وداع رمضان


أيها المسلمون: هذا شهر صومكم قد رحل عنكم وانقضى، كما هلَّ عليكم قبلُ وأتى.
وما من شيء إلا سيرحل، ولا يبقى إلا الله عز وجل، فهو الباقي، ومن أسمائه الباقي سبحانه وتعالى.

رحل عنا شهر الصوم، فماذا أخذ منا؟ وماذا علمنا؟ وماذا أخبرنا عن أنفسنا؟
لقد كشف لنا رمضان أننا نستطيع أن نفعل أمورًا كنا نظنها من الأمور الصعبة والمهام الثقيلة، علمنا رمضان ختمَ القرآن مرة ومرتين وأكثر من ذلك، وأغلب الظن أن الكثير قد قرؤوا القرآن كاملًا في هذا الشهر، وهو أمرٌ لم يكونوا يفعلوه قبل ذلك.

علمنا رمضان أن الصوم ليس عبادة شاقة لا يتحملها إلا الأتقياء من عباد الله الصالحين، فها هم الناس قد صاموا شهرًا كاملًا، بلا تعب أو جهد أو مشقة، فلماذا كانوا يحرمون أنفسهم من صيام الأيام الأخرى قبل ذلك؟ فمن صام رمضان يستطيع أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام الإثنين والخميس، وغيرها من تطوعات الصيام.

علمنا رمضان أننا نستطيع أن نصلي الوتر سبع ركعات، أو تسع ركعات، أو إحدى عشرة ركعة، ولا نحس بكثير من التعب والعناء، فلماذا كنا نقتصر على كل ركعة واحدة أو ثلاث ركعات؟

أيها المسلمون:
انظروا كيف نظلم أنفسنا بتفريطنا في كثير من الأعمال الصالحة اليسيرة بظنون وأوهام لم تكن في محلها؛ والله سبحانه وتعالى يقولون: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57].

ومن الظلم التكاسل عن القيام بهذه العبادات الفاضلة.

وعلمنا رمضان وعلم غيرنا ممن ابتلي بآفة التدخين، أنه يستطيع الامتناع عنه ساعاتٍ طويلة، ولا ينقص من عمره شيء، ولا يتغير في بدنه ولا في نفسه، وإن الصيام لوسيلة عظيمة لتركه والبعد عنه، إن التدخين - أيها المسلمون - له آفة أعظم من آفاته الصحية والمالية والبدنية.

إن أعظم آفةٍ له أنه أحد موانع طرق الخير إلى نفس الإنسان، وأن التدخين أحد موانع الناس من القيام لصلاة الفجر جماعة في المسجد، وتفقدوا المصلين في مساجدكم، وانظروا لمن الغلبة في الحضور، هل هي للمدخنين أم للذين يمتنعون عنه؟

إن لكل شراب وطعام طبعٌ يطبعه في نفس شاربه أو آكله، فكما أن الكبر في أهل الإبل، والرحمة والسكينة في أهل الغنم؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحرَّم أكل لحم الخنزير إلا أنه ليقتل الغيرة في نفوس آكليه.

فإن الدخان يُثقل على صاحبه القيام لصلاة الفجر، فمن كان من أهله، فليبادر وليسارع في تركه، فإن الخير كل الخير في تركه والامتناع عنه.

أيها المسلمون:
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال، فكأنما صام الدهر كله»، ومن مقاصد هذا الحديث الإشارة إلى تتابع الإنسان على الأعمال الصالحة، والاستمرار بالقيام بها.

فإن الله تعالى قد فرض فروضًا في الإسلام، وشرع من جنسها عباداتٍ يفعلها المسلم باستمرار، ففرض الله الصلوات الخمس وشرع معها صلاة النافلة؛ حتى لا ينقطع المسلم عن الصلاة في يومه وليلته، وفرض الله الزكاة وشرع معها الصدقة؛ حتى لا ينقطع المسلم عن التصدق من ماله على الفقراء والمحتاجين، وفرض الله سبحانه الحج وشرع معه العمرة؛ حتى لا ينقطع المسلم عن بيت الله تعالى.

وفرض الله الصيام وشرع معه أنواعًا من الصيام معروفة؛ حتى لا ينقطع المسلم عن عبادة الصيام، فاستمروا - رحمكم الله - على ما كنتم عليه من الأعمال الصالحة، وجاهدوا أنفسكم، فإن النفس ميالةٌ إلى الدعة والراحة، وإن النفس أيضًا على ما اعتادت عليه، وإن الاستمرار على الطاعة يبدأ من الأيام الأولى من بعد شهر رمضان.

______________________________ ____________________________
الكاتب:ساير بن هليل المسباح