وما يتذكر إلا من ينيب






كتبه/ محمد الجهمي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلقد منَّ الله على هذه الأمة بأن أرسل إليها أفضل رسله -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل عليها أفضل كتبه، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما طائر يطير بجناحيه إلا ذكر لنا منه علمًا، والقرآن حوى من العبر والعظات والنذر ما لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله -تعالى-.
وقد قال الله -تعالى- فيه: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا)(طه:113).
إن كل مسلم ومسلمة يقرأ هذا القرآن أو يسمعه من غيره، ويسمع ما فيه من وعد ووعيد، وأخبار الأمم الماضية وسبب هلاك الهالكين، وما أعد الله للطائعين والعاصين، ووصف الجنة والنار، وغير ذلك من الآيات والعبر والعظات؛ يتذكر به قلبه، وينيب إلى ربه، ويسعد في الدنيا والآخرة.
قال الله -تعالى-: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)(طه:123-126).
وهناك من الآيات الكونية في السماوات والأرض ما يدل على عظمة خالقها وتبعث على خشيته ومحبته والخوف منه.
قال الله -تعالى-: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(يونس:101)، وقال -تعالى-: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ . وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)(ق:6-8).
كثير من الناس يمر على هذه الآيات، لكن لا يُعمِل فكره وقلبه بحيث يقوده ذلك إلى تعظيم خالقه، وقد قال الله -تعالى- في هذا الصنف: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)(يوسف:105).
إن كثيرًا من الناس إذا رأوا طائرة فخمة محلقة في جو السماء أعجبوا بصانعها ونسوا أن السماء على اتساعها بغير عمد يرونها!!
وإذا رأوا آلة تبريد ضخمة أعجبوا ونسوا تلك المساحات الشاسعة التي تتجمد بقدرة الله -تعالى-، ومع ذلك يمجدون صانعي تلك المخترعات، ويطلقون عليهم لقب علماء، وهم من أجهل الناس فيما خلقوا من أجله، ومن أجهل الناس بمصالح أنفسهم، والله -تعالى- قد وصفهم بالجهل؛ قال -تعالى-: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ . أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ)(الروم:6-8).
فنفى -سبحانه- عن هؤلاء العلم مع أنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا؛ لأن هذا لا يعتبر علمًا حقيقيًا ماداموا يجهلون الآخرة ويغفلون عنها ولا يعملون لها.
ومن الآيات والعبر بين أيدينا تقلب الليل والنهار، وتصرم الأعمار، وخراب الديار، ورحيل الآباء والأبناء من الدور والقصور إلى القبور؛ قال الله -تعالى-: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)(الرحمن:26-27)، وقال -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)(الفرقان:62).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ) (رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني).
وأمر -صلى الله عليه وسلم- بزيارة القبور، وقال: (فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ) (رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني)؛ لأن من يذكر الموت وشدته، والقبر ووحدته، والحساب وروعته، والميزان وخفته، والصراط وحدته؛ كيف يتلذذ بالدنيا؟! وكيف يتمادى في المعاصي؟! ولكن إلى الله نشكو قسوة قلوبنا؛ فقد نرى من الناس من يجتمعون ليواروا ميتـًا في قبره، ومع ذلك نسمع دوي الأصوات بأحاديث الدنيا، وحفاوة البعض بالبعض، والضحك والسرور، وكأنهم في نزهة خلوية، أو في أحد الأسواق، فكيف يكون تذكر مع هذا؟!
وكل هذا نتيجة الغفلة وتراكم الذنوب؛ قال الله -تعالى-: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين:14).
ومن العبر والعظات ما قص الله -تعالى- علينا من أخبار الأمم الماضية اللذين أهلكوا بذنوبهم؛ قال -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ . وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ . وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ . الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ . فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ . إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ) (الفجر:6-14).
والواقع المعاصر فيه خير عبرة وعظة؛ فإن ما يجري في العالم اليوم من الحوادث المروعة والأمراض الفتاكة فيه كل العظة والموعظة؛ ففي كل يوم تحمل وسائل الإعلام أخبارًا شنيعة من زلازل مدمرة، أو فيضانات غامرة، أو أعاصير شديدة، أو حروب طاحنة، أو ظهور أمراض جديدة يقف أمامها الأطباء شاخصين لا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلاً: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق:37).
ما الذي يؤمننا إذا استمرت المعاصي أن يسلب الله أمننا ويبدلنا خوفـًا، وغنانا فقرًا... ؟! نعوذ بالله من تحول عافيته، وفجاءة نقمته.
قال -تعالى-: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ . أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ . أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:97-99).
فينبغي على كل عبد أن يستقيم على أمر الله، ويتدبر ويتذكر، ويتأمل في خلق الله، ويتعظ بما وعظه به الله.

قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90).
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.