ملتقى المـُثـُل









كتبه/ سعيد صابر


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فيقول الله -تعالى-: (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)(التوبة:40)، ويقول: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(الزمر:33)، ويقول -جلَّ وعلا-: (فَأَنْذرتكم نَارًا تَلَظَّى . لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى . وَسَيُجَنَّبُهَ ا الأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى . وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى) (الليل:14-21).

آيات نيرات كلها تصب في شخص هذا الرجل العظيم، باكورة من آمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعجـَّل بتصديقه، أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أعمق هذه الأمة علمًا، وأغزرها إيمانـًا، وأشدها يقينـًا، والشواهد على ذلك كثر.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا. فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ. فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ. فَقَالَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -وَمَا هُمَا ثَمَّ-)(متفق عليه).

خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: (إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ)(رواه البخاري)، فتعجب الناس لبكائه -رضي الله عنه- وإلا فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخبر عن "سين" من الناس، فما باله يبكي؟! وما لبثوا أن علموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخبر عن نفسه، وكان أبو بكر أعلمهم بالله، وبرسوله -صلى الله عليه وسلم-.

ثم قال -عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَىَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً غَيْرَ رَبِّى لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ، إِلاَّ بَابَ أَبِي بَكْرٍ)(رواه البخاري).

وفي هذا إشارة إلى استخلافه، ومما يشير إلى استخلافه كذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) (متفق عليه)، فلما روجع في ذلك، وأشير عليه بغيره بعلة أن أبا بكر رجل أسيف رقيق القلب، يغلبه البكاء فلا يملك دمعه، ولا يكاد يسمع الناس من شدة بكائه أصر -عليه الصلاة والسلام- قائلاً: (يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ)(رواه البخاري)، فصلى -رضي الله عنه- بالناس إبان مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا أحس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخفة من نفسه خرج للصلاة، فلما لمحه أبو بكر -رضي الله عنه- أراد أن يتقهقر فأشار إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن اثبت مكانك؛ إلا أن أبا بكر لم تطاوعه قدماه فجعل يتأخر، وتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأم الناس، ولما انفتل من صلاته قال لأبي بكر: ما منعك أن تثبت مكانك. قال أبو بكر في أدب جم: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ولما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويا له من بلاء تزلزلت له قلوب الأكابر والعظماء كانت لأبي بكر اليد البيضاء يومئذ، وثبتهم الله -عز وجل- إبان تلك الفاجعة التي كادت أن تعصف بهم.

حدث بينه وبين عمر شيء فاعتذر له أبو بكر، وسأله أن يغفر له فأبى عليه عمر، فذهب أبو بكر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستنصحًا إياه. فقال -عليه الصلاة والسلام-: يغفر الله لك يا أبا بكر، ثم إن عمر ندم؛ فأتى منزل أبي بكر فلم يجده، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتمعر غضبًا على عمر، فما كان من أبي بكر إلا أن جثا على ركبتيه، وجعل يسكن من غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول شفقة على عمر: والله يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا كنت أظلم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!

أما عن بذله في سبيل الله -تعالى-، فيكفيه شاهدًا أن جاء بثروته بجماعها فوضعها بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا قال له: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ كان الجواب الذي يقطر إيمانـًا وتوكلاً على الله وحسن ظن به: أبقيت لهم الله ورسوله.

أما عن همته فقد كانت له همة تناطح الجوزاء وتخترق العلياء؛ قال -عليه الصلاة والسلام- يومًا: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِىَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ. فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ دُعِىَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا قَالَ: نَعَمْ. وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) (متفق عليه).

ومما يكشف كذلك عن علو همته وقوته في الحق تصديه لزوابع الفتن التي هبت بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث منع قوم زكاة أموالهم وارتد آخرون واشرأب النفاق وكفر من كفر من العرب؛ فما كان من أبي بكر إلا أن سل سيفه وشمر عن ساعد الحزم وخرج قائلاً: "أينقص الدين وأنا حي"؟ والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً -أي حبلاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه.

أما عن عفوه وسعة صدره فحدث ولا حرج، ومن مفردات ذلك؛ إنه لما خاض مسطح مع من خاض في عرض عائشة -رضي الله عنها- أقسم أبو بكر على إثر ذلك أن يقطع النفقة عنه، وكان ينفق عليه، فلما نزل قوله -تعالى-: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِي نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور:22)، قال أبو بكر: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، ثم عاد بالنفقة على مسطح وليس ذلك فقط، بل وأقسم ألا يقطعها عنه أبدًا، وكان وقافـًا عند كتاب الله -جل وعلا-.

كل هاتيك الفضائل وغيرها جم غفير، هذا ومن شمائل الصديق ورعه -رضي الله عنه- والشواهد على ذلك تترى، ومن ذلك: أنه سئل عن آية في كتاب الله فكان الجواب الفذ: "أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به؟!".

أيها الكرام: لقد أفعم قلب أبي بكر محبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتجلى ذلك يوم الهجرة يوم أن تفانى أبو بكر في الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعل من نفسه "سياجًا" حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل يتقدم تارة ويتأخر أخرى، ومرة عن يمينه، ومرة عن يساره، وهو في كل ذلك يقول: إن أهلك أهلك وحدي، وإن تهلك تهلك معك الدعوة!!

ومما ينم عن فرط حبه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أصابه الظمأ وجعل يشرب عقب أبو بكر قائلاً: فما يزال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشرب حتى رضيت، فالشارب هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والرجل من فرط حبه لصاحبه -صلى الله عليه وسلم- كأن الماء يجري في ضلوعه هو.

هذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- مجمع الفضائل وملتقى المُثـُل، هذا أبو بكر وهذا بعض ما عنده.


هذا أبو بكر الصديق الرجل العظيم الذي ما سبق الناس بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما سبقهم بشيء وقر في قلبه اسمه الإيمان، وهذا الإيمان الذي تدفق في قلبه هو الذي ولـَّد تلك المواقف المشرفة وأزَّه على تلك الشمائل السامية، وفجر عيون الخير التي لا تزال الأمة، بل الخليقة بجماعها ترتوي من معينها إلى يوم الناس هذا، والحمد لله.