حكم سؤال المقبور الشفاعة (3)
( الفصل الثالث )
( الإجابة عما استدل به من قال بأن هذه الصورة بدعة فقط )
لم يذكر أحد ممن قال بأن سؤال الميت بحضرة قبره بدعة – على ما وقفت عليه – دليلاً يصح أن يعتمد عليه في إخراج هذه الصورة من الشرك الأكبر ، بل أكثرهم يذكرون المسألة من دون تدليل عليها ، والظاهر من حالهم – والله أعلم – أنهم اعتمدوا على ما فهموه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وقد سبق بيان حقيقة قوله ، إضافة إلى ذكر بعضهم لشيئ من الأدلة عنده وهي كالتالي :
( الدليل الأول )
( طلب الدعاء من الآخرين ليس خاصاً بالله ، فلذا يجوز طلبه من الحي ، ولو كان خاصاً بالله لما جاز طلبه من الحي لكونه خاصاً بالله ) هذا بنصه ما علل به أحدهم سبب الحكم على هذه الصورة بالبدعة فقط ، وجوابه من وجوه :
الأول : أن هذا كلام مضطرب أراد كاتبه إيصال معنىً إلى القارئ ولكنه أخطأ في عبارته ، لأن ظاهره أنه يجوز أن يسأل العبد ربه بأن يطلب من فلان أن يدعو الله له ، وهذا الظاهر الباطل لم يرده الكاتب ، ولكنه عبر بعبارة غير مستقيمة .
الثاني : أن طلب الدعاء من الحي هو من جنس الأسباب الحسية المعلومة التي أقدره الله عليها ، بخلاف الطلب من الميت ، فإن هذه الأسباب قد انقطعت عنه ، فطلبه في هذه الحال طلب من شخص غير قادر على الإجابة ، وهذا من الشرك .
الثالث : أن طلب الدعاء ممن يقدر عليه ، وهو الحي الحاضر القادر مرتبة ، وسؤال الميت وطلبه مرتبة أخرى ، وفرق بين الأمرين .
( الدليل الثاني )
قال بعضهم في أثناء كلامه عن مراتب التوسل : ( أن يقول للميت والغائب : ادع الله لي ، أو اسأل الله لي ، أو اشفع لي في كذا ، فهذا لا خلاف بين السلف أنه غير جائز ، وأنه من البدع التي لم يقل به أحد من علماء الأمة ، وهو من ذرائع الشرك ، فهو من الشرك الأصغر ، والفرق بينه وبين الذي قبله واضح ، إذ الأول : دعاء غير الله ، والثاني : مخاطبة الميت بما لا يرد في الكتاب والسنة ، ولكنه لم يدعه ، ولم يسأله قضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، فلم يصرف له العبادة ، ولكنه ذريعة للغلو ، وبدعة ضلالة كما ذكرنا ) .
قال مقيده : والجواب على ما قاله الكاتب من وجوه :
الأول : كلام الكاتب عام في كل ميت ، فلم يقيده بسؤاله بحضرة القبر أو بغير حضرة القبر ، ولا قائل بذلك من أهل السنة والتوحيد ، فإنهم متفقون على أن سؤال الميت بغير حضرة قبره من الشرك الأكبر ، حتى الذين خالفوا في الصورة التي هي محل البحث ، لم ينازعوا في سؤال الميت بغير حضرة قبره أنه شرك مخرج من الملة ، معللين ذلك بأن فيه ادعاء علم الغيب للميت وهذا كفر بالإجماع .
الثاني : أدخل الكاتب في هذه الصورة سؤال الغائب ، وهذا شرك أكبر بالاتفاق .
الثالث : جعل الكاتب طلب الشفاعة من الميت من الشرك الأصغر ، وهذا مخالف للإجماع ، فإن طلب الشفاعة على هذا النحو من جنس ما كان يفعله المشركون الأولون .
الرابع : قوله عن هذه الصورة بأنها مخاطبة للميت بما لم يرد في الكتاب والسنة وأنه لم يدعه ، يقال له : هذه المخاطبة دعاء لغة وشرعاً كما سبق بيانه ، وهي وإن لم تكن دعاء على جهة الاستقلال ، ولكنها دعاء على جهة التوسط والسببية بمعنى أنها طلب للشفاعة ، وهذا ظاهر .
الخامس : النسبة للسلف بأن هذا الفعل شرك أصغر ، نسبة غير صحيحة وتَقولٌ عليهم ، ويحتاج مدعيها إلى ما يثبتها ، وأنى له ذلك ! .
( الدليل الثالث )
يصرح بعضهم : أن سؤال الميت من بعيد فيه ادعاء علم الغيب له وهذا كفر ، وبالتالي يفهم من كلامهم : أن سؤاله بحضرة القبر ليس فيه ذلك .
والجواب :
أولاً : أن سؤال الميت سواء كان من قريب أم من بعيد ، هو حقيقة الدعاء والشفاعة الشركية.
ثانياً : أن سؤال الميت من بعيد فيه أمر زائد على مجرد دعوى الغيب له ، وهي تعلق القلب والاعتقاد في هذا الميت بأنه يشفع عند الله لمن سأله ، وهو ما يشترك فيه سؤاله من بعيد مع سؤاله بحضرة القبر ، وهذا من الشرك الأكبر.
ثالثاً : من الممكن أن يعلل سؤال الميت بحضرة قبره أيضاً بأن فيه ادعاء علم الغيب للميت !! ، ولا مانع من ذلك ، نعم هذه الدعوى ظاهرة في سؤال البعيد ، ولكنها غير ممتنعة في سؤال القريب ، فلماذا لا يقال بها ؟ .
إيراد : قد يقول قائل : السبب في ذلك أن الميت يسمع ، وقد ثبت ذلك في بعض النصوص ، فبناءً عليه ، إذا سئل من قريب كان بدعة ، وإذا سئل من بعيد كان شركاً .
والجواب :
أن الأصل في الميت أنه لا يسمع لقوله تعالى : { وما أنت بمسمع من في القبور } ، وقوله سبحانه : { إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين } ، ويستثنى من ذلك ما ثبتت به السنة ، وسماع الميت إنما ورد في مواضع مخصوصة ، ولأشياء مخصوصة فيقتصر عليها ، وليس منها سؤال الميت الدعاء ، ولو فرض جدلاً أنه يسمع مطلقاً ، فإنه لا يستطيع إجابة من سأله لأنه قد انقطع عمله ، وهذا الحكم عام في القريب والبعيد ، وإلا للزم أن يخاطب بكل ما يخاطب به الحي لأنهما قد اشتركا في السماع .
( تنبيـــه )
جعل الشيخ محمد بشير السهسواني رحمه الله قول القائل : يا فلان اشف مريضي ومقصوده الإسناد المجازي ، بمعنى كن سبباً لشفاء مريضي أي ادع الله أن يشفيه ، جعله بالنسبة لسؤال الميت عند قبره من البدع وأنه ليس بشرك(1) ،
وما قاله الشيخ غفر الله له غير صحيح ، ولا يختلف المسلمون بأن السؤال بهذه الصورة شرك أكبر ، ودعوى الإسناد المجازي في مثل هذا القول دعوى باطلة ، ولا يجوز لتخريج الكلام الذي ظاهره شرك وكفر ، وهذا مجمع عليه ، ولم يحتج بالإسناد المجازي في مثل هذه الصورة إلا قلة من المتأخرين ممن عارضوا دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، تخريجاً لأقوالهم الشركية(2) .
( الفصل الرابع )
( أقوال العلماء في هذه المسألة )
(1) نقل الشيخ عبدالرحمن بن حسن رحمه الله كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من الاقتضاء (2/224) و (2/304-305) والذي سبق نقله (ص 11) ، في كتابه كشف ما ألقاه إبليس (213،131) مقراً له ، وفيه التنصيص على أن سؤال الميت بأن يدعو أو يفعل من الشرك الأكبر(3) .
(2) ونقل الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله في كتاب الرد على البكري أثناء كلامه عن دعاء المقبورين(4) : ( وعقلاؤهم يقولون : مقصودنا أن يسأل الله لنا ، ويشفع لنا ، ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته أن يسأل الله لهم ، فإنه يسأل ويشفع كما كان يسأل ويشفع لما سأله الصحابة الاستسقاء وغيره ، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة ، ولا يعلمون أن سؤال الميت والغائب غير مشروع البتة ، ولم يفعله أحد من الصحابة ، بل عدلوا عن سؤاله وطلب الدعاء منه ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم ، لا يطلب من أحدهم بعد موته من الأمور ما كان يطلب منه في حياته ) ؛
قال الشيخ عبداللطيف رحمه الله معلقاً : ( فانظر – رحمك الله – إلى ما ذكره هذا الإمام من أنواع الشرك الأكبر الذي وقع في زمانه ، ممن يدعي العلم والمعرفة وينتصب للفتيا والقضاء ، لكن لما نبههم الشيخ – رحمه الله تعالى – على ذلك ، وبين لهم أن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله ، تنبه من تنبه منهم وتاب إلى الله ، وعرف أن ما كان عليه شرك وضلال ، وانقاد للحق ) .
وقال رحمه الله(5) : ( وسؤال العباد والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي ، ولو قال : يا ولي الله اشفع لي فإن نفس السؤال محرم ، وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى : يا والدة الله اشفعي لنا إلى الابن والإله ، وقد أجمع المسلمون على أن هذا شرك ، وإذا سألهم معتقداً تأثيرهم من دون الله فهو أكبر وأطم ).
(3) ويقول الشيخ عبدالله أبا بطين رحمه الله(6) : ( والحاصل أن من سوى بين الحي والميت في استقضاء الحوائج فقد ضل في عقله ودينه ، ونصوص القرآن كثيرة في إبطال هذا القول . والله سبحانه جعل أهل الدنيا فيها وخولهم ما ملكهم فيها ، ولا يتم أمرهم إلا بمعاونة بعضهم بعضاً ولم يحجر عليهم سبحانه التعاون والتناصر فيما لا يسخطه ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
يوضح ذلك أن دعاء الإنسان للمسلمين واستغفاره لهم وقضاء حوائجهم وعاونتهم عليها من الأعمال الصالحة المرغب فيها ، فلو كان هذا يحصل من الميت لم يكن عمله قد انقطع ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له ) ؛ فدل على أن هذه الأشياء التي يطلبها المشركون من الأموات من قضاء حوائجهم أو الدعاء لهم ونحو ذلك ، التي هي أعمال صالحة من الحي قد استحال وجودها من الميت ، فطلبها منه طلب مستحيلٌ لعجزه حساً ، فلا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، فهو داخل تحت قوله : { ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون } ) .
(4) ويقول الشيخ عبدالرحمن بن قاسم رحمه الله(7) : ( وكذلك طلب الشفاعة وغيرها من نبي أو غيره بعد موته ، كأن يقول : يا رسول اشفع لي ، أو يا ولي الله أغثني ، أو أدركني ، أو أنا في حسبك ، أو يطلب منه نفعاً ، أو دفع ضر ، أو يلجأ إليه في مهماته ، هو أصل شرك المشركين ).
وقال غفر الله له في القسم الثاني من أقسام الشرك(8) : ( شرك في الإلهية ، بأن يدعو غيره ، دعاء عبادة ، أو دعاء مسألة ، وفيه قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } والدعاء المتضمن شركاً ، كدعاء غيره أن يفعل ، أو دعائه أن يدعو ، ونحو ذلك ) .
( إيرادات علمية )
يرد على من قال بأن سؤال الميت بأن يدعو الله أو يسأل الله بدعة لا يصل إلى الشرك الأكبر بعض الإيرادات ، هي في الحقيقة مما يبين ضعف هذا القول ، وهي كالتالي :
أولاً : ما هو الدليل على إخراج هذه الصورة من الشرك الأكبر ؟
ثانياً :ما الفرق بين سؤال المقبور بحضرة القبر ، وبين سؤاله وهو بعيد عن القبر، وما دليل التفريق؟
ثالثاً : ما الفرق بين سؤال الحي وهو غائب ، وبين سؤال الميت بحضرة القبر ؟
رابعاً : ما هو ضابط القرب من القبر والذي يجعل السائل مبتدعاً فقط ، وبين البعد عن القبر الذي يجعل السائل مشركاً ؟
( وحينئذٍ فيقال : هذه الدعوى – وهي الطلب من الأموات ما يطلب منهم في الحياة – دعوى كبيرة غليظة ، ليست كغيرها من الدعاوى ، فيحتاج مدعيها إلى ما يثبتها من الأدلة الشرعية ، والقوانين المرضية ، والسيرة السلفية ، وأما المقاييس الفاسدة فلا تفيد هنا ، وقد قال بعض السلف : ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس )(9).
قال مقيده : هذا ما فتح الله به في هذه المسألة ، وهو آخر البحث ، والله أعلم .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه : سالم بن سعيد المقبالي
(1) صيانة الإنسان (238).
(2) يراجع هذه مفاهيمنا للشيخ صالح آل الشيخ (122-135) ، والرد على البردة للشيخ عبدالله أبا بطين (19).
(3) من اللطائف و الغرائب أن هذا النقل الذي نقله الشيخ عبدالرحمن قد اعتمده أحد القائلين بأن سؤال الميت بحضرة قبره بدعة فقط ، ناسباً ذلك إلى شيخ الإسلام أيضاً ، في إثبات أن الشيخ عبدالرحمن ممن يذهب إلى أن هذه الصورة شرك أكبر ، مع أن الكلام في الحقيقة كلام شيخ الإسلام .!!
(4) عيون الرسائل والأجوبة على المسائل (2/710).
(5) البراهين الإسلامية في رد الشبه الفارسية (116).
(6) تأسيس التقديس (89).
(7) السيف المسلول على عابد الرسول (50).
(8) المرجع السابق (63).
(9) مصباح الظلام (392).
منقول