِّمة وتعليقات وترجمة ألمانية، ثم طبع مرة أخرى في المطبعة الوهبية في مصر سنة 1293 هجرية في مجموع مشتمل على أربعة دواوين أخرى، هي دواوين: النابغة الذبياني، وحاتم الطائي، وعلقمة الفحل، والفرزدق، تحت اسم: مجموع مشتمل على خمسة دواوين من أشعار العرب، وديوان عُروة فيه مختلف في ترتيبه عن طبعة نولدكيه، وفي أول ترجمة عروة نقلٌ عن الأغاني دون إشارة إلى ذلك، ثم طُبع هذا المجموع مرة أخرى في بيروت بالمطبعة الأهلية بدون ذكر لتاريخ الطبع، ويبدو أن هذه الطبعة منقولة عن الطبعة المصرية، وإن يكن صاحبها يَذكُر في أولها أنها "طبعة جديدة مصحَّحة ومنقحة، مقابلة على عدة نسخ، مرتبة على الحروف، مضاف إليها كثيرٌ من شعره مما تفرَّق في دواوين الأدب".



وأدرج لويس شيخو ديوان عروة مع شرح ابن السكيت في شعراء النصرانية، وأضاف إليه ما ورد في شرح التبريزي على حماسة أبي تمام، مع بعض أخبار منقولة عن الأغاني.



ثم طبعه مرة أخرى ابن أبي شنب الأستاذ بكلية الأدب بالجزائر، بمطبعة جول كرنبل سنة 1926 هجرية، وأضاف إليه جملةً من شعره مما لم يُذكر فيه، وشرحًا على الأبيات يكمل به شرح ابن السكيت.



ومن ديوان عروة نسخة خطية في دار الكتب المصرية تحت رقم 5084 (أدب)، وهي أيضًا من جمع ابن السكِّيت وشرحه، وهي صورة من ديوانه المطبوع[8].





[1] الأغاني؛ لأبي الفرج الأصفهاني، المجلد الثاني، القسم الرابع (ص: 358).




[2] الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي؛ يوسف خليف (ص: 322).





[3] ديوان عروة بن الورد بشرح ابن السكيت (ص: 12).




[4] الأغاني؛ لأبي الفرج الأصفهاني، المجلد الثاني، القسم الرابع (ص: 358).




[5] الأغاني؛ لأبي الفرج الأصفهاني، المجلد الثاني، القسم الرابع (ص: 359).




[6] الأغاني؛ لأبي الفرج الأصفهاني، المجلد الثاني، القسم الرابع (ص: 359).




[7] شرح ديوان عروة بن الورد؛ لابن السكيت (ص: 6).




[8] الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي (ص: 160 و161).