أما ما سوى ذلك من البيوع فإن السلع التي تحقق مصالح للناس وضع الشارع لها شروطا إذا تحققت في سلعة جاز بيعها وشراؤها وتداولها، وإذا اختل منها واحد حرم بيعها وشراؤها، وتداولها، وقد جعل الشارع للبيع ككل حقيقة شرعية أركانا، وهذه الأركان هي على سبيل البسط ستة، وعلى سبيل الاختصار ثلاثة، فالركن الأول:

الإيجاب والقبول: فالإيجاب هو ما يصدر من البائع والقبول هو ما يصدر من المشتري، هذا عند جمهور أهل العلم، وعند الحنفية الإيجاب هو ما صدر أولا، والقبول هو ما صدر ثانيا، فالحنفية إنما ينظرون إلى ترتيب العقد فإذا قلت اشتر مني هذا الجهاز بمائة، فقال: فعلت، فأنت الموجب عند الحنفية، وهو القابل، وإذا قال لك: بعني هذا الجهاز بمائة فقلت: قبلت، فهو الموجب وأنت القابل عند الحنفية. أما الجمهور فعندهم الذي خرجت من يده السلعة هو الموجب، والذي خرج من يده الثمن هو القابل، ومحل هذا عندما يكون البيع بين نقد وعرض، أي سلعة، أما إذا كان البيع طرفاه سلعتين مثلا، فحينئذ كل واحد منهما موجب وقابل، وكل واحد منهما يسمى بائعا، ومشتريا، وشيئاهما أيضا ثمن ومثمن، كل واحد منهما يسمى ثمنا ومثمنا.

وهذان الركنان وهما الإيجاب والقبول في سبيل الاختصار يجمعان في واحد وهو الصيغة، أي صيغة العقد، وهي في الواقع ما يدل على رضا الطرفين في العقد، لأن الله تعالى يقول: ﴿إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم﴾، فشرط الرضا في العقد، وقد صح في صحيح ابن حبان وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما البيع عن تراض إنما البيع عن تراض»، وهذا يقتضي أن التراضي شرط للبيع لا يمكن أن يتم إلا به، فما يدل على الرضا، الرضا أمر قلبي خفي، ولا بد أن يدل عليه شيء ظاهر، لان الأمور الخفية لا يمكن اطلاع الناس عليها، ولذلك لا يتعلق بها التشريع، وهذا الذي يدل على الرضا هو الصيغة، وهذه الصيغة لم يعينها الشارع في كلام معين، إلا أنه في الأنكحة خصص ألفاظا تدل على عقد النكاح بالخصوص، بخلاف البيع، فالنكاح ليس مثل غيره من العقود، له قداسة، لأنه مرتبط بالعبادة، ولذلك سماه الله ميثاقا غليظا، فلذلك يحتاج فيه إلى ألفاظ مخصوصة وهي لفظ أنكحت أولفظ زوجت، وهل كل لفظ يقتضي التأبيد إذا ارتبط بالصداق يكون كذالك أم لا، محل خلاف بين أهل العلم لكن هذين اللفظين محل إجماع، وهما أنكحت وزوجت لورود النصوص بهما. فالنكاح إذا يحتاج فيه إلى لفظ أنكحت أو زوجت وغيره من العقود الأصل عدم الحاجة إلى لفظ محدود، بل كل ما يدل على الرضا فهو كاف في ذلك، وعند الشافعية لا بد من اللفظ في كل عقد من العقود كالنكاح، فالبيع عندهم لا يمكن أن يتم بمجرد التعاطي، بل لا بد أن يكون بصيغة تدل عليه، والجمهور لا يشترطون الصيغة، إلا ما يدل على الرضا سواء كان ذلك بمعاطاة فقط، وهذا ما أصبح سائرا اليوم في العالم، فاليوم يقع التبايع مع الماكنات، في المطارات وفي الاسواق وفي كل مكان تدخل قطعة العملة في المكان وتضغط على نوع المشروب الذي تريده فتخرجه لك الماكنة مثلا، فهذا النوع أصبح تبايعا بدون صيغة أصلا، ويقع فيه الشافعية وغيرهم، وبهذا يعلم أن مذهب الجمهور أصبح راجحا في تعامل الناس وواقعهم، فأصبحت العقود تجرى بمجرد التعاطي، ولو لم يصدر لفظ، وصيغة العقد، يشترط لها ثلاثة شروط، الشرط الأول:

أن يقع الإيجاب والقبول على شيء واحد: فإذا قلت لك: بعتك هذا الماء بمائتي أوقية، فقلت أنت: قبلت هذا الجهاز بمائتي أوقية، فالعقد غير نافذ لأنه لم يقع الإيجاب فيه والقبول على شيء واحد، لا بد أن يقعا على شيء واحد.

الشرط الثاني:

استمرارهما واتصالهما: أي أن لا يفصل بينهما بما يقتضي الإعراض، فإذا قلت لك: بعتك هذا الجهاز بألف، فمكثت أسبوعا فأتيتني فقلت: قد قبلته فالعقد غير صحيح ما لم أوجب أنا من جديد، لأن إعراضك أنت دل على عدم انعقاده، فلا بد من اتصال الإيجاب بالقبول. الشرط الثالث من هذه الشروط:

أن يبقى آخرهما صدورا متصفا بالأهلية إلى صدور آخرهما: معناه أن يبقى الموجب متصفا بأهلية البيع حتى يقبل القابل، فإذا قال لك البائع: بعتك هذا الجهاز بألف ومات قبل أن تقول قبلت، فالعقد غير صحيح لم ينعقد بعد، وإذا قال لك: بعتك هذا الجهاز بألف فأغمي عليه، أو حجر عليه، صدر عليه حكم، نطقت المحكمة بالحكم في ذلك الوقت بالحجر عليه، أو نحو ذلك فالعقد غير صحيح، ومثل ذلك عزله عن البيع، إذا كان وكيلا في البيع فقال: بعتك هذا الجهاز بألف وقبل قبولك أنت عزله موكله، فقد زالت الأهلية هنا فلا ينعقد البيع بذلك، ومن هنا فهذه الشروط الثلاثة لا بد من تحققها في صيغة البيع، وهي وقوع الإيجاب والقبول على محل واحد، واتصالهما، بحيث لا يخيل ذلك إعراضا عن البيع، لا يخيل الانفصال إعراضا عن البيع، وصدور آخرهما في حال اتصاف الموجب أو ما صدر أولا بأهلية البيع إلى كمال العقد.

والركن الثاني من هذه الأركان هو أيضا على سبيل البسط ركنان وعلى سبيل الاختصار ركن واحد وهو:

العاقد: فعاقد هذا العقد وهو مجريه، قسمان بائع ومشتر، وعلى سبيل البسط يقال ركنان بائع ومشتر، وعلى سبيل الاختصار ركن واحد وهو العاقد، وهذا العاقد يشترط له ستة شروط، الشرط الأول:

العقل: فإن كان فاقد العقل كالمجنون والمعتوه والمبرسم في حال عدم إفاقته فإنه لا ينفذ عقده لأنه قد رفع عنه القلم في ذلك الوقت والعقد تصرف، واختلف في السكران، إذا كان الإنسان سكرانا في حال إجراء العقد فأجرى عقدا من العقود فقالت طائفة من أهل العلم قد أدخل السكر على نفسه فهو الذي تسبب في زوال عقله فلذلك ينفذ عليه كل تصرفاته، سواء كانت إتلافا أو طلاقا أو عتقا أو بيعا أو شراء، وهذا القول يعتبر المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، لأن السكر معدوم شرعا لأنه يحرم عليه، فهو كالمعدوم حسا، ولذلك فهذه قاعدة عامة وهي: هل المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، والراجح في المذهب المالكي وغيره أن المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، وقالت طائفة أخرى بل لا يلزمه شيء من ذلك لأن عقله غائب، فقد رفع عنه القلم بذلك فإثمه في سكره، لا في تصرفه بعد السكر، وعلى هذا لا يلزمه شيء من تصرفاته حتى يفيق، وقالت طائفة ثالثة بالتفصيل وهذا المشهور عند المالكية، وهو أن الأمور التي لا نكرة فيها التي لا تقع فيها المناكرة لا تلزمه والأمور التي فيها نكرة تلزمه، وهذا ما نظمه القواعدي بقوله:

لا يلزم السكران إقرار عقود






بل ما جنى عتق طلاق وحدود

لا يلزم السكران إقرار، فإذا أقر لآخر بدين مثلا فلا يلزمه الإقرار بذلك لأن عقله غائب، ومن شرط الإقرار حصول العقل الذي هو مناط التكليف، عقود كذلك إذا باع أو اشترى فإن مرجع البيع والشراء كما ذكرنا من قبل إلى الرضا، لقول الله تعالى: ﴿إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم﴾، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما البيع عن تراض»، والسكران ليس له رضا لأنه غائب العقل، والرضا محله العقل، فعلى هذا لا تلزمه العقود، بل ما جنى، معناه بل يلزمه ما جنى فإذا أتلف شيئا لزم في ماله، لأن العمد والخطأ في أموال الناس سواء، وهو بمثابة المخطئ في تصرفه.

عتق طلاق للنكرة فيهما، لأنه إذا أعتق فأنكر أن يكون أعتق بعد إفاقته من سكره أو طلق فأنكر فبالإمكان أن يناكره الطرف الآخر وبالإمكان أن يزعم كل مطلق أو كل معتق أنه كان سكرانا في وقت تصرفه، يريد بذلك رد تصرفه، فلهذا يلزمه هذا التصرف، فما فيه نكرة، من التصرفات يلزم بها، وما لا نكرة فيه لا يلزم به.

وهذا القول أعدل وأصوب لأنه مراع لمصالح الطائفتين، مراع لمصالح المحجور عليه، ولمصالح المعامل الذي يتعامل معه، وعموما فإن العقل هو الذي يعلم به الرضا فهو مشروط به، ثم بعد هذا الشرط الثاني من هذه الشروط:

البلوغ: فالصبي غير البالغ عقده إذا كان عاقلا صحيح غير لازم، فهو موقوف على رضا وليه، لأن الشارع حجر عليه فجعل تصرفه تابعا لرضا وليه، فما أنفذه منه الولي لزم، وما رده فهو مردود، ولذلك فالصبي غير المميز خارج بالشرط الأول لأنه غير عاقل، والصبي العاقل خارج بالشرط الثاني الذي هو البلوغ، والفرق بينهما أن ما خرج بالشرط الأول فالعقد فيه باطل، وما خرج بغيره من الشروط العقد فيه في أصله صحيح، ولكنه غير لازم، إنما يلزم بالإمضاء، ولذلك فعقود غير المميز لو أمضاها الولي لم تلزم حتى يعقد عقدا جديدا، وعقود المميز لو أمضاها الولي صحت ولا تحتاج إلى إيجاب جديد، وهذا البلوغ إنما يحصل تحققه بما لا نكرة فيه لأن الشك في البلوغ هو شك في مانع، والشك في المانع لا أثر له على الراجح، فالشك في أقسام الخطاب الوضعي يتجه إلى ثلاثة منها، إلى شك في سبب كالشك في دخول الوقت، وهذا مؤثر إجماعا، ولو شك في دخول الوقت لم تجزئ ولو وقعت فيه، إذا شك في دخول الوقت لم تجزئ ولو شك في دخول الوقت لم تجزئ ولو وقعت فيه، إذا شك الإنسان هل دخل وقت الصلاة أم لا، لا يحل له أن يصلي حتى يجزم بأن الوقت دخل لأن الوقت هو سبب وجوب الصلاة، والصلاة قبله باطلة قطعا، إذا الشك في السبب مؤثر إجماعا، والشك في الشرط محل خلاف، كالشك في الطهارة، إذا توضأ الإنسان وشك هل انتقض وضوؤه أم لا، فمذهب الجمهور أنه على يقينه السابق، وأن اليقين لا يزول بالشك، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، والحنفية والظاهرية، ومذهب المالكية أن هذا الشك معتبر لأنه شك في شرط، والذمة عمرت بذلك الشرط، فلا تبرأ إلا بمحقق، فيقابلون المحقق بمحقق، فيقولون قد تحقق أنه يجب عليه الوضوء، ولم يتحقق هل هو الآن متصف به أم لا، فالمالكية وحدهم يرون أن الشك في الحدث ينقض الوضوء، وقد قال العلامة محنض أتشغ الديماني رحمة الله عليه:

الشك في الأحداث لا ينقض
ومنهمُ من قال ما قلته
إلا لما فيه الدليل الذي
أحمد والنعمان والشافعي
وضوؤنا بالشك إسحاق لا
ناشدتكم يا إخوتي روا لما






عكس الذي أشياخنا قد رضوا
من عدم النقض فلا تومضوا
منهاجه للمهتدي أبيض
والليث والأوزاعي لا ينقض
ينقض والثوري هذا الوضو
قيتده المواق لا تعرضوا

وهو يقصد بذلك أن هذا الخلاف مذهب الجمهور فيه أن الشك في الحدث لا ينقضه، وأما الثالث وهو الشك في المانع فلا أثر له عند الجميع، الشك في المانع لا أثر له، فالشك في وجود الحيض مع تحقق الطهر كمن نامت وهي طاهر فاستيقظت وهي حائض وقد فات جزء من الوقت، فإن الاستصحاب هنا يقتضي أنها حاضت في أول نومها، وهذا يقتضي أن الوقت دخل وهي حائض فتسقط عنها الصلاة، لكنها شكت في هذا المانع هل هو حاصل عند دخول الوقت أو لم يكن حاصلا فيه، فيلزمها قضاء تلك الصلاة، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وقد كانت طاهرا قبل نومها، ومحل هذا إن دخل بعض الوقت أما إذا انتبهت في أول الوقت فنظرت فوجدت نفسها حائضا، فلا يلزمها قطعا أداء تلك الصلاة، لأن ذلك هو وقت الوجوب وهذا محل خلاف يتعلق بوقت وجوب الصلاة، والخلاف فيه طويل، إلى أقوال كثيرة وقد نظمها السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع إذ قال:

جميع وقت الظهر قال الأكثر
لا يجب العزم على المؤخر
وقيل الاخر وقيل الأول
ومن يؤخر مع ظن موته
فهو أدا والقاضيان بل قضى
فالحق لا عصيان ما لم يكن






وقت أداء وعليه الأظهر
وقد عزي وجوبه للأكثر
ففي سواه قاض او معجل
يعص فإن أداه قبل فوته
أومع ظن أن يعيش فقضى
كالحج فليسند لآخر السني

ولذلك فإن الشك في المانع لا أثر له، فإذا شك في عدم البلوغ فهذا شك في مانع فهو لا يؤثر، فيبقى العقد صحيحا، مع الشك في مانعه، لكن يحتاج دائما إلى التثبت في المسألة، وبالأخص ما يتعلق بانتفاء المانع وحصول الشرط، فإن التمييز بينهما شاق لدى الأصوليين، فكثيرا ما يكون الأمر في الواقع انتفاء مانع، ويعده بعض الفقهاء شرطا، فيكون من باب الشروط، فيكون الشك فيه من محل الخلاف، ولو اعتبر انتفاء مانع لكان من الشك في المانع الذي لا أثر له. ثم بعد هذا الشرط الثالث من هذه الشروط:

الرشد: وهو إحسان الإنسان للتصرف، فالرشد هو إحسان التصرف، فإذا كان الإنسان لا يحسن التصرف في ماله فإنه لا ينعقد بيعه وذلك بسبب نقص في العقل أو عدم إدراك للواقع، فيقتضي سفها، فالإنسان الذي تقوى عاطفته على عقله، فإذا أحب شيئا بذل فيه أكثر من قيمته، وإذا كره شيئا أراد التخلص منه ولو بلا شيء هذا هو السفيه الذي عاطفته أقوى من عقله، والسفه سبب لرد التصرف، والشارع الحكيم حفاظا على أموال الناس رتب الأولياء للسفهاء، فكل سفيه له ولي يرعى مصالحه، إما أن يكون قريبا له أو أن يكون السلطان الذي يرعى مصالح الناس عموما، فالسفيه الذي ليس له ولي من آل بيته وليه السلطان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن اختلفوا فالسلطان ولي من لا ولي له»، والسلطان المقصود به هنا القاضي، ومن يتولى أمر العامة، والسفيه عقده أيضا هو موقوف على رضا وليه، فإذا أقره صح العقد، وإذا رده بطل، فالعقد في الأصل صحيح ولكنه غير لازم، كما سبق. والشرط الرابع من هذه الشروط:

الحرية: فالمملوك في ماله حق لمالكه لأنه يستطيع اعتصاره منه وإن كان هو يملك فهو إنسان تام التصرف، وإنما حصل لديه نقص سببه الكفر، وذلك النقص الذي سببه الكفر جبره الشارع بأن رتب عليه حقا للغير وهذا الحق ليس كما يفهمه الناس مذلة وهوانا وخنوعا، ليس الحال كذلك، بل المملوك له حقوق مثل التي عليه تماما، وحقه الأخروي أكبر من حقه الدنيوي، فأجره مضاعف في كل ما يعمله، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، والعبد إذا أدى حق الله وحق مواليه»، فهذا يؤتى أجره مرتين، فلذلك ليس الرق مهانة ولا أذى، ولا نقصا في الحقوق المدنية للإنسان وإنما هو مجرد نقص في الأصل سببه الكفر، واستمر بعد ذلك، ويقتضي الحفاظ على بعض الحقوق وترجيحها، وبمجرد الموت ينقطع هذا الحق فالميت في جنازته سواء كان في الأصل حرا أو لم يكن، فلا اعتبار في ذلك شرعا، لا فرق بينهما، وكذلك القبور لا فرق في قبورهم، بين من كان منهم متصفا بهذا الوصف ومن لم يكن متصفا به، وكذلك في البعث بعد الموت لا يبعث أحد عليه رق، فالناس جميعا حينئذ إما أشقياء وإما سعداء، فمن كان سعيدا فهو من أهل الجنة، ولا ينظر إلى حاله في الدنيا، ومن كان شقيا فهو من أهل النار ولا ينظر إلى حاله في الدنيا، ولذلك فتفاوت الناس في مثل هذا النوع من الأوصاف هو كتفاوتهم في المركب، إذا كان بعض الناس يركب في مقدم السيارة وبعضهم يركب فيها من الخلف، أليسوا سيصلون جميعا في وقت واحد، فإذا نزلوا من السيارة هل يقول أحدهم أنا الذي كنت في المقدم وأنتم كنتم في المؤخر، ولهذا يعلم أن أحوال أهل الدنيا متقاربة، وأن ما بينهم من الفروق، في الغنى والفقر والجمال والقبح والرق والحرية وغير ذلك كلها فروق ضعيفة جدا قليلة ووقتها قليل لا يساوي شيئا من أعمال بني آدم، فهي بمثابة الحجر، ولذلك فعقد المملوك موقوف على رضا وليه إلا إذا أذن له، فإذا كان مأذونا له في البيع والشراء، سواء كان ذلك الإذن عرفيا أو كان قوليا، إذا أذن له بالتصرف قولا أو رآه يتصرف فسكت فهذا مأذون تصرفه نافذ مطلقا، ولا يحتاج فيه إلى الرجوع إلى وليه بحال من الأحوال، أما إذا كان غير مأذون له في التصرف وكان يرد عقده فهذا الذي يحتاج إلى إمضائه فإذا أمضاه صح العقد وإذا لم يمضه لم يصح. والشرط الخامس من هذه الشروط:

الملك: أن يكون مالكا لما يتصرف فيه، والمقصود بالملك أن يكون صاحب تصرف مقبول شرعا، كالذي يملك الشيء المبيع بذاته ملكه، أو هو ولي لمالكه، أو هو وكيل عن مالكه، أو هو وال عام، فيتصرف فيه، فمثل هذا النوع هو الملك، ومن تصرف بغير ملك فهو الفضولي وهو منسوب إلى الفضول، والفضول هو ما لا يليق من الأقوال والأفعال، كل ما لا يليق من الأقوال والأفعال يسمى فضولا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، فتصرف الإنسان فيما لا يعنيه هو فضولي فيه، وتصرف الفضولي محل خلاف بين أهل العلم، فعند المالكية أنه صحيح غير نافذ إلا إذا سكت صاحبه، إذا علم به فسكت فإنه ينفذ، ولذلك فإن العلامة محمد بن محمد سالم رحمة الله عليهما كان في مسجده وهم يصلون صلاة العصر، فجاء مجنون فوقف في طرف المسجد، فقال: يا أهل المسجد: زوجاتكم جميعا طوالق، فقطع محمد صلاته وقال: تكلموا \"ﮔَالْهُمْ اتْكَلْمُ اخْلَيْتُ\" يقصد بذلك الإفتاء على مقتضى المذهب المالكي فيجب عليهم أن ينكروا هذا لأنهم إذا سكتوا وأقروه حتى انتهت الصلاة فقد رضوا بالطلاق، فهذا النوع هو تصرف الفضولي، وهو موقوف على رضا صاحب الحق، فإذا رضي به لزم، وإذا لم يرض به لم يلزم عند المالكية، وعند الحنفية أيضا، وعند الشافعية والحنابلة تصرفه غير نافذ أصلا، لا يحتاج إلى الإمضاء ولا إلى الرد فهو غير نافذ، فتصرفه باطل مطلقا، لأن الله لم يجعل له ولاية على ما يتصرف فيه، والتصرف راجع إلى أصل الولاية، فما لم يأذن فيه الشارع فهو باطل على أصل الأمر، وهذا الذي قاله الشافعية والحنابلة، أقرب لروح الشريعة وأدلتها العامة، لأن المعزول في الأصل بنظر الشارع، لا يمكن أن يقع منه تصحيح العقد فهو أجنبي عنه، لا يملكه وليس له به علاقة، إلا إذا كانت العلاقة قائمة كمن كان من أهل السوق محل ثقة لدى الجميع، وكان يتدخل لهم في بياعاتهم وأشريتهم، فأصبح بمثابة الوالد لديهم، فهذا النوع في الأسواق يرجع إليه فهو بمثابة السمسار في البيع والشراء، فإذا باع مال بعضهم وهو يعلم أنه عرضه للبيع وأنه يريد فيه ربحا وقد عرف الثمن الذي اشتراه به، وأنه رابح بذلك الذي يبيعه عليه به، فهذا النوع يكون خارجا عن تصرف الفضولي، لأنه اعتمد على ولاية عرفية فقد أصبح معروفا لدى أهل السوق بمثل هذا النوع من التصرفات، ولذلك نشهد ذلك اليوم في تصرفاتنا، وبالأخص في بورصات بيع السيارات، فكل بورصة فيها إنسان يرجع إليه في السعي بين الناس، فإذا قال: قد بعتها عليك، فهذا البيع إذا سكت عنه صاحب السيارة لزم ونفذ بذلك، إذا قال: بعتها أنا عليك بكذا واستلم النقود، من المشتري وسكت الآخر فهذا يلزم به البيع. الشرط السادس من هذه الشروط هو:

عدم الإكراه: أي أن يكون طائعا في تصرفه، والإكراه شرعا ينقسم إلى قسمين، إلى إكراه ملجئ وإكراه غير ملجئ، فالإكراه الملجئ محل خلاف بين أهل العلم ما هو؟ فقالت طائفة من أهل العلم وهم الجمهور الإكراه الملجئ هو الذي لا مناص للإنسان منه، كالذي يحمل ويرمى به على إنسان، فهو لا تصرف له في نفسه رمي به، هذا النوع إكراه ملجئ، وهو تعريف الإكراه الملجئ عند الجمهور، وعند الحنفية هذا النوع من الإكراه داخل في الملجئ لكن الملجئ أعم منه، فكل ما يخاف به الإنسان هلاكا أو شديد أذى فهو الإكراه الملجئ عندهم، والإكراه غير الملجئ، هو خوف المولم سواء كان ذلك في النفس أو في المال، أو في الولد، كمن توعده إنسان بفعل يقدر عليه، يستطيعه، فهذا مكره، إذا قال له: افعل كذا، بع هذه السيارة وإلا فسأضربك وهو قادر على ضربه، فهذا إكراه، لكن إذا قال ذلك له ضعيف لا يستطيع ضربه أو صبي صغير فهذا ليس عذرا شرعا ولا يعتبر إكراها لأنه غير قادر على ما توعد به، والإكراه كذلك ينقسم من وجه آخر إلى قسمين، إلى إكراه بحق وإكراه بغير حق، فالإكراه بالحق هو البيع على الإنسان في أمر لا بد منه، كمن تجب عليه الزكاة وليس في ماله ما تدفع به زكاته، فيأخذ الساعي بعض ماله ويبيعه ليؤدي منه زكاة ماله بالغصب، وهو كاره، فهذا الإكراه بحق، وكذلك من عليه دين، وليس في ماله ما يسدد به ذالك الدين فباع عليه القاضي بعض ماله لسداد دينه، فهذا حق واجب والإكراه هنا بحق، والإكراه بغير حق كالغصب، كما إذا اغتصب بعض مال إنسان فبيع غصبا منه كالذي يؤخذ من غير رضاه فيقوم عليه، سواء كان ذلك لشركة عامة أو لملك فردي فهذا النوع إكراه بغير حق ولا يلزم به العقد، فالإكراه بغير حق لا يلزم به العقد، وهذا الإكراه بغير حق هو من أخذ مال الناس بالباطل وهو حرام.

ثم إن الإكراه أيضا ينقسم من وجه آخر تقسيما آخر وهو أنه إما أن يكون إكراها على البيع أو إكراها على سبب البيع، فالإكراه على البيع كمن أكره على بيع داره، لسداد دينه أو أداء الزكاة، والإكراه على السبب كمن أكره على غرامة مالية ولا يستطيع تسديدها إلا إذا باع داره، فهو لم يكره على بيع هذه الدار بخصوصها، ولكنه أكره على السبب، والإكراه على السبب محل خلاف، هل يمضي حتى لو كان في غير حق شرعي، فالغرامات إذا كانت من غير حق شرعي كالضرائب ونحوها، فأكره الإنسان على السبب، فقيل: يمضي العقد لأنه هو سيساوم، ويطلب الربح، ولا يمكن أن يغبن لأنه لم يوجب عليه بيع هذا الشيء بذاته، فعليه: يمضي تصرفه، وقالت طائفة أخرى، بل الإكراه على السبب كالإكراه على البيع، فإن كان بغير حق لم يلزم، وإن كان بحق شرعي لزم، وقد أكره النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع على بيع أملاكهم وهو إكراه على السبب، حين أراد إخراجهم من المدينة وقد أذن الله له في ذلك، فقال تعالى: ﴿هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب﴾.

فأولئك اليهود عليهم لعائن الله غدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وغدروا بامرأة مسلمة جاءت إلى سوق الذهب فيهم وكانت سوق بني قينقاع من أشهر أسواق المدينة، فجاءت امرأة مسلمة إلى أسواق الذهب فجلست لدى صائغ يعمل لها ذهبا، فجاء شببة من اليهود فخاطوا ثيابها فلما قامت انكشفت، فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نقضا للعهد وأنزل الله فيهم القرآن فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة.

ولما أخرجهم من المدينة أجلهم ثلاثا ولهم ديون على الناس، فقال: «ضعوا وتعجلوا»، أي ضعوا بعض ديونكم وتعجلوا بعضها، وكذلك أمرهم ببيع تجاراتهم في هذا الوقت، لأنهم لا بد أن يذهبوا، فما تركوه من أموالهم سيكون للدولة الإسلامية، وما صحبوه معهم فهو لهم، فكان هذا إكراها على السبب، فدل هذا على أن الإكراه على السبب إذا كان السبب شرعيا فهو نافذ والبيع فيه صحيح، وإذا كان الإكراه على السبب ممنوعا شرعا فالعقد فيه باطل. إذا هذه شروط العاقد.

أما الركن الأخير وهو الثالث على سبيل الاختصار، أو الخامس والسادس على سبيل البسط فهو:

المعقود عليه: والمعقود عليه يشترط له أيضا ستة أمور، الشرط الأول:

أن يكون طاهرا: فالأعيان التي هي نجس ليست محلا للبيع، فلا يمكن أكلها ولا شربها قطعا، حتى الدواء بها، ما كان نجسا لا يتداوى به، في باطن الأجساد في داخل البدن، وهذا في الأصل محل إجماع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي في ما حرم عليها»، لما استأذنه رجل في بيع الخمر، وذكر أنه للدواء، فقال: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي في ما حرم عليها»، والأنجاس حرمها الله سبحانه وتعالى، فليس فيها نفع ولا شفاء.

ولا يستثنى من ذلك إلا ما حصل في زماننا هذا من الدم وزراعة الأعضاء، فإن كثيرا من الأمراض التي تتفشى يقع بسببها فقر الدم، وفقر الدم هو زيادة كرياته البيضاء على الحمراء، وبذلك ينقص نفعه في الإنسان، فيكون ناقص القيمة والأداء في تغذية الجسد، وهذا الجسد كله تغذيته الدم، فكل شعرة يصل إليها نصيبها من التغذية، وإذا فقدت نصيبها من التغذية أدى ذلك إلى فوتها، وكذلك كل خلية من خلايا الجسم، وكل عضلة من عضلاته ولون البشرة وغير ذلك كله تغذيته بالدم، فإذا فقد خصائصه أو نقصت خصائصه، أدى ذلك إلى الخطر بفقر الدم، وفقر الدم مرض شائع اليوم وسببه أنواع من الأغذية كالألبان ونحوها من أنواع التغذية التي فيها نقص للحديد أو نحوه تؤدي إلى فقر الدم، التغذية الدائمة بها تؤدي إلى فقر الدم، وإذا حصل ذلك، فإن الإنسان عرضة للهلاك، وخوفه الهلاك على نفسه يحل له ارتكاب المحرمات، وقد قال الله تعالى: ﴿وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾، فجعل الضرورة بعد الأحكام، ومن هنا فلا يقال: يجوز للإنسان شراء الدم، إذا كان مصابا بفقر الدم، بل يقال: يضطر الإنسان لشراء الدم إذا كان مصابا بفقر الدم، لأن الضرورة لا تدخل في الأقسام الخمسة أقسام التكليف، بل هي وراءها، ﴿وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾، وكذلك زراعة الأعضاء، فهذه الزراعة ما كان منها يحتاج إليه في الصحة كالقلب والكلى والكبد ونحو ذلك من الأعضاء، هي قطعا محل ضرورة، وقد جربت فنفعت، أما ما كان منها يحتاج إليه أيضا في الإدراك كالقرنية للعين، زراعة القرنية للعين، فهذا أيضا نظير ذلك، ومثله قناة الأذن فزراعتها أيضا محل ضرورة، وطبلة الأذن أيضا زراعتها محل ضرورة، أما ما كان منها بين بين ليس محل ضرورة ولا هو تحسين كزراعة يد من قطعت يده في حادث مثلا، فإن كانت يده قطعت في حد من حدود الله، كحد السرقة فلا يحل زراعتها، لأن هذا نكال من الله سبحانه وتعالى و ينبغي أن يكون، فالله هو أرحم الراحمين، وقد اختار لعبده هذه العقوبة لزجره ولتكفير ذنبه، فلذلك لا تزرع له يده مرة أخرى ولا يد إنسان آخر.

أما زراعة اليد فيمن حصل عليه حادث سير ففقد فيه يده فهذا محل بحث لأن اليد في الغالب ليست محل ضرورة وبالأخص بعض الأصابع مثلا، فليس هذا محل ضرورة، فهل يمكن إرجاعها وهي جيفة قد تنجست بانفصالها، فما انفصل عن الحي فهو ميتة كما في الحديث، هذا محل بحث.

أما ما كان لمجرد التجميل كزراعة قشرة الرأس التي ينبت فيها الشعر للأصلع، فهذا النوع مما لا يجوز قطعا، لأنه ليس مضطرا إليه ولا محتاجا إليه، وهو مجرد تجميل في غير محل الحاجة، فالصلع ليس عيبا ولا عارا، فالخلفاء الراشدون ثلاثة منهم صلع، كان أبو بكر أصلع وعمر أصلع، وعلي أصلع، فالصلع ليس عيبا، وإنما يحصل من التفكير، من كثرة التفكير وإعمال العقل، فليس إذا عيبا ولا عارا، فلذلك لا يحتاج إلى زراعته. ولذلك فمحمد مولود رحمه الله يقول:

وامنع دواء باطن الأجساد






بنجس واختلفوا في البادي

وامنع دواء باطن الأجساد بنجس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها»، واختلفوا في البادي أي ظاهر البدن، إذا كان في الإنسان جرح مثلا هل يمكن أن يعالج بالبول، فالبول من أشفية الجروح، لأن فيه مادة اليوريا تعالج القروح والجروح فلذلك يمكن أن يعالج بها الحرق، فهل يجوز العلاج بها أم لا؟ محل خلاف بين أهل العلم، ونظير ذلك إحراق الحصير الذي قد تكون جلوده في الأصل من جلود الميتة، فإحراقه لعلاج الجرح برماده هو أيضا محل خلاف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما جرح يوم أحد، أحرقت فاطمة رضي الله عنها حصيرا، فأخذت رماده فجعلته على الدم فرقأ، فهذا النوع من العلاج في الظاهر، إذا كان بما فيه جلد ميتة أو نحو ذلك هو محل خلاف، ومحل ذلك الخلاف في غير الضرورة، أما الضرورات فقد ذكرنا أنها خارجة عن التكليف. إذا هذا الشرط الأول في المعقود عليه أن يكون طاهرا.

ويخرج بذلك الأنجاس كلها، فلا يستثنى منها إلا السرقين وهو السرجين أي السماد الذي يجعل على الزرع، فيحتاج إليه في إصلاحه، فهذا الزرع به طاهر، الزرع إذا وضع عليه السماد النجس فنبت منه فالزرع طاهر، وقد صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان يجعل النجس على زرعه، فقيل له في ذلك، فقال: المكتل منه باثنين، أي أنه يقتضي زيادة ونماء، وهذا هو السماد غير المعالج كيميائيا أما إذا عولج بالكيمياء فانقلبت حقيقته وأصبح مادة أخرى، فهذا محل بحث آخر وهو بحث الانقلاب، إذا حصل الانقلاب في العين، هل تبقى على حكمها الأصلي أو تعود إلى حكم جديد وهذا قاعدة فقهية معروفة وهو تأثير الانقلاب، وقد نظمها الزقاق في المنهج في قواعد المذهب المالكي فقال:

وهل يؤثر انقلاب كعرق






ولبن بول وتفصيل أحق

وهذه القاعدة فروعها كثيرة، منها ألبان الجلالات ولحومها، الحيوانات التي تأكل الأنجاس، هل يحل شرب لبنها وأكل لحمها؟ هذا محل خلاف، فإذا كان الانقلاب مؤثرا فألبانها طاهرة ولحومها طاهرة بذكاتها، وإذا كان الانقلاب لا يؤثر فإن اللحوم والألبان قطعا ناشئة عن التغذية، فلذلك تكون تبعا لها، ومثل هذا الخمر إذا تخللت، أو خللت أو تحجرت أو حجرت محل خلاف بين أهل العلم، ومن ذلك ما يطبخ منها، فالخمور في العالم الغربي اليوم وبالأخص في الوجبات السريعة توضع فيها مثلا، فهمبرغر أو غير ذلك من الأخباز مثلا الوجبات الخفيفة السريعة يضعون فيها الخمور في تحضيرها، ولكن يزول الإسكار بالطبخ، ومحل الحرمة الإسكار لأنه علة التحريم، فإذا زال الإسكار لم تبق علة التحريم، ومن هنا فالمطبوخات التي في أصل صناعتها الخمور الراجح فيها الجواز، لأن الطهارة حصلت بمجرد زوال الإسكار، لكن لا يحل للمسلم الإقدام على ذلك، لا يحل للمسلم أن يخلل الخمر أو أن يجمدها حتى تطهر، لأنه أمر بإراقتها ولو كان يجوز ذلك لما أراقها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حرمت، فأراقوها فامتلأت بها الشوارع في المدينة إذ ذاك.

إذا هذا الشرط هو الشرط الأول من شروط المعقود عليه وهو الطهارة، أما الشرط الثاني من شروط المعقود عليه فهو:

الانتفاع: أي أن يكون منتفعا به شرعا، فما لا نفع فيه، فإنه لا يجوز بيعه ولا شراؤه، والمقصود بالنفع هنا ما كان نفعا شرعيا معتبرا، فكثير من الناس يظن أن التدخين فيه نفع وهو أنه يجلب له الزبائن، يظن هذا نفعا شرعيا، وهذا النوع ليس نفعا شرعيا، فالمعتبر النفع الشرعي المتعلق بالمادة ذاتها، ودليل هذا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في شحوم الميتة، فإنه «نهى عنها، فقالوا: يا رسول الله إنها تطلى بها السفن، فسألوه الترخيص فيها فقال: لا هو حرام، ثم قال: لعن الله اليهود لما حرم الله عليهم الميتة أخذوا شحومها فجملوه فباعوه فأكلوا ثمنه»، وجملوه معناه أذابوه، والمقصود به الشحم، فأعاد الضمير إليه مذكرا باعتبار الجنس، وهذا يدل على أن الاحتيال لا يبيح ما احتيل لإباحته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم احتالوا على الشحوم لما حرمت عليهم أكلوا ثمنها، وثمنها ليس هي، فهذه حيلة، للانتفاع بها عندما حرمت عليهم، فدل هذا على إبطال الحيل في الأصل، وبالأخص ما لا نفع في ذاته حتى لو كان النفع فيه لوجه آخر كطلاء السفن ودهن الأواني والأسلحة بالشحوم فإنه لا يبيحها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا هو حرام»، وصرح بذلك، ثم ذكر السبب فقال: «لعن الله اليهود حين حرم الله عليهم الميتة أخذوا شحومها، أو حين حرم الله عليهم الشحوم جملوه فباعوه فأكلوا ثمنه»، فبين أنهم لعنوا بسبب هذا التصرف، فإذا لا بد أن يكون المعقود عليه منتفعا به نفعا شرعيا في المآكل أو المشارب أو الملابس أو المساكن ومثل المساكن المراكب فهي من جنس المساكن. الشرط الثالث من شروط المعقود عليه:

أن يكون غير منهي عن بيعه: فإن كان منهيا عن بيعه شرعا فلا يحل بيعه، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكلاب، فنهى عن ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي، وجاء في سنن أبي داود وغيره أنه نهى عن بيع الكلب فقال: «فإن جاء يطلب ثمنه فاملؤوا له كفه ترابا»، واختلف أهل العلم هل هذا شامل لجميع الكلاب أو يخصص فيخرج منه كلب الصيد لأنه يحل اقتناؤه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في اقتناء كلب الصيد، والله تعالى أذن في اقتنائه في قوله: ﴿وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم﴾.

فهذا دليل على جواز الاقتناء لكن هل يدل على جواز البيع؟ محل خلاف بين أهل العلم، فذهب سحنون من المالكية إلى جواز بيع كلب الصيد وقال: أبيعه وأحج بثمنه، وأحج بثمنه يقصد المبالغة في طهارته، في جواز ذلك لأنه إذا جاز اقتناؤه والانتفاع به جاز بيعه.

ومذهب جمهور أهل العلم عدم الارتباط بين حل الانتفاع وحل البيع، لأن جلود الميتات يرخص فيها شرعا بالدبغ، ومع ذلك عند المالكية لا يحل بيعها، وسحنون نفسه يوافق على ذلك، فسحنون يرى أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، ولكنه يرخص فيه في اليابس والماء، ورخص فيه مطلقا إلا من خنزير بعد دبغه في يابس وماء، وفيها كراهة العاج والتوقف في الكيمخت، فإذا كان الجلد يرخص فيه في الماء واليابس ولا يجوز بيعه، يدل هذا على أن الانتفاع والبيع غير مرتبطين، فيجوز أن يكون الشيء مقتنى منتفعا به، لكن لا يحل بيعه مع ذلك، ونظير هذا المصاحف فعند الحنابلة لا يجوز بيع المصحف مطلقا، لأن الله تعالى نعى على أهل الكتاب بيع آيات الله بثمن قليل، فدل هذا على منع بيع المصحف مطلقا، ومع ذلك فيجوز اقتناؤه والانتفاع به، بل مما رغب فيه الشارع أن يورث الإنسان مصحفا.

ومن المنهي شرعا عن بيعه في مثل هذا النوع آلات اللهو، فإنها يحرم الانتفاع بها حتى إذا كانت تكسر فينتفع بها بعد كسرها في أشياء أخرى، فإن جمهور أهل العلم على تحريم تملكها مطلقا واقتنائها وبيعها وشرائها، وعلى أن متلفها لا يلزمه شيء، إذا أتلفها الإنسان لم يلزمه شيء شرعا، خلافا للحنفية وحدهم، فعند الحنفية أنها يمكن الانتفاع بنقضها أي ما كسر منها، وعليه فمن أتلفها تلزمه قيمتها.

الشرط الرابع من شروط المعقود عليه:

أن يكون غير مجهول: أي أن يكون معلوما علما ينفي الجهالة والغرر، فالمجهول الذي لا يمكن أن يعرف لا يحل بيعه ولا شراؤه ولا العقد عليه، لحصول الغرر، والغرر حرام في العقود، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الغرر، وجاء في ذلك عدد من الأحاديث الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الغرر، وذلك أن البيع في الأصل إنما شرع لإزالة الشحناء والبغضاء بين الناس، والغرر سبب للشحناء والبغضاء، فهو ضد الحكمة التي من أجلها شرع البيع، ولذلك فبيع الحمام في البرج وبيع الضالة والشارد ونحوه مما هو غير مقدور عليه داخل في الغرر، ومثل ذلك المجهول كبيع الحصاة والمنابذة والملامسة فكل ذلك من المجهولات التي لا يحل فيها البيع. والشرط الخامس من هذه الشروط:

القدرة عليه: أي إمكان تسليمه وتسلمه، فهذا شرط للمعقود عليه أيضا، فهو مخرج للمغصوب، فلا يحل بيعه ولا شراؤه إلا من غاصبه على القول بأن الغصب يزيل الملك، وهذا محل خلاف بين أهل العلم، فعند الحنفية أن الغصب يزيل الملك وأن الحرام لا يتعدى ذمتين، ومذهب جمهور أهل العلم أن الحرام يتعدى ذمتين، وأن الغصب لا يزيل الملك، ولذلك فإن المغصوب هو ملك لمالكه الأول والغصب لا يغير ذلك الملك، عند جمهور أهل العلم، فعليه لا يجوز شراؤه من مالكه لأنه غير قادر عليه إذ لو كان قادرا على تسليمه لأمكن استرجاعه، لكن يحل له فقط بيعه لمن غصبه منه، للغاصب، يحل بيع المغصوب لغاصبه، لأنه في يده، فيمكن أن يتسلمه، والغرر في ذلك يسير، لأن يده يد تعد، وهي يد ضمان، وبذلك فإن المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، فوضع يده عليه في ذلك الوقت في وقت البيع باطل، فلذلك يمكن أن يباع منه، لأنه قادر على استلامه. والشرط السادس من هذه الشروط:

عدم حرمة العين: فإن كان المبيع حرام العين لا يحل أكله ولا شربه ولا الانتفاع به كالميتة والخنزير والخمر، فلا يحل العقد عليه مطلقا، ويدخل في ذلك ما كان طاهرا من الأعيان فالخنزير ما دام حيا لا يحل بيعه ولا شراؤه، وعند المالكية أنه طاهر في حياته، لأنهم يرون أن الحياة علتها الطهارة، فالشاة في حياتها طاهرة وإذا ماتت جيفة فإنها تنجس، فيرون أن الارتباط بين الطهارة والموت دليل على أن الحياة سبب للطهارة، ولذلك يقولون: الحي طاهر، ولو إبليس عليه لعنة الله، وقد سئل العلامة محمد بن محمد سالم رحمة الله عليهما عن فائدة هذا الحكم، ما فائدة طهارة إبليس؟ فقال: من تحكك عليه في الصلاة لم تبطل صلاته، فإبليس يمكن أن يخالط إنسانا في الصلاة، فإذا كان نجسا يبطل صلاة الناس، وعند الشافعية والحنابلة أن الخنزير نجس كالكلب فيرون أن الكلب نجس في حياته وبعد موته مطلقا، بخلاف المالكية، فإنهم يرون أن الكلب طاهر، وتظهر ثمرة الخلاف في الكلب إذا صب عليه الماء فإنه ينتفض فإذا تطاير شيء من بلله على إنسان تنجس عند الحنابلة والشافعية ولم يتنجس عند المالكية، وعلى مذهب الشافعية والحنابلة قول الشاعر في وصف أحد الولاة يقول فيه:



ما ازددت حين وليت إلا خسة






ته كل تيهك بالولاية والعمل
كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل

والمالكية يرون طهارته، وأنه طاهر العين، ولذلك فإن إراقة الماء الذي ولغ فيه وغسل الإناء سبعا تعبد عند المالكية وتطهير تعللي عند غيرهم، فالمالكية يرون أن الطهارة لو كانت تعللية لكفت فيها الغسلة الواحدة المنقية، أو ثلاث غسلات منقية عند الشافعية والحنابلة، فالمالكية تطهر عندهم الغسلة الواحدة المنقية، والشافعية والحنابلة تطهر عندهم ثلاث غسلات منقيات إلا من نجاسة الكلب والخنزير، فعند الشافعية والحنابلة أنها لا بد فيها من سبع غسلات، إحداهن بالتراب، وعلى هذا فالخنزير عند الشافعية والحنابلة مثل الكلب تماما، وهنا يدخل في حياة الناس اليوم أن كثيرا من النعال ومن الأحزمة هي من جلود الخنازير، ولكنها دبغت، فهل يحل بيعها وشراؤها؟ وهل تجوز الصلاة بها؟ وهل يجوز المسح عليها إن كانت خفافا؟ وهي منتشرة في الأسواق، كثير مما يباع في الأسواق وبالأخص مما أتى من مدينة ميلانو من إيطاليا من الجلود فكثير منه يدبغ من جلود الخنازير، فهذا محل بحث، وقد ذكر الأمير الصنعاني أن في المسألة أحد عشر مذهبا، في جلد الخنزير وحده، أحد عشر مذهبا لأهل العلم في هذه المسألة، ولذلك فإن الذين يرون طهارة الجلد بالدباغ مطلقا منهم من يعمم فيقول يشمل ذلك جلد الخنزير وغيره، ومنهم من يقصره على غير الخنزير، كالمالكية ولذلك قال خليل رحمه الله: ورخص فيه مطلقا إلا من خنزير بعد دبغه في يابس وماء، وعند الحنفية أن الخنزير لا جلد له أصلا فجلده من لحمه وهو رجس وعليه فجلده يأكله النصارى كما يأكلون لحمه فهو مثل لحمه، و عليه فهو مما لا يطهر بالدباغ، لا لأن الجلد لا يطهر بالدباغ ولكن لأنه هو غير جلد، بل هو لحم، هذا تعليل الحنفية.

وعلى هذا فإن ما كان منهيا عنه لذاته، فلا يحل بيعه ولا شراؤه، ومثله المحرم المشرف على الموت كالحمار الأهلي، إذا أشرف على الموت فليس فيه انتفاع لأنه لا ينتفع بالذكاة، فلا يطهر جلده ولا عظامه، ولا ينتفع بشيء منه، فلا يحل بيعه ولا شراؤه، واختلف فيما فيه نفع لبعض الناس دون بعض، كالحياة والعقارب فإن فيها نفعا لأهل المعامل والمصانع لأن السم الذي فيها نافع في العقاقير والأدوية، وهذا الخلاف نظيره الخلاف في الخمر أيضا هل هي نجس بذاتها، أو لا فمذهب جمهور أهل العلم أنها نجس، وذهب آخرون إلى أنها محرمة غير نجس، واتفق على أن الحشيش طاهر حرام.

بهذا نكون قد أتينا على خمسة عشر شرطا هي شروط البيع، وبهذا نكون قد أتينا على الأركان والشروط، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وأسأل الله تعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا وأن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وسنواصل إن شاء الله في الحلقات القادمة في العقود.