من أسباب المحبة: الخلوة به وقت نزوله، ومجالسة المحبين









كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا مع الأسباب الجالبة للمحبة التي ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله-.

8. الخلوة به -عز وجل- في وقت النزول الإلهي:

قال -رحمه الله-: "الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدب لأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة"، "وقت النزول الإلهي" أي في ثلث الليل الأخير أو في شطره، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في ذلك منها: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَنْزِلُ رَبُّنَا ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ـ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟) (رواه البخاري ومسلم)، وفي رواية لمسلم: (إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ يَنْزِلُ الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ).

وفي الخلوة يكون العبد بعيدًا عن الرياء، بعيدًا عن شواغل الدنيا، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) (رواه البخاري ومسلم)، فإذا كان بينه وبين الله -عز وجل- هذه الصلة ولم ينشغل بغيره كان لذلك أعظم الأثر في زيادة المحبة والإيمان في قلبه.

وقوله -رحمه الله-: "والوقوف بالقلب"، فالعبد يقف بين يدي الله بقلبه وروحه، بدنُه في الأرض، لكنه واقف بين يدي الله -سبحانه وتعالى- متضرع خاشع، يتلو كلام الله، ويناجيه ويكلمه فيما بينه وبينه، يستشعر هذه الصلة الخاصة بينه وبين ربه -عز وجل- فقط، وهذا من أعظم ما يزيل عن القلب آثار الرياء والسمعة وتعلقه بالخلق، فإذا كان الإنسان يتلو كلام الله -عز وجل-، ويناجي ربه بدعائه، ويستشعر وقوفه بين يدي الله، معظمًا له، مشاهدًا لملكه وقدرته، وأمره وحكمه -سبحانه وتعالى-؛ فإن هذا مما يزيد انكساره وذله لله -سبحانه وتعالى-.

وقوله -رحمه الله-: "والتأدب بأدب العبودية بين يديه"، فلا يتكلم أثناء المناجاة بما لا يجوز، كمن يجعل مناجاته مع الله كالمناجاة مع الصديق أو المعشوق زاعمًا أن ذلك من شدة المحبة، لكن التأدب بأدب العبودية أن يتأدب في كلامه بأدب الشرع، ولذا كانت الأدعية القرآنية -الواردة على ألسنة الأنبياء والصالحين- والأدعية النبوية أرفعَ أنواع الأدعية، وأعلى أنواع المناجاة، وأفضل ما يكلم العبد به ربه -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -رحمه الله-: "ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة"، قال الله -عز وجل-: (وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات: 18)، وقال: (وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ) (آل عمران: 17)، فهذا الوقت من أعظم الكنوز الغالية لو قدَّره الإنسان حق قدره، وهو من أعظم الأسباب الجالبة لحب الله -سبحانه وتعالى-، فالعبد المؤمن يستغل هذا الوقت في عبادة الله -عز وجل- بين التلاوة والذكر والاستغفار.

9. مجالسة المحبِّين الصادقين:

قال -رحمه الله-: "التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيدًا لحالك ومنفعة لغيرك"؛ وذلك لأن اهتمامات الإنسان تتأثر كثيرًا بمن حوله، فحين يجالس الإنسان من يهتمون بالمال يتكلم معهم في المال شاء أم أبى،كذلك عندما يجالس من يهتمون بالكرة يتكلم معهم في الكرة ويسمع معهم ـ اضطرارًا ـ ما يشغلهم في هذا الباب، ويظل الإنسان يغرق ويغرق في مثل هذه الأمور، بخلاف ما إذا جالس المحبين لله -عز وجل- الصادقين في حبهم، والتقط أطايب ثمرات كلامهم من كلماتهم المؤثرة المعبرة عما في قلوبهم من حب، مع العلم أنه ليس كل كلام الصالحين كذلك؛ فقد يتكلم فيما يتعلق بالدنيا، لكن قد يقول أحدهم كلمة فتجد لها أثرًا عجيبًا مؤثرًا في القلب، كما هو شأن كلمات السلف من الصحابة –ري الله عنهم- والتابعين؛ لأنها خرجت من القلوب، فسَرَت عبر الأزمنة والأمكنة حتى وصلت إلى من شاء الله من عباده المؤمنين فوجد أثر ذلك في قلبه.

وهذا الكلمات ينبغي أن تأخذها وتلتقطها وتحفظها وتعمل بما دلَّت عليه، كما قال -رحمه الله-: "تلتقط أطايب" أي: أفضل "ثمرات كلامهم"، ولنضرب مثالاً لذلك من كلمات الحسن البصري -رحمه الله-، قال -رحمه الله-: "إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، إنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل"، وقال أيضًا: "إن قومًا خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحسن الظن بالله، وكذبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل"، فمثل هذه الكلمات تجد عليها أثر نور النبوة وتتأثر بها؛ لأنهم قالوها من أجل تأثرهم بالعبادة وقربهم من الكتاب والسنة.

قوله -رحمه الله-: "ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام"؛ لأن من الناس من غرضه من الصحبة أن يقال أنه كلَّم فلانًا وسأله عن كذا فأجابه بكذا، وهذا من الأمراض الخطيرة التي تحصل بسبب عدم فقه أمر صحبة الصالحين، وإنما يكون غرضك من صحبته أن تسمع منه أكثر، وأن تلتقط أطايب ثمرات كلامه.

قوله -رحمه الله-: "وعلمت أن فيه مزيدًا لحالك"، أي: أن أعمال القلوب سوف تكثر وتزداد بالكلمات التي تقولها، "أو منفعة لغيرك"، كأن تريد أن تعلِّم المخالطين والمصاحبين والمجالسين فائدة من فوائد إصلاح الحال والقلب، نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا.

10. مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله -عز وجل-:

قوله -رحمه الله-: "العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله -عز وجل-"؛ لأنك إذا حققت هذه الأمور الإيجابية ـ أي: الأسباب الجالبة للمحبة ـ فما بقي عليك إلا أن تتجنب العقبات؛ لأن البدع والمعاصي والانشغال بفضول المباحات ـ كفضول الأكل والشرب والكلام والنوم ـ مما يشغل القلب ويُبعده عن الله -سبحانه وتعالى-، وكذلك حب الدنيا والتعلق بالمال والنساء وكثرة المخالطة للناس، فكل هذه الأمور حينما تجاوز حدها تكون من الأسباب المباعِدَة عن الله -عز وجل-، وتحول بين القلب وبين الوصول إليه -سبحانه وتعالى-.

قال -رحمه الله-: "فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبوب إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب، وملاك ذلك كله أمران: استعداد الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة، وبالله التوفيق".

فـ "استعداد الروح لهذا الشأن" أي: أن يكون عند الإنسان تهيؤ للبحث عن حب الله والترقي في أسباب المحبة، و"انفتاح عين البصيرة" تشبيه للبصيرة بعين يدرك العبد بها منازل الأعمال وحقائق القلوب والأسباب والنتائج وارتباط الأشياء بلوازمها حتى يصل إلى الله تعالى، فيعرف ما يقترن به كل عمل، وما يؤدي إليه، فيرى الحق حقًّا، والباطل باطلاً، وبالله التوفيق.

ولا شك أن للمحبة علامات على المحبِّ، نشرع في ذكرها في المقال القادم بإذن الله.