{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}



- ملاحظ مسجدنا (سيف الإسلام) مجتهد في عمله، يؤدي واجباته وأكثر، لا يتأخر عن خدمة أحد، رغم أنه يحتاج المال لسداد الدين الذي أخذه حتى يتمكن من القدوم إلى الكويت، راتبه سبعون دينارا، ودينه سبعمائة دينار!


- يجلس كل يوم بين المغرب والعشاء في الركن الخلفي من المسجد يساعد أحد أبناء جلدته على قراءة القرآن من المصحف، لِأعرفَ بعد ذلك أنه كان يؤمّ المصلين في قريته ويخطب بهم الجمعة! ازدادت مكانته في قلبي.

- كان يقرأ صديقي من سورة الجمعة. {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجمعة:8). كان ذلك بينما كنت أمشي في محيط الحرم الداخلي للمسجد أقرأ القرآن من المصحف.

- أخذت أتفكر في هذه الآية، الناس يفرون من الموت، وهو ملاقيهم، يفرون وكأنه وراءهم، وفي الحقيقة هم بفرارهم يسعون إليه؛ لأنه أمامهم! قررت أن أجلس وأبحث في تفسير هذه الآية ومثيلاتها؛ ذلك أن لدينا حاسوبا في مكتبة المسجد حملنا عليه المكتبة الشاملة كاملة، ووجدت هذه الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (آل عمران:156).

{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران:168).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} يعني المنافقين، {وقالوا لإخوانهم} يعني النفاق أوفي النسب في السرايا التي بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بئر معونة، {لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} فنهى المسلمين أن يقولوا مثل قولهم. {أو كانوا غزى} غزاة فقتلوا، والغزى جمع غاز (مفرد منقوص) لا يتغير لفظها في رفع وخفض.

- والضرب في الأرض هو السفر؛ فالضرب مستعمل في السير؛ لأن أصل الضرب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل، فأطلق على السفر للتجارة في قوله -تعالى-: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} (المزمل:20)، وعلى مطلق السفر كما هنا، وعلى السفر للغزو كما في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (النساء:94).، وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (النساء:101)، والظاهر أن المراد هنا السفر في مصالح المسلمين؛ لأن ذلك هو الذي يلومهم عليه الكفار، وقيل: أريد بالضرب في الأرض التجارة.

{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجمعة:8).

- أمر الله -سبحانه- رسوله أن يقول لهم:إن الفرار من الموت لا ينجيهم وأنه نازل بهم، فقال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} لا محالة، ونازل بكم بلا شك، ووصف الموت بـ(الذي تفرون منه) للتنبيه على أن هلعهم من الموت خطأ، وأطلق الفرار على شدة الحذر، وإعادة (إن) الأولى لزيادة التأكيد والإنباء بما كانوا يعملون كناية عن الحساب عليه، وهو تعريض بالوعيد.

- قوله -تعالى-: {الذين قالوا لإخوانهم} معناه لأجل إخوانهم، وهم الشهداء المقتولون من الخزرج، وهم إخوة نسب ومجاورة، لا إخوة الدين، أي قالوا لهؤلاء الشهداء: لو قعدوا، أي بالمدينة ما قتلوا، وقيل: قال عبدالله بن أبّي وأصحابه لإخوانهم، أي لأشكالهم من المنافقين: لو أطاعونا، هؤلاء الذين قتلوا، لما قتلوا، وقوله: {لو أطاعونا} يريد في ألا يخرجوا إلى قريش.

- فرد الله عليهم بقوله: {قل فادرؤوا} أي قل لهم يا محمد: إن صدقتم فادفعوا الموت عن أنفسكم، والدرء الدفع، بين بهذا أن الحذر لا ينفع من القدر، وأن المقتول يقتل بأجله، وما علم الله وأخبر به كائن لا محالة.

- ختم ذلك كله بما هو جامع للغرضين في قوله -تعالى-: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران:185)؛ لأن المصيبة والحزن إنما نشأ على موت من استشهد من خيرة المؤمنين، يعني أن الموت لما كان غاية كل حي فلو لم يموتوا اليوم لماتوا بعد ذلك فلا تأسفوا على موت قتلاكم في سبيل الله، ولا يفتنكم المنافقون بذلك، ويكون قوله بعده: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.

- نهاية الأجر في نعيم الآخرة، ولذلك قال: {توفون أجوركم} أي تكمل لكم، وفيه تعريض بأنهم قد حصلت لهم أجور عظيمة في الدنيا على تأييدهم للدين: منها النصر يوم بدر، ومنها كف أيدي المشركين عنهم في أيام مقامهم بمكة إلى أن تمكنوا من الهجرة.

- والذوق هنا أطلق على وجدان الموت، وشاع إطلاقه على حصول الموت، قال -تعالى-: {لا يذوقون فيها الموت} (الدخان:56) ويقال ذاق طعم الموت. والتوفية: إعطاء الشيء وافيا. والأجور جمع الأجر بمعنى الثواب، ووجه جمعه مراعاة أنواع الأعمال، ويوم القيامة يوم الحشر سمي بذلك؛ لأنه يقوم فيه الناس من خمود الموت إلى نهوض الحياة.

د. أمير الحداد