شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (9)
الشيخ.محمد الحمود النجدي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع سدى.
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
• الحديث السادس: قال البخاري رحمه الله:
7281 – حدثنا محمد بن عبادة: أخبرنا يزيد: حدثنا سليم بن حيان, وأثنى عليه: حدثنا سعيد بن ميناء: حدثنا أو سمعت: جابر بن عبد الله يقول: جاءت ملائكة إلى النبي[ وهو نائم, فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان, فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا, فاضربوا له مثلا, فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان, فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة, فقالوا: أولوها له يفقهها, فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان, فقالوا: فالدار الجنة, والداعي محمدا[ فمن أطاع محمداً[ فقد أطاع الله, ومن عصى محمدا[ فقد عصى الله, ومحمد[ فرق بين الناس. تابعه قتيبة, عن ليث, عن خالد, عن سعيد بن أبي هلال, عن جابر: خرج علينا النبي[.
الشرح :
الحديث السادس في هذا الباب حديث جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري الصحابي الجليل, وهو أحد السبعة الذين رووا عن النبي[ فوق الألف من الحديث كما قلنا سابقا, يرويه البخاري عن محمد بن عبادة الواسطي أبو جعفر الثقة, له في البخاري حديثان فقط ، قال: أخبرنا يزيد, ويزيد هو ابن هارون الواسطي الثقة الإمام، أحد أعلام أهل الحديث والسنة, وهو القائل رحمة الله: من قال الرحمن على العرش استوى خلاف ما َيقر في قلوب العامة، فهو جهمي.
قال: حدثنا سليم بن حيان وهو ثقة، وقد أثنى عليه يزيد, حدثنا سعيد بن ميناء وهو أبو الوليد مولى البختري ثقة، قال: حدثنا أو سمعت وهذا الشك من سليم بن حيان, وهو من دقة أهل الحديث في الرواية؛ حيث قال: حدثنا أو سمعت، مع أن حدثنا أو سمعت قريبتان في المعنى لأنهما من صيغ التصريح بالسماع، وإن كانت سمعت أقوى من حدثنا, ولكنهما قريبان في المعنى.
يقول جابر بن عبد الله: "جاءت ملائكة للنبي[ وهو نائم", لم يصرح بأسماء الملائكة, وورد عند الترمذي أنهما "جبريل وميكائيل".
قوله "فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان" وهكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم, يقول[: "إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا" ولهذا قد يوحي الله تبارك وتعالى إلى النبي[ وهو نائم, اقرأ قوله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (الصافات: 102), فماذا قال له ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} (الصافات: 102), فرؤيا الأنبياء وحي من الله تعالى، بخلاف رؤيا غيرهم من الناس؛ فإنها قد تكون وحيا، أو تخليطا من الشيطان، أو حديث نفس، كما جاء في الحديث، أما بالنسبة للأنبياء فإن رؤياهم وحي من الله تعالى.
ولهذا قال[ في الحديث عند البخاري (6989): "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ".
فالرؤيا الصادقة وحي من الله, لكن لا يستطيع الإنسان أن يجزم بأن ما رآه هو رؤيا صادقة حتى تتحقق! وقد افتتن كثير من أهل عصرنا بتأويل الأحلام، والسعي في طلب تفسيرها على أي حال كانت، سواء كانت عليها علامات الرؤيا أو كانت أضغاثا من الشيطان وأحلاما، أو حديث نفس, وجعل بعض الناس الحديث في الرؤيا كطعامه وشرابه.
ولبعض السلف كلمة ذهبية يقول فيها: من اتقى الله في اليقظة، لم يضره ما يراه في المنام؛ فمتى اتقى العبد ربه سبحانه وتعالى، وأقام حدوده ولم يقع فيما حرم الله فإن الله سبحانه وتعالى سيحفظه, والرؤيا الصادقة بشارة للمؤمن بالخير أو تحذير له من الشر.
فالحاصل أن رؤيا الأنبياء وحي من الله, لأنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
قوله : "فقالوا : قالوا إن لصاحبكم هذا مثلا، قال فاضربوا له مثلا" والمثل يقرب الشيء المعنوي إلى شيء حسي، المعاني تكون في صورة أشياء حسية فيقرب فهمها للسامع.
قوله: قالوا: "مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدُبة" المأدبة بضم الدال هي العشاء أو الطعام ، ويروى مأدَبة والمأدبة من الأدب, يعني جعل فيها ما يُتعلم فيه الأدب والخُلق, لكن سياق الحديث يدل على أن المراد بها الطعام، لأنه قال: "وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدُبَة" فالمراد هو الطعام لأنه قال: وأكل من المأدبة.
قوله: ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة؛ فهذا مثال ضربته الملائكة لرسول الله[ ودعوته، وهو أنه مثله كمثل رجل أو شخص بنى دارا، ثم بعث داعيا للناس يدعوهم لدخول الدار، والأكل من المأدبة والطعام ، فتنوعت استجابات الناس, فمن الناس من استجاب لهذا الداعي فدخل الدار وأكل من المأدبة, ومن الناس من لم يستجب فلم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة.
قوله: "فقالوا: أولوها له يفقهها" أولوها يعني: فسروها، وهذا هو معنى التأويل عند السلف السابقين, أنه بمعنى التفسير، ومر معنا قول النبي[: اللهم علمه التأويل، أي: تفسير القرآن، وسمى الإمام أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري كتابه بـ "جامع البيان في تأويل آي القرآن" يعني في تفسير آي القرآن, هذا هو المعنى الأول للتأويل عند السلف.
والمعنى الثاني للتأويل: ما تصير إليه الأشياء المخبر بها, ما تصير إليه الأشياء فتؤول بمعنى تصير، آل إلى كذا، يعنى رجع إليه, فما تصير إليه الأمور وترجع إليه يسمى تأويلا, يوسف عليه السلام ماذا قال؟ قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} (يوسف:101), يعني: هذا ما آلت إليه الرؤيا، وصارت إليه وظهرت، وقال عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} (الأعراف: 53)، أي: إذا حصل ووقع الذي أخبرت به الرسل يوم القيامة، تذكر أقوام الرسل ما أخبرت به الرسل في الدنيا، وندموا على عدم الإيمان حيث لا ينفع الندم، وسألوا الرجوع للدنيا.
فقوله: "فقالوا أولوها له يفقهها" يعني: اشرحوها له, فسروها له.
قوله: "فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان" هكذا تكررت هذه العبارة.
قوله: "فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمدا[، فمن أطاع محمدا[ فقد أطاع الله ومن عصى محمد[ فقد عصى الله, ومحمد فرق بين الناس "قالوا الدار هي الإسلام والجن، والداعي إليها هو محمد[، فمن أطاعه فقد أطاع الله ودخل الدار, أي دخل الجنة وأكل من طعامها، وناله من نعيمها وخيرها وبهجتها, ومن عصى محمد[ لم يدخل الجنة، ولم يحظ بالنعيم الذي في الجنة والطعام والشراب, والمتع التي تكون في الجنة.
وفي رواية عند الترمذي قال: "فالله هو الملك، والدار الإسلام, والبيت الجنة, وأنت يا محمد رسول الله" فالله تبارك وتعالى هو الذي بنى الدار، فالجنة أنشئت بأمر الله تعالى, وجنة عدن خصوصا خلقها الله تبارك وتعالى بيده ، تشريفا لها ولأهلها كما جاء في الأثر, فمن دخل إلى الدار, والدار هي الإسلام, والمأدبة هي الجائزة, وهي الجنة, والرسول الداعي الذي خرج يدعو الناس لدخول الدار, والأكل من المأدبة هو محمد[.
فهذا مثل ضربه النبي[ لمن أطاعه[؛ لأنه رسول صاحب المأدبة, فصاحب المأدبة هو الله تعالى, وهو باني الدار تعالى، وهو الذي هيأ لأهل الجنة نزلهم وكرامتهم ونعيمهم, فمن أجاب محمد[ دخل الدار, من دخل الإسلام أكل من المأدبة يعني دخل الجنة, ومن عصاه وأعرض عن طاعته ولم يدخل الإسلام, أو أن دخوله كان فيه نقص ، فتأخر عن دخول الدار دخولا كليا وجعل له نقص في التأخير.
قوله: "ومحمد فرق بين الناس" فيه روايتان هذه الرواية الأولى بالتخفيف "محمد فرق بين الناس" والرواية والثانية: "محمد فَرّق بين الناس", أما رواية "محمد فرق بين الناس" بالتخفيف: يعني محمد[ بدعوته وبدينه هو فرقان بين الحق والباطل, فإن الله تبارك وتعالى سمى كتابه فرقانا كما قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1), فالقرآن فرق بين الحق والباطل, فالناس منهم من هو محق ومنهم من هو مبطل, فمحمد[ يفصل بينهم, يفصل بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال, كما أن محمد[ يفرق بين الناس, إذ إنه يفرق بين المؤمن والكافر, والبر والفاجر, فليس من عصى الله كمن أطاع الله, وليس من عصى محمد[ كمن أطاعه , فـ{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (الحشر:20), وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُون} (السجدة: 18), وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:21), فلا يستوي هؤلاء وهؤلاء , والدين الذي جاء به محمد[ يفرق بين أهل الجنة وأهل النار, أهل الطاعة وأهل المعصية, أهل البر والإحسان, وبين أهل الإثم والمعصية.
ولهذا تجد أن المشركين كانوا يقولون لما جاءت دعوة الإسلام عن محمد[: هذا الذي فرق جماعتنا! يقولون: فرق بين الأب وابنه, فإذا آمن الابن فارق أباه الكافر، وكذلك إذا آمنت الزوجة فارقت زوجها الكافر والعكس, فكانوا يرون أن دعوة محمد[ تفرق بين المؤمن والكافر, فالمؤمن الذي آمن بالله وعرف دينه واتقى ربه، هل يستوي والكافر الذي لا يعرف ربا ولا دينا ولا خلقا؟! فلا يستوي هذا وهذا, فهذا في الحياة الطيبة في الدنيا والجنة في الآخرة، وهذا في الشقاء والضلال في الدنيا، والعذاب في النار في الآحرة ، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} (الممتحنة: 1).
وقال سبحانه: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} (البقرة: 257).
فالله تعالى هو الذي فرق بينهم، فيجب علينا أن نفرق بينهم كما أمرنا سبحانه.
وبعد أن نزلت الأحكام الشرعية بالمدينة أيضا بينت مزيدا من الفروق بين معاملة المؤمن ومعاملة الكافر, في النكاح والمواريث والعدد ، والسلم والحرب، وغيرها، فهناك فروق واضحة بين هؤلاء وهؤلاء في الشرع, وهذه كلمة عظيمة لو أردنا أن نتحدث فيها لطال بنا المقام, وللإمام شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله كتاب في هذا الموضوع اسمه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" مطبوع متداول.