مدينة رنــدة الأندلسية

محمد فؤاد على


ولد الإسلام في مكة، ومنها انتقل إلى المدينة، ومن هناك انتشر في جميع أنحاء العالم عن طريق الفتوحات الإسلامية، وقد أسهمت الفتوحات الإسلامية في نشر قيم ومبادئ الإسلام السامية، ومن أبرزها قيم الحرية، العدالة، الانخراط، الانتماء، والتسامح، كما حرص المسلمون على بناء وإحياء المدن في البلاد المفتوحة..
يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان: ومن المدن التي تم إحياؤها مدينة رندة، وهي مدينة إسبانية قديمة يعود تاريخها إلى العصر الحجري الثاني. يقول الباحث محمد القاضي في كتابه القيم «رندة الإسلامية: أمنع حصون الأندلس الجنوبية»: وتقع رندة جنوب الأندلس إلى الشمال من الجزيرة الخضراء، وإلى الغرب من مالقة على ارتفاع 2400 قدم فوق سطح البحر، وموقع المدينة يجعل منها قلعة طبيعية متميزة؛ لأنها تقوم وسط مدارج مترامية الأطراف عند حافة هضبة صخرية تنتهي بحوائط وعرة على الجانب الغربي، كما يقسمها قسمين شق تاجة tajo الطبيعي وعمقه خمسمائة قدم، ويجري في أسفله السيل الجارف الذي عرف بوادي اللبن guadalevin ثم عرف فيما بعد باسم وادي آره.
وتتمتع المدينة بطبيعة غنية ومناظر خلابة زادت في افتتان الناس بها، وفي احتدام الصراع عليها، وقد وصفها الوزير الأندلسي لسان الدين بن الخطيب في كتابه «معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار» قائلًا: «أم جهات وحصون، وشجرة ذات غصون، وجناب خصيب، وحمى مصون، بلد زرع وضرع، وأصل وفرع، مخازنها بالبرمالية، وأقواتها جديدة وبالية، وأهلها بجوار الجبل متوالية، وهي بلد أعيان وصدور، وشموس وبدور، ودور أي دور، وماء واديها يتوصل إليه في جدور، محكم مقدور، في أهلها فضاضة وغضاضة ما في الكلف بها غضاضة». وكان أول من استقر بها القبائل الأيبيرية، ثم تعاقبت العصور فاحتلها الفينيقيون والإغريق والرومان والقوط والمسلمون، وقد تركوا فيها كثيرًا من الآثار الدالة عليهم.
وإذا كانت مدينة رندة قد ذاقت الحلو والمر من طعم الأحداث التي عرفتها خلال تاريخها الإسلامي، فقد ظلت حاضرة إلى يومنا هذا من خلال رجالاتها وأعلامها الكبار الذين اشتهروا في مجالات العلم والأدب والفلسفة والتصوف، ومن أبرزهم عباس بن فرناس الذي كان فيلسوفًا حاذقًا وشاعرًا مفلقًا، وبارعًا في علم التنجيم، وكان أيضا أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك بها كتاب العروض للخليل بن أحمد، كما اشتهر بأنه صاحب نيرنجات، وهو الذي عرف بين معاصريه بأنه كثير الاختراع والتوليد، واسع الحيل، وهو أيضًا أول من حاول الطيران بعد أن كسا جسمه بالريش.
وتعتبر أسرة الزجالي من أشهر الأسر البربرية في رندة، وقد أنجبت هذه الأسرة شخصيات مهمة في تاريخ الأندلس، ومن أبرزهم محمد بن سعيد بن أبي سليمان الملقب بالأصمعي؛ لعنايته بالأدب وحفظه للغة، وقد اشتهر الرجل بأنه صاحب حظ وافر من البلاغة وحفظ الأمثال، ونصيب حسن من صوغ القريض، ولا يقل حامد بن محمد بن سعيد الزجالي قدراً وأهمية عن أبيه، وقد تولى الرجل العديد من المناصب الإدارية والسياسية في بلاط محمد بن عبدالرحمن، فضلًا عن كونه أديبًا حليمًا، عفًّا، جميل الخصال.
ومن أبرز أبناء رندة نذكر أبا عامر التاكرني، الذي وصفه ابن بسام في كتابه «الذخيرة» بأنه كاتب مجيد، ونذكر أيضًا من أبناء رندة أبا عبدالله محمد بن يحيى بن إبراهيم بن مالك بن عباد النفزي الحميري، المولود برندة سنة 733هـ، في أسرة اشتهرت بالصلاح والزهد والاشتغال بالعلوم الدينية، وهو واحد من أشهر المبرزين في علوم القرآن واللغة والفقه والتصوف والكلام والأصول والمعقولات في زمانه.
ومن أبناء رندة النابهين نذكر أبا زكريا يحيى بن أحمد النفزي المعروف بابن السراج الفقيه، وهو ذو اهتمام كبير بعلمي القرآن والحديث، وعبدالحميد الرندي الرباطي الأديب المشارك في الفقه وعدة فروع من العلوم اللغوية والشرعية، وقد اشتهر الرجل بمؤلفه «الكتابة والكتاب» الذي حاول من خلاله بيان تطور الإنشاء العربي في المشرق والمغرب منذ الجاهلية إلى عصره، ولرندة أيضا أبناء كثر نذكر منهم يوسف بن موسى الجذامي المنتشاقري الذي قال عنه ابن الخطيب: إنه حسنة من حسنات الدهر، وتحفة من تحف السر والجهر، ونذكّر القارئ الكريم في هذا المقام بصالح بن يزيد بن شريف النفزي الرندي، الذي قال عنه ابن الزبير: إنه شاعر مجيد في المدح والغزل وغير ذلك، كما قال عنه ابن الخطيب: إنه كان خاتمة الأدباء بالأندلس، وللرجل مؤلفات قيمة من بينها «الوافي في نظم القوافي، روضة الأنس ونزهة النفس»، وتكشف هذه المؤلفات عن عشق الرجل للأندلس.