تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها




    مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها (1)
    أكرم ضياء العمري




    المجتمع المدني:


    (يثرب) - وهو الاسم القديم للمدينة المنورة - واحة خصبة التربة كثيرة المياه تحيط بها الحرات من جهاتها الأربع وأهمها حرة واقم من الشرق وحرة الوبرة في الغرب، وحرة واقم أكثر خصوبة وعمراناً من حرة الوبرة، ويقع جبل أحد شمالها وجبل عسير في جنوبها الغربي، وتقع فيها عدة وديان أشهرها وادي بطحان ومذينيب ومهزور والعقيق وهي منحدرة من الجنوب إلى الشمال حيت تلتقي عند مجتمع الأسيال من رومة.

    وقد ورد اسم يثرب في الكتابات المعينية ما يدل على قدمها (1)، ولكن معلوماتنا عن تاريخها الذي يسبق الإسلام قليلة ومشتَّتة وتبدو أكثر وضوحاً كلما اقتربنا من الفترة الإسلامية.

    اليهود:

    تختلف النظريات حول أصل يهود المدينة المنورة -والحجاز عامَّة - والمكان الذي هاجروا منه والزمان الذي قدِموا فيه، ولكن أقواها يميل إلى أن بداية نزوحهم من الشام في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد بعد أن نجح الرومان في السيطرة على سورية ومصر في القرن الأول. ق. م. وعلى اليهود ودولة الأنباط في القرن الثاني بعد الميلاد، مما أدىَّ باليهود إلى الهجرة إلى شبه جريرة العرب التي كانت بعيدة عن سيطرة الرومان الذين أفزعوهم.

    غير أن هجرة اليهود إلى الحجاز اشتدت بعد فشل الثورة اليهودية ضد الرومان والتي أخمدها الامبراطور تيتوس في عام.٧م، وقد وصل بعض هؤلاء اليهود المهاجرين إلى يثرب كما وصلت مجموعة أخرى من اليهود إلى المدينة.

    ولا تذكر المصادر إحصاء لعدد اليهود، لكن كتب السيرة ذكرت أعداد المقاتلين - وهم عادة الرجال البالغون - من كل قبيلة وهم سبعمائة من بني قينقاع ومثلهم تقريباً من بني النضير وما بين السبعمائة والتسعمائة من بي قريظة (2).

    فالمقاتلون من يهود القبائل الثلاث يزيدون قليلاً على الألفين، هذا سوى بقية بطون يهود الأخرى الأقل أهمية والتي تسكن في أماكن متناثرة من يثرب أيضاً حيث يذكر السمهودي أنها تزيد على العشرين بطناً (3).

    ولا شك أن المجتمع المدني الذي خضع لسيطرة اليهود قبل أن يتقوى كيان العرب فيه خضوعاً تاماً اقتصادياً وسياسياً وفكرياً حيث ترك اليهود بعض طوابعهم عليه. من ذلك أن اليهود نقلوا من الشام إلى يثرب فكرة بناء الآطام حيث بلغ عددها في يثرب تسعاً وخمسين أطماً (4) ، كما حملوا معهم خبراتهم الزراعية والصناعية مما أثر في ازدهار بساتين يثرب حيث النخيل والأعناب والرمان وبعض الجوز، كما ظهر الاهتمام بتربية الدواجن والماشية، وبرزت صناعات النسيج الذي تحوكه النِّسوة إلى جانب الأواني المنزلية وبعض الأدوات الأخرى اللازمة للمجتمع الزراعي. وكما أثَّر اليهود على مجتمع المدينة فقد تأثروا بالعرب من حولهم فظهرت طوابع الحياة القبلية على يهود بما فيها من عصبية وكرم واهتمام بالشعر وتدريب على السلاح، وطغيان النزعة القبلية على جهود جعلهم لا يعيشون ككتلة دينية واحدة بل قبائل متنازعة لم تتمكن من توحيد صفها حتى في عصر النبوة عندما واجهت أحداث الجلاء.

    وبالطبع كان على رأس الأعمال الاقتصادية التعامل بالربا والذي يتقنه اليهود في كل مكان. وإن كان الربا معروفاً في مجتمع مكة التجاري أيضاً.

    العرب:

    وقد سكن الأوس والخزرج يثرب التي سبقهم إليها يهود، وتملكوا أخصب بقاعها وأعذبها مياها، مما اضطر الأوس والخزرج إلى سكنى الأراضي المهجورة من يثرب وينتمي الأوس والخزرج إلى قبيلة الأزد اليمانية الكبيرة والتي خرجت من اليمن إلى الشمال في فترات مختلفة ربما أقدمها في حدود عام 207م عندما هاجرت خزاعة إلى مكة.

    واختلف المؤرخون في سبب هجرة الأزد فبعضهم يرجع ذلك إلى انهيار سد مأرب وحدوث سيل العرم، وبعضهم يقلل من أثر انهيار السد ويعزو ذلك إلى الاضطرابات السياسية والتدهور الاقتصادي الذي نجم عن سيطرة الرومان على البحر الأحمر وانتقال تجارة الهند عبره وهو الأرجح لشمول تأثير ذلك على السكان ومنهم الأزد التي كان معظمهم يسكن خارج منطقة سد مأرب (5).

    وممن هاجر من الأزد الأوس والخزرج الذين استقروا بيثرب إلى جانب يهود.

    فسكن الأوس منطقة العوالي بجوار قريظة والنضير، وسكن الخزرج سافلة المدينة حيث جاوروا بني قينقاع وكانت ديار الأوس أخصب من ديار الخزرج مما كان له أثر في المنافسة والصراع بين الطرفين(6).

    ويحدد سديو تاريخ هجرتهم بعام 300م ثم سيطرتهم على يثرب في عام 492 م (7)، ولا شك أن ثمة تحولات اقتصادية وسكانية حدثت لصالح العرب وتمثلت في زيادة عدد هم وثروتهم(8)، ولا يوجد احصاء لعدد الأوس والخزرج ولكن القبيلتين قدمتا أربعة آلاف مقاتل للجيش الإسلامي الذي ذهب لفتح مكة سنة 8هـ (9)، وقد مهدت هذه التحولات لسيطرتهم على يثرب التي كانت السيادة فيها ليهود وقد حاول اليهود الدفاع عن تسلطهم بتفتيت وحدة العرب من أوس وخزرج وإثارة الشقاق بينهم فأفلحوا في إذكاء العداوة وقيام الحروب بين الجانبيين، وآخر ذلك يوم بعاث (10) قبل الهجرة بخمس سنوات حيث هزم الأوس الخزرج الذين طالما غلبوهم من قبل لتفوق قواتهم عليهم حتى لجأت الأوس إلى محالفة يهود النضير والقريظة فغلبتهم في بعاث، ولكنهم فطنوا إلى خطورة الإجهاز عليهم وأن ذلك يمكن لليهود من استعادة سيطرتهم على يثرب لذلك سعوا إلى المصالحة معهم، بل إن الجانبين اتفقا على ترشيح رجل من الخزرج هو عبد الله بن أبي بن سلول الذي وقف مع أهله على الحياد في (بعاث) ليكون ملكاً على يثرب مما يدل على تمكن العرب من المحافظة على قوتهم وتفوقهم على يهود بعد بعاث.

    ولا شك أن وقائع أيام العرب بين الأوس والخزرج ولَّدت شعورا بالمرارة عند الطرفين ورغبة قوية في العيش بهدوء وسلام وهذا الشعور كان يرافق استقبال يثرب للإسلام حاملاً معه بشائر التآخي والسلام، وقد عبَّرت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أثر الحروب والمنازعات في إقبال أهل المدينة على الإسلام بقولها: (كان يوم بعاث يوماً قدَّمه الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا، قدَّمه الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في دخولهم الإسلام(11).

    وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

    يتبع...

    (1) جواد علي : تاريخ العرب قبل الإسلام 3/295.

    (2) ابن هشم السيرة 2/248-259 (تحقيق محيي الدين عبد الحميد) وانظر أحمد إبراهيم الشريف ص 294,

    (3) وفاء الوفاء 1//112.

    (4) السمهودي : وفاء الوفاء 1/116.

    (5) أحمد إبراهيم :مكة والمدينة ص 315 ، ومحمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم ص458-459.

    (6) المصدر السابق ص337-340.

    (7) سديو: تاريخ العرب العام ترجمة عادل زعيتر ص51.

    (8) السمهودي : وفاء الوفاء 1/125-126 ، وأحمد إبراهيم الشريف : مكة المدينة في الجاهلية وعهد الرسول ص 325.

    (9) أحمد إبراهيم الشريف : مكة والمدينة 348.


    (10) ابن الأثير الكامل 1/660-680.

    (11) صحيح البخاري 5/44 ، وانظر 5/67 منه أيضاً وابن هشام السيرة 1/183.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها

    مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها (2)
    أكرم ضياء العمري




    أثر الهجرة في التكوين الاجتماعي لسكان المدينة:

    وقدم المهاجرون إلى المدينة المنورة - كما أطلق على يثرب في الإسلام - وكانوا في البدء من عشائر مختلفة من قريش، ثم استمرت الهجرة وصار حقاً على المسلمين الجدد في أرجاء الجزيرة أن يهاجروا إليها، وظلَّ الأمر كذلك حتى أوقفت الهجرة رسمياً بعد فتح مكة عام ثمان للهجرة.

    والهجرة حدث عظيم استحق أن يكون بداية العام الهجري الجديد عند المسلمين منذ أن وضع الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه التقويم الهجري.

    فالهجرة كانت دليلاً على الإخلاص والتفاني في سبيل العقيدة فقد فارق المهاجرون وطنهم ومالهم وأهليهم ومعارفهم استجابة لنداء الله ورسوله. ولما اعترضت قريش سبيل صهيب الرومي رضي الله عنه بحجة أنه جمع أمواله من عمله بمكة ولم يكن ذا مال قبل قدومه مكة، ترك لهم أمواله وهاجر بنفسه فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ربح صهيب (1). ومنع المشركون أبا سلمة رضي الله عنه من الهجرة بزوجته وابنه فلم يمنعه ذلك من الهجرة وحيداً تاركاً زوجته وطفله، وقد ظلت زوجته أم سلمة تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي نحو سنة حتى تمكنت من الهجرة بابنها ولحقت بزوجها(2). وهكذا فإن الهجرة اقترنت بظروف صعبة كانت تمحيصاً لإيمان المؤمنين واختباراً لقوة عقيدتهم، واستعلاء إيمانهم على الأعراض والمصالح والعلائق الدنيوية.

    وقد دلت أحداث الهجرة على سلامة التربية المحمدية للصحابة رضوان الله عليهم فقد صاروا مؤهلين للاستخلاف في الأرض وتحكيم شرع الله تعالى والقيام بأمره والجهاد في سبيله وهم يُقبلون على بناء دولة المدينة المنورة بعد أن كانوا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطّفهم الناس.

    وقد اختار الله تعالى المدينة لهجرة المسلمين لما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قد أُريت دار هجرتكم، أُريت سبخة ذات نخل بين لابنين). رواه البخاري ومسلم (3).

    وتأخر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة وأخَّر معه أبا بكر الصديق رضي الله عنه حتى أذن الله تعالى له بالهجرة. قالت عائشة رضي الله عنها: وتجهز أبو بكر قِبَل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فلما أذن الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج لم يعلم أحداً بذلك إلاً علياً وأبا بكر وآله، وكان المشركون قد غاظتهم هجرة المسلمين فأتمروا لقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]

    وقد خرج الاثنان إلى جبل ثور حيث أويا إلى غار فيه وتعقبهم المشركون إلى المكان حتى بَدَت أقدامهم خارج الغار فقال الصديق رضي الله عنه: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا! فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثها)، متفق عليه (4) لكنّ الله تعالى صرف المشركين عنهما فلم يفطنوا لهما وخرج الاثنان بعد ثلاثة أيام في طريقها إلى المدينة (5) يقطعان الصحراء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بلغ الثالثة والخمسين وأبو بكر رضي الله عنه الحادية والخمسين، لكن القلوب الموصولة بالله تعالى لا يُعيقها شيء عن بلوغ القصد وتحقيق أهداف الرسالة، ورسالة الإسلام جاءت تنظم أمور العبادات والمعاملات فهي دستور للحياة لابدَّ لتطبيقه من أرض وأمَّة تقام فيها أحكام الله تعالى التي اكتمل تشريعها فيما نزل في المدينة المنورة من قرآن وما نطق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو عمله أو أمره من سنة... وهي تعطي صورة لأمثل دولة ضمَّت أمثل مجتمع ظهرت في تاريخ البشر، وهي النموذج الذي ينبغي على المسلمين في كل زمان ومكان أن يحتذوه ليكفلوا لأنفسهم سعادة الدارين ويبتعدوا عن الشقاء والحياة الضنكى والضياع وسط ركام الجاهلية الذي يزحف من كل مكان ولا منجى لهم إلا بالعودة إلى الله تعالى والاقتداء بهدي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    استجابة المسلمين للأمر بالهجرة:

    منذ أمر الله تعالى المسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة نزلت الآيات القرآنية في الحثِّ على الهجرة وبيان فضل المهاجرين، فقد كانت الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة بحاجة إلى المهاجرين من المؤمنين ليتوطّد سلطان الإسلام فيها إذ يغالبه اليهود والمشركون والمنافقون، وتحيط به قوى الأعراب والمشركين من حول المدينة، ويترصد كفار قريش الذين اقضت الهجرة مضاجعهم فمضوا يخططون للإجهاز على كيان الإسلام الفتي ودولته الناشئة، لذلك تابعت الآيات في الأمر بالهجرة وبيان فضلها وعظم أجرها حتى وعد الله تعالى المهاجرين بمنعهم وتمكينهم من مراغمة أعدائهم والتوسعة عليهم في أرزاقهم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 100] أي أن الذين يخرج بنيَّة الهرجة فيموت في الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر. وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُ مُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الحج: 58] فهنا أقسم تعالى أن يرزق المهاجرين في سبيله رزقاً حسناً سواء قُتلوا في الجهاد أو ماتوا في فراشهم في غير جهاد.

    وقد منع القرآن الكريم المسلمين القادرين على الهجرة من الإقامة مع المشركين قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا٩٧ إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِ ينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا٩٨ فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا٩٩﴾[النساء:97-99].

    وذلك لأن الإقامة مع المشركين فيها تكثير سوادهم وانتفاعهم بالمسلمين في صناعاتهم وزروعهم، بل ربما اضطروهم للمشاركة معهم في حربهم ضد المسلمين كما وقع في غزوة بدر الكبرى، بالإضافة إلى تعرضهم للفتنة من قبل الكفار لصرفهم عن دينهم، ولا يخفى ما في بعدهم عن دولة الإسلام من منع استفادة المسلمين منهم في حربهم ومصالحهم وتكثير سواد هم لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « من جامع مشركاً وسكن معه فإنه مثله» رواه أبو داود(6).

    وقد تأخر بعض المسلمين بمكة عن الهجرة تحت ضغوط أزواجهم وأولادهم فلما هاجروا من بعد ورأوا الذين سبقوهم من المهاجرين وقد تفقهوا في الدين هموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم وكان ذلك سبباً في نزول الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14].

    ويتَّضح من ذلك كله أنَّ الهجرة كانت فرضاً في "أول الإسلام على من أسلم حتى إذا كانت غزوة الأحزاب سنة خمس للهجرة وتبيَّنت قدرة الدولة الإسلامية على الدفاع عن نفسها وحماية كيانها أمام قوى الأحزاب مجتمعين لم تعد بحاجة إلى مهاجرين جدد، فقد تغيرت خطة الدولة الإسلامية من الدفاع إلى الهجوم وعبَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك بقوله: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا)

    وكذلك ضاقت المدينة بسكانها المتزايدين وما يحتاجونه من القوت والمسكن فطلب رسول الله الكريم من بعض المهاجرين بعد الخندق العودة إلى ديارهم قائلاً (هجرتكم في رحالكم) إذ لم تعد ثمة حاجة لإقامتهم في المدينة بل صار بقاؤهم في قبائلهم أجدى لقيامهم بالدعوة إلى الإسلام خارج المدينة وتوسيع انتشار الإسلام.

    ولكنَّ ذلك لا يعتبر وقفاً رسمياً للهجرة، بل إن إعلان وقف الهجرة كان بعد فتح مكة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية واذا استنفرتم فانفروا) أخرجه البخاري. وهذا سقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنيَّة على من قام به أو نزل به عدو، لكن الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر ولم يأمن الفتنة على دينه مع قدرته على الخروج منها.

    لقد أدت الهجرة المستمرة إلى تنوع سكان المدينة المنورة فلم يعودوا قاصرين على الأوس والخزرج ويهود بل نزل معهم المهاجرون من قريش وقبائل العرب الأخرى... والمجتمع المدني الجديد أرسيت قواعده وشيِّد بنيانه على أساس روابط العقيدة التي استعلت على ارتباطات القبيلة وعصبيتها وسائر الروابط الأخرى، وبرزت فكرة الأمَّة الواحدة كما سيتضح عند دراسة دستور المدينة المنورة وتقسيمات السكان صار أساسها عقديا وصاروا يقسمون إلى ثلاث مجموعات هي:

    المؤمنون المنافقون اليهود

    وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

    يتبع...


    (1) الحاكم : المستدرك (3/398، وقال صحيح على شرط مسلم.

    (2) انظر سيرة ابن هشام.


    (3) صحيح البخاري 7/186، وصحيح مسلم 7/57.

    (4)صحيح البخاري 7/2177، وصحيح مسلم 7/109.

    (5) أحمد: المسند رقم351 ، وانظر ابن كير : البداية والنهاية 3/187-188.

    (6) الحديث أخرجه الترمذي سنن 4/202، وقال هذا حديث حسن صحيح ،والحاكم في المستدرك 3/490، وقال :صحيح الاسناد ولم يخرجاه وأقره الحافظ الذهبي.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها


    مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها (3)
    أكرم ضياء العمري

    نظام المؤاخاة في عهد النبوة:



    وقد واجه المسلمون المهاجرون من مكة إلى المدينة مشاكل متنوعة حيث تركوا أهليهم ومعظم ثرواتهم بمكة، ولم تكن لهم مهارة في الزراعة والصناعة المنتشرتين في المدينة، وممارستهم للتجارة تحتاج إلى رؤوس أموال كانوا لا يمتلكونها، وكانت علاقاتهم بالمجتمع المدني حديثة، فقد ترك المهاجرون أهليهم ومعارفهم بمكة بالإضافة إلى اختلاف مناخ مكة عن المدينة وإصابتهم بالحمى، فتولد عندهم إحساس بالحنين إلى مكة. ولمواجهة هذه المشاكل والتخفيف عن المهاجرين عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار المؤاخاة وتم ذلك في السنة الأولى للهجرة في دار أنس بن مالك رضي الله عنه(1)، ونظام المؤاخاة يُعبِّر عن الحب والتعاون والمواساة التي غرسها الإسلام في قلوب الصحابة الأولين.

    ولم يبخل الأنصار في مواساة المهاجرين بشيء بل قدَّموا من التضحيات وضروب الإيثار ما خلَّد ذكرهم في القرآن الكريم قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9] وبلغ كرم الأنصار أن اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم نخيلهم بينهم وبين المهاجرين، مع أن النخيل كان مصدر معيشة الكثيرين منهم. على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طلب من الأنصار أن يقوموا بإدارة بساتين النخيل ويحتفظوا بها لأنفسهم على أن يشركوا المهاجرين في التمر (2).

    ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يشأ أن يُشغل المهاجرين بالزراعة ليتفرغوا لمهام الدعوة والجهاد، كما أنهم (لا يعرفون العمل) (3) كما عبَّر الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم مما يؤدي إلى خفض الإنتاج الزراعي الذي تحتاجه المدينة.

    كما وهبت الأنصار كل فضل في خططها وقالوا: إن شئت فخذ منازلنا فقال لهم خيرا وابتنى لأصحابه في أراض وهبتها لهم الأنصار وأراض ليست ملكاً لأحد (4).

    وقد أثَّر هذا التعامل الكريم في المهاجرين، فلهجت ألسنتهم بكرم الأنصار، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً من كثير، لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: (لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم) (5).

    ومع هذا البذل والإيثار الذي أظهره الأنصار فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أوجد نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين كل مهاجري وأنصاري اثنين فشملت المؤاخاة تسعين رجلاً من المهاجرين والأنصار(6)، وقد ترتب على تشريع نظام المؤاخاة حقوق خاصَّة بين المتآخين كالمواساة التي تشمل كل أوجه العون على مواجهة أعباء الحياة سواءً كان عوناً مادياً أو رعاية أو نصيحة أو تزاور أو محبة. كما ترتب على المؤاخاة أن يتوارث المتآخون دون ذوي أرحامهم مما يرقى بالعلاقة بين المتآخين إلى مستوى أرفع من أخوة الدم.

    وقد طابت نفوس الأنصار بذلك، وتصور الروايات عمق التزامهم وتفانيهم في تنفيذه. ومن النماذج الفريدة لهذه المؤاخاة بين سيدنا سعد بين الربيع (الأنصاري) وسيدنا عبد الرحمن بن عوف (المهاجري) رضي الله عنهما.

    فقد قال سعد لعبد الرحمن: إنَّ لي مالاً فهو بيني وبينك شطران، ولي امرأتان فانظر أيها أحب إليك فأنا أطلقها فاذا حلَّت فتزوجها. فقال عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه: بارك الله لك في أهلك ومالك. دلوني على السوق؛ فلم يرجع حتى رجع بسمن وأقطّ قد أفضله(7).

    ولا شك أن المرء يقف مبهوراً أمام هذه الصور الرائعة من الأخوّة المتينة والإيثار المتبادل الذي لا نجد له مثيلاً في تواريخ الأمم الأخرى. وليس موقف ابن عوف في أنفته وكرم خُلقه وعدم استغلاله لأخيه بأقل روعة من إيثار ابن الربيع لذلك بُورك له في عمله ونمت ثروته حتى صار من أغنياء المسلمين فقد أبى إلا أن يكون صاحب اليد العليا التي تعطي ولا تأخذ.

    ونظراً لأن التوارث بين المتآخين كان في ظروف استثنائية اقتضته، فقد رجع التوارث إلى وضعه الطبيعي المنسجم مع الفطرة البشرية على أساس صلة الرحم، وأبطل التوارث بين المتآخين بنص القرآن الكريم: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 75] وكان ذلك بعد غزوة بدر الكبرى التي أصاب المسلمون من غنائمها الكثير. وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن ما أنفي من نظام المؤاخاة هو الإرث فقط وأما النصر والرفادة والنصيحة فباقية (8).

    وقال الحافظ النووي: وأما المؤاخاة في الإسلام والمحافظة على طاعة الله تعالى والتناصر في الدين والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق فباق لم ينسخ(9).

    إنَّ استجابة المسلمين لأوامر الله تعالى تظهر في انخلاعهم عن علاقاتهم الاجتماعيَّة والمكانيَّة إذا اقتضت ذلك مصلحة العقيدة.

    آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين الناس:

    ولا شك أن الروابط التي تجمع بين الناس مختلفة، وهم يجتمعون بشكل قبائل وشعوب وأوطان وقوميات، وقد يجتمع أبناء القوميات المختلفة تحت لواء واحد بسبب الدين أو المصالح المشتركة. وتعتبر آصرة القربي أو الدم والانتماء إلى أصل عرقي من أقدم الروابط التي كوَّنت المجتمعات البشريَّة، ويوم أن ظهر الإسلام كانت تجمعات الناس تظهر بشكل قبائل كما في جزيرة العرب وأماكن أخرى وقوميات كما في بلاد فارس، ومجتمعات دينية كما في الامبراطورية البيزنطية، وقد جعل الإسلام رابطة العقيدة هي الأساس الأول في ارتباط الناس وتآلفهم وإن أقرَّ بعض الأواصر الأخرى إذا أنضوت تحت هذا الأصل مثل الأرحام التي حثَّ الإسلام على وصلها. ورتب على ذلك الأحكام المتعلقة بالتكافل الاجتماعي والإرث، ومثل صلة الجوار وما يترتَّب عليها من حقوق الجار ومثل الصلة بين أفراد العشيرة وما يترتَّب عليها من تضامن في الديَّات، ومثل الصلة بين أبناء المدينة وجعلهم أولى من سواهم بزكاة أغنيائهم... لكن هذه الصلات ينبغي أن تنضوي تحت آصرة العقيدة فاذا خالفتها وأضرت بها لم يبق لها أي اعتبار، فأساس الارتباط في الإسلام هو العقيدة التي قد تقتضي مصلحتها التفريق بين المرء وأبيه أو ابنه أو زوجته أو عشيرته.. وهكذا قاتل أبو عبيدة رضي الله عنه أباه - وهو يمجد الأصنام فقتله عندما التقى به في معركة بدر الكبرى. ورأى أبو حذيفة رضي الله عنه أباه المشرك يُسحب ليرمى في القليب ببدر دون أن ينكر قلبه ذلك (10).

    قال ابن اسحق:(11)

    وحدثني ابن وهب أخو بني عبد الدار أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أقبل بالأسارى فرَّقهم بين أصحابه وقال: استوصوا بهم خيراً وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسرى قال أبو عزيز: مرَّ بي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال - أشدد يديك به فإنَّ أمه ذات متاع لعلها تفديه منك.... قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث ولما قال أخوه مصعب لأبي اليسر - وهو الذي أسره ما قال، قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي ؟ فقال له مصعب إنَّه أخي دونك.

    وروى الترمذي: (12) بإسناد قال عنه صحيح وهو: حدثنا ابن أبي عمر أخبرنا سفيان عن عمر وابن دينار سمع جابر ابن عبد الله يقول: كنا في غزاة - قال سفيان يروون أنها غزوة المصطلق - فكسح رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار... وفيه فسمع ذلك عبد الله بن أُبي بن سلول فقال: أوقد فعلوها؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وقال غير عمرو: فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العزيز ففعل.

    وقد كان عبد الله بن عبد الله بن أُبي رضي الله عنه باراً بأبيه هياباً له(13)، لكن مصلحة العقيدة هي المعتبرة عنده أولاً فلما رأى أباه يؤذي المسلمين عرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتله ويأتيه برأسه (14).

    وقد أوضح القرآن الكريم أنَّ العقيدة هي الأساس في ارتباط الناس بعضهم ببعض فيما قصه عن نوح عليه السلام وابنه: ﴿وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ٤٥ قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡ*َٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِين﴾[هود:45-46] .

    وهكذا بيَّن الحق سبحانه أن ابن نوح وإن كان من أهله باعتبار القرابة لكنه لم يعد من أهله لمَّا فارق الحق وكفر بالله تعالى ولم يتبع نوحاً نبي الله.

    وصرَّح القرآن الكريم بعلة انقطاع الآصرة بين نوح وابنه بقوله: ﴿إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ﴾ فاذا كانت القرابة من الدرجة الأولى تنبتّ عندما تصطدم بالعقيدة فالأحرى أن تنبتّ صلات الدم والعرق والوطن واللون إذا اصطدمت مصلحة العقيدة.

    وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى حتى ولو كانوا أباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم ووصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلم مما يدل على أن موالاة المؤمنين للكافرين من أعظم الذنوب قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [التوبة: 23].

    وقد وضع القرآن الكريم مصالح المسلم وعلاقاته الدنيوية كلها في كفّة ووضع حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والجهاد في سبيل العقيدة في كفّة أخرى، وحذر المؤمنين وتوعدهم إن هم غلّبوا مصالحهم وعلاقاتهم الاجتماعية على مصلحة العقيدة قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24] وقد نزلت هذه الآيات من سورة التوبة في الحضِّ على الهجرة إلى المدينة المنورة للدفاع عن الدولة الإسلامية التي نشأت فيها... وقد نجح الصحابة الكرام في امتحان العقيدة... ففارقوا الأهل والأموال والمساكن التي يحبونها وهاجروا إلى الله تعالى ورسوله والجهاد في سبيله.

    وخلاصة القول أنَّ المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعاً عقدياً يرتبط بالإسلام، ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين. وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاها إذ يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، وهذا المجتمع مفتوح لمن أراد أن ينتمي اليه مهما كان لونه أو جنسه على أن يخلع من صفاته الجاهلية ويكتسب الشخصية الإسلامية ليتمتع بسائر حقوق المسلمين.

    وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

    يتبع...


    (1) ابن سعد : الطبقات : ج1 قسم 2 ص9، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/200.

    (2) البخاري : الصحيح 5/329.

    (3) المصدر السابق : 2/329.

    (4) البلاذري : أنساب الأشراف 1/270.

    (5) ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/200 ، وابن كثير : السيرة النبوية 2/328.

    (6) ابن سعد : الطبقات : ت ج 1 قسم 2/9، والبلاذري : أنساب الأشراف 1/270.

    (7) سنن النسائي 6/137.

    (8) انظر تفسير الآية للشوكاني : فتح القدير 2/330-331 ، وعن سبب النزول انظر بسند الطياسي 2/19، ومجمع الزوائد للهيثمي 7/28.

    (9) صحيح البخاري : 3/119 – 6/55 - 56 8/190-191.

    (10) صحيح مسلم : 4/1960 الحاشية.

    (11) سيرة ابن هشام 2/75.

    (12) ابن كثير : البداية والنهاية 2/206-207.


    (13) سنده في كتاب التفسير 5/90.

    (14) الحميدي : المسند 2/520.

    (15) الهيثمي : مجمع الزوائد 9/37.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها

    مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها (4)
    أكرم ضياء العمري



    الحب أساس المجتمع المدني:

    وقد أقام الإسلام المجتمع المدني على أساس الحب والتكافل، كما في الحديث الشريف: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) فالتواد والرحمة والتواصل أساس العلاقة بين أفراد المجتمع كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم حاكمهم ومحكومهم.

    وقد تكفَّلت تعاليم الإسلام بتدعيم الحب وإشاعته في المجتمع ففي الحديث النبوي: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فيعيش المؤمنون بعيداً عن الأثرة والاستغلال وهم يتعاونون في مواجهة أعباء الحياة (فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي والإمام أحمد (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي وأبو داوود.

    وعلاقات المؤمنين قائمة على الاحترام المتبادل فلا يستعلي غني على فقير ولا حاكم على محكوم ولا قوي على ضعيف: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه الإمام مسلم

    وقد تفتر العلاقة بين المسلم وأخيه أو تنقطع ساعة غضب لكن انقطاعها لا يستمر فوق ثلاث ليل: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام) كما في الصحيحين.

    وتدعم أسس الحب بالصلة والصدقة (تهادوا تحابوا) ويضع الغني أمواله في خدمة المجتمع وسدِّ الثغرات التي تظهر في بنائه الاقتصادي بسبب التفاوت في توزيع الثروة فيخرج زكاة أمواله فريضة من الله يواسي المحتاجين بأمواله حتى إنهم ليفرحون إذا كثرت ثروته إذ تعود عليهم بالخير والمواساة.

    أخرج الإمام البخاري (6/31 كتاب التفسير ) عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: (كان أبو طلحة أكثر أنصاريّ بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله اليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92] قام أبو طلحة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله ان الله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وإنَّ أحب أموالي إليَّ (بيرحاء)، وانها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك مال رايح(1)، ذلك مال رايح، وقد سمعت ما قلت واني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه).

    وكان أغنياء الصحابة يعرفون أنهم مستخلفون على المال الذي اكتسبوه، فإذا وجدوا ثغرة تعجز الدولة عن سدها أو لا تنتبه لها بذلوا أموالهم في سدها... وقد ثبت في التاريخ أنَّ عثمان رضي الله عنه تصدق بقافلة ضخمة ألف بعير تحمل البر والزيت والزبيب على فقراء المسلمين عندما حلَّت الضائقة الاقتصادية بالمدينة المنورة في خلافة الصديق رضي الله عنه وقد عرض عليه التجار خمسة أضعاف ثمنها ربحاً فقال: أعطيت أكثر من ذلك. فقالوا: من الذي أعطاك وما سبقنا إليك أحد، ونحن تجار المدينة؟ قال: إن الله أعطاني عشرة أمثالها ثم قسمها بين فقراء المسلمين.

    ومثل هذا كثير في سير المسلمين من سلفنا الصالح لذلك لم تظهر الروح الطبقية ولم يحدث الصراع الطبقي... ولم يتكتل الناس وفق مصالحهم الاقتصادية لحرب من فوقهم أو تحتهم... إنَّ المجتمع الإسلامي لم يشهد صراع الطبقات ولا يعرف استعلاء غني على فقير ولا حاكم على محكوم ولم يعترف ابتداء باختلاف البشر تبعاً لألوانهم وأعراقهم أو دمائهم فالمسلمون سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.. والمجتمع الإسلامي مفتوح أمام الجميع ففرص الارتقاء والكسب متكافئة أمام أفراده، والعلاقات الاجتماعية متكافئة أيضاً، فلم يحدث أن منع فقير من الزواج بغنية أو حجب ضعيف عن الترقي إلى أرفع مناصب الدولة وأعلى مراكز القيادة والتوجيه في المجتمع، فليست هناك طبقية يصطدم رقي الفرد بسقوفها ولو قدّر للمجتمع الإسلامي أن يستمر في تقدمه العلمي والحضاري ويمسك بزمام البشرية اليوم لظهرت مزايا الإسلام في بناء مجتمع متراص على أساس الحب والتكافل وليس الحقد والصراع الذي ليس وراءه إلا الدمار.

    وإذا كان هذا هو موقف أغنياء المسلمين في المجتمع المدني فما هو موقف ضعفائهم وفقرائهم؟

    الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد:

    لقد وقف الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد: فالعقيدة الإسلامية منعت ظهور الصراع الطبقي في المجتمع الإسلامي وآخت بين الأغنياء والفقراء ووحدت الصف الداخلي لمواجهة متطلبات الجهاد، وهذه صورة من المجتمع المدني توضّح كيف عاشت مجموعة من أفقر المسلمين في عصر السيرة.

    قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273].

    ذكر ابن سعد في طبقاته (2) بإسناده إلى محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه أنَّ هذه الآية نزلت في أهل الصفة، وذكر الطبري (3) في تفسيره بأسانيده عن مجاهد والسدي أنها نزلت في فقراء المهاجرين.

    وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يُفكر في إيجاد مأوى للفقراء المقيمين والوفود الطارقين لأنَّ تدفق المهاجرين إلى المدينة المنورة استمر خاصة قبل غزوة الخندق حيث كان الكثيرون منهم يستقرون داخل المدينة إلى جانب الوفود الكثيرة التي طرقت المدينة آنذاك، ومنهم من لم يكن على معرفة بأحد من المدينة، وقد حانت الفرصة عندما تم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة وذلك بعد ستة عشر شهراً من الهجرة إلى المدينة حيث بقي حائط القبلة الأولى في مؤخرة المسجد النبوي فسقف واطلق عليه اسم (الصفة)، وكان أول من نزلها فقراء المهاجرين، ثم من أخلاط القبائل حتى زادوا على السبعين(4)، وكان أبو هريرة رضي الله عنه عريف أهل الصفة فكان واسطة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان يعرف مراتبهم في العبادة والمجاهدة (5).

    وقد انقطع أهل الصفة للعلم والعبادة وألفوا الفقر والزهد فكانوا في خلوتهم يصلون ويقرأون القرآن ويتدارسونه ويتعلم بعضهم الكتابة، حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت رضي الله عنه لأنه كان يعلمهم القرآن والكتابة (6)، واشتهر عريفهم أبو هريرة رضي الله عنه بكثرة حديثه وسعة حفظه.

    لكن انقطاع أهل الصفة للعلم والعبادة لم يعزلهم عن المشاركة في أحداث المجتمع والاسهام في الجهاد، بل كان منهم الشهداء ببدر وأحد وخيبر وتبوك واليمامة فكانوا رهباناً في الليل فرسانا في النهار(7)، فالإسلام لا يعرف العزلة عن الحياة بل يربي أتباعه على السلوك الإيجابي المؤثر في واقع المجتمع.

    وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعهد أهل الصفة بنفسه، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعُود مرضاهم كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكّرهم ويقص عليهم ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته وذكر الله والتطلع إلى الآخرة، ويشجعهم على احتقار الدنيا وعدم تمني متاعها، وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، واذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها، وكثيراً ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أزواجه أمهات المؤمنين(8)، ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يغفل عنهم، بل كانت حالتهم ماثلة أمامه، وقد جاءه مرة مال فسألته ابنته فاطمة شيئاً فعلّمها وزوجها عليا رضي الله عنهما كلمات يدعوان بها وقال: (لا أعطيك وأدع أهل الصفة تلوي بطونهم من الجوع)(9). وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوزع أهل الصفة بين أصحابه بعد صلاة العشاء ليتناول الطعام ويأخذ بقيتهم معه، وكان سبعون من الفقراء - وهم الذين استشهدوا يوم بئر معونة - يقرأون القرآن ويتدارسونه ويتعلمون بالليل ويعلمون ويتصدقون على أهل الصفة بالنهار وكان ذلك أول الإسلام (حتى جاء الله بالغنى).

    رحم الله القوامين الصوامين المجاهدين الزاهدين أهل الصفة وصدق الله العظيم ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة: 273] .

    فأين هذا النموذج مما يحدثه الفقراء المدقعون في المجتمعات الجاهلية من تكوين العصابات التي تتولى أعمال السرقة والقتل وأنواع العدوان الذي يُفقد المجتمعات الاستقرار والإحساس بالأمن... إلا أنه الفرق بين تربية محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتربية الجاهلية... والفرق بين نظام الله ونظام البشرية.

    فهذه صورة من الارتباط القوي الذي أوجده الإسلام عملياً في المدينة المنورة حيث تظهر صورة المجتمع الإسلامي بأزهى وأكمل حالاتها، ومنها تتبين لماذا لا يحدث الصراع الطبقي في المجتمع الإسلامي ولماذا يقف الأغنياء والفقراء في صف واحد لدعم رسالة الإسلام.

    دستور المدينة:

    تعتبر الوثيقة التي كتبها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار من ناحية وبين المسلمين واليهود من ناحية أخرى أول دستور أعلنه الإسلام. حيث أوضحت التزامات جميع الأطراف داخل المدينة المنورة وحدَّدت الحقوق والواجبات، وقد شك بعض الباحثين المعاصرين في صحتها(10)، لكن معظمهم اعتمدوا عليها في دراساتهم عن المجتمع المدني في عصر السيرة. والحكم بوضع الوثيقة مجازفة لأن كتب الحديث النبوي المعتمدة أوردت مقتطفات كثيرة تشمل عددا كبيراً من بنودها المتعلقة بتنظيم العلاقة بين المهاجرين والأنصار، ولكن الوثيقة بجملتها لم ترد بإسناد صحيح متصل بل جاءت في سيرة ابن اسحق دون إسناد وفي تاريخ ابن أبي خيثمة بإسناد ضعيف فيه كثير بن عبد الله المزني، وفي كتاب الأموال لأبي عبيد من مراسيل الزهري ومراسيله ضعيفة عند المحدثين لكنه إمام في المغازي. وأسلوب الوثيقة يشبه أسلوب كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأخرى مما ينم عن أصالتها.

    والوثيقة في الأصل وثيقتان، الأولى تتناول تحديد العلاقة بين المسلمين واليهود والراجح أنها كتبت قبل موقعة بدر الكبرى حيث صرح أبو عبيد بأنَّ ذلك قبل أن يظهر الإسلام ويقوى (11) كما بيَّن البلاذري أن ذلك قبل الإذن بالقتال (12).

    وأما الوثيقة الثانية التي تحدد علاقات المهاجرين والأنصار بعضهم ببعض فقد كُتبت بعد بدر في السنة الثانية للهجرة وكانت صحيفة معلقة في جفن سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذي الفقار الذي غنمه ببدر والذي صار للإمام علي رضي الله عنه ومعه الصحيفة فكان يحدث بها(13).

    وقد التزم اليهود بموجب الوثيقة بالمشاركة مع المسلمين في الدفاع عن المدينة المنورة ولكن هل نُفذ ذلك عملياً؟ إن سائر الأحاديث المروية عن اشتراك اليهود مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحروب ضعيفة (14) بينما وردت أحاديث صحيحة تدل على منع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم من الاشتراك مع المسلمين في الحروب(15) عندما حاولوا الاشتراك تعزيزاً للأحلاف القديمة بينهم وبين الأوس والخزرج من ناحية وسعياً لتوثيق الصلة بينهم بغية الإفادة من ذلك في التأثير عليهم وغلغلة النفاق في صفوفهم. لكنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قطع عليهم الطريق برفض معونتهم ما داموا على الشرك.

    وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

    يتبع...


    (1) أي أن أجرها يروح ويغدو عليه (فتح الباري 3/326).

    (2) الطبقات الكبرى 1/255.

    (3) الطبري : 5/291 طبعة محمود محمد شاكر.

    (4) أبو نعيم الحلية : 1/339-341.

    (5) المصدر السابق 1/347.

    (6) سنن أبو داوود 2/237.

    (7) أكرم العمري : أهل الصفة ص 151 (بحث منشور في مجلة كلية الدراسات الإسلامية سنة 1968م).

    (8) صحيح البخاري رقاق باب 14 والاستئذان باب 14.

    (9) مسند أحمد 1/79-106 ، ومسند أحمد 2/515، 3/429، 490.

    (10) ذهب الدكتور يوسف العش إلى أنها موضوعة (الدولة العربية وسقوطها ص 20 حاشية رقم 9).

    (11) وردت هذه المقتطفات في صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داوود وابن ماجة والترمذي ومسند الإمام أحمد.

    (12) الأموال رقم 518.

    (13) أنساب الأشراف 1/286.

    (14) صحيح البخاري : 9/14. والترمذي الجامع 6/182، وابن ماجة (السنن) 2/88 ، وأحمد في المسند 1/79 ، 119 ، 122.

    (15) أبو يوسف : الرد على سيرة الأوزاعي ص40 ، وسنن البيهقي 9/53 ، وسنن الترمذي 4917 ، ونصب الراية للزيلعي 3/422.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها

    مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها (5)
    أكرم ضياء العمري



    إن استمرار المحالفات القديمة بين الأوس والخزرج واليهود يتضح من قول الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحد: (ألا نستعين بحلفائنا من يهود)(1).
    كما يتضح من شفاعة عبد الله بن أبي سلول كبير المنافقين في بني قينقاع حلفاء قومه الخزرج، ومن محاولة بعض الأوس تخليص حلفائهم يهود بني قريظة من القتل بعد نزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحكّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ فحكم بقتلهم وبذلك تبرأ من حلفهم كما تبرأ من قبله عبادة بن الصامت (من بني عمرو ابن عوف من الخزرج) رضي الله عنه؛ من بني قينقاع حين حاربوا المسلمين.
    وقد كفلت الوثيقة الحرية الدينية ممَّا يدل على أن أحداث جلاء اليهود لا علاقة لها باختلاف العقيدة، خاصة وأن الحرية الدينية لغير المسلمين ظلت مكفولة في الدولة الإسلامية كما أنها في أبرز خصائص الحضارة الإسلامية.
    وحددت الوثيقة مسؤولية الإجرام وحصرها في مرتكبيها من اليهود، فالمجرم ينال عقابه وإن كان من المتعاهدين، وقد اعترف اليهود بوجود سلطة قضائية عليا يرجع إليها سائر سكان المدينة بما فيهم اليهود، لكن ذلك لا يتعلق بالقضايا الخاصَّة بين اليهود ولا بأحوالهم الشخصية فهم يرجعون في ذلك إلى أحبارهم وإن كان من حقهم أن يعرضوا ذلك على القضاء الإسلامي أيضاً.
    وقد منعت الوثيقة اليهود من إجارة قريش أو نصرها أو التعهد بحماية تجارتها كما منعتهم من القيام بنشاط عسكري خارج المدينة مما يؤثر على أمن المدينة واقتصادها.
    فاليهود كمواطنين في الدولة الإسلامية يجب أن يخضعوا للنظام العام، وقد اعتبرت الوثيقة منطقة المدينة المنورة حرماً لا يحل انتهاكه وبذلك أحلت إلا من داخل المدنية ومنعت الحروب الداخلية.
    أما الوثيقة التي كتبت بين المهاجرين والأنصار بعد غزوة بدر الكبرى فقد ذكر فيها مصطلحا (المؤمنين، والمسلمين) مما يشير إلى التمييز بين المصطلحين لظهور المنافقين في مجتمع المدينة. وقد قررت الوثيقة أن المؤمنين والمسلمين أمَّة واحدة من دون الناس فهم يرتبطون برابطة العقيدة التي توحد مشاعرهم وأفكارهم وسلوكهم وتجعلهم يخضعون للشرع وليس للعرف، كما تجعل ولاءهم لله ولرسوله وليس للقبيلة، وتميّز الجماعة الدينية في المجتمع المدني كان مقصوداً ليزداد تماسكها واعتزازها بذاتها، ويتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة بعد أن اتجهت ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس، وقد أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأتباعه بالصلاة بالنعل وصبغ الشيب بالحناء والكتم مخالفة لليهود، وصار التمايز مبدأ إسلامياً للحديث الشريف (ومن تشبه بقوم فهو منهم) لكن هذا التمايز والاستعلاء لا يشكل حاجزاً بين المسلمين وغيرهم فكيان الجماعة الإسلامية مفتوح وقابل للتوسع ويستطيع الانضمام اليه مَنْ قَبِل (أيديولوجيته).
    وقد ذكرت الوثيقة: الكيانات العشائرية التي ينتسب إليها الأنصار، ولا يعني ذلك الإبقاء على العصبية القبلية والعشائرية لأنَّ الإسلام حرَّم ذلك: (ليس منا من دعا إلى عصبية) وإنما اعترف الإسلام بالارتباطات التي تنضوي تحت رابطة العقيدة وتخدم المجتمع الإسلامي وتُسهم في بناء التكافل الاجتماعي بين أبنائه، مثل الارتباطات الخاصة بين أفراد الاسرة الواحدة والعشيرة الواحدة وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات كالتضامن في دفع الديات وفكاك الأسرى وإعانة المحتاج منهم، فقد رتَّب الإسلام على الوحدات الاجتماعية الصغيرة والقيام بمهام التكافل الاجتماعي وبذلك سد ثغرات كبيرة مما يرفع عبئاً كبيراً عن كاهل الدولة تنوء به الدول الحديثة.
    وهكذا فإن إقرار الروابط العشائرية قصد به الاستفادة منها في التكافل الاجتماعي ولكن لا تناصر في الظلم ولا عصبية، وبذلك حوَّل الإسلام وجهة الروابط القبلية واستفاد منها بتكييفها وفق أهدافه العليا، ولا شك أن هذا التحول الخطير وضعت أمامه عراقيل خطيرة من قِبَل المنافقين واليهود الذين حاولوا إثارة العصبية في مواقف شتى، ولكنَّ العقيدة الإسلامية غالبت هذه العراقيل وغلبتها وتمكّنت من إحلال المفاهيم الإسلاميَّة الجديدة محل العصبيات الجاهليّة.
    وكذلك أكدت الوثيقة على المسؤولية الجماعية واعتبرت سائر المؤمنين مسؤولين عن تحقيق العدل والأمن في مجتمع المدينة إذ لم توجد بعد قوة منظمة كالشرطة لتعقب الجناة.
    ونظرا لكون تشريع الحدود مصدره الله تعالى فإن السعي لتطبيقها واجب ديني على المؤمنين، وهذا يكسب الأحكام قدسية ويعطيها قوة كبيرة ويمنع ما ينشأ في نفوس بعض الناس من الرغبة في تحدّيها والخروج عليها كما يحدث في ظل القوانين الوضعية.
    وقد حصرت الوثيقة مسؤولية إعلان الحرب والسلم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أعلن الحرب فإن سائر المؤمنين يصبحون في حالة الحرب مع الخصم ولا يمكن لفرد منهم مهادنته لأنه مرتبط بالسياسة العامة للمؤمنين.
    كما أقرّت الوثيقة مبدأ الجوار وجعلته حقاً لكل مسلم، كما حصرت الموالاة بين المؤمنين، والموالاة تقتضي المحبة والنصرة، فلا تجوز موالاة غير المؤمنين.
    وأكدت الوثيقة في ختام بنودها أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المرجع الوحيد في كل خلاف يقع بين المسلمين في المدينة.
    وهكذا حددت الوثيقة العلاقات بين الأطراف المختلفة في المدينة المنورة وأوضحت الحقوق والواجبات العامة فكانت بذلك أول دستور أعلنه الإسلام (2).
    ما أحدثه الإسلام من تغيير في الحياة عند ظهوره:
    لا شك أنَّ لكل حضارة وفكر ودين طابعاً يطبعه وصبغة تصبغه ولوناً يُميِّزه، وعلى قدر أصالة الحضارة وعمقها وشمولها يكون تأثيرها في الإنسان الذي يعيش في إطارها وقد تتشابه الأفكار والمعتقدات ولا تستقل عن بعضها إلا في جوانب معيَّنة كما هو الحال في الفلسفات المادية المهيمنة على عالمنا المعاصر، فإنَّ التحول من واحدة إلى أخرى لا يتطلب تغييرا جذرياً وانقلاباً شاملاً في حياة الإنسان بل يكفي أن تتغير قناعته بمبدأ منها وتزداد بآخر ليتم التحول الفكري إلى المبدأ الجديد.. إنَّ هذا التحول لا يحتاج إلى مجهود كبير إذ ليس له أثر على السلوك اليومي والعادات المتأصلة في النفس فلا ينعكس إذاً على واقع الحياة.
    إنَّ هذه الظاهرة لا تنطبق على الإسلام، فهذا الدين منذ ظهوره أحدث انقلاباً جذرياً في حياة الفرد والجماعة بحيث تغير سلوك الأفراد اليومي وعاداتهم المتأصلة تغيراً كلياً، كما تغيَّرت مقاييسهم وأحكامهم ونظرتهم إلى الكون والحياة والإنسان... وكذلك تغيَّرت بنية المجتمع بصورة واضحة فاختفت مظاهر وصور وبرزت معالم وظواهر جديدة.
    إن النقلة التي أحدثها الإسلام في تاريخ الجزيرة العربية عميقة وشاملة، ففي عالم العقيدة يمثل طفرة من عبادة الأشياء المحسوسة كالأصنام والأوثان والكواكب التي يرونها ويلمسونها إلى عبادة الله الواحد الذي ليس كمثله شيء والذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
    والذي لا يمكن تصوره ومثله ومعرفة كنهه، بل يُعرف بما وصف به نفسه في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين دون تمثيل ولا نفي أو تعطيل.
    وهذه طفرة من (العقل البدائي) الذي يتعامل مع المحسوسات إلى العقل الحضاري، الذي يتمكّن من فهم التوحيد والتنزيه لله رب العالمين. وفي سلوك الإنسان اليومي أحدث الإسلام تغييراً جذرياً.. فالنقطة كبيرة بين ما كان عليه في جاهليته وما صار اليه في إسلامه... لم يعد العربي كما كان متفلتا من ضوابط القانون في معاملاته وعلاقاته الاجتماعية بل صار منضبطاً بضوابط الشريعة في جزئيات حياته من أخلاق وعادات ونوم واستيقاظ وطعام وشراب وزواج وطلاق وبيع وشراء... ولا شك أنَّ العادات تتحكم في الإنسان ويصعب عليه التخلص منها واكتساب عادات وصفات جديدة.. لكن ما ولَّده الإسلام في أنفسهم من إيمان عميق مكّنهم من الانخلاع من الشخصية الجاهلية بكل ملامحها واكتساب الشخصيّة الإسلاميّة بكل مقوماتها. فاعتادوا على عبادة الله تعالى واتجهوا بكل نشاطهم الاجتماعي والاقتصادي إليه لأنَّ العبادة في الإسلام شاملة لكل نشاط وحركة يقصد بها وجه الله تعالى، والتزموا بأداء الصلاة التي هي عماد الدين يومياً خمس أوقات محددة.. ولا شك أنَّ النفس تكسل وتحاول التنصل من الواجبات والالتزامات، لكن المسلم وقد أسلم وجهه لله تعالى تمكّن من الاعتياد عليها قال تعالى مبيناً ما تحتاجه الصلاة من صبر: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132].
    وكذلك الأمر بالنسبة للصوم ما فيه من خرق لعادات الإنسان اليومية في تناول الطعام والشراب يحتاج إلى إرادة قوية وعزيمة مؤمنة.. والتخلي عن جزء مما يملك الإنسان من مال كل سنة لأداء الزكاة يحتاج إلى التخلص من الحرص والشح فلابدَّ أن يكون حب السلم لله تعالى أعظم من حبه للمال ليُخرج زكاته ولذلك فإن كثيراً من المرتدين في خلافة الصديق رضي الله عنه أعلنوا استعدادهم للبقاء على إسلامهم إذا أعفوا من الزكاة. وإلى جانب الاعتياد على الأوامر الجديدة وحمل النفس عليها كان لابدَّ للمسلم أن يتخلص من كثير من العادات المتأصلة كشرب الخمر والأنكحة الجاهلية التي أبطلها الإسلام والربا الذي كان يقوم عليه اقتصاد مكة وغيرها. إنَّ المسلمين تخلصوا من هذه العادات وغيرها استجابة لله تعالى... فما نزل قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ٩١﴾[المائدة:90-91] حتى خرجت الأنصار بدِنَان الخمر إلى الأزقة وأراقوها وقالوا: (انتهينا ربنا انتهينا ربنا) وشرب الخمر التي أقلعوا عنها كان عادة متأصلة في حياة الفرد والمجتمع؛ والخمر التي أراقوها كانت مالاً ضحوا به تسليماً لله رب العالمين.
    ولم يكن العربي ليخضع لدولة وإنما كانت الوحدة السياسيَّة والاجتماعيَّة هي القبليَّة وكانت الدويلات التي نشأت في أنحاء من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام بوقت طويل قد اندثرت وطغت البداوة والقبلية بما فيها من عصبية ونزاع وصراع وتفكك في سائر شبه الجزيرة، فلما جاء الإسلام أرسى مفهوم الدولة وربط سائر القبائل والأفراد بها، فقامت دولة المدينة المنورة على أساس فكري بحت وتوسعت لتوحيد شبه الجزيرة العربية لأول مرة في تاريخها تحت راية الإسلام فكانت هذه نقلة في تاريخ شبه الجزيرة العربية السياسي.
    وهكذا فإن الإسلام أحدث تغييراً جذريا في حياة الفرد والمجتمع في المدينة المنورة لما تميَّز به من عمق وشمول وقدرة على التأثير حتى صبغ الحياة بكل جوانبها بصبغة ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة: 138].
    صدق الله العظيم
    وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
    المصدر: بحوث المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية /الدوحة/محرم 1400هـ.
    الحلقة السابقة هــــنا
    (1) مستدرك الحاكم 2/122، وسنن البيهقي 9/37.

    (2) سيرة ابن هشام 2/64، والمدونة الكبرى لسحنون 3/40 ، وزاد المعاد لابن القيم 2/92.
    (3) انظر بحثي : (أول دستور أعلنه الإسلام) مجلة كلية الإمام الأعظم ببغداد العدد الأول 1392هـ = 1972م.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •