البكاءَ مِن خشية الله تعالى مقامٌ عظيم،
وهو مقامُ الأنبياء والصالحين،
إنَّه مقامُ الخُشُوع وإراقةِ الدُّموع
، إنَّه التعبير عن خوف القلب، وشوق الفؤاد للرب..
وإنَّ البكاء مِن خشية الله مِن أعظم الأمور التي يحبُّها اللهُ ويثيب عليها؛
فعن أبي أُمامة رضي الله عنه عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ ، وَأَثَرَيْنِ : قَطْرَةِ دُمُوعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَقَطْرَةِ دَمٍ يُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...." الحديث؛
رواه التِّرمذي وصَحَّحه الألباني.

وقد قال الله تعالى مادحاً رسله بالبكاء:
(إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)؛
وقال مُثنياً على عباده المؤمنين البَكّائين تأثراً بكلامه سبحانه:
(وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعا)..
وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا ربه فقال:
"اللهم إني أعوذُ بِكَ منْ عَينٍ لا تَدْمَعُ، ونفْسٍ لا تَشبَعُ، وقَلبٍ لا يَخْشَعُ".

وانْظُروا إلى الفَضْل العظيم الذي أَعَدَّهُ اللهُ سبحانه لصاحب العين التي تدمع خشيةً منَ الله وخوفًا؛
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يَلِج النارَ رَجُلٌ بَكَى مِن خشية الله" ،
ويقول صلى الله عليه وسلم: "عينانِ لا تَمَسهما النار: عينٌ بكتْ مِن خشية الله، وعينٌ باتَتْ تحرُسُ في سبيل الله" رواهما التِّرمذي وصَححهما الألباني..
وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الرَّجلَ الذي يبكي من خشية الله مِن السبعة الذين يُظِلهم الله يوم القيامة؛
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"سبعةٌ يُظِلُّهم الله، يوم لا ظِلَّ إِلاَّ ظله"، وذكرَ منهم: "ورجُلٌ ذَكَرَ الله خاليًا ففاضَتْ عَيْنَاه"
متفق عليه.

فالقلبُ الرَّقيق قلبٌ ذليلٌ أمام عظمة الله، ما انتزعه داعي الشيطان إلاَّ وانكسر؛ خوفًا وخشية للرَّحمن ولا جاءَهُ داعي الغَي والهوى إلاَّ ارتعدتْ فرائِصه من خشية المَلِيكِ
**

والبُعدِ عن الله ومخالفة أمره، والرُّكونِ إلى هذه الدُّنيا ونسيانِ وعيده ووعْده،
يجعل القلوبَ قاسية والمَدامعَ قاحِطة؛
قال الله تعالى: (كلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)
وقال تعالى (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين)
قال مالك بن دينار:
ما ضَربَ اللهُ عبدًا بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غَضِبَ اللهُ على قوم إلاَّ نَزَعَ منهمُ الرحمة.
وكان السلفُ يرون عيناً لا تبكي من خشية الله لا خير فيها,
فقد اشتكى ثابتُ البُنَاني عينيه فقال له الطبيبُ:
اِضمَنْ لي خصلة تبرأُ عيناك.
فقال: وما هي؟
قال:لا تَبكِ.
فقال ثابت: وما خير في عين لا تبكي؟!
*****

وما رقَّ قلبٌ بسبب أعظم منَ الإيمان بالله،
ولا عَرَفَ عبد ربَّه بأسمائه وصفاته إلاَّ رقَّ قلبُه ودمعتْ عينه،
فلا تأتِيه الآية منَ الله والحديث عنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم
إلا قال بلسان حاله ومقاله: سَمِعْنا وأَطَعْنا، غفرانكَ ربَّنا، وإليكَ المصير.
ومنَ الأسباب المُعينة على البكاء مِن خشية الله :
النَّظَر والتَّدَبُّر في كتاب الله وآياته؛ قال - تعالى -:
﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]،
فالمؤمن المُتَدَبِّر لآيات الله هو أرقُّ الناس قلبًا،
وأنقاهم نَفْسًا،
وما قرأ العبد القرآن مُتَفَكِّرًا مُتَدَبِّرًا إلاَّ صارتِ العين تدمع،
والقلب يخشع،
والنَّفْس تخضع،
وإذا بأرض هذا القلب تنقلب خصبة غضَّة طريَّة،
تنبت في النَّفس السكينة،
والخُضُوع لله رب العالمين؛
﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾

و القرآن موعظةُ ربِّ العالمين، وكلامُ إله الأولينَ والآخرينَ،
فما قرأه عبد يرجو الهدايةَ إلا وَتَيَسَّرَت له أسبابها، واتَّضَحَتْ له طرائقها،
هذا القرآن الذي حوَّل قلوب الصحابة منَ الظُّلمة إلى الإشراق،
ومنَ الغلظة إلى الرِّقَّة،
فها هو عمر بن الخطاب يسمع آيات مِن سورة طه،
فتملأ قلبه القاسي رقَّة وخشية،
وها هو الطفيل بن عمرو الدوسي يسمع آيات منَ الذِّكر الحكيم، فيُسارع إلى هذا الدِّين مُؤمنًا مُستَجِيبًا لأوامره،
داعيًا قومه إليه،
وهذا أُسَيد بن الحُضَير جاء ليمنعَ مصعبًا منَ الدعوة في المدينة، فيشير عليه مصعب بسماع بعض الآيات،
فما هي إلا آيات تُتلى، وإذا بها تسري إلى القلب سريان النور في الظلماء، حتى يسلمَ أُسيد، وَيَتَحَوَّل من محاربٍ للإسلام إلى داعٍ إليه؛
و ما أدمنَ عبد تلاوة القرآن إلاَّ رَقَّ قلبُه مِن خشية الله.
ومنَ الأسباب المُعينة على البكاء مِن خشية الله تذكُّر الآخرة وأهوالها،
والجنة ونعيمها،
والنار وجَحِيمها،
أن يَتَذَكَّر العبد أنه إلى الله صائِر، وما بعد الدُّنيا من دار إلاَّ الجنة أوِ النار،
فإذا تَذَكَّر الإنسان أنَّ الحياة زائِلة،
وأنَّ المتاع فانٍ،
فإنَّه حينئذٍ يحتقر الدُّنيا، ويقبل على ربِّها، عندئذٍ يرقُّ قلبُه، وتدمع عينُه، وتخشع جوارِحُه.
ومنَ الأسباب المُعينة على البكاء مِن خشية الله استشعار الخوف من الله تعالى . إن هذا البكاءُ ثمرةُ العلمِ النافع ،
كما قال القرطبي في تفسير قوله تعالى :
( وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ) الإسراء/109 :
هذه مبالغةٌ في صفتهم ومدحٌ لهم ؛ وحُقَّ لكلّ من توسّم بالعلم وحصّل منه شيئاً أن يجري إلى هذه المرتبة ؛
فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذلّ ،
وفي مسند الدّارميّ عن أبي محمد عن التَّيْميّ قال :
من أُوتيَ من العلم ما لم يبُْكِهِ لخليقٌ ألا يكون أُوتي علماً ؛ لأن الله تعالى نعت العلماء ، ثم تلا هذه الآية ،..." . " الجامع لأحكام القرآن " 10/341-342.
****

والبكاء في الخلوة افضل المواطن ، لأن الخلوة مدعاة إلى قسوة القلب ، والجرأة على المعصية ، وبعيدة عن احتمال الرياء ، فإذا ما جاهد الإنسان نفسه فيها ، واستشعر عظمة الله فاضت عيناه ، فاستحق أن يكون تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله .
سئل عبدالله بن المبارك عن صفة الخائفين
فقال:
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود أنين منه تنفرج الضلوع
وخرس بالنهار لطول صمت عليهم من سكينتهم خشوع
وقال آخر
فاز من سبح والناس هجوع
يدفن الرغبة ما بين الضلوع
و يغشيه سكــون وخشوع
ذاكراً لله والدمـــع هموع
سوف يغدو ذلك الدمع شموع