تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: أوقاتنا بين الهدر والاستثمار

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي أوقاتنا بين الهدر والاستثمار

    أوقاتنا بين الهدر والاستثمار


    معاشر المؤمنين الكرام: حين يقالُ أنَّ الوقتَ هو رأسُ مالِ الانسانِ وأغلى موارده، فإنَّ هذا لا يكفي لبيان عِظمِ أهميةِ الوقتِ ونفاستهِ.. فكل جزئيةٍ من الوقت هي فرصةٌ وحيدة.. وهي شيءٌ لا يُستعاد.. ولا يتكرر.. ولا يُخزن.. ولا يُشترى.. ولا يوهب.. ولا يعوض.. ولا يُستبدل.. ولا يتأجل.. ولا يتمدد.. ولا يتباطأ.. ولا يتوقف.. ولا يتراجع.. وإنما يمضي للأمام دوماً.. وكلما مضى من الزمن ثانيةُ، فإنها أبداً لن تعودَ ثانيةً..

    الوقت هو أعظمُ وأغلى وأنفسُ ما وُهبِ لك أيها الإنسانُ بعد الإيمان.. هب أنك تملك كلَّ كنوزِ الدنيا وثرواتها، وانتهي وقتك، وحانت وفاتك، فما قيمة تلك الكنوز بالنسبة لك؟.. (لا شيء).. تأمل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99-100].. فدقائق الوقت وثوانيه هي في الحقيقة أغلى من كل كنوز الدنيا ونفائسها.. وإذا ضاع منها شيءٌ، فلا يمكن تعويضه أبداً، وخسارتهُ لا يمكنُ تقديرها بأي ثمن كان.. دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ.. إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني.. والناسُ غادٍ في الحياة وَرائِحٌ.. ما بين ربحانٍ بها أو خسْرانِ... وحين يقول الحقُّ جلَّ وعلا: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 23-24]، فإن معناه أن عمرَ الانسانِ الحقيقي يُحسبُ بمقدار الوقتِ الذي استثمرهُ لعِمارة آخرتهِ.. وما عدا ذلك فهو خسارةٌ لا تُحسب.. تأمَّل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.. وبهذا يكونُ هدرُ الوقتِ وضياعهُ هو أعظمُ خسارةٍ يتعرضُ لها الانسان.. وتأمَّل ما يقولهُ الإمامُ أبن القيم: العاقلُ من يعرفُ قيمةَ وقتهِ، وأنه إن أضاعهُ ضاعت عليه مصالحه، فجميعُ المصالح إنما تنشأُ من الوقت، ووقتُ الإنسانِ هو عمرهُ في الحقيقة، فما كان منهُ لله وبالله فهو حياتهُ وعمره، وغيرُ ذلك فليسَ محسوباً من حياته انتهى...
    وعلى هذا فمن يجرؤ على إضاعة ولو جزءٍ يسيرٍ من وقته، فما عرفَ بعدُ قيمةَ الحياةِ، ولا معنى العمر.. جاء في حديثٍ صححه الامام الألباني: قال صلى الله عليه وسلم: من قرأ «(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) عشرَ مراتٍ بنى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ».. وفي رواية حسنة: «من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) حتى يختمها عشر مراتٍ بنى الله له قصراً في الجنة».. بل جاء في حديثٍ صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: «من قال (سبحان اللهِ وبحمدِه)؛ غُرِسَتْ له نخلةٌ في الجنَّةِ».. إذن تنطق بثلاث كلمات فقط، فتحصل على غرسة في الجنة، وغِراس الجنة كما جاء في الأحاديث الصحيحة لها مواصفاتٌ عجيبة، فالجواد السريع يسير في ظلها سنواتٍ لا يقطعها.. ولذلك: «ليسَ يتحسَّرُ أَهلُ الجنَّةِ على شيءٍ إلَّا على ساعَةٍ مرَّت بِهِم لم يذكُروا اللَّهَ عزَّ وجلَّ فيها».. (حديث حسن)..
    فإذا كانت الثانيتن التي يُقالُ فيها: (سبحان الله وبحمده) تساوي نخلةً في الجنة، وإذا كانت العشر دقائق التي يُقرأُ فيها: (قل هو الله أحد عشرَ مراتٍ) تساوي قصراً في الجنة، في خلودٍ أبدي لا يفنى، وشبابٍ دائمٍ لا يبلى، ونعيمٍ فاخرٍ لا يُستقصى، فهل أمكنك الآن أن تتصورَ عِظمَ قيمة الوقتِ وشِّدة نفاسته، وأن ما يُهدرُ منه فلا يمكنُ تعويضه.. في الحديث الصحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبر، فقال: «ركعتانِ خفيفتانِ مما تحقرونَ وتنفلون يزيدها هذا في عمله أحبُّ إليه من بقية دُنياكم». وإن مما يلفت الانتباه (يا عباد الله) إنَّ هناك سوراً عديدةً في كتاب الله سميت بأسماء الوقت وأجزاءه، كسورة الفجر، والضحى، والعصر، والليل، وأن الله تعالى أقسم بالوقت كثيراً.. فقال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} ، وقال عزّ وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} ، وقال سبحانه وبحمده: {وَالْعَصْرِ} ، وقال جل وعلا: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} ، وقال عزّ وجل: ﴿ { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 17-18]. وفي هذا دليلٌ على عِظم أهمية الوقت، وأنه أنفسُ الأشياء وأغلاها، فالله جلّ وعلا يقول: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].. وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]..
    والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ»..
    والشاعر يقول: وَالوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ ** وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ...
    فالعاقلُ الموفق كما يقول الامام ابن الجوزي رحمه الله: العاقل منْ أعطى كلَّ لحظةٍ منْ لحظاتِ حياتهِ حقَّهَا، (يعني استثمرها في الخير)، فإنْ بغتهُ الموتُ وجدهُ مستعِدًا.. وإنْ مُدَّ لهُ في الأجل إزدادَ خيرًا إلى خير.. وفي القرآن العظيم والسنة المطهرة حثٌّ متكررٌ على اغتنام الأوقات كقوله تعالى: {سَابِقُوا}.. {سَارِعُوا}.. {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].. وقالَ اللهُ تعالى على لسان موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].. ومن أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال».. «اغتَنِم خَمسًا قبلَ خَمسٍ».. «التؤدةُ في كلِّ شيءٍ إلا في عمل الآخرة».. «لا يَزال قَومٌ يتأخَّرُون حتى يُؤخِّرهم اللهُ في النار».. «من خافَ أدلج، ومن أدلجَ بلغَ المنزل».. وغيرها من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة...
    وكذلك فإن للسلف أقوالٌ جميلة في ذلك: قال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل.. وقال خالد بن معدان: إذا فُتحَ لأحدكم بابُ خيرٍ فليسرع إليه؛ فإنه لا يدري متى يُغلق دونه.. وقال الحسن البصري: الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما.. وظل الجنيد يقرأ القرآن الكريم، حتى وروحه تخرج، فقيل له: أفي هذا الوقت، قال: أبادرُ طيَّ صحيفتي.. وقال أبو نصر آبادي: مراعاة الأوقات من علامات يقظة القلب.. وقال ابن القيِّم: السَّابِقُونَ في الدُّنْيا إلى الخَيْراتِ هُمْ السَّابِقُونَ يومَ القَيامةِ إلى الجنَّات، وقال رحمه الله: إضاعةُ الوقتِ أشدُّ من الموت، لأن إضاعَةَ الوقتِ تقطعك عن اللهِ والدارِ الآخرةِ، والموتُ يقطعك عن الدنيا وأهلها، وقال بعض الحُكماء: التوانِي ضياعٌ للفرص، وضياعُ الفُرَصِ غُصَّص... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}...

    معاشر المؤمنين الكرام: إن مما يحزُّ في النفس، ويؤلم القلب، ويحير العقل: أن مبدأ توظيفِ الوقتِ وحُسنَ استثمارهِ غائبٌ عن حياة الكثير من الناس.. نعم أحبتي في الله: هناك أزمةُ وعيٍّ حقيقةٍ بقيمة الوقت وأهميته، هناك أناسٌ كثيرون جداً، يُفرطونَ في أوقاتهم تفريطاً عجيباً، ويضيِّعونها تضيِّعاً يفوق كلَّ تصور، بل إن تضييع الأوقات يكادُ أن يكون هو الأصل عندهم.. مع غفلةٍ مستحكِمةٍ، وربما عدمِ مُبالاة.. وصدق الله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].. وقال تعالى أيضاً: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39]..

    أحبتي في الله: سأضربُ مثالاً يحتاجُ إلى شيءٍ من التأمل.. تخيل سفينةً عملاقةً من سفن البضائع الضخمة، حمولتها لا تقل عن مائة الف طن (عشرة الآف حاوية)، ويمكنها أن تقطع المسافة من شرق الأرض إلى غربها في أسبوعين، لكن واقع الحال أن هذه السفينة الضخمة السريعة، ليس معها إلا عشر حاوياتٍ فقط، ثم هي تسير ببطءٍ شديد، فتستغرقُ في رحلتها شهرين أو أكثر: (أليست هذه خسارةٌ فادحة، بل كارثة محققة) فكيف إذا استمر الحال بهذه السفينة لسنوات وسنوات، وكيف إذا كانت سفنناً كثيرةً بالملايين، وليست سفينةٍ واحدة.. إنه مجردُ مثالٍ، غرضه توضيح الفرق الهائل الضَّخم، بين الواقعِ والمأمول.. بين ما نفعلُهُ، وما يمكنُ أنْ نفعلَهُ.. بين ما نقومُ به من هدرٍ شنيعٍ للأوقات، وما ينبغي لها من حُسن توظيفٍ واستثمار.. ورغم فداحة المثال إلا أنه أقلُ من الحقيقة بكثير، فمهما ارتفعت قيمة السفينة فلا تقارن بالإنسان.. مثالٌ آخر: تخيل أنَّ أيام الامتحاناتِ امتدَت وطالَت حتى أصبحَت سنةً دراسيةً كاملة، وأنَّ ما نراهُ من حرصِ الطلاب وحُسنَ استغلالهم للوقت في هذه الأيامَ، يتضاعفُ ويستمرُ طوال أيام الدراسة، فماذا ستكون النتيجة برأيك، لا شك أن أبنائنا جميعاً سيتخرجون علماء عباقرة.. مثالٌ ثالث: تخيل أن شهر رمضان المبارك امتد واستطال حتى أصبحَ سنةً كاملة، وأنَّ ما نراه من جدٍّ واجتهادٍ في الطاعات والعبادات وحُسن استغلالٍ للوقت في ليل رمضان ونهاره، ازداد كثيراً واستمر طوال العام.. فماذا ستكونُ النتيجة.. أتركها لمخيلتك.. وهذه الأمثلة أيها الكرام، تبينُ أننا وللأسف الشديد، لا نُحسنُ إدارة ذواتنا، ولا نُحسنُ توظيفَ ما نملكه من أوقاتٍ وامكانيات..

    معاشر الأحبة الكرام: يُحكى أن أحد البخلاء كان يملك معملاً لتصنيع الذهب، وكان يفرش قطعةً من القماش لكي يهبط عليها غُبارُ الذهبِ المتطاير.. ثم يبللُ قدميه بالماء ويدوسُ عليها ذهاباً وإياباً لتتجمعَ حبيباتُ الذهبِ على قدميه، وبهذا يحصلُ على عدة جراماتٍ إضافية، وكان يعتبرُ هذه الحركة من أسرار المهنة.. ولا شك (أيها الكرام) أنَّ في حياتنا دقائقَ مُهدرةٍ متناثرة، هي والله أغلى من حبيبات الذهب المتطايرة.. تؤكدُ الإحصائياتُ أنَّ معدلَها اليومي، لا يقل عن المئةِ دقيقة، وقد يصلُ إلى عدة ساعات، وهذا في حقِّ الجادين، وليس البطالين، فكم من الأوقات يمضي مع الجوال وأمام الشاشات، وفي مجالس الدردشة، وفي السيارة، وفي غرف الانتظار، وأثناء المشي، وعند الوقوف في الطابور.. وغيرُ ذلك وأمثالهُ كثير.. كلُّها دقائقُ ثمينةٌ تتطاير هنا وهناك.. ولو وفق المسلمُ أن يجمعها لأمكنه أن يصنعَ منها كنوزاً من الإنجازات، وليس سراً أنَّ حُسنَ استثمارِ هذه الدقائقِ المُهدرة، هي أحدُ مميزات الناجحين المهرة.. وأنَّ كلَّ من جاهدَ واستمرَ حتى (يتعوَّد) على تلك الميزة الرائعة، فستبهرهُ النتائجُ بإذن الله..

    أيها الكرام: لقد وضعنا أيدينا على الداء، وعرفنا حجم المشكلة وفداحة خطورتها، وبقي أن نصفَ الدواء ونعالج المرض، بقي أن نعرف كيف نُدير ذواتنا، وكيف نوظفُ مواردنا، وكيف نستثمرُ أوقاتنا وطاقتنا.. لنصنع بإذن الله فارقاً كبيراً في حجم مُنجزاتنا، وما يمكن أن نحققهُ من أهدافنا وغايتنا.. وهذا ما سنتكلم عنه بإذن الله في خطبةٍ أخرى، فنسأل الله العون والتيسير..

    فراجع أيها المسلم نفسك، وتدارك أمرك، واتقي الله ربك، واستغفر لذنبك، وابك على خطيئتك، واحرص على ما ينفعك.. واعلم أنك {كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 6-12].


    {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ *.... } [الصافات: 180-182].
    ______________________________ ______________________________ _____
    الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: أوقاتنا بين الهدر والاستثمار

    أوقاتنا بين الهدر والاستثمار (2)



    أيها الأحبة الكرام: أجملُ بيتٍ سمعته وتأثرت به، قول المتنبي:
    ولم أرَ في عيوب الناسِ عيباً *** كعجز القادرينَ على التَّمام

    هكذا أيها الكرام، فنحن نستطيع، ولكننا لا نفعل، إمَّا عجزاً أو ضعف همةٍ، أو ربما عدمَ مبالاة.. ولقد زودنا المولى الكريم جلَّ جلاله بمهاراتٍ ومواهب عديدة، لو وفقَ المسلمُ أن يوظفَ القليل منها لتغير طعمُ الحياة في حسه، ولصنعَ فارقاً ضخماً لنفسه.. فبفضل الله وتوفيقهِ أولاً، ثم بقليلٍ منْ التفكير الموجَّه، والتَّخطيطِ المنظمِ، وشيء من الإرادةِ الجادةِ، سيتمكن كلُّ منا أن يوظفَ الكثير من مواهبه وامكانياته، ليصنعَ بإذن الله فارقاً كبيراً في ضبطه لنفسه، واستثماراً أمثل لموارده وأوقاته، وإنجازاً مميزاً لأهدافه وغاياته.. ولا والله ليس في الأمر مبالغةٌ ولا تهويل.. فالمسلم الموفق يستطيعُ بكل بساطة أن يعيد توظيفَ (نيته) ليكون سعيهُ وعمله وعمرهُ كلهُ لله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].. ومعاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: إني لأحْتَسِبُ نَوْمَتي كما أحْتَسِبُ قَوْمَتِي.. وعلى هذا فالطالب (الموفق) يستطيع أن يُعيد توظيف (نيته) ليكون يومه الدراسي كله عبادة لله، وإنما يكفيه أن يقول (في سره) وقبل أن يدخل مدرسته: اللهم إني احتسب وقتي ودراستي في سبيلك.. وهكذا العامل في معمله، والموظف في مكتبه، والتاجر في متجره، وغيرهم، الجميع يمكنه ذلك.. والموفق من وفقه الله..

    وقبل أن نبين اساليب استثمار الوقت بكفاءة، نذكِّرُ بأهم وأخطر أسباب ضياع الوقت لنتجنبها ونحذر منها: وأول ذلك: الغفلة: فالغفلة أشدُّ ما ضُربت به القلوب، الغافل يتخيل أنه يقتل الوقت، والحقيقة أن الوقت هو الذي يقتله.. الغفلةُ سهوٌ وإهمالٌ وعدم مبالاة ينتج عنه إعراضٌ وتفريط، تأمل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]..

    وثاني الأسباب: الكسل: فالكسل من أكبر مضيعات الوقت، ومن أشد أعداء النجاح، والشاعر يقول:
    الفوز بالجِدِّ والحِرْمَان في الكَسَلِ *** فانصبْ تُصِبْ عن قريبٍ غايةَ الأملِ
    قد هياؤك لأمر لو فطنت لـــــــــه *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمـــــــل

    وثالث الأسباب: الانشغال بالتوافه: فلو تأمل العاقل قليلاً فسيدرك أن الانشغال بالأمور التافهة هو الذي يصرفه عن تحقيق الأمور العظيمة والرائعة، ومن باع الياقوت بالحصى فهو لا شك مغبونٌ خاسر..

    ورابعها: العشوائية وعدم التخطيط: فمن يفشل في التخطيط، فكأنما خطط للفشل..

    وأما كيف نستثمر أوقاتنا بكفاءة وفاعلية.. فإن هناك عدة مهامٍ أساسيةٍ ينبغي التعود عليها أولاً.. وما من مهمةٍ أساسيةٍ إلا وتتطلبُ في بدايتها نوعاً من التدريب والصبر والمجاهدة، حتى يألفها المرء ويتعود عليها، فتكونُ جزءاً سهلاً من حياته يمارسهُ بعفوية وتلقائية..

    وأول هذه المهام الأساسية وأهمها: تحديد الأهداف بدقة: فإنما يصِل أصحاب الأهداف المحددة.. لأنهم يعرفون وجهتهم، وما يتطلبُه الأمرُ منهم، وكلما كانت الأهدافَ واضحةَ اختفت العقباتِ، وتقلصت الأوقات.. بل إنَّ الخُبراء يقولون: إنَّ هُناكَ قوةً مَعنويةً يَشعُرُ بها كُلُّ من تمكَّنَ من تَحديدِ أهدافِهِ بدقةٍ، هذه القُوةُ تُعينهُ بإذن اللهِ على تركيزِ طاقاتِهِ، وتَوحِيدِ جُهودِهِ، فيسلَمَ من الفَوضَويَةِ والتَّشَتُّتَ.. والقاعدة تقول: أن من وضع هدفاً واضحاً ومحدداً فلن يُعدم الحيلة لتحقيقه.. ومن لم يضع له أهدافاً فهو كالمسافر الضائع، لا أرضاً قطع، ولا دابةً أبقى..

    وبعد تحديد الأهداف يأتي ترتيب الأولويات: فإذا تعددت الأهداف فالأهم أولاً.. فتوضع كل مُهمةٍ في موضعها المناسب، فلا يؤخر ما حقه التقديم، ولا يقدم ما حقه التأخير، ورغم بساطة الأمر إلا أن ترتيب الأولويات من أهم وسائل إدارة الوقت بشكل فعال.. فعندما يُستنفذُ الوقت في أعمالٍ ذاتُ أولوية أقل، فسيكون ذلك على حساب ما هو أولى وأهم، ولذا فلا بدَّ من ترتيب الأولويات..

    وثالثاً: التخطيط الجيد: فكل عملٍ منظمٍ له مردودٌ مضاعف، وكل دقيقةٍ تُستثمرُ في التخطيط والتنظيم، توفرُ عشرات الدقائق عند التنفيذ.. والتخطيط والتنظيم يضمنُ الدقة والانضباط، ويقللُ الهدر والخسائر، كما أنه يخففُ من ضغط العمل وإرهاقه..

    ومن الأمور المشجعة أن عملية التخطيط لاستثمار الوقت عمليةٌ سهلة جداً، لكن الكثيرين يهملونها لعدم التعود كما ذكرنا أو جهلاً بأهميتها وعظيم فوائدها..

    إنها خمس خطوات بسيطة وبيانها على النحو التالي:
    (ح): تحديد وحصر المهام التي ينبغي القيام بها..
    (ر): ترتيب تلك المهام حسب الأهمية والأولوية..
    (ز): تزمين كل مهمةٍ واعطائها وقتاً تقريبياً (بما في ذلك وقت الذهاب والعودة)..
    (ج): جدولة المهام (ضعها في جدول يرتبها، ويبين وقت بداية التنفيذ ونهايته).
    (ن): تنقيح الجدول إلى أن يصبح بصورة نهائية مناسبة، ثم البدء بالتنفيذ على بركة الله...

    وميزة التخطيط أنّه يقود الانسان من الوضع الحالي إلى الوضع المرغوب، بأقل تكلفة، وأفضلِ مردود.. وقد دلت الدراسات المتخصصة أنّ التخطيط والتنظيم الجيد، يضمن تحقيق الهدف بالصورة النموذجية، مع استبعاد كل ما هو غير ضروري، وبالتالي يقل أو ينعدم هدر الأوقات والموارد والتكاليف..

    اعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]..

    معاشر المؤمنين الكرام: إضافة لما سبق فهناك عدة مفاهيم أساسية ينبغي الاهتمام بها.. أولها وأهمها:
    احترام الوقت: وهو يشير إلى مدى الوعي بأهمية الوقت، وإلى مقدار ما نملك من الجدية والرغبة والاهتمام في تنظيم الوقت وتوظيفه، وحسن استثماره، وإذا كان فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف سندير أوقاتنا بكفاءة وفعالية، ونحن لا نحترم الوقت ولا نشعر بأهميته.. واعلم أنه ليس بمقدور أحدٍ أنْ يعودَ ليصنعَ بدايةً جديدةً.. ولكنَّ الجميع يمكنه أنْ يبدأَ اليومَ بداية قوية جادة، ليصنعَ فارقاً كبيراً، ونهايةً جميلةً.. وليس هناك وقتٌ متأخر، فكل الأوقات مناسبة، المهم أن نبدأ قبل فوات الأوان..

    وثانيا: ضبط النفس والتحكم بها: والنفس كالطفل إن تتركه شب على حب الرضاع وان تفطمه ينفطم.. فإدارة الذات قبل إدارة الأوقات: فعندما يتمكن المرء من إدارة نفسه وضبطها والتحكم بها، فسيجد أن الوقت ينتظم معه طواعيةً، بينما إذا عجز عن إدارة نفسه فسيجد أنه يدور في حلقة مفرغة، وبلا جدوى.. فإما أن تدير ظروفك، وإما أن تُديرك ظروفك.. إما أن تُدير، وإما أن تُدار.. والأمر إليك فما الذي ستختار..

    وثالثها: الاعتناء بصحة الجسد.. فاستثمار الوقت يتطلب جسداً سليماً ونشاطاً دائما، ومعنى ذلك أنه لا بد من رياضة مناسبة، ولا بد من الاعتناء بنوعية الغذاء..

    ورابعها: المتابعة والمراقبة وتقييم الانجازات.. وهو أمرٌ سهل ولا يستغرق وقتاً، لكنه يضمن استمرار السير في الطريق الصحيح، ويشعر بالرضا والطمأنينة، ويمنح المزيد من الثقة..

    وأختم بمجموعة من القواعد العامة والنصائح الهامة لتحسين استثمار الوقت وتنظيمه.. النصيحة الأولى:
    يقول الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه: تعوَّدُوا الخيرَ.. فإنْ الخيرَ عادةٌ..

    والثانية: الصاحب ساحب.. فإذا كنت في قومٍ فصاحب خيارهم.. ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي.. عن المرء لا تسل وسل عن قرينه.. فكـل قريـنٍ بالمقــارن يقتــدي..

    والثالثة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: منْ اعتادَ التسْبيحَ قبلَ نومهِ.. أُعطيَ نشاطاً في قضاءِ أمورهِ، وقوةً في عبادتهِ..

    والرابعة: قللْ منْ الوقت الذي تقضيهِ مع لصوص الوقت، كشاشةِ النتِ ومجالس الثرثرة، وعاتبْ نفسك كثيراً إذا أطلتَ المكوثَ، فإن لم يجدي فأدبها بالصدقة أو بصلاة ركعتين..

    والخامسة: كن ذكياً واستثمر ما تملكه من أجهزة ذكية في توفير الوقتِ بدلاً منْ تبديده..

    والسادس: لا تضيعْ وقتكَ في الرد على منتقديك، فلنْ يرضوا، ولنْ يتوقفوا..

    والسابعة: استثماراً لأيِّ وقت فراغٍ قد يمر بك، جهز مجموعة من المهام والأعمالِ البسيطة، التي تتطلب وقتاً قصيراً وجهداً قليلاً..

    والثامنة: تعود أن تخطط لكل يوم من ليلته السابقة، ولكل اسبوع من اليوم الذي يسبقه..

    والتاسعة: اعلم أن أسهل طريقة لإدارة الوقت هي: أن تفعل كل شيء في الحال، وأن لا تؤجل عمل اليوم إلى غيره.. وإذا كنت ذا رأيٍ فكن ذا عزيمة.. فإن فساد الرأي أن تترددا..

    والعاشرة: اعلم أن أعظمَ استثمارٍ للوقت: هو الاستثمار في الخير المتعدي والنفع الجاري، فعظيمُ الهمةٍ لا يفكًرُ بملءِ وقتهِ بالحسنات فقطْ.. بلْ وبأنْ لا تتوقفَ حسنَاتهُ بعدَ موته.. ففي صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: مَن دعا إلى هدًى، كان له من الأجر مثلُ أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا.. وفي صحيح مسلمٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان، انقطَع عنه عملُه إلا من ثلاثةٍ؛ إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به، أو وَلَدٍ صالحٍ يدعو له» .. لكأنه بذلك يضيفُ إلى عمره أعماراً أخرى.. أو لكأنه يعملُ في الوقت الواحد أعمالاً كثيرة، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4]..


    {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ...} [الصافات: 180-182]..
    ______________________________ ____________________________
    الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •