أوجه الحسن في التأسّي برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم


عبد المجيد أسعد البيانوني







إنّ أوجُه الحُسنِ في التأسّي بالرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يحيط بها باحث، أو يلمّ بها دارس، ولكنّنا نستعرض أهمّ جوانبها، التي تعدّ أنواعاً جامعة، يقاس عليها ما سواها، فمن ذلك:

1 ـ الجمع بين محاسن الدين وفضائله وآدابه في كلّ جانب من جوانب الحياة، بإعطاء كلّ ذي حَقّ حَقّه، وعدم الميل مع جانب على حساب آخر، وهذا المبْدأ يقوم عليهِ الدين كلّه، وقد أعلنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في قولهِ لبعض أصحابه: (.. فأعطِ كلّ ذي حَقّ حَقّه) (1).

وقد تجلّى ذلك في حال النبيّ صلى الله عليه وسلم وسيرته، ومنهجه وهديه: فلا تكاد ترى النبيّ صلى الله عليه وسلم قائماً في الليل، متبتّلاً بينَ يدي ربّه، تتفطّر قدماه من طول القيام، ويذرف الدموع من خشية الله، حتّى تراهُ مع المجاهِدينَ لأعداءِ الله تعالى في أوّل صفوف القتال، يحتمي به أصحابه، ويتّقون العدوّ.. ثمّ تراه داعياً إلى الله تعالى، بالحكْمة والموعظة الحسنة، يصدع بالحقّ، ويقيم الحجَّة، ثمّ تراه يتْلو آيات الله، ويبلّغ دين الله، ويتفقّد أصحابه ويرشدهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم، يرفق بالجاهل، ويرشد الحائر، ويبذل المعروف، ويغيث الملهوف.. ثمّ تراه مُبَاسِطاً لأهله ومُؤانساً، يخدمهم ويرعاهمْ، ويعلّمهم ويؤدّبهم.. حقّاً إنّه صلى الله عليه وسلم الأُسوَة الحسنة، والقدوة العظمى للمتّقين إلى يوم الدين..

2 ـ ومن أوجُه الحُسنِ في التأسّي بالرسول صلى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى عصمه مِن الذنوب والأخطاء، وأمدّه بالتأييد الإلهيّ في كلّ شأن، كما قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:3 ــ4]، فأيُّ عاقل حريصٍ على مرضاة ربّه، يخيّر بين الاقتداءِ بالمعصوم، الذي يكفُل له السير على صراطِ الله المستقيم وبين الاقتداء بمن لا يُؤمن عثارُه، ولا تُضمنُ استقامته على الحقِّ ونجاتُه، ثمّ يختار المغامرةَ الخاسرةَ على التجارةِ الرابحة.؟!

وعلى مثل هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة كان خلفاؤه الراشدون الكرام، الذين جعلهم رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدوة للأمّة من بعده، فقال صلى الله عليه وسلم: (.. فَعَلَيْكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ.. ) (2)

3 ـ ومن أوجُه الحُسنِ في التأسّي بالرسول صلى الله عليه وسلم: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بالأحسن في كلّ شيء، فمن اقتدى به صلى الله عليه وسلم، وأخذ بهديه كان عَلَى حقّ اليقيْنٍ أنّه على الهدي المُبين، وعلى صراط الله المُستقيم، بل على ما هو الأحبّ إلى الله تعالى الأقرب، في ميدان الدعوة إلى اللهِ تعالى، وفي العلاقة مع الناس، وفي كلّ شيء.. فما خُيّر رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بين أمرين قطّ، إلاّ أخذَ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، كما تقول أمّ المؤمنين عَائشة رضي الله عنهَا (3)

4 ـ ومن أوجُه الحُسنِ في التأسّي بالرسول صلى الله عليه وسلم أنّ أعمال النبيّ صلى الله عليه وسلم وأحواله واجتهاداته صلى الله عليه وسلم، هي أكمل الأعمال والأحوال والاجتهادات وأجلّها، وإذا قارنّا بين أقوال الناس وأفعَالهم رأينا أكثر الناس تنزل أفعالهم عَنْ مستوى أقوالهم، وقد تتناقض معها.. أمّا النبيّ صلى الله عليه وسلم فأقواله وحي وتَشْريع، ومنَ التشريع ما هو مباح، ومنه المشروْع والمستَحبّ، وأمّا أحواله صلى الله عليه وسلم؛ فهي دائماً الأحبُّ إلى الله تعالى، والأقرب إلى مرضاتِه ورحمته..

ومن المسائل الأصوليّة التي بحثها العلماء واختلفوا فيها، ولها أمثلة كثيرة في التشريع: أيّهما يقدّم في التشريع ويرجّح قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أم فعلُه.؟

فمن العلماء من رجّح قول النبيّ صلى الله عليه وسلم على فعله، ومنهم من رجّح فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم وقدّمه على القول، كما في قرانه صلى الله عليه وسلم في الحجّ، وأمره لأصحابه بالتمتّع، وذلك بالتحلّل من إحرامهم وجعلها عمرة، والمسألة معروفة مشهورة، ولها نظائر عديدة.

وعَلَى هدي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الأكمل، في الأقوال والأحوالِ والأفعال، يجتهد ورّاثه الكمّل، أن يكونوا أسوة حسنة للناس، كما زكّاهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم، وبَشّر بهم بقولِه: (.. إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلا دِرْهَماً، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْم..) (4)

ولقد جَعل اللهُ نبيّهُ صلى الله عليه وسلم أسوَة حسنةً للمؤمنين، لأنّه صلى الله عليه وسلم جاء بالأَحسن والأكمَل في كلّ شَيء.. جَاءَ بالْعدلِ والإحسان، والحقّ والبرّ وَالفضل.. فِي العقيدَة والعبَادة، والتشريع والأخلاق.. جَاءَ بمكَارم الأخلاق، ومحاسن العادات والآداب.. جاء بكلّ ما يشهد العقل بحسنه وكماله، جَاءَ بمثاليَّة واقعيّة لا يعجز أحد عَنِ ارتقائهَا، وتَسنّم ذراها شيئاً بعد شيء.. حَتَّى يبلغ أوج الكمالِ الإنسانيّ، وينافس الملائكة المقرّبين في رقيّه وسموّه..

ولو نظرَ العاقل بعيْنِ البَصيرة لرَأى أنَّ دين الله وأحكامَ شرعه الشريف كلّها ذوقٌ ولطفٌ، وحُسنٌ وجَمال.. فالذوقُ يَشملُ محَاسن الآداب والعادات، واللطفُ هو الرفق فِي التعامل مع كلّ شيءٍ، وفِي العلاقة مع كلّ شيءٍ.. والله تعالى رفيق يحبّ الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.. والجمال هُوَ الدين كلّه.. فإنّ الله تعَالى جميل يحبّ الجمال، وكلّ ما جاء في شرع الله تعالى فهو حسن وجميل، وكلّ ذلك ممّا جاء في الأحاديث، وطفحت به النصوص والأدلّة.. ومن لم يفهم ذلك و لم يدركه بعقله وذوقه، فليتّهم عقله وفهمه، وليسأل الله تعالى أن يرزقه الأدب وحسن الفهم، فإنّ الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُون}[العنكبوت:43].

وبعد؛ فإنّ حاجة الإنسان، والناشئ على وجه الخصوص إلى مثل أعلى يتعلّق به قلْبُه، ويطمح إليه نَظَرُه، ويمنحه صادق حبّه، لهي حاجة أكيدة ماسّة.. وإنّ ما نشكوه اليوم منْ ضياع شباب الأمّة وراء التعلّق بالنكِرات، والافتتان بكلّ أفّاك أثيم.. سَببُه الأوّلُ والأكبر تقصير الآباء والمربّين في تقديم القدوة الحسنة لأبنَائهم، من أنفسهم وسلوكهم، وتقديم المثل الأعلى من شخصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسيرته العطرة وهديه..

وإنّنا بحاجة إلى إصلاح مناهج التعليم، التي تقدّم السيرةَ النبويّةَ تاريخاً لدولة، وعلاقات صراع وحروب، أكثر ممّا تقدّمها مثلاً أعلى للإنسان، ولا تبرز جانب الأخلاق والسلوك، بِما يتناسبُ معَ أهمّيّته، ويلائم نموّ الطفل ونشأته، واهتمَاماته ونسجَ علاقاته، فلا تتّصل السيرة بهذه الطريقة بعاطفة الناشئ ووجدانه، وقلبه وروحه، وإنّما تأخذ حظّها مادّة من الموادّ العلميّة الجافّة، إذ يقصر الطالب تعامله معها، وتفكيره فيها أن ينال درجة النجاح، ثمّ لا يهمّه بعد ذلك أن يهملها ويتناساهَا..

وإنّ الصورة الوضيئة، التي أراد الله تعالى لهذه الأمّة أن تتعامل بها مع نبيّها صلى الله عليه وسلم، وتقيم علاقتها به: هي صورة الأسوة الحسنة، والقدوة المثلى، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21].

فما أحسن أن يربط الآباء والمربّون الأبناء والناشئين بشخصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، حبّاً واتّباعاً، وتدارساً واهتماماً، لتمتلأ قلوبهم تعظيماً لشريعته، وحبّاً لسنّته، واتّباعاً لهديه، وتبتعد بقدر ذلك عن الافتتان بما سواها من المناهج والاتّجاهات، والنكِرين والنكرات..



الهوامش:

(1) جزء من حديث طويل في قصّة مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسيّ وأبي الدرداء، وهو في البخاري في كتاب الصوم برقم /1832/ وفي الترمذيّ في كتاب الزهد برقم /2337/ وغيرهما.

(2) جزء من حديث رواه الترمذيّ في كتاب العلم برقم /2600/ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ورواه أبو داود وابن ماجة وأحمد في المسند.


(3) جزء من حديث رواه البخاريّ 9/419 و 420، ومسلم برقم /2327/.

(4) رواه الترمذيّ في كتاب العلم برقم / 2606/ وأبو داود، ورواه ابن ماجة والدارميّ في المقَدّمة.