تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 30

الموضوع: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (1)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي




    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد[، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فلا يخفى على الجميع ما من الله سبحانه وتعالى به على هذه الأمة المباركة من اليقظة والصحوة بعد الغفلة، والتوجه نحو دين الله سبحانه وتعالى من الذكور والإناث، وهي يقظة شاملة - بحمد الله سبحانه وفضله -كل البلاد العربية والإسلامية على اختلافها وتباعدها، وتنوع أجناسها ولغاتها.

    ولاشك أن هذه اليقظة والرجوع إلى الدين، تحتاج إلى الضوابط والقواعد الشرعية، التي تجعل من هذا الرجوع، ومن هذه اليقظة: يقظة صحيحة أولا, ونافعة ثانيا, ومباركة ثالثا, ومؤيدة بنصر الله سبحانه وتعالى رابعا, وإذا فقدت الصحوة أو فقدت اليقظة الإسلامية بتعبير أصح وأدق، الضوابط التي تضبط لها منهجها وطريقها ورجوعها إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإنها ستخسر جهدها ووقتها، وتخسر أبناءها، وتضيع سدى.

    ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري.

    ومن خلال شرحنا لهذا الكتاب (1) ، الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا به جميعا، سنتعرف على كثير من الضوابط التي تضبط لنا رجوعنا إلى الله تعالى، وتضبط لنا منهجنا، وتبين لنا الطريق الذي يجب أن يسلكه المسلم عموما، والداعية خصوصا في رجوعه إلى الله تعالى، وفي سعيه لإرجاع أمته إلى الله سبحانه وتعالى وإلى دينها الحق, والله سبحانه وتعالى، إنما كتب التأييد والنصر لعباده المؤمنين العالمين العاملين، وأما دون ذلك فلا يكون الإنسان مؤيدا من عند الله عز وجل، وإن تحقق على يده بعض النصر المؤقت أو بعض المصالح، فإن مجرد وجود المنفعة والمصلحة، لا يجعل الأمر مشروعا أو جائزا، كما هو معلوم.

    وقد اخترنا كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث.

    1 – وقد شرح هذا الكتاب في الدورة العلمية التي أقيمت بجمعية إحياء التراث الإسلامي فرع ضاحية صباح الناصر سنة 1427 هـ، والإمام الحافظ - بل جبل الحفظ - كما يصفه الحافظ ابن حجر في التقريب، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، الذي وفقه الله عز وجل وأعانه، لوضع أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، وهو "صحيحه" المعروف باسمه، فذكر فيه أصح ما ثبت لديه من الأحاديث النبوية والسنن، ومعها فقهه الواسع، وعلمه الغزير بالأحاديث، والذي بثه في تراجمها ، كما هو معلوم من طريقته في كتابه عند أهل الحديث.

    وهذا الكتاب - أعني صحيح البخاري- قد انبرى لشرحه كثير من الأئمة والحفاظ، من أشهرهم وأوسعهم كتاب الإمام الحافظ أحمد بن على بن حجر العسقلاني، الذي يوصف بأنه خاتمة الحفاظ، وهو صاحب الشرح المشهور: بفتح الباري، حتى قال الإمام الشوكاني في مدح كتابة: "لا هجرة بعد الفتح" لعظمة هذا الكتاب وسعته وبيانه, وسماه بعض المعاصرين: بقاموس السنة، لما فيه من جمع للأحاديث النبوية واستقصاء طرقها وأسانيدها؛ فإن الإمام الحافظ ابن حجر شرح هذا الكتاب في ستة عشر سنة، وحشد فيه الطرق والأحاديث من السنن والمسانيد والمعاجم والأجزاء الحديثية وغيرها، مما لا تجد له مثيلا.

    وقد اختصر كتاب الحافظ ابن حجر (الفتح) حافظ الهند وعلامته: صديق حسن خان في كتابه "عون الباري", وذلك في خمسة مجلدات كبار.

    كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة:

    بدأ الإمام البخاري رحمه الله "كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة" بخمسة أحاديث, ومن عادته أن يكتب البسملة في أول الكتاب, فإن كتابه مقسم على كتب، والكتب مقسمة على أبواب , والبسملة -كما هو معلوم - يؤتى بها تبركا وتيمنا، وتشبها بكتاب الله سبحانه وتعالى، الذي يبدأ فيه القارئ بالبسملة.

    والاعتصام طلب لعصمة، وهي مأخوذة من قول الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (آل عمران: 103) الآية، فقال أهل العلم: إن الإمام البخاري قد انتزع هذه التسمية في هذا الكتاب من الآية الكريمة.

    والكتاب: هو القرآن, هذا هو العرف الشرعي، وهو المنزل على محمد[ بواسطة جبريل عليه السلام، والمتعبد بتلاوته.

    والسنة في اللغة: هي الطريقة والهدي.

    وأما في الشرع فهي: ما جاء عن النبي[ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلْقية أو خُلقية، هذا عند الأصوليين والمحدثين.

    وأما عند الفقهاء؛ فإنهم يريدون بالسنة ما يوافق المستحب، ويرادف كلمة المستحب والمندوب، فيقولون: هذا العمل سنة, وهذا واجب.

    والاعتصام بالكتاب والسنة يعني: الالتجاء إليهما؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد عصم كتابه عن الخطأ والزلل، كما قال الله سبحانه وتعالى عنه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42). قال الإمام ابن بطال - وهو من فقهاء المالكية: "لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو في سنة رسول الله[، أو في إجماع العلماء على معنى أحدهما".

    يعني: لا عصمة لأحد بعد رسول الله[، إلا في كتاب الله أو في سنة رسوله[؛ فالكتاب معصوم عن الخطأ والزلل, والسنة كذلك معصومة؛ لأنها وحي من عند الله كالقرآن، فالرسول[ لا يتكلم من عند نفسه، بل كما قال الله عز وجل مزكيا منطقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4-3).

    وقوله: "أو في إجماع العلماء على معنى أحدهما" أي: إذا أجمع العلماء وأولهم صحابة رسول الله[ على معنى آية أو على معنى حديث، فإن هذا الإجماع معصوم عن الزلل والخطأ، لقول الرسول[: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة». وفي لفظ: «أبى الله أن يجمع الأمة على ضلالة». رواه الترمذي وابن أبي عاصم في السنة والطبراني وغيرهم، من عدة طرق يقوي بعضها بعضا.

    وبهذا نعلم أن الأمة ليست بحاجة إلى أفراد معصومين! كما ادعت الإمامية في أئمتها أنهم معصومون عن الخطأ! وأنه لا يصح أن يكون الإمام العام إلا معصوما! ولا يكون القائد إلا معصوما!

    فالأمة لا تحتاج إلى إمام معصوم ؛ لأن عندها كتاب الله تعالى وسنة رسوله وهما محفوظان ومعصومان عن الخطأ، وبهما يعرف الخطأ من الصواب, وهما الميزان اللذان توزن بهما الأعمال والأحوال، والرجال والطوائف، فإذا أردت أن تعرف هل هذا العمل صحيح أو خطأ؟ حق أو باطل؟ فاعرضه على الكتاب أو على السنة أو على عمل السلف على معنى آية أو حديث، تعرف حاله .

    وقول الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ } (آل عمران: 103) جاء بعد قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران 102 - 103 ) فالله تعالى قد أمر بالتقوى - حق التقوى - في الآية التي قبلها, وهي كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.

    ثم بين الطريق إلى التقوى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } (آل عمران: 103), إذن، إذا أردنا أن نتقي الله عز وجل حق التقوى؛ فعلينا أن نعتصم بحبل الله، وحبل الله، قال المفسرون هو: كتاب الله, وقال آخرون: هو الإسلام, ولا تضاد بين المعنيين؛ لأن الإسلام كتابه القرآن والسنة.

    وتأمل كيف أن الله سبحانه وتعالى سمى كتابه "حبلا" لأن الحبل في الأصل ما يصل بين الشيئين, فكتاب الله عز وجل واصل بين الله وبين عباده, والحبل كذلك ما يصل به الإنسان إلى الأماكن العالية, إذا أراد أن يرتقي أخذ بالحبل وصعد, فمن أخذ بالقرآن ارتفعت منزلته، وعلا قدره عند الخلق، وحصلت له الرفعة في الدنيا والآخرة كما قال[: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين"(صحيح مسلم).

    وأيضا الحبل يحصل به النجاة، فإذا سقط إنسان في حفرة أو في بئر دلينا له بحبل فأنقذناه به من الهلكة, فكذلك الاعتصام بالكتاب والسنة نجاة من الهلكة، وهذه استعارة بديعة كما قال العلماء، تدل على هذه المعاني العظيمة الجليلة.

    وأورد بعد ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى في الباب الأول خمسة أحاديث، نبدأ بأولها إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة.

    والله تعالى أعلى وأعلم، ومنه نستمد العون في القول والعمل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (2)


    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.

    ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.
    ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
    وها نحن أولاء نبدأ في هذه الحلقة بشرح الأحاديث من هذا الكتاب:









    - الحديث الأول: قال البخاري رحمه الله تعالى:

    7268- حدثنا الحميدي: حدثنا سفيان, عن مسعر وغيره, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين , لو أن علينا نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3) لاتخذنا ذلك اليوم عيدا , فقال عمر: إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية, نزلت يوم عرفة, في يوم جمعة». سمع سفيان من مسعر, ومسعر قيسا, وقيسا طارقا، طرفه في 45.
    الشرح:
    الحديث الأول: رواه البخاري عن شيخه الحميدي، وهو عبد الله بن الزبير الحميدي, عن سفيان وهو ابن عيينة الهلالي, عن مسعر وهو ابن كدام الهلالي, عن قيس وهو ابن مسلم الكوفي، عن طارق ابن شهاب البجلي وهو صحابي على الصحيح، قال: "قال رجل من اليهود لعمر", جاء في رواية البخاري في كتاب الإيمان أنه: "قالت اليهود", وفي رواية للإمام الطبري والطبراني أن القائل هو: كعب الأحبار، ولعل اليهود كلفوه بأن يسأل عمر.
    «قال رجل من اليهود لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين, لو أن علينا نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3), لاتخذنا ذلك اليوم عيدا».
    {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}( المائدة : 3) , ظاهر هذه الآية يدل على أن الدين كملت أحكامه وتشريعاته، وحلاله وحرامه عند نزول هذه الآية, وهذه الآية كما قال أهل العلم نزلت على النبي [ قبل موته بثمانين يوما, وقد جزم السدي بأنه لم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام، قال الحافظ: وفي ذلك نظر, وقال: قد ذهب جماعة إلى أن المراد بالإكمال: إكمال أصول الأركان، لا ما يتفرع عنها.
    يعني: قد أكمل الله عز وجل لهذه الأمة أركان دينها ومعالم شريعتها بهذه الآية، أما الفروع التي هي دون الأصول والأركان فيمكن أن تزاد, وعلى كل حال فإن الجميع مجمعون على اكتمال الدين قبل وفاة الرسول [.
    فالرسول [ لم يمت إلا بعد أن أكمل للأمة دينها، ووضح لها معالم شرعها, ولم يكتم [ من ذلك شيئا كما أمره الله عز وجل: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) , فلم يكتم عليه الصلاة والسلام شيئا من الوحي، بل بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه, فصلوات الله وسلامه عليه.
    والرسول [ قد أنزل الله إليه القرآن ليبين للناس كما قال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (النحل: 44) فربما وضح إليهم ما كان مجملا في كتاب الله، وفسر لهم ما كان غامضا في وقته عليه الصلاة والسلام, وبعده عليه الصلاة والسلام يُرجع في تفسير هذه المجملات إلى العلماء؛ كما قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ} (النساء: 83).
    فقائل هذه الكلمة يعلم قيمة هذه الآية، ولهذا قال:"لاتخذنا ذلك اليوم عيدا" أي: نفرح فيه بإكمال الدين وإتمامه.
    والعيد: مأخوذ من العود، وهو ما يعود في كل عام أو في كل زمان, فسمي العيد عيدا من العود, والعيد كما قال أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه:" اقتضاء الصراط المستقيم": العيد شريعة، ولا شريعة إلا ما شرعها الله"، وبهذا نعلم أن التوسع في إحداث الأعياد مخالف الشرع, والرسول [ لما جاء إلى المدينة، كان للناس يومان يلعبون فيهما؛ فقال [ : "إن الله أبدلكم بهما خيرا منهما، يومي الفطر والأضحى".
    فألغى النبي [ ونسخ أعياد الجاهلية، وأثبت أعياد الإسلام, فاليومان اللذان كانا يلعبون فيهما نُسخا وألغيا، وأُثبت مكانهما يوما الفطر والأضحى.
    وهناك عيد ثالث وهو يوم الجمعة المتكرر، فإن يوم الجمعة أفضل الأيام عند الله عز وجل؛ كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة؛ ولذلك اعتبره العلماء من الأعياد الأسبوعية المتكررة، ولأمر النبي [ فيه المسلم بالاغتسال في هذا اليوم العظيم، والتطيب والسواك، ولبس النظيف من الملابس, هذا كله يدل على أنه عيد في كل أسبوع للمسلمين, والآية السابقة نزلت في يوم جمعة، كما قال عمر: "إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية, نزلت يوم عرفة في يوم جمعة".
    وفي رواية قال رضي الله عنه: «إني لأعلم أين نزلت هذه الآية، ومتى نزلت، أو حين نزلت». أي أعلم الزمان والمكان.
    وفي رواية عند مسدد: "نزلت يوم جمعة, يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله عيد"، فهذه الآية قد نزلت يوم عيد للمسلمين, وذلك لأنها نزلت يوم جمعة, ويوم الجمعة هو عيد للمسلمين كما سبق, كما أنها في الزمان يوم عرفة, وعرفة ليلة العيد ويصح أن يقال: عرفة عيد.
    فهذه الآية إذاً وافق نزولها يوم عيد للمسلمين، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة، أن الله تبارك وتعالى أنزل عليها هذه الآية في يوم عرفة ووافق الجمعة، فاجتمع فيه فضلان: فضل عرفة الذي صيامه يكفّر سنتين: ماضية ومستقبلة, ويوم جمعة الذي هو سيد الأيام وأفضلها عند الله تبارك وتعالى.
    ويشيع عند العامة حديث: أن يوم عرفة إذا وافق الجمعة كان عن سبعين حجة! وهذا حديث ذكره رزين في زياداته على الموطأ، ولا أصل له في كتب السنة، ولا يعرف مخرجه ولا صحابيه، كما قال الحفاظ كالحافظ ابن حجر وغيره.
    ولكن لا شك أن يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة كان فضلا على فضل، وربما يقال «سبعون» من باب المبالغة؛ كما قال الله وتعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (التوبة: 80) على وجه المبالغة، أما أن من حج ووافق الجمعة عرفة، يكون ذلك عن سبعين حجة فى الأجر المعدود، فلا يثبت هذا, لكن لا شك أنه أفضل من غيره من الحجج.
    قول البخاري رحمه الله: "سمع سفيان مسعر ومسعر قيسا وقيسا طارقا", هذا من باب إثبات السماع، وأن هذا الحديث متصل بالسماع, سفيان هو ابن عيينة سمع من مسعر، ومسعر سمع من قيس، وقيس سمع من طارق بن شهاب.
    - الحديث الثاني:
    7269- حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث, عن عقيل, عن ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك: أنه سمع عمر, الغد حين بايع المسلمون أبا بكر, واستوى على منبر رسول الله [ , تشهد قبل أبي بكر فقال: أما بعد, فاختار الله لرسوله [ الذي عنده على الذي عندكم, وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم, فخذوا به تهتدوا, وإنما هدى الله به رسوله"، طرفه في : 7219.
    الشرح: الحديث رواه البخاري عن شيخه يحيى بن بكير وهو ابن عبدالله القرشي المصري الحافظ، عن الليث وهو ابن سعد الفهمي قاضي مصر في وقته ومحدثها وعالمها، وله مذهب لكنه انقرض تقريبا إلا ما في الكتب, حتى قال بعض أهل العلم: إن الليث أعلم من مالك، ولكن مالك قام به أصحابه والليث لم يقوموا به. وعقيل الذي يروي عنه هو ابن خالد, وعامة الرجال الذين بهذا الاسم بفتح العين "عَقيل" إلا الراوي عن الزهري فإنه بالضم "عُقيل" بن خالد. عن ابن شهاب وهو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري الإمام التابعي الجليل، وهو فيما ذكر أهل العلم أول من دون السنة بأمر من عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه, وعيب عليه دخوله على السلاطين, ولكنه كان قوّالا بالحق، يدخل عليهم فيعظهم ويذكرهم بالله، ولم يكن ممن استمالتهم الدنيا.
    قال: أخبرني أنس بن مالك، وهو الصحابي الجليل خادم رسول الله [، وممن روى عن النبي [ فوق الألف من الأحاديث, والذين رووا فوق الألف من الحديث عن النبي [ سبعة من الصحابة، منهم أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
    قوله: "أنه سمع عمر الغد حين بايع المسلمون أبا بكر واستوى على منبر رسول الله [، تشهد قبل أبي بكر فقال أما بعد: فاختار الله لرسوله [ الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدي الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا, وإنما هدى الله به رسوله "وفي بعض النسخ" لما هدى الله به رسوله".
    فأنس بن مالك رضي الله عنه يروي قصة مبايعة المسلمين لخليفة رسول الله [ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان خليفته [ في صلاته، فأم المسلمين في حياته [ بأمره، وقد رضيه الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم لدنياهم إذ رضيه رسول الله [ لدينهم، فالرسول [ رضي أبا بكر لدين المسلمين، فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" رواه البخاري؛ ولذا رضيه المسلمون والصحابة لإدارة شؤون دنياهم.
    وقد قال السلف رحمهم الله: من قدّم عليا على أبي بكر، فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يعني: قد طعن في اختيار المهاجرين والأنصار، وانتقصهم واحتقرهم؛ لأن المهاجرين والأنصار هم الذين اختاروا أبا بكر, فمن قدم عليا على أبي بكر, أو قدم عثمان على أبي بكر, أو قدم عمر على أبي بكر, فقد أزرى وطعن واستخف بعقول المهاجرين والأنصار - والعياذ بالله - وهذا لا يرضاه مسلم لنفسه؛ لأن الله سبحانه قد أثنى على الصحابة من المهاجرين والأنصار، وأخبر أنه تعالى رضي عنهم وعمن تبعهم بإحسان، ورضوا عنه.
    فمن تبع المهاجرين والأنصار فقد رضي الله عنه، ومن لم يتبعهم فقد سخط الله عز وجل عليه, لا شك في هذا، وهذه قاعدة مهمة في اتباع سلف الأمة.
    قوله: "فلما بايع المسلمون أبا بكر واستوى على منبر رسول الله [ تشهد قبل أبي بكر, تشهد عمر وخطب قبل أن يخطب أبو بكر فقال عمر رضي الله عنه في خطبته: "أما بعد: فاختار الله لرسوله [ الذي عنده على الذي عندكم" يعني: أن الله عز وجل قد قبض نبيكم واختار له ما عنده جل وعلا في الرفيق الأعلى، على الذي عندكم في الحياة الدنيا.
    "وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا، وإنما هدى الله به رسوله", أو "فخذوا به تهتدوا لما هدى الله به رسوله" وهذا تقرير من عمر رضي الله عنه وأرضاه أن موت النبي [ وإن كان مصيبة عظيمة حلت بالمسلمين، إلا أن الله تبارك وتعالى قد أبقى في أمته الكتاب العظيم الذي اهتدى به نبيها عليه الصلاة والسلام، فنحن وإن فقدنا رسول الله [ من بين أظهرنا، لكن كتابه لا يزال موجودا بيننا، وسنته عليه الصلاة والسلام لا تزال محفوظة, بل هما جميعا محفوظان إلى قيام الساعة؛ فلا يضر الإنسان موت النبي [ الضرر البالغ الذي يؤدي به إلى الضلال؛ لأن الكتاب محفوظ والسنة محفوظة, وقد قال الله سبحانه وتعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3), وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ( النساء: 80)، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، فكتاب الله سبحانه وتعالى الاعتصام به فلاح ونجاة.
    وهذا حث من عمر على الاعتصام بالكتاب؛ لأنه يقول لهم: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مات، ولكن الكتاب الذي هدى الله به رسوله بين أظهركم؛ فلا تخافوا من الضلالة، والله سبحانه وتعالى قد اختار لرسوله ما عنده على الذي عندكم، وهو سبحانه رؤوف رحيم بكم أيضا؛ لأنه لم يرفع الكتاب من بين أظهركم بعد وفاة نبيكم، بل هو لا يزال بين أظهركم تستطيعون الاهتداء به، وإذا أردتم الهداية لما هدى الله به رسوله.

    هذا ملخص كلام عمر رضي الله عنه، وهي كلمات قليلة، لكنها وصية عظيمة بكتاب الله سبحانه وتعالى، وأن التمسك به سبب يحصل به المقصود من الهداية، والعصمة من الزيغ والضلال.
    نسأله تعالى أن يعلمنا من كتابه ما جهلنا، ويذكرنا منه ما نسينا، إنه سميع الدعاء.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (3)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي






    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.



    ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.



    ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.







    الحديث الثالث:



    7270 - قال: حدثنا موسى بن إسماعيل. قال: حدثنا وهيب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني إليه النبي [ وقال: "اللهم علمه الكتاب" (طرفه في: 75).



    الشرح:



    الحديث الثالث رواه البخاري رحمه الله من طريق شيخه موسى بن إسماعيل التبوذكي الثقة الثبت، قال: حدثنا وهيب وهو ابن الورد القرشي، قال عن خالد وهو ابن مهران الحذاء، عن عكرمة مولى ابن عباس، ويكنى بأبي عبد الله وأصله من البربر من أهل المغرب، وكان ممن حفظ عن ابن عباس علما جما، ورجع إليه أهل العلم في معرفة الرواية عن ترجمان القرآن ابن عباس.



    قال: عن ابن عباس قال: ضمني إليه النبي[ وقال: "اللهم علمه الكتاب".



    سبب هذا الحديث: أن الرسول [ دخل الخلاء يوما، قال ابن عباس: فوضعت له وَضوءا، والوَضوء بفتح الواو: ماء الوضوء الذي يتطهر به، فلما خرج قال: "من وضع هذا؟" فأخبر [ أن الذي وضعه ابن عباس؛ فضمه[ وقال: "اللهم علمه الكتاب" وفي رواية "اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين".



    هذا الحديث فيه دعاء النبي[ لابن عمه ابن عباس رضي الله عنه، دعا له بشيء عظيم، لم يدع له بالدنيا، وإنما دعا له بما تحصل له به النجاة في الدنيا والآخرة، ألا وهو تعلم الكتاب، والكتاب كما قلنا في عرف الشرع يعني: القرآن الكريم، فقال: "اللهم علمه الكتاب", ومعناه: فقّهه في كتاب الله وفهّمه، وألهمه حفظه، وفقهه في الدين والشريعة.



    وهي دعوة عظيمة من رسول الله [، وقد تحققت هذه الدعوة له، فمن علم حال ابن عباس رضي الله عنهما في التفسير، ومعرفة الشريعة وأحكام الدين علم ذلك؛ فقد فاق ابن عباس على صغر سنه كثيرا من الصحابة في العلم ومعرفة كتاب الله، حتى إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يدخله مع الصحابة الكبار من أهل الشورى من البدريين وغيرهم؛ لما يعلم من علمه وفقهه، ولما احتجوا عليه: كيف تدخل معنا ابن عباس وتجلسه في مجلسنا، ومجلس مشاورتنا، وعندنا أبناء مثله؟! فسكت عمر ودعاه يوما، يقول ابن عباس: ما دعاني إلا ليعرفوا منزلتي، فسألهم رضي الله عنه: ما تقولون في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (النصر1-3)؟



    فقال بعضهم: أمره الله سبحانه وتعالى إذا جاءه النصر والفتح أن يستغفر الله عز وجل ويتوب إليه، وقال بعضهم: الله أعلم بمرادها، ثم التفت إلى ابن عباس وقال: ما تقول فيها يابن عباس ؟ قال: هو أجل رسول الله [ أعلمه إياه. فقال عمر: والله لا أعلم منها إلا ما قلت.



    فعلموا منزلته من ذلك اليوم وأنه غلام معلَّم مُلهم، وأن الله تعالى قد فهّمه الكتاب.



    وقد سئل ابن عباس: بم أوتيت هذا العلم الجم؟ فقال: بقلب عقول، ولسان سؤول.



    فكان رضي الله عنه قد فرّغ قلبه لطلب العلم، وهذا أمر ضروري لطالب العلم؛ لأن الإنسان صاحب القلب المشغول لا يمكن أن يطلب العلم كما ينبغي؛ فلا بد من تفريغ القلب من الشواغل والصوارف، وجعل العلم هو المقصد الأول، ولا شك أن الإنسان تمر به ظروف وأحوال أحيانا تلهيه أو تصده عن طلب العلم، ولكن متى وجد فرصة، فرغ قلبه لطلب العلم، وانكّب على القراءة وعلى السماع بقدر استطاعته.



    وكذلك السؤال عما ينزل به مما لا يعرفه، أو لا يعرف حكمه، فهذا أمر ضروري ومطلوب، والحياء المانع من السؤال يفوّت على الإنسان علما كثيرا، والكبر أيضا مانع من السؤال، وهو كذلك يفوّت على الإنسان علما كثيرا.





    الحديث الرابع:



    7271 – قال: حدثنا عبد الله بن صباح قال: حدثنا معتمر قال: سمعت عوفا: أن أبا المنهال حدثه: أنه سمع أبا برزة قال: "إن الله يغنيكم - أو: نعشكم - بالإسلام، وبمحمد[". (طرفه في: 7112).



    الشرح:



    يقول البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن صباح وهو الهاشمي العطار، حدثنا معتمر وهو ابن سليمان البصري أبو محمد، قال: سمعت عوفا وهو ابن مالك بن نضلة الجشمي، ثقة، مشهور بأبي الأحوص، أن أبا المنهال حدثه وهو سيار بن سلامة الرياحي، ثقة، أنه سمع أبا برزة وهو الأسلمي صحابي من صحابة رسول الله[ واسمه نضلة بن عبيد، قال: "إن الله يغنيكم بالإسلام وبمحمد["، وفي لفظ: "إن الله نعشكم بالإسلام وبمحمد[". قال أبو عبد الله - وهو البخاري نفسه؛ فإذا وجدت في صحيح البخاري: "قال أبو عبد الله"، فاعلم أنه المؤلف والمصنف للصحيح وهو الإمام البخاري-: ووقع هاهنا: "يغنيكم" وإنما هو نعشكم، قال: ينظر في أصل كتاب الاعتصام. كأن البخاري رحمه الله كان له كتاب كبير اسمه "الاعتصام بالكتاب والسنة" انتقى منه ما كتبه في الصحيح، مثل ما فعله في "الأدب المفرد"، فـ"الأدب المفرد" كتاب واسع انتقى منه ما وضعه في كتاب الأدب من صحيحه؛ ولذلك لما حصل الشك في هذه اللفظة قال البخاري: يراجع الأصل. فربما كان في سفر ليس معه أصوله، فقال: يراجع الأصل؛ حتى يعلم الكلمة الصحيحة فيصلح منه.



    أما الحديث: فأبو برزة الأسلمي رضي الله عنه قال هذه الكلمة، في وقت كان فيه اضطراب في الأمة الإسلامية، وذلك وقت أن بويع لابن الزبير رضي الله عنه بالخلافة في الحجاز، وحصلت فتنة القراء بالبصرة، وحصل ما حصل بين علي رضي الله عنه وأهل الشام، فجاءه بعض الناس يسألونه ويأخذون رأيه، فقالوا له: ألا ترى ما وقع فيه الناس! فقال رضي الله عنه وأرضاه - وهذه الرواية ذكرها البخاري في الفتن-: "إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش" يعني: قد أبغضت ما وقعوا فيه من الاختلاف وترك الاتفاق؛ فابن الزبير اختلف مع أهل الشام، وأهل الشام اختلفوا مع أهل الحجاز، وهذا خلاف ما أمر الله به؛ وذلك لأن الله سبحانه أمرنا بالتقوى ثم دلنا على الطريق فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، فإذا أردنا طريق التقوى فعلينا بالاعتصام بالقرآن والسنة، وترك التفرق؛ لأن ترك الاعتصام، والتفرق والاختلاف، سبب لضياع التقوى! فسبحان الله!



    ثم قال: "إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة" أي: هذا ما كان عليه العرب قبل الإسلام، كانوا على قلة وذلة وضلالة وعماية! كانوا مستضعفين لا رأي لهم، ولا وزن لهم بين الأمم.



    ثم قال: "وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد[، حتى بلغ بكم ما ترون" فقال في هذه الرواية: وإن الله أنقذكم بالإسلام.



    وفي رواية كتاب الاعتصام هنا: "إن الله نعشكم أو يغنيكم"، وهي كلها متقاربة، ومفادها: أن الله سبحانه وتعالى أنقذ العرب بالإسلام وبرسالة محمد [، فأخرجهم به من الضلالة إلى الهداية، ومن الشر إلى الخير، ومن القلة والذلة، إلى الكثرة والعزة.




    ثم قال رضي الله عنه: "وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم.." إلخ كلامه رحمه الله، فبين أن الدنيا أفسدت بين الناس، وأوقعت أحيانا الاختلاف والتفرق، والتحاسد والتباغض والتدابر، وهي أمراض حذر منها المصطفى[.



    فالشاهد في هذا الحديث: أن أبا برزة ذكّر الناس بأن الله تبارك وتعالى قد أنقذهم من الذلة والقلة والضلالة بالإسلام وبالقرآن وبمحمد[؛ فلا طريق لنا نحن أيضا إلى الانتعاش مرة أخرى، ولا طريق لنا إلى القوة والرفعة والمجد، إلا بما ذكره الله تعالى مما سبق ذكره في كتابه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)؛ فعلينا التمسك بالكتاب والتمسك بالسنة وبفهم الصحابة لهما, فهذا أمر مهم وضروري، وسيتكرر التنبيه عليه.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (5)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.









    ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.









    ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.









    • الحديث الثاني من الباب الأول:



    7274- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثنا الليث، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي [ قال: " ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآياتِ مَا مِثلُهُ أومن، أو آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحياً أوحاهُ الله إلي، فأرجو أني أكثرهُم تابعا يومَ القيامةِ ".

    (طرفه في: 4981).







    الشرح:



    بدأ الحديث الثاني في هذا الباب وهو أيضا من مسند أبي هريرة بقول البخاري - رحمه الله-: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثنا الليث، وهو ابن سعد الفهمي المصري: قال: عن سعيد، وهو ابن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، واسمه كيسان المدني ثقة ثبت، وهو من المكثرين في الرواية عن أبي هريرة، كما مر معنا.







    عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي[ قال: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله أومن أو آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة".









    قوله: "ما من الأنبياء نبي" هذه صيغة تفيد العموم، أي: كل الأنبياء قد أعطاهم الله تعالى من الآيات، وهي المعجزات ما يؤمن عليها البشر، فكل نبي آتاه الله آيات، والآية هي: اسم للأمر المعجز الذي يتحدى به النبي قومه ولا يستطيعون معارضته، وكثير من العلماء يسميها المعجزات، والأصوب تسميتها بالآيات، أولا: لأن الله تعالى سماها كذلك في كتابه؛ فهي لفظ القرآن كما في قوله: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً} (هود: 64) وغيرها.









    ثانيا: أن الأمر الجميل، العجيب، الغريب، المعجز، يسمى في اللغة آية، وهذا أقرب لوصف معجزات الأنبياء.









    والأنبياء تعددت آياتهم بحسب ظروفهم وأزمانهم وأقوامهم، فتحدى الله تعالى كل قوم من جنس ما يحسنون ويتقنون، فالسحر انتشر في عهد موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكانت آية موسى من جنس ما يحسنه قومه، وإن كانت هي ليست سحرا، وعيسى ابن مريم انتشر في عهده علم الطب والتداوي، فتحداهم الله عز وجل بأشياء عجز الطب عن مداواتها، كالبرص والعمى بل الكَمَه، والأكمه هو من يولد أعمى، ثم زاد في التحدي بأن أحيا لهم الموتى، وهذا لا يمكن أن يفعله الأطباء أبدا مهما أوتوا من علم وقوة، وفي زمن النبي [ برع العرب في الفصاحة والبلاغة والبيان والشعر والنثر والخطابة، فكانت آية النبي [ من جنس ما يتعاطاه قومه من فنون اللغة والشعر والأدب، وإن كان القرآن ليس شعرا ولا نثرا.



    قوله: "ما مثله أومن"، وهي الراوية الأولى، من الأمن، يعني ما يأمن به الإنسان، فإذا رأى الناس آية النبي من الأنبياء، حصل لهم نوع من الأمان أنه صادق فيما يقول.

    والرواية الثانية: " ما مثله آمن: من الإيمان، يعني ما يحصل به الإيمان.

    قوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ"، الحصر هاهنا يعني: أن القرآن الكريم هو أعظم معجزاتي أو أعظم آياتي، فكان أعظم ما أوتيه عليه الصلاة والسلام هو الوحي والقرآن، ولم تكن معجزته الوحيدة القرآن، كما يظن بعض الناس، بل له معجزات باهرة عظيمة كثيرة غير القرآن، كانشقاق القمر المذكور في القرآن، وانفجار الماء من بين أصابعه الشريفة [، وتكثير الطعام له ولأصحابه، وتسبيحه وهو يؤكل، وكلامه لبعض العجماوات وفهمه عنها، وانقياد الشجر له، وغير ذلك كثير، لكن القرآن هو أعظم المعجزات أو الآيات على الإطلاق، وأفيدها وأدومها وأشملها؛ لأن كل آية كانت تنتهي بموت النبي، لكن آية نبينا محمد [ باقية دائمة إلى قيام الساعة، في حجيتها على الخلق، وسعة علومها، ودوام الانتفاع بها إلى أن يشاء الله تعالى رفعها من الأرض.

    فالقرآن إذن أنفع وأعظم الآيات؛ لدوامه وبقائه وكثرة الانتفاع به على مر الدهور، وتعاقب الأيام والشهور، وهو معجز في نفسه، والإعجاز القرآني له وجوه كثيرة منها: أنه موجز في لفظه، وقد قال بعض الشراح: إن البخاري - رحمه الله - لما أورد الحديث الأول "بعثت بجوامع الكلم"، ثم أورد الحديث الثاني الذي يذكر القرآن، دل على أن المراد عنده بجوامع الكلم هو القرآن، وهذا ليس بلازم كما قال الحافظ ابن حجر، لكن لا شك في دخول القرآن في جوامع الكلم؛ لأن القرآن وجيز بليغ، وهناك أمثلة ذكرها أهل العلم لآيات وجيزة جامعة المعنى، مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179)، ومثل قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) ومثل قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 52).

    وأما جوامع الكلم في حديثه [، فأمثلتها كثيرة: منها قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" فهذا حديث عظيم موجز، لكنه واسع المعنى، ومثل قوله[: "مَنْ عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، ومثل حديث: "مِنْ حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وحديث النعمان بن بشير "الحلال بيَّن والحرام بيَّن، وبينهما أمور مشتبهات"، هذه أربعة أحاديث يقول الإمام أحمد عنها: عليها مدار الإسلام، وهي جوامع من جوامع الكلم النبوي، والتي تتضمن قواعد شرعية عامة.

    ومثلها حديث: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وهو حديث عظيم، وكلمات موجزة، لكنه قاعدة عظيمة يمكنك أن تعرف بها أمورا كثيرة من أمور المعاملات بين الناس، ومثل قوله[ "كل مسكر خمر" ثلاث كلمات، ولكن بهذا الكلم الموجز أمكننا أن نعرف ماهية الخمر إلى قيام الساعة، فلم يقل[ الخمر من العنب، أو من الزبيب، أو من البر، أو من الذرة، وهكذا، بل قال: كل مسكر خمر، يعني كل شراب يؤدي إلى الإسكار فهو خمر. وفي الحديث الآخر: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"، ومثله حديث: "قل آمنت بالله ثم استقم" شرحه الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في وصية سماها الوصية الصغرى، وهو حديث جامع عظيم.

    ولو أردنا أن نتتبع هذا الباب، لوجدنا أحاديث كثيرة، فالألفاظ النبوية تكون موجزة الألفاظ واسعة المعنى، وهو قد بعث بذلك، وهذا من معجزاته وآياته.







    ولهذا نقول: إن المسلم المستمسك بسنته القولية سالم من كل شر، غانم لكل خير؛ لأن كلامه [ جامع مانع، ومن ذلك: الدعاء؛ فإن النبي [ " كان يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك " كما روت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وهو في جامع الترمذي، أي ما كان[ يحب أن يوسع الكلام والألفاظ، وإنما كان يقتصر على الأدعية الجامعة النافعة.



    وكثيرا ما نسأل عن كتب أو كتيبات ألَّفت في الدعاء، وهي قد تكون جميلة المعانى في الظاهر، ويغتر بها كثير من عامة المسلمين، ولكن إذا تفكر فيها العالم بالسنة، يرى فيها أشياء مخالفة للشرع؛ فبعضها يدخل في السجع المتكلف المذموم، والتكرار الدال على ضعف البلاغة والبيان، وبعضها يدخل في الاعتداء في الدعاء، فالأسلم الاقتصار على جوامع الدعاء النبوي.


    ولهذا نحن نوصي دائما بأن الإنسان إذا أراد أن ينشر كتابا في الدعاء، أن يختار كتب الأدعية النبوية الثابتة؛ ففيها غنية وكفاية عن كل دعاء وثناء، ولا بأس بعد ذلك أن الإنسان يدعو لنفسه في صلاته وغيرها بحاجته مما يشاء ويحتاج إليه، فهذا أمر لا بأس به، ولكننا نعتقد أن الأدعية النبوية كافية، وتسد حاجات الإنسان إذا حفظ منها الثابت الصحيح، مما ورد عنه[ وجمعه العلماء قديما وحديثا، ككتاب «الدعوات من صحيح الإمام البخاري»، و«من جامع الترمذي»، وككتاب "صحيح الكلم الطيب" لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق العلامة الألباني، و"الوابل الصيب" لتلميذه ابن القيم - رحمهم الله تعالى - وغيرها.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (6)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي




    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله .
    ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع سدى.
    ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: " الاعتصام بالكتاب والسنة " من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة .
    • الباب الثاني: باب الإقتداء بسنن رسول الله [
    وقول الله تعالى: {واجعلنا للمتقين إماما}الفرقان: 74, قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا, ويقتدي بنا من بعدنا.
    وقال ابن عون: ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها, والقرآن أن يتفهموه ويسألوا عنه, ويدعوا الناس إلا من خير.
    الحديث الأول:
    7275- حدثنا عمرو بن عباس: حدثنا عبد الرحمن: حدثنا سفيان, عن واصل عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد, قال: جلس إليّ عمر في مجلسك هذا، فقال: هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل ! قال: لم ؟ قلت: لم يفعله صاحباك، قال: هما المرآن يقتدى بهما . طرفه في 1549.
    الشرح:
    الباب الثاني من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح الإمام البخاري، هو باب الإقتداء بسنن رسول الله [، ومعنى الإقتداء بالسنن، أي: قبولها واتباعها والعمل بها – أي العمل بما دلت عليه السنة النبوية -، فأقواله [ تشتمل على الأخبار والأوامر والزواجر, فالأخبار تلقيها يكون بالقبول لها، والإيمان بها، والأوامر بالامتثال، والنواهي بالاجتناب.
    وقول الله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} الفرقان: 74 ، هذا الدعاء ورد في القرآن من قول عباد الرحمن، في سورة الفرقان .
    قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا، وهذا التفسير من قول مجاهد، أخرجه الطبري وغيره في تفسيره بسند صحيح, ومجاهد هو ابن جبر المفسر المشهور . قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا، يعني: نقتدي بسلفنا ومن سبقنا من أهل الفضل والصلاح، ويقتدي بنا من بعدنا من الخلف، وهذه هي الخصلة التي كان عليها السابقون الأولون ومن تبعهم بإحسان، وهي أنهم كانوا يقتدون بالرعيل الأول من الصحابة، فلا يبتدعون بل يتبعون، عملا بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ولا تتبعوا من دونه أولياء} الأعراف 2، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)
    النساء 115 وقوله عز وجل: {وَالسَّابِبقون الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُُ}التوبة 100 .

    فالمسلم لا يكون إماما إلا إذا اقتدى بمن قبله من السلف الصالحين، وبعض الدعاة في عصرنا يظن أنه لا يتبعه الناس إلا إذا جاء بشيء جديد؟! هكذا يزين له الشيطان فيقول له: إنك لن تتبع ولن تشتهر إلا إذا جئت الناس بشيء جديد محدث لم يفعله أحد قبلك، فعند ذلك يلتفت لك الناس، ويلتفون حولك وتكون إماما ؟! والحق إن الإمامة قد تكون في الخير، وقد تكون في الشر، ففي الخير كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة (24) ، هذه الإمامة في الخير .
    وأما الإمامة في الشر، فقال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} القصص 41، فلا يفرح الإنسان بكثرة الإتباع إذا لم يكن على الهدى والتقى والصراط المستقيم، فهم صاروا أئمة بإقتدائهم بمن قبلهم, واقتداء من بعدهم بهم, وهذا هو طريق النجاة, وقال قتادة رحمه الله كما روي عنه عبد بن حميد في مسنده بسند بصحيح: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)
    الفرقان 74 ، قال: أي قادة في الخير، ودعاة هدي يؤتم بنا في الخير، وطوبى لمن جعله الله تعالى مفتاحا للخير, ومغلاقا للشر.

    وقال ابن عون: ثلاث أحبهن لنفسي، ابن عون هو عبد الله بن عون البصري، من صغار التابعين ومن الأعلام، قال قرة: كنا نعجب من ورع ابن سيرين حتى رأينا ابن عون، وكان من الأئمة المجاهدين لأهل البدع .
    يقول ابن عون رحمه الله: ثلاث أحبهن لنفسي، وهذا الأثر وصله محمد بن نصر المروزي في كتابه " السنة " بقول: ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني _ وفي رواية: ولأصحابي _ من باب أن يحب الإنسان لإخوانه ما يحبه لنفسه، وهو من الإيمان كما قال [ .
    قوله " هذه السنة " وهي إشارة إلى طريقة النبي [ وإلى هديه، ليست سنة معينة، وإنما طريق النبي [، أي إشارة لنوع هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها .
    قوله " والقرآن أن يتفهموه ويسألوا الناس عنه " وفي رواية " فيتدبروه " بدل أن يتفهموه .
    وقوله "ويدع الناس إلا من خير " ويدَع بفتح الدال من الودع وهو الترك، وهذه الخصال الثلاث أحبها الإمام ابن عون لإخوانه، أن يتعلموا السنة ويسألوا عنها، أي يتعلموا هدي النبي [ وطريقته، والقرآن أن يتفهموه، لأن كثيرا من المسلمين يقرؤون القرآن ولا يفهمونه ولا يتدبرونه, فيكونوا قد أتوا بشيء وتركوا شيئا .
    فمن قرأ القرآن فقد أتى عبادة عظيمة، لكن يلزمه أيضا أن يتدبر وأن يفهم القرآن حسب طاقته وقدرته، ثم أن يعمل به فهي ثلاث واجبات: القراءة، ثم التدبر والفهم، ثم العمل، وكل هذه واجبات تلزم المسلم.
    وأن يترك الناس، يعني يتركوا مخالطة الناس إلا من خير، ألا يخالطوا الناس إلا في مجالس الذكر مثلا، أو صلة الأرحام، وما فيه نفع، لأن كثرة الخلطة تذهب بالوقت والزمن، وتوقع الإنسان في القيل والقال, وتوقعه أيضا أحيانا في الجدال والخصام، وربما حصل من وراء ذلك أشياء لا تحمد.
    الحديث الأول
    قال البخاري رحمه الله: حدثنا عمرو ابن عباس: وهو الباهلي قال: حدثنا عبد الرحمن: وهو ابن مهدي اللؤلؤي الإمام الشهير الثقة، من حفاظ السنة، يقول الذهلي ما رأيت في يده كتابا قط لقوة حفظه, قال: حدثنا سفيان وهو الثوري، سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو إمام من أئمة المسلمين، له مذهب ولكن لم ينتشر كانتشار بقية المذاهب الأربعة، ولا يزال معروفا في ثنايا الكتب الفقهية، ويقال: هو مذهب الثوري .
    عن واصل: واصل هو ابن حيان الأحدب الأسدي ثقة ثبت، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة الأسدي مخضرم ثقة، وأحد المشهورين بالرواية عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: جلست إلى شيبة، وشيبة هو ابن عثمان ابن طلحة العبدري حاجب الكعبة, وكانت الحجابة في بني شيبة، والحجابة هي العناية بالبيت الحرام، مما يتعلق بالكسوة، وحفظ مفتاح باب الكعبة، وما أشبه ذلك .
    قوله: " جلست إلى شيبة في هذا المسجد ": يعني المسجد الحرام، قال: جلس إليّ عمر في مجلسك هذا فقال: هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين .
    أي أن عمر رضي الله عنه قال لشيبة حاجب الكعبة: هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء، " فيها " الضمير عائد على الكعبة، وهو إشارة إلى كنز الكعبة، ففي الكعبة كنز مدفون في أرضها، يعلمه عمر ويعلمه الصحابة رضي الله عنهم ويعلمه النبي [ قبلهم، فعمر قال هممت أن أقسم كنز الكعبة، بدل أن يكون محبوسا لا ينتفع به أحد، هممت أن أنفقه على المسلمين وأقسمه بينهم .
    فقال له شيبة: ما أنت بفاعل، ما قال له - أدبا معه وهو أمير المؤمنين - ما قال له: لا تقدر، ولا قال له: لا تفعل، بل قال له: ما أنت بفاعل ! أي أنت لا تفعل هذا!! فقال له عمر: لم ؟! قال: أي هذا الأمر لم يفعله صاحباك، يعني ما فعله الرسول [ وما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأنت معروف عنك من هديك وسيرتك الإقتداء بالنبي [ وصاحبه، فلما قال له هذه الكلمة، صدقه عمر ووافقه، وقال له: هما المرآن يقتدى بهما! يعني: نعم أنا لا أستطيع أن أفعل هذا ولا أفعله لأن النبي [ وهو الرؤوف الرحيم بأمته، الحريص على مصلحتها، لم يفعله! فلم قسم كنز الكعبة، ولا استخرجه وقسمه بين الصحابة مع حاجتهم في زمنه [، ولم يفعله أبو بكر الصديق أيضا في عهده، ولا شك أنه احتاج إلى الإنفاق وإلى تجهيز الجيوش، ولكنه لم يفعله، فأنت كذلك لا تفعل هذا الأمر، فما دام أن أبا بكر وقبله النبي [ لم يتعرضا له، لم يتعرضا لكنز الكعبة، لم يسعك يا عمر خلافهما، بل الإقتداء بهما واجب .
    فيؤخذ من هذا الحديث: أن تقرير النبي [ وسكوته سنة يحتج بها، فالرسول [ أقر كنز الكعبة وسكت عنه وتركه، مع علمه به .
    فيحتج بهذا: على كل من يريد أن يحدث حدثا، ويزعم أنه مصلحة، مع أن سببه أو شبهه كان موجودا على عهد النبي [ ومع ذلك لم يفعله، فهنا يجب علينا الإقتداء بالنبي [ في تركه، كما يجب الاقتداء في فعله، لأنه داخل في قول الله تعالى {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الأعراف: 158، وقوله سبحانه {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}(الأحزاب: 21) وهذا هو فهم الصحابة كما سبق في الحديث .
    وكل خير في اتباعه [، وكل شر في مخالفته .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (8)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
    ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع سدى.
    ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
    • الحديث الرابع: من الباب الثاني: قال البخاري:
    7278, 7279- حدثنا مسدد: حدثنا سفيان: حدثنا الزهري، عن عبيد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد قال: كنا عند النبي [ فقال: «لأقضين بينكما بكتاب الله» (طرفه في 2314).
    الشرح:
    الحديث الرابع من باب الاقتداء بسنن رسول الله [ من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما يرويه البخاري رحمه الله تعالى عن شيخه مسدد، وهو مسدد بن مسرهد بن مسربل أبو ماسك الأسدي أحد الثقاة الأعلام، وقال أهل الحديث مسدد كاسمه، عن شيخه سفيان وهو ابن عيينة الهلالي الإمام الثقة المشهور، قال: حدثنا الزهري وقد مضى معنا اسمه، عن عبيد الله وهو ابن عبدالله بن عتبة بن مسعود الثقة الفقيه المشهور الضرير.
    يرويه عن أبي هريرة وزيد بن خالد قال: كنا عند النبي [ فقال: لأقضين بينكما بكتاب الله «هذا الاختصار يوهم أن الخطاب لهما، وليس الأمر كذلك! إنما الخطاب لوالد العسيف (الأجير) الذي استأجره رجل ثم زنى بامرأته، فتحاكما إلى النبي [، فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله، فقال الرسول [ لهما: «لأقضين بينكما بكتاب الله، المائة شاة والوليدة ردٌّ عليك» لأن والد الزاني كان قد اقترح أن يفدي ابنه بمائة شاة ووليدة (أي مملوكة)، فقال عليه الصلاة والسلام لوالد الرجل: «المائة شاة والوليدة رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت بالزنى فارجمها».
    فهذا الحديث يبين أن «السنة النبوية» يطلق عليها كتاب الله، من حيث إنها وحي من عند الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه في كتابه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى < إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4)، وذلك لأن الجلد للزاني مائة جلدة ليس في كتاب الله، والتغريب ليس في كتاب الله، وإنما هو شيء زادته السنة وفصلته وفعله الرسول [، وتابعه عليه الخلفاء الراشدون، وقد قال [ قبل: «لأقضين بينكما بكتاب الله». فهذا دال: على أن ما قال رسول الله [، هو في الحجية بمنزلة ما قاله الله تبارك وتعالى، لأن الكل وحي من عند الله، وقال حسان ابن عطية التابعي الجليل: كان جبريل ينزل بالوحي على النبي [ بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن.
    فالقرآن والسنة كلاهما وحي من السماء من عند الله عز وجل، وقال الله تعالى أيضا {وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} النساء: 113)، والحكمة عند أهل العلم هي: السنة النبوية.
    • الحديث الخامس:
    7280- حدثنا محمد بن سنان: حدثنا فليح: حدثنا هلال بن علي، عن عطاء ابن يسار عن أبي هريرة: أن رسول الله [ قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى».
    الشرح:
    الحديث الخامس في هذا الباب - باب الاقتداء بسنن رسول الله [ - حديث أبي هريرة ] يرويه البخاري -رحمه الله تعالى- عن شيخه محمد بن سنان وهو الباهلي، أبو بكر البصري، وهو ثقة ثبت، قال: حدثنا فُليح وهو ابن سليمان الخزاعي المدني، وقد وثقه الدارقطني وضعفه غيره، وقال الحافظ: صدوق كثير الخطأ، والبخاري -رحمه الله- إنما انتقى من حديثه الأحاديث الحسنة الصالحة.
    قال: حدثنا هلال بن علي، وهو ابن أبي ميمونة العامري المدني، ثقة، قال: عن عطاء بن يسار وهو الهلالي القاص، من كبار التابعين وعلمائهم، وصاحب عبادة ومواعظ.
    يرويه عن الصحابي الجليل أبي هريرة ] أن رسول الله [ قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» يعني: إلا من امتنع، فمن امتنع عن دخول الجنة لا يدخلها، لكن ليس هذا هو المراد، بل المراد أن من امتنع عن الاستجابة لرسول الله [، والامتثال لأوامره بالطاعة لم يدخل الجنة.
    وعدم دخوله الجنة إما أن يكون أبديا: بمعنى لا يدخل الجنة أبدا، وإما أن يكون عدم دخوله مؤقتا، لأنه يدخلها بعد ذلك، وهذا بحسب إبائه، فإن كان إباؤه امتناعا عن التصديق به رسولا نبيا من عند الله عز وجل، فهذا كافر والعياذ بالله، لا يدخل صاحبه الجنة، ومحروم منها أبدا، وإن كان امتناعه ومعصيته في بعض الأمور، وهو مسلم مؤمن بالله وبرسوله [، فإنه قد لا يدخلها مع أول الداخلين، بل يؤخر في النار ثم بعد ذلك يخرج من النار ويدخل الجنة.
    فإذا قال قائل: كيف يكون كافرا، وقد قال [ «كل أمتي» فكيف نسبه النبي [ إلى أمته؟
    فالجواب: أن أمة النبي [ قسمان: أمة الدعوة هذا هو القسم الأول، والقسم الثاني: أمة الإجابة.
    أما أمة الدعوة: فيراد بها كل من بلغته دعوة النبي فهو من أمة محمد [ سواء أسلم أم لم يسلم، والقسم الثاني: أمة الإجابة وهم من استجاب له [ بالإيمان والتصديق والطاعة فهذا مسلم.
    ومن الأدلة على القسم الأول - وهم أمة الدعوة - قوله [: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» رواه مسلم.
    فإذن اليهود الذين بلغتهم دعوته [، وعرفوا مبعثه وخروجه ثم لم يؤمنوا به هم من أمته لأنهم بلغتهم دعوته، وكذلك النصارى، فكل من بلغته دعوته [ من العالمين، من الإنس والجن، فهو مأمور بالإيمان به [ لأنه خاتم النبيين، ولا نبي بعده، وإذا امتنع عن الإيمان به فقد أبى دخول الجنة كما في الحديث «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى».
    وقد روى الإمام أحمد -رحمه الله- هذا الحديث بلفظ آخر وطريق آخر، فقد رواه (5 / 258) عن أبي أمامة ]، مرفوعا بلفظ: «ألا كلكم يدخل الجنة، إلا من شرد على الله، شراد البعير على أهله» وسنده حسن.
    فهذا وصف نبوي عجيب، لبعض المعرضين عن رسالته، أنهم يشردون على الله والعياذ بالله، كما يشرد البعير ويهرب عن أهله ويتيه، ضلالا وبعدا عن النجاة، ولاحظ وصف النبي [ لمن أعرض عن الامتثال والطاعة له [، أنه كما يشرد البعير على أهله، والشراد كما تعلمون فيه وصف السرعة والخفة، وعدم العقل والفهم، وهذا منطبق على من أعرض عن السنة النبوية الشريفة المباركة، المشتملة على كل خير، وخلفها وراءه، وولاها ظهره، نسأل الله تعالى المعافاة من ذلك.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (9)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
    ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع سدى.
    ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    • الحديث السادس: قال البخاري رحمه الله:
    7281 – حدثنا محمد بن عبادة: أخبرنا يزيد: حدثنا سليم بن حيان, وأثنى عليه: حدثنا سعيد بن ميناء: حدثنا أو سمعت: جابر بن عبد الله يقول: جاءت ملائكة إلى النبي[ وهو نائم, فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان, فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا, فاضربوا له مثلا, فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان, فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة, فقالوا: أولوها له يفقهها, فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان, فقالوا: فالدار الجنة, والداعي محمدا[ فمن أطاع محمداً[ فقد أطاع الله, ومن عصى محمدا[ فقد عصى الله, ومحمد[ فرق بين الناس. تابعه قتيبة, عن ليث, عن خالد, عن سعيد بن أبي هلال, عن جابر: خرج علينا النبي[.

    الشرح :
    الحديث السادس في هذا الباب حديث جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري الصحابي الجليل, وهو أحد السبعة الذين رووا عن النبي[ فوق الألف من الحديث كما قلنا سابقا, يرويه البخاري عن محمد بن عبادة الواسطي أبو جعفر الثقة, له في البخاري حديثان فقط ، قال: أخبرنا يزيد, ويزيد هو ابن هارون الواسطي الثقة الإمام، أحد أعلام أهل الحديث والسنة, وهو القائل رحمة الله: من قال الرحمن على العرش استوى خلاف ما َيقر في قلوب العامة، فهو جهمي.
    قال: حدثنا سليم بن حيان وهو ثقة، وقد أثنى عليه يزيد, حدثنا سعيد بن ميناء وهو أبو الوليد مولى البختري ثقة، قال: حدثنا أو سمعت وهذا الشك من سليم بن حيان, وهو من دقة أهل الحديث في الرواية؛ حيث قال: حدثنا أو سمعت، مع أن حدثنا أو سمعت قريبتان في المعنى لأنهما من صيغ التصريح بالسماع، وإن كانت سمعت أقوى من حدثنا, ولكنهما قريبان في المعنى.
    يقول جابر بن عبد الله: "جاءت ملائكة للنبي[ وهو نائم", لم يصرح بأسماء الملائكة, وورد عند الترمذي أنهما "جبريل وميكائيل".
    قوله "فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان" وهكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم, يقول[: "إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا" ولهذا قد يوحي الله تبارك وتعالى إلى النبي[ وهو نائم, اقرأ قوله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (الصافات: 102), فماذا قال له ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} (الصافات: 102), فرؤيا الأنبياء وحي من الله تعالى، بخلاف رؤيا غيرهم من الناس؛ فإنها قد تكون وحيا، أو تخليطا من الشيطان، أو حديث نفس، كما جاء في الحديث، أما بالنسبة للأنبياء فإن رؤياهم وحي من الله تعالى.
    ولهذا قال[ في الحديث عند البخاري (6989): "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ".
    فالرؤيا الصادقة وحي من الله, لكن لا يستطيع الإنسان أن يجزم بأن ما رآه هو رؤيا صادقة حتى تتحقق! وقد افتتن كثير من أهل عصرنا بتأويل الأحلام، والسعي في طلب تفسيرها على أي حال كانت، سواء كانت عليها علامات الرؤيا أو كانت أضغاثا من الشيطان وأحلاما، أو حديث نفس, وجعل بعض الناس الحديث في الرؤيا كطعامه وشرابه.
    ولبعض السلف كلمة ذهبية يقول فيها: من اتقى الله في اليقظة، لم يضره ما يراه في المنام؛ فمتى اتقى العبد ربه سبحانه وتعالى، وأقام حدوده ولم يقع فيما حرم الله فإن الله سبحانه وتعالى سيحفظه, والرؤيا الصادقة بشارة للمؤمن بالخير أو تحذير له من الشر.
    فالحاصل أن رؤيا الأنبياء وحي من الله, لأنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
    قوله : "فقالوا : قالوا إن لصاحبكم هذا مثلا، قال فاضربوا له مثلا" والمثل يقرب الشيء المعنوي إلى شيء حسي، المعاني تكون في صورة أشياء حسية فيقرب فهمها للسامع.
    قوله: قالوا: "مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدُبة" المأدبة بضم الدال هي العشاء أو الطعام ، ويروى مأدَبة والمأدبة من الأدب, يعني جعل فيها ما يُتعلم فيه الأدب والخُلق, لكن سياق الحديث يدل على أن المراد بها الطعام، لأنه قال: "وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدُبَة" فالمراد هو الطعام لأنه قال: وأكل من المأدبة.
    قوله: ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة؛ فهذا مثال ضربته الملائكة لرسول الله[ ودعوته، وهو أنه مثله كمثل رجل أو شخص بنى دارا، ثم بعث داعيا للناس يدعوهم لدخول الدار، والأكل من المأدبة والطعام ، فتنوعت استجابات الناس, فمن الناس من استجاب لهذا الداعي فدخل الدار وأكل من المأدبة, ومن الناس من لم يستجب فلم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة.
    قوله: "فقالوا: أولوها له يفقهها" أولوها يعني: فسروها، وهذا هو معنى التأويل عند السلف السابقين, أنه بمعنى التفسير، ومر معنا قول النبي[: اللهم علمه التأويل، أي: تفسير القرآن، وسمى الإمام أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري كتابه بـ "جامع البيان في تأويل آي القرآن" يعني في تفسير آي القرآن, هذا هو المعنى الأول للتأويل عند السلف.
    والمعنى الثاني للتأويل: ما تصير إليه الأشياء المخبر بها, ما تصير إليه الأشياء فتؤول بمعنى تصير، آل إلى كذا، يعنى رجع إليه, فما تصير إليه الأمور وترجع إليه يسمى تأويلا, يوسف عليه السلام ماذا قال؟ قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} (يوسف:101), يعني: هذا ما آلت إليه الرؤيا، وصارت إليه وظهرت، وقال عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} (الأعراف: 53)، أي: إذا حصل ووقع الذي أخبرت به الرسل يوم القيامة، تذكر أقوام الرسل ما أخبرت به الرسل في الدنيا، وندموا على عدم الإيمان حيث لا ينفع الندم، وسألوا الرجوع للدنيا.
    فقوله: "فقالوا أولوها له يفقهها" يعني: اشرحوها له, فسروها له.
    قوله: "فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان" هكذا تكررت هذه العبارة.
    قوله: "فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمدا[، فمن أطاع محمدا[ فقد أطاع الله ومن عصى محمد[ فقد عصى الله, ومحمد فرق بين الناس "قالوا الدار هي الإسلام والجن، والداعي إليها هو محمد[، فمن أطاعه فقد أطاع الله ودخل الدار, أي دخل الجنة وأكل من طعامها، وناله من نعيمها وخيرها وبهجتها, ومن عصى محمد[ لم يدخل الجنة، ولم يحظ بالنعيم الذي في الجنة والطعام والشراب, والمتع التي تكون في الجنة.
    وفي رواية عند الترمذي قال: "فالله هو الملك، والدار الإسلام, والبيت الجنة, وأنت يا محمد رسول الله" فالله تبارك وتعالى هو الذي بنى الدار، فالجنة أنشئت بأمر الله تعالى, وجنة عدن خصوصا خلقها الله تبارك وتعالى بيده ، تشريفا لها ولأهلها كما جاء في الأثر, فمن دخل إلى الدار, والدار هي الإسلام, والمأدبة هي الجائزة, وهي الجنة, والرسول الداعي الذي خرج يدعو الناس لدخول الدار, والأكل من المأدبة هو محمد[.
    فهذا مثل ضربه النبي[ لمن أطاعه[؛ لأنه رسول صاحب المأدبة, فصاحب المأدبة هو الله تعالى, وهو باني الدار تعالى، وهو الذي هيأ لأهل الجنة نزلهم وكرامتهم ونعيمهم, فمن أجاب محمد[ دخل الدار, من دخل الإسلام أكل من المأدبة يعني دخل الجنة, ومن عصاه وأعرض عن طاعته ولم يدخل الإسلام, أو أن دخوله كان فيه نقص ، فتأخر عن دخول الدار دخولا كليا وجعل له نقص في التأخير.
    قوله: "ومحمد فرق بين الناس" فيه روايتان هذه الرواية الأولى بالتخفيف "محمد فرق بين الناس" والرواية والثانية: "محمد فَرّق بين الناس", أما رواية "محمد فرق بين الناس" بالتخفيف: يعني محمد[ بدعوته وبدينه هو فرقان بين الحق والباطل, فإن الله تبارك وتعالى سمى كتابه فرقانا كما قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1), فالقرآن فرق بين الحق والباطل, فالناس منهم من هو محق ومنهم من هو مبطل, فمحمد[ يفصل بينهم, يفصل بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال, كما أن محمد[ يفرق بين الناس, إذ إنه يفرق بين المؤمن والكافر, والبر والفاجر, فليس من عصى الله كمن أطاع الله, وليس من عصى محمد[ كمن أطاعه , فـ{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (الحشر:20), وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُون} (السجدة: 18), وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:21), فلا يستوي هؤلاء وهؤلاء , والدين الذي جاء به محمد[ يفرق بين أهل الجنة وأهل النار, أهل الطاعة وأهل المعصية, أهل البر والإحسان, وبين أهل الإثم والمعصية.
    ولهذا تجد أن المشركين كانوا يقولون لما جاءت دعوة الإسلام عن محمد[: هذا الذي فرق جماعتنا! يقولون: فرق بين الأب وابنه, فإذا آمن الابن فارق أباه الكافر، وكذلك إذا آمنت الزوجة فارقت زوجها الكافر والعكس, فكانوا يرون أن دعوة محمد[ تفرق بين المؤمن والكافر, فالمؤمن الذي آمن بالله وعرف دينه واتقى ربه، هل يستوي والكافر الذي لا يعرف ربا ولا دينا ولا خلقا؟! فلا يستوي هذا وهذا, فهذا في الحياة الطيبة في الدنيا والجنة في الآخرة، وهذا في الشقاء والضلال في الدنيا، والعذاب في النار في الآحرة ، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} (الممتحنة: 1).
    وقال سبحانه: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} (البقرة: 257).
    فالله تعالى هو الذي فرق بينهم، فيجب علينا أن نفرق بينهم كما أمرنا سبحانه.
    وبعد أن نزلت الأحكام الشرعية بالمدينة أيضا بينت مزيدا من الفروق بين معاملة المؤمن ومعاملة الكافر, في النكاح والمواريث والعدد ، والسلم والحرب، وغيرها، فهناك فروق واضحة بين هؤلاء وهؤلاء في الشرع, وهذه كلمة عظيمة لو أردنا أن نتحدث فيها لطال بنا المقام, وللإمام شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله كتاب في هذا الموضوع اسمه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" مطبوع متداول.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (10)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    • الحديث السابع:

    7282 – حدثنا أبو نعيم: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن همام, عن حذيفة قال: يا معشر القراء، استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا, لقد ضللتم ضلالا بعيدا.

    الشرح :

    الحديث السابع - حديث حذيفة الموقوف, حذيفة هو ابن اليمان، صحابي جليل من السابقين، صاحب سر رسول الله، رضي الله عنه وعن أبيه, فهو وأبوه صحابيان, قتل أبوه رضي الله عنه يوم أحد خطأ بأيدي الصحابة.

    يروي البخاري -رحمه الله- من طريق شيخه أبي نعيم, واسمه الفضل بن دكين الكوفي، إمام مشهور ثقة حافظ، قال: حدثنا سفيان وهو ابن سعيد بن مسروق الثوري, قال: عن الأعمش، مر معنا واسمه سليمان ابن مهران الأعمش، وهو أحد القراء والثقاة المشاهير وكان فيه تشيع, والتشيع عند السابقين ليس كالتشيع في زماننا, فالتشيع عند السابقين يعني: إظهار المحبة لعلي وأهل بيته والتفضيل لهم، من دون طعن في الصحابة، فضلا عن الطعن في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أما من طعن في الصحابة فهو رافضي, ومن طعن في الشيخين فهو من غلاة الروافض, فهؤلاء لا يروى عنهم ولا كرامة.

    وأهل الحديث اجتنبوا الرواية عن الرافضة؛ لأنهم ليسوا بأهل أن يروى عنهم, لكذبهم واختلاقهم للروايات ونفاقهم وطعنهم في الدين، لكن من كان فيه تشيع من الرواة قبلوا روايته، إذا سلم من الوهم والكذب؛ لأن هذا الخطأ اليسير الذي قد يخطئ فيه المسلم لا يسقط روايته، خصوصا إن كان إماما وحافظا للحديث، مما يجعل أهل الحديث يتسامحون معه.

    عن إبراهيم, وإبراهيم هو ابن زيد النخعي، الإمام الثقة الفقيه المشهور، وله مذهب مشهور، يذكر في الكتب الفقهية فيقولون: هذا مذهب النخعي، فقد كان إماما في الفقه، عن همام وهو ابن الحارث بن قيس النخعي ثقة عابد, فالسند كله كوفيون.

    عن حذيفة رضي الله عنه قال : «استقيموا يا معشر القراء « القراء : جمع قارئ، والمراد بهم العلماء بالقرآن والسنة والعباد, فحذيفة رضي الله عنه يخاطبهم فيقول: يا معشر القراء , يعني يا علماء المسلمين, ويا طلبة العلم , ويا أهل القرآن والسنة والطاعة والعبادة، استقيموا، يعني: اسلكوا طريق الاستقامة , والاستقامة هي التمسك بالقرآن والسنة بفهم سلف الأمة، قولا وفعلا وتركا.

    كيف يكون التمسك بالقرآن والسنة قولا وفعلا وتركا؟

    القول والفعل معروف , والترك هو أن تترك ما سكت عنه الكتاب والسنة، وأعرض عنه سلف الأمة, يعني: لا تحدث شيئا ليس له أصل في القرآن والسنة, فالقرآن والسنة مثلا سكتا عن شهر رجب، فلا تجعل في رجب عبادة ما أنزلها الله تعالى, ولا تخص رجبا بعبادة, لا بصيام ولا بقيام ولا بتجمع؛ لأن القرآن والسنة تركا هذا الشهر فلم يخصاه بشيء، فنتركه ولا نبتدع فيه عملا.

    فهذا من الاستقامة التي يغفل عنها بعض المسلمين, ويظن أن من الاستقامة أن يكثر العبادة والطاعة دون مراعاة لضوابط الكتاب والسنة، ودون النظر إلى ما جاء في القرآن أو في السنة من الأعمال الصالحة المشروعة، وهذا يخالف الاعتصام بالكتاب والسنة؛ فإن من الاعتصام بالكتاب والسنة أن تسكت عما سكت الله تعالى عنه في كتابه، أو عما سكت عنه رسوله [, ولأن الباعث لهذه العبادات كان موجودا على عهد النبي [ ومع ذلك فلم يفعله، وكثرة الطاعات مطلوبة, لكن الله تعالى ورسوله أغفلاه.

    وكذلك الأمر في غيره من الأعمال المخترعة كالاحتفال بالمولد والإسراء والمعراج والهجرة، فالصحابة رضي الله عنهم ما احتفلوا بمولده [، وما تجمعوا فيه واحتشدوا، أو سردوا الروايات في سيرته، أو قصوا القصص وأنشدوا الأشعار أو قاموا الليل، كل هذا ما فعلوه رضي الله عنهم أجمعين, وهم الذين لا يُسبقون في محبته [، والمسارعة للقيام بأمره وسنته.

    فالاستقامة إذ: تمسك بالقرآن والسنة، وفهم سلف الأمة، قولا وفعلا وتركا.

    قوله «استقيموا «: أي اسلكوا كما قلنا طريق الاستقامة، فإن فعلتم فقد سبقتم سبقا بعيدا، وهو بالفتح, ويروى بالضم: سُبقتم، فإن كان بالفتح «سَبقتم» يكون الخطاب موجها لمن أدرك الإسلام أو أوائل الإسلام من صحابة رسول الله [, أي أنتم يا معشر القراء قد سبقتم غيركم من الناس إلى الدخول في الإسلام والإيمان به, سبقتم غيركم من الناس إلى كل خير، وكل من جاء بعدكم لا يمكن أن يصل إلى ما وصلتم إليه؛ لأن الصحابة لا يدرك شأنهم في هذا المجال.

    وإن كان بالضم «سُبقتم» فإنه يعني: أنتم يا معشر القراء قد سبقكم من كان قبلكم من المهاجرين والأنصار, ويمكن أن يقال أيضا: فقد ُسبقتم سبقا بعيدا إذا أنتم أخذتم بالكتاب والسنة وتمسكتم بهما، فقد سبقكم إلى ذلك من تقدمكم.

    قوله: «فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا» أي: إن أخذتم عن الاستقامة يمينا وشمالا، فقد ضللتم ضللا بعيدا عن الصراط المستقيم، وفارقتم التقوى، وصرتم من الخاسرين.

    وكلام حذيفة رضي الله عنه - كما يقول الشراح - مأخوذ من وصية الله سبحانه المذكورة في قوله تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأن عام : 153).

    وجاء في حديث ابن مسعود: أن الرسول [ خط خطا مستقيما, وخط عن يمينه وشماله خطوطا صغارا, ثم قال: «هذا صراط الله، وهذه سبل الشيطان, على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153). وهذا الأثر: فيه الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين مضوا على الاستقامة، وماتوا أو استشهدوا بين يدي الرسول [ , وشهد النبي [ جنائزهم، أو ماتوا بعده على فرشهم، ولكن على الاستقامة التي يحبها الله تبارك وتعالى, فإن أردتم أن تكونوا مثلهم فاستقيموا كما استقاموا, أي: خذوا بالصراط المستقيم دون الالتفات للطرق يمينا وشمالا؛ فقد يزين الشيطان للسالك إلى الله سبحانه وتعالى طريقا من الطرق, ويقول له هذا طريق مختصر، وهين لين فاترك طريقك الذي تريده, اترك طريق السنة النبوية, أو اترك طريق السلف لأنه طريق طويل وشاق, وأما هذا الطريق فهو طريق مختصر ويفي بالغرض!!

    ولكن في الحقيقة والواقع المشاهد أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم فقد ضل ضلالا بعيدا, وجنى على نفسه وعلى دعوته وعلى جماعته وأتباعه، وأدركه العذاب والتفرق والتشرد, وربما أصابه السجن والقتل والأذى الذي لا يطيقه، فرجع عن طريق التدين بالكلية كما سمعنا ورأينا، وكل ذلك بسبب مخالفته للسنة في دعوته إلى الله عز وجل، وفي سيره إلى ربه سبحانه.


    نسأل الله عز وجل الثبات على الصراط المستقيم، وأن يعيذنا وإخواننا طرق الجهالة والبدع.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (12)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي




    إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله .

    ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية ، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته ، وتخسر أفراده ، ويضيع سدى . ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار ، كتاب : « الاعتصام بالكتاب والسنة « من صحيح الإمام البخاري ، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة .

    الحديث التاسع:

    7285,7284 – حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثتنا ليث, عن عقيل, عن الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة , عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستُخلف أبو بكر بعده , وكفر من كفر من العرب , قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله , فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه وحسابهم على الله . فقال: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة, فإن الزكاة حق المال , والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله [ لقاتلتهم علي منعه . فقال عمر]: فوالله ما هو إلا رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق .

    قال ابن بكير وعبد الله, عن الليث: عناقا, وهو أصح . (طرفه في 1399 , 1400) .

    < الشرح:

    الحديث التاسع حديث أبي هريرة ]: يرويه البخاري رحمه الله عن شيخه قتيبة بن سعيد أبو رجا البُغلاني الإمام الثقة، وقد مر معنا، قال: حدثنا ليث وهو ابن سعد الفهمي، إمام مصر في وقته , قال عن عقيل بضم العين، وهو ابن خالد الأيلي ثقة ثبت . عن الزهري محمد بن شهاب قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود الإمام الثقة الفقيه الضرير.

    قال عن أبي هريرة ] قال: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف أبو بكر بعده, وكفر من كفر من العرب , قال عمر لأبي بكر «يقول أبو هريرة: لما توفي رسول [، واستخلف أبو بكر أي صار خليفة للمسلمين بعد النبي [, وكفر من كفر من العرب , قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله [ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله , فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله»

    ظاهر هذا الحديث أن أبا هريرة رضي الله عنه شهد ما كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من محاورة وكلام.

    والعرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم انقسموا إلى أربعة أقسام كما قاله الإمام ابن حزم وغيره:

    1- قسم ثبتوا على دينهم، واستمروا على إيمانهم وإسلامهم وهم الأكثر .

    2- وقسم بقوا على إسلامهم وصلاتهم، لكن امتنعوا عن أداء الزكاة، وقالوا: إن الزكاة كانت تدفع للنبي [؛ لأن الله يقول: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } (التوبة 103), والرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، فلا تدفع الزكاة لمن بعده .

    3- قسم ارتدوا عن الإسلام بالكلية، ورجعوا إلى الكفر، كطليحة الأسدي وقومه , وسجاح وقومها في اليمن , وأكثر هؤلاء الذين ارتدوا عادوا للإسلام بحمد الله تعالى , فلم تمر عليهم السنة، إلا وقد عاد أكثرهم إلى الإسلام .

    4- والقسم الرابع: قوم تربصوا، أي: وقفوا فلم يفعلوا شيئا، وانتظروا لمن تكون العاقبة والنهاية والنصر، للصحابة أو لغيرهم .

    عند ذلك أمر الصديق الأكبر رضي الله عنه بتجهيز الجيوش لغزو هذه الطوائف والقبائل من العرب , أما من ارتد منها بالكلية فلا إشكال، وأما من بقي على الإسلام لكنه أبى دفع الزكاة ومنعها وقاتل عليها , فهاهنا استشكل عمر رضي الله عنه قتال هؤلاء، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله ويقيمون الصلاة، فقال لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قالوا لا إله إلا الله؟! والرسول [ يقول في حديثه: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله « أي: عصم نفسه وماله إلا بحقه، يعني: أنه لا يستحق العقوبة المالية أو العقوبة على النفس كما قال الله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ }(الأنعام: 151) .

    وقوله: « وحسابه على الله « بمعنى: أن من أظهر لنا الإسلام فإن على المسلمين أن يقبلوا منه الإسلام ظاهرا، فإذا نطق بالشهادتين, وجب قبول ذلك منه, والكف عنه، وأمره إلى الله تعالى علام الغيوب، وعالم ما في الصدور، ولو أسر الكفر في نفسه، فإنما نحن نأخذ بالظواهر، والله يتولى السرائر .

    فلما قال عمر رضي الله عنه ذلك لأبي بكر رضي الله عنه، قال أبو بكر: « والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة», ويروى: «لأقاتلن بين من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه , وفي رواية: «عناقا كانوا يؤدونه لرسول الله [ لقاتلتهم على منعه» .

    وحجة أبي بكر أنه لا فرق بين الصلاة والزكاة فكلاهما من أركان الإسلام، فالشرع جاء بالتسوية بين الصلاة والزكاة , أي أن تارك الزكاة يستوي مع تارك الصلاة، فلماذا تفرق يا عمر بين تارك الزكاة وتارك الصلاة، والحق أنهما سواء، يعني من ترك الصلاة قاتلناه , ومن ترك الزكاة يجب أن نقاتله أيضا , فلماذا تفرق بينها وهما بمنزلة واحدة ؟!

    ولا شك أن تارك الزكاة إن كان تركه على وجه الجحد والإنكار، فهذا كفر مخرج من الملة .

    وإن كان منعه لها على وجه المعصية والبُخل، فإن هذا من كبائر الذنوب .

    وكلاهما كان من حال طوائف من العرب، فطائفة منعوها بخلا ومنعا للحق، طائفة منعوها جحودا لفرضيتها بعد وفاة الرسول [, وفي الحالتين يجب قتال هؤلاء وهؤلاء، حتى يؤدوا الزكاة المفروضة , لهذا قال أبو بكر: «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله، لقاتلتهم عليه «والعقال: هو الحبل الذي يشد به البعير , هذا هو أصح الأقوال في تفسير العقال , وفي رواية أخرى «عناقا» والعناق: هي أنثى المعز الصغيرة .

    وقد يسأل السائل فيقول: هل تؤخذ العناق في الزكاة ؟

    قال العلماء: إن الغنم أو المعز إذا كانت كلها صغارا، تؤخذ منها الصغيرة , لكن إذا كان فيها الكبير والصغير، فإنه لا يؤخذ منها الصغير , وإنما يؤخذ الوسط , ومن أراد أن يرجع إلى هذا البحث فليرجع إليه، فقد ذكره أهل العلم في أبواب الزكاة .

    وظاهر هذا: أن أبا بكر وعمر لم يكونا يعلمان بالرواية التي فيها ذكر فيها الرسول [: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فيما يحصل به عصمة الدم والمال، وهي رواية صحيحة رواها مسلم: من حديث أبي هريرة وغيره: أن النبي [ قال: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» .

    فلو كانت هذه الرواية الواضحة والحاسمة للخلاف معلومة لأبي بكر]، لما احتج على عمر بنفي الفارق فقط، والتسوية بين تارك الصلاة وتارك الزكاة , لأن عمر ] كان يوافق أبي بكر على قتال تارك الصلاة، لكنه أنكر عليه قتاله لتارك الزكاة , فهذه الرواية الصحيحة تبين أن من شهد الشهادتين قبل منه الإسلام , لكن يؤمر بعد ذلك ببقية الأركان , وطاعة الله تعالى ورسوله بتحريم ما حرم الله ورسوله، والقيام بما أوجب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه من الواجبات .

    قوله: « فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق» قال عمر لما احتج عليه أبو بكر بذلك - أي بنفي الفارق بين تارك الصلاة وتارك الزكاة - أنه ظهر له صحة احتجاج أبي بكر بهذه الحجة، لا أن عمر قلده وتابعه دون حجة ! وإنما عمر لما احتج عليه بهذه الحجة وناظره بها أقرّ بها، وأنها حجة صحيحة.

    < وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم:

    أولا: جواز الاجتهاد في النوازل في الأمور الحادثة, وأن الاجتهاد في الأمور النازلة والحادثة يتم بالرجوع إلى الكتاب والسنة والفهم لهما .

    فالمسلم إذا نزلت به نازلة أو سئل عن حادثة جديدة، عليه أن يجتهد بالرجوع إلى نصوص القرآن والسنة حتى يعلم حكم هذه الحادثة والواقعة هذا الذي يجب على من أراد أن يبحث عن حكم شرعي، ويجب أيضا على من أراد أن يناظر ويجادل غيره، أن يحتج بالكتاب والسنة وفهم السلف، في مناظرته وجداله .

    ثانيا: أن الواجب على المناظر إذا ظهر له الدليل، وظهر له الحق من نصوص الكتاب والسنة، يجب عليه الاستجابة وعدم العناد , فإذا ظهر لك الدليل واتضحت لك الحجة، يجب عليك أن تقر وتوافق، لا أن تكابر وتعاند، لأن هذا خلاف الاعتصام بالكتاب والسنة .

    ثالثا : يتجلى لنا في هذا الحديث أدب المناظرة الرفيع الذي كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أنهم كانوا يتناظرون بالنصوص الشرعية، لا بالأهواء ومجرد الآراء العارية عن الدليل .

    فعمر لما احتج على أبي بكر، احتج عليه بحديث نبوي، ولم يحتج عليه برأي فقال له: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس .... الحديث» يعني احتج عليه بحديث ثابت صحيح

    فهذا علم الصحابة, وهذا حالهم في المناظرة والاجتهاد والعمل , الرجوع إلى النصوص الشرعية من القرآن والسنة النبوية .

    رابعا: أنه يجب اتباع الحاكم أو أمير المؤمنين في اجتهاده فيما لا نص فيه , فيقرر أهل العلم: أن الإمام أو الحاكم إذا اجتهد في أمر لا نص فيه، فإنه يجب على الأمة طاعته في اجتهاده، وأن لا تعصيه ولو كانت تخالفه في اجتهاده , بخلاف ما لو حكم بخلاف نص الكتاب والسنة , فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله, ففي هذه الحالة لا سمع ولا طاعة، لكن لو اجتهد الإمام أو الحاكم في أمر لا نص فيه واختار أحد الرأيين, فعند ذلك نصير إلى اجتهاده .

    وأيضا الحديث يدل على أن من أظهر الإسلام قبل منه ذلك، وأجريت عليه أحكامه الظاهرة، وأوكلت سريرته إلى الله تعالى .

    خامسا: ويدل الحديث أيضا على أن من ترك فريضة من فرائض الإسلام يجب أمره بها، وقتاله عليها إذا أصر على منعها أو تركها, وهذا مما لا خلاف فيه بين علماء الإسلام, بل حكى شيخ الإسلام ابن تيميه الإجماع على مشروعية قتال من منع الزكاة أو ترك الصلاة أو ترك الصيام أو أبى الحج إلى بيت الله أو غيرها من شعائر الإسلام، وكذا لو استباح محرما من المحرمات, كشرب الخمر أو الزنا أو الربا، أو الجمع بين الأختين أو الجمع بين المرأة وخالتها وما أشبه, فمتى تواطأ قوم واتفقوا على ترك فريضة، أو تواطئوا على فعل حرام، فإنه يجب قتالهم حتى ينتهوا عن ذلك، بخلاف ترك الواحد لفريضة أو فعله لحرام.

    وقول البخاري في نهاية الحديث: قال ابن بكير - وهو يحي بن بكير المصري - وعبد الله وهو ابن صالح كاتب الليث - عن الليث «عناقا» وهو أصح, هذه إشارة من البخاري إلى الرواية الأخرى لهذا الحديث، التي رواها يحي بن بكير وعبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث, فالحديث هنا من رواية قتيبة بن سعيد عن الليث , وقتيبة قال في روايته قال: «والله لو منعوني عقالا» لكن رواية يحي ابن بكير الماضية في كتاب العلم، ورواية عبد الله بن صالح كاتب الليث كانت بلفظ «عناقا» قال وهو أصح, فالبخاري يرجح رواية يحي بن بكير وعبد الله بن صالح.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (13)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
    ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع سدى.
    ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
    • الحديث العاشر:
    قال البخاري : 7286 – حدثني إسماعيل: حدثني ابن وهب, عن يونس, عن ابن شهاب حدثني عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر, فنزل على بن أخيه الحر بن قيس بن حصن وكان من النفر الذين يدنيهم عمر, وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته , كهولا كانوا أو شبانا, فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال سأستأذن لك عليه , قال ابن عباس فاستأذن لعيينة, فلما دخل قال: يا ابن الخطاب, والله ما تعطينا الجزل وما تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم بأن يقع به, فقال الحر: يا أمير المؤمنين, إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله ليه وسلم: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» وإن هذا من الجاهلين , فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه, كان وقافا عند كتاب الله (طرفة في: 4642) .
    الشرح:
    الحديث العاشر في هذا الباب حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن، والذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم كما مر معنا بقوله: «اللهم علمه الكتاب».
    يروي البخاري رحمه الله الحديث عن طريق شيخه إسماعيل وهو بن أبي أويس الأصبحي المدني, واسم أبي أويس: عبد الله، وإسماعيل بن أبي أويس , هو ابن أخت الإمام مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة, قال: حدثني ابن وهب وهو عبد الله بن وهب المصري ثقة إمام من أئمة أهل الحديث, وله تصانيف في الحديث, منها الجامع في الحديث «جامع ابن وهب» طبع أخيرا .
    قال: عن يونس وهو ابن يزيد الأيلي, قال عن ابن شهاب وهو الزهري قال: حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وهو ابن مسعود التابعي في الحديث السابق, أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وهو الفزاري, أسلم عام الفتح وأعطاه النبي [ من سهم المؤلفة قلوبهم, وكان مشهورا في الجاهلية بالشجاعة والجفاء , ولما مات النبي [ ارتد عيينة وافق طليحة الأسدي في ادعائه النبوة، فلما غلب المسلمون قوم طليحة في قتال المرتدين، فرّ طليحة، وأسر عيينة بن حصن فيمن أسر، فأتى به إلى أبي بكر فاستتابه، فتاب ورجع إلى الإسلام.
    وفي الحديث هاهنا: أن عيينة بن حصن قدم المدينة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن الفزاري، والحر بن قيس مذكور في الصحابة، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله عنه، أي: كان من الطائفة التي كان يقرّبها عمر، وكان عمر يدني القراء, كما في قوله: «وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا» والقراء: هم العلماء والحفاظ والعباد, وكان العلماء هم أصحاب مجلس عمر, فانظر إلى من كان يجلس عمر رضي الله عنه إليه، كان يجلس إلى العلماء وحفاظ القرآن والحديث, هؤلاء هم أصحاب مشورته سواء كان هؤلاء العلماء شبانا أو كانوا شيوخا وكهولا, فإن العلم قد يؤتاه الشيخ الكبير في السن, وقد يؤتاه الصغير في السن أحيانا بمثابرته وقوة طلبه، وقوة حافظته وعزيمته.
    وهذا يفيد أن الحر بن قيس كان من القراء، لأن ابن عباس يقول: وكان من النفر الذين يدنيهم عمر, ومن الذي يدنيه عمر؟ كان يدني القراء فهذا يشعر أن الحر كان منهم.
    قوله: «فقال عيينة لابن أخيه - يعني الحر - قال يا ابن أخي: هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه» يعني هل لك موضع عناية عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه, أي: تدخلني عليه في خلوته, لأن عمر لم يكن يحتجب عن الرعية إلا وقت راحته وخلوته , فأراد عيينة أن يدخل على عمر بن الخطاب في وقت خلوته, ولاحظ أن عيينة قال تستأذن لي على هذا الأمير! ولم يقل على أمير المؤمنين, وهذا من جفائه وجهله, فقال الحر عند ذلك: سأستأذن لك عليه، أي: سأطلب لك موعدا تدخل عليه في خلوته.
    قوله: «فاستأذن لعيينة فلما دخل قال يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل, ما تعطينا الجزل: يعنى ما تعطينا العطاء العظيم الكثير. «ولا تحكم فينا بالعدل!!», فلم يقل له أولا: يا أمير المؤمنين، ثم خاطبه بهذه المخاطبة التي لا تليق بمقام عمر رضي الله عنه ولا بعدله, ولا بفضله ولا بمكانته من الإسلام والمسلمين.
    قوله: «فغضب عمر حتى هم أن يقع به» يعنى أن يضربه. وفي رواية «حتى هم أن يوقع به» يعني: يأمر من يضربه, وهذا الضرب تعزير من أجل التأديب، لأنه أساء الأدب إلى أمير المؤمنين, وقال له مالا ينبغي, ويجوز له أن يؤدبه لأنه بمنزلة الوالد للمسلمين, والوالد له أن يؤدب أبناءه إذا أساؤوا الأدب معه بالقول أو بالفعل.
    قوله: فقال الحر يا أمير المؤمنين: إن الله قال لنبيه : {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وإن هذا من الجاهلين».
    ذَّكر الحر بن قيس رضي الله عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذه الآية الكريمة من آخر سورة الأعراف، والتي يقول الله تعالى فيها لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199), أي: يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الجامعة لحسن الخلق، بأن يأخذ العفو من أخلاق الناس, يعني: أن يأخذ منهم ما سهل تناوله من أخلاقهم, وسمحت به نفوسهم، فلا تكلفهم فوق طاقتهم .
    فالإنسان إذا أخذ العفو ومن أخلاق الناس العفو، فلم يكلفهم مالا يطيقون ، لم ينفروا عنه , لكن إذا كنت تكلف صديقك وصاحبك وزميلك شيئا لا يطيقه، وتطلب منه ما لا يقدر عليه، فإنه سينقطع عنك وينفر, وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «يسروا ولا تعسروا». وقوله: [: «إني بعثت معلما وميسرا ، ولم أبعث معنتا ولا متعنتا».
    وقوله: {وأمر بالعرف} أي: بكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والأخلاق.
    قوله: {وأعرض عن الجاهلين} وهذه أيضا من صفات أهل الإيمان، إنهم يعرضون عن أهل الجهل وأهل السفه، كما قال الله تعالى في آيات في كتابه يصف فيها عباده عباد الرحمن, يقول عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان : 63), وقال سبحانه وتعالى أيضا: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}(ا لقصص : 55) .
    خذ العفو وأمر بالعرف: يعني أؤمر بالمعروف, العرف هو المعروف والمعروف كل ما مدحه الشرع ومدح فاعله ومدح صاحبه فهو معروف, وأعظم المعروف هو توحيد الله تعالى, ثم أركان الإسلام الأربعة بعد الشهادتين, فالله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بمكارم الأخلاق , وأمته مأمورة بما أمر الله به نبيها [ ، من حسن المعاشرة مع الناس، والإحسان إليهم ومداراتهم والإغضاء عن هفواتهم وزلاتهم .
    قوله: «قال فوالله ما جاوزها - يعني عمر رضي الله عنه لما سمع هذه الآية ما جاوزها – «وهذا من كلام بن عباس إذ يقول: وكان وقافا عند كتاب الله , فعمر رضي الله عنه لما ذكر بهذه الآية ما جاوزها، يعني ما عمل بغير ما دلت عليه بل لما ذُكر بالله فتذكر، وهذه حال المؤمن الذي يؤمن بكتاب الله تعالى ويتبع رسوله [ أنه إذا ذُكر تذكر وإذا نبه تنبه, فلا يعاند ولا يصر؛ لأن هذا خلاف صفة أهل الإيمان ، فإنهم وقافون عند كتاب الله متبعون كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور: 51). ويقول عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36).
    هذه حال أهل الإيمان , أما حال أهل النفاق فالله تعالى يقول عن المنافقين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (النور: 48) «هذا حال أهل النفاق إذا دعوا إلى الله وإلى كتاب الله وسنة رسوله وكلامه: {إذا فريق منهم معرضون} أما المؤمن فإنه وقاف عند كتاب الله لا يتجاوزه .
    ومصيبة المسلمين اليوم أنهم يقرؤون ويعلمون، ولكنهم لا يعملون؟! إلا من رحم الله.
    وقال العلماء والدعاة: مصيبة المسلمين اليوم من أمرين اثنين:
    الأمر الأول : الجهل : فهناك قسم كبير من الأمة جاهل لا يعلم أمر الله تعالى ونهيه ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ونهيه ، فهو جاهل يعيش في عماية , هذا حال كثير من المسلمين اليوم .

    والأمر الثاني : أن كثيرا من المسلمين اليوم يعلمون ولا يعملون , يعلم أن الله حرم عليه الربا , ولكنه يأكل الربا ويقترض ويتبايع بالربا.
    فالمرأة تعلم مثلا أن الله أوجب عليها الحجاب, لكنها لا تلتزم بالحجاب, الرجل يعلم أن الله حرم الغش والربا ولكنه يغش ويتعامل بالربا، وهكذا, فالدين ضائع بين جهل طائفة، وعصيان طائفة أخرى، ومن يعلم أشد ذنبا ممن لا يعلم، إذ فيه شبه من قول أهل الكتاب سمعنا وعصينا؟!

    فعمر رضي الله عنه وصفه ابن عباس بأنه كان وقافا عند كتاب الله تعالى, لا يمكن أن يتجاوز الآية إذا تليت عليه أو يتجاوز الحديث إذا ذكر به, وهذه والله هي خصلة أهل الإيمان المعتصمين بنصوص الكتاب والسنة التي مدح الله تعالى بها عباده المؤمنين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (13)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
    ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع سدى.
    ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
    • الحديث العاشر:
    قال البخاري : 7286 – حدثني إسماعيل: حدثني ابن وهب, عن يونس, عن ابن شهاب حدثني عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر, فنزل على بن أخيه الحر بن قيس بن حصن وكان من النفر الذين يدنيهم عمر, وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته , كهولا كانوا أو شبانا, فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال سأستأذن لك عليه , قال ابن عباس فاستأذن لعيينة, فلما دخل قال: يا ابن الخطاب, والله ما تعطينا الجزل وما تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم بأن يقع به, فقال الحر: يا أمير المؤمنين, إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله ليه وسلم: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» وإن هذا من الجاهلين , فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه, كان وقافا عند كتاب الله (طرفة في: 4642) .
    الشرح:
    الحديث العاشر في هذا الباب حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن، والذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم كما مر معنا بقوله: «اللهم علمه الكتاب».
    يروي البخاري رحمه الله الحديث عن طريق شيخه إسماعيل وهو بن أبي أويس الأصبحي المدني, واسم أبي أويس: عبد الله، وإسماعيل بن أبي أويس , هو ابن أخت الإمام مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة, قال: حدثني ابن وهب وهو عبد الله بن وهب المصري ثقة إمام من أئمة أهل الحديث, وله تصانيف في الحديث, منها الجامع في الحديث «جامع ابن وهب» طبع أخيرا .
    قال: عن يونس وهو ابن يزيد الأيلي, قال عن ابن شهاب وهو الزهري قال: حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وهو ابن مسعود التابعي في الحديث السابق, أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وهو الفزاري, أسلم عام الفتح وأعطاه النبي [ من سهم المؤلفة قلوبهم, وكان مشهورا في الجاهلية بالشجاعة والجفاء , ولما مات النبي [ ارتد عيينة وافق طليحة الأسدي في ادعائه النبوة، فلما غلب المسلمون قوم طليحة في قتال المرتدين، فرّ طليحة، وأسر عيينة بن حصن فيمن أسر، فأتى به إلى أبي بكر فاستتابه، فتاب ورجع إلى الإسلام.
    وفي الحديث هاهنا: أن عيينة بن حصن قدم المدينة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن الفزاري، والحر بن قيس مذكور في الصحابة، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله عنه، أي: كان من الطائفة التي كان يقرّبها عمر، وكان عمر يدني القراء, كما في قوله: «وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا» والقراء: هم العلماء والحفاظ والعباد, وكان العلماء هم أصحاب مجلس عمر, فانظر إلى من كان يجلس عمر رضي الله عنه إليه، كان يجلس إلى العلماء وحفاظ القرآن والحديث, هؤلاء هم أصحاب مشورته سواء كان هؤلاء العلماء شبانا أو كانوا شيوخا وكهولا, فإن العلم قد يؤتاه الشيخ الكبير في السن, وقد يؤتاه الصغير في السن أحيانا بمثابرته وقوة طلبه، وقوة حافظته وعزيمته.
    وهذا يفيد أن الحر بن قيس كان من القراء، لأن ابن عباس يقول: وكان من النفر الذين يدنيهم عمر, ومن الذي يدنيه عمر؟ كان يدني القراء فهذا يشعر أن الحر كان منهم.
    قوله: «فقال عيينة لابن أخيه - يعني الحر - قال يا ابن أخي: هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه» يعني هل لك موضع عناية عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه, أي: تدخلني عليه في خلوته, لأن عمر لم يكن يحتجب عن الرعية إلا وقت راحته وخلوته , فأراد عيينة أن يدخل على عمر بن الخطاب في وقت خلوته, ولاحظ أن عيينة قال تستأذن لي على هذا الأمير! ولم يقل على أمير المؤمنين, وهذا من جفائه وجهله, فقال الحر عند ذلك: سأستأذن لك عليه، أي: سأطلب لك موعدا تدخل عليه في خلوته.
    قوله: «فاستأذن لعيينة فلما دخل قال يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل, ما تعطينا الجزل: يعنى ما تعطينا العطاء العظيم الكثير. «ولا تحكم فينا بالعدل!!», فلم يقل له أولا: يا أمير المؤمنين، ثم خاطبه بهذه المخاطبة التي لا تليق بمقام عمر رضي الله عنه ولا بعدله, ولا بفضله ولا بمكانته من الإسلام والمسلمين.
    قوله: «فغضب عمر حتى هم أن يقع به» يعنى أن يضربه. وفي رواية «حتى هم أن يوقع به» يعني: يأمر من يضربه, وهذا الضرب تعزير من أجل التأديب، لأنه أساء الأدب إلى أمير المؤمنين, وقال له مالا ينبغي, ويجوز له أن يؤدبه لأنه بمنزلة الوالد للمسلمين, والوالد له أن يؤدب أبناءه إذا أساؤوا الأدب معه بالقول أو بالفعل.
    قوله: فقال الحر يا أمير المؤمنين: إن الله قال لنبيه : {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وإن هذا من الجاهلين».
    ذَّكر الحر بن قيس رضي الله عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذه الآية الكريمة من آخر سورة الأعراف، والتي يقول الله تعالى فيها لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199), أي: يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الجامعة لحسن الخلق، بأن يأخذ العفو من أخلاق الناس, يعني: أن يأخذ منهم ما سهل تناوله من أخلاقهم, وسمحت به نفوسهم، فلا تكلفهم فوق طاقتهم .
    فالإنسان إذا أخذ العفو ومن أخلاق الناس العفو، فلم يكلفهم مالا يطيقون ، لم ينفروا عنه , لكن إذا كنت تكلف صديقك وصاحبك وزميلك شيئا لا يطيقه، وتطلب منه ما لا يقدر عليه، فإنه سينقطع عنك وينفر, وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «يسروا ولا تعسروا». وقوله: [: «إني بعثت معلما وميسرا ، ولم أبعث معنتا ولا متعنتا».
    وقوله: {وأمر بالعرف} أي: بكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والأخلاق.
    قوله: {وأعرض عن الجاهلين} وهذه أيضا من صفات أهل الإيمان، إنهم يعرضون عن أهل الجهل وأهل السفه، كما قال الله تعالى في آيات في كتابه يصف فيها عباده عباد الرحمن, يقول عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان : 63), وقال سبحانه وتعالى أيضا: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}(ا لقصص : 55) .
    خذ العفو وأمر بالعرف: يعني أؤمر بالمعروف, العرف هو المعروف والمعروف كل ما مدحه الشرع ومدح فاعله ومدح صاحبه فهو معروف, وأعظم المعروف هو توحيد الله تعالى, ثم أركان الإسلام الأربعة بعد الشهادتين, فالله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بمكارم الأخلاق , وأمته مأمورة بما أمر الله به نبيها [ ، من حسن المعاشرة مع الناس، والإحسان إليهم ومداراتهم والإغضاء عن هفواتهم وزلاتهم .
    قوله: «قال فوالله ما جاوزها - يعني عمر رضي الله عنه لما سمع هذه الآية ما جاوزها – «وهذا من كلام بن عباس إذ يقول: وكان وقافا عند كتاب الله , فعمر رضي الله عنه لما ذكر بهذه الآية ما جاوزها، يعني ما عمل بغير ما دلت عليه بل لما ذُكر بالله فتذكر، وهذه حال المؤمن الذي يؤمن بكتاب الله تعالى ويتبع رسوله [ أنه إذا ذُكر تذكر وإذا نبه تنبه, فلا يعاند ولا يصر؛ لأن هذا خلاف صفة أهل الإيمان ، فإنهم وقافون عند كتاب الله متبعون كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور: 51). ويقول عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36).
    هذه حال أهل الإيمان , أما حال أهل النفاق فالله تعالى يقول عن المنافقين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (النور: 48) «هذا حال أهل النفاق إذا دعوا إلى الله وإلى كتاب الله وسنة رسوله وكلامه: {إذا فريق منهم معرضون} أما المؤمن فإنه وقاف عند كتاب الله لا يتجاوزه .
    ومصيبة المسلمين اليوم أنهم يقرؤون ويعلمون، ولكنهم لا يعملون؟! إلا من رحم الله.
    وقال العلماء والدعاة: مصيبة المسلمين اليوم من أمرين اثنين:
    الأمر الأول : الجهل : فهناك قسم كبير من الأمة جاهل لا يعلم أمر الله تعالى ونهيه ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ونهيه ، فهو جاهل يعيش في عماية , هذا حال كثير من المسلمين اليوم .

    والأمر الثاني : أن كثيرا من المسلمين اليوم يعلمون ولا يعملون , يعلم أن الله حرم عليه الربا , ولكنه يأكل الربا ويقترض ويتبايع بالربا.
    فالمرأة تعلم مثلا أن الله أوجب عليها الحجاب, لكنها لا تلتزم بالحجاب, الرجل يعلم أن الله حرم الغش والربا ولكنه يغش ويتعامل بالربا، وهكذا, فالدين ضائع بين جهل طائفة، وعصيان طائفة أخرى، ومن يعلم أشد ذنبا ممن لا يعلم، إذ فيه شبه من قول أهل الكتاب سمعنا وعصينا؟!

    فعمر رضي الله عنه وصفه ابن عباس بأنه كان وقافا عند كتاب الله تعالى, لا يمكن أن يتجاوز الآية إذا تليت عليه أو يتجاوز الحديث إذا ذكر به, وهذه والله هي خصلة أهل الإيمان المعتصمين بنصوص الكتاب والسنة التي مدح الله تعالى بها عباده المؤمنين.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (14)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله .


    ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع سدى.

    ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    الحديث الحادي عشر:

    قال البخاري رحمه الله:

    7287- حدثنا عبد الله بن مسلمة، , عن مالك, عن هشام بن عروة, عن فاطمة بنت المنذر, عن أسماء ابنة أبي بكر -رضي الله عنهما-أنها قالت: أتيت عائشة حين خسفت الشمس والناس قيام, وهي قائمة تصلي، فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها نحو السماء فقالت: سبحان الله, فقلت: آية؟ قالت برأسها: أن نعم, فلما انصرف رسول الله[ حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما من شيء لم أره، إلا وقد رأيته في مقامي, حتى الجنة والنار, وأوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال, فأما المؤمن أو المسلم – لا أدري أي ذلك قالت أسماء – فيقول: محمد جاءنا بالبينات، فأجبنا وآمنا, فيقال: نم صالحا علمنا أنك موقن, وأما المنافق أو المرتاب – لا أدري أي ذلك قالت أسماء – فيقول : لا أدري؟! سمعت الناس يقولون شيئا فقلته « . (طرفه في: 86).

    الشرح:

    الحديث الحادي عشر حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن أبيها, وأسماء أخت عائشة وكانت أكبر سنا من عائشة -رضي الله عنها- وهي زوج الزبير ابن العوام -رضي الله عنه- يرويه البخاري -رحمه الله- عن شيخه عبد الله بن مسلمة ابن قعنب القعنبي أبو عبد الرحمن البصري، الثقة الجليل، وكان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحدا.


    يرويه عن شيخه مالك, وهو ابن أنس الأصبحي أمام دار الهجرة, عن هشام بن عروة، وهو ابن الزبير بن العوام الأسدي, ثقة فقيه ربما دلس، عن فاطمة بنت المنذر وهي بنت المنذر بن الزبير، فهي بنت عمه, وهي ثقة, وأسماء جدة لهما.

    تقول أسماء: «أتيت عائشة حين خسفت الشمس», وفي رواية: «حين كسفت الشمس» والخسوف والكسوف ذهاب النور من جرم الشمس والقمر.

    قولها: «والناس قيام» أي: في المسجد, لعلها لما جاءت إلى بيت عائشة من غرفتها إلى داخل المسجد فرأت الناس قيام يصلون.

    قولها: «وهي قائمة تصلي» إما أنها كانت تصلي بصلاتهم, وإما أنها كانت تصلي لوحدها.

    قولها: «فقلت ما للناس، أو ما شأن الناس - كما في الرواية الأخرى - فأشارت بيدها نحو السماء فقالت: سبحان الله «يعني عائشة أشارت بيدها إلى السماء أن سبحان الله، يعني: أن هناك آية عظيمة, وقولها «قالت» يعني أشارت – أشارت بيدها أن سبحان الله.

    قولها: «فقلت آية فقالت برأسها أن نعم» يعني أشارت برأسها أن نعم, وهذا استعمال معروف في اللغة قال بيده يعني أشار بيده, قال برأسه يعني أشار برأسه.

    قولها: «فلما انصرف رسول الله[ حمد الله وأثنى» أي: لما انتهى من صلاة الكسوف خطب خطبة حمد الله تعالى فيها وأثنى عليه, وهذا هديه[ في الكسوف أنه يصلي ثم يخطب، وهي سنة نبوية مؤكدة تشرع إذا حصل الخسوف في القمر أو الكسوف للشمس .

    وهديه أيضا في خطبته، أنه يبدأ فيها بحمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله.

    قولها: «ثم قال ما من شيء لم أره، إلا وقد رأيته في مقامي ، هذا حتى الجنة والنار».

    فالرسول[ وهو يصلي صلاة الكسوف، يقول: عرض عليه أشياء كثيرة، حتى إنه قال: «إنه ما من شيء لم يره من قبل إلا وقد صور له أمامه في حائط المسجد حتى إنه رأى الجنة والنار, رأى الجنة حتى إنه تقدم ليتناول منها قطفا من عنب, ورأى النار حتى إنه شعر بلفح النار ولهيبها وحرها، فتراجع وتأخر.

    قولها: «وأوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال»: أي أن النبي [ أمر أن يبلغ أصحابه وأمته، أن هذه الأمة تختبر في قبورها اختبارا عظيما، أي تعرض عليهم فتنة عظيمة، نسأل الله تعالى السلامة منها, قريبا من فتنة الدجال, وكان النبي [ كما ثبت عنه: أنه لا يصلي صلاة، إلا قال: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» فكان[ يتعوذ بالله تعالى في ختام كل صلاة من هؤلاء الأربع.

    قوله: «فأما المؤمن أو المسلم - لا أدري أي ذلك قالت أسماء – أي الشك من الراوي, فيقول المؤمن والمسلم إذا سئل : من نبيك؟ كما جاء في الأحاديث الصحيحة المبسوطة، قال مجيبا: محمد[ جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا , هذا قول المؤمن إذا سئل في قبره عن نبيه[؛ لأن الميت يسأل في قبره عن ثلاث: عن ربه, وعن دينه, وعن نبيه, فأما المؤمن أو المسلم فيقول إذا سئل من نبيك، قال: «محمد[ جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا, فيقال: نم صالحا علمنا أنك موقن» وفي رواية أبي داود: « نم نومة العروس التي لا يوقظها إلا أحب الناس إليه « يعني: ينام نومة هنيئة سعيدة كنومة العروس, والعروس يطلق على الرجل والمرأة, وهو من تزوج حديثا منهما, أي: هكذا ينام الميت سعيدا فرحا مسرورا إلى أن تقوم الساعة.

    وقوله: «محمد جاءنا بالبينات، فأجبنا وآمنا» أي: صدقنا به وبما جاء به، وأيقنا أنه صادق في هذه الكلمة ولم يكن مدعيا ولا كاذبا في دعواه، بل اتبع محمدا[، واعتصم بسنته وعمل بها في حياته، ونشرها بين الخلق ودعا الناس إليها، فهو صادق في هذه الكلمة ، لأنه أتبعها بالانقياد والعمل.

    قوله: ولهذا تقول له الملائكة مصدقة له: «علمنا أنك موقن» أي: مصدق وأنك صادق في قولك هذا.

    قوله: «وأما المنافق أو المرتاب» أي: شك الراوي أيهما قالت أسماء.

    قوله: «فيقول لا أدري» أي: إذا سئل عن نبيه[ فإنه يقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» هكذا حال المنافق الذي لم يكن صاقا ولا مخلصا في إيمانه، وكان معرضا عن اتباع نبيه[، والعمل بما جاء به من الهدى والنور, فإنه - والعياذ بالله - يضل عقله ، وينسيه الله، ولا يعلم بماذا يجيب, فيذهل عن الجواب, هو كان يعرف في الدنيا أن نبيه محمد[، لكن لما كان مكذبا ومعرضا عن اتباعه ، مستمسكا بهدي غيره، فإن الله تعالى يضله في الآخرة، والقبر أول منازل الآخرة، جزاء وفاقا, وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن هذا الامتحان والاختبار في قوله سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 27).

    وقد اختلف أهل العلم: هل هذا السؤال يكون للمنافق والكافر؟ أم أنه خاص بمن أظهر الإسلام وعصى الرسول[ وخالف سنته؟

    فالقول الراجح من أقوال أهل العلم: أنه يشمل الجميع المنافق والكافر؛ لأن الكافر بعد بعثته[ يدخل في أمته, كما مر معنا سابقا، فهو يدخل في أمة الدعوة المحمدية، ولهذا فهو داخل فيمن يختبر ويسأل عن النبي[.

    وقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَنَسْأَلن الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (الأعراف: 6).

    وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 92).

    كما أن الحديث النبوي يدل على ذلك، كما جاء في بعض الروايات: «فإن كان فاجرا أو كافرا» ففيها تصريح بأن الذي يسأل كان كافرا أو فاجرا، فإنه يقول: لا أدري.

    إذاً من يدعي الإيمان من المنافقين أومن كان كافرا، فإنه يسأل عن نبيه في قبره، فعند ذلك لا يجيب ولا يعرف الإجابة.

    وهذا الحديث فيه تحذير للمسلم من الإعراض عما جاء به محمد[ من الهدى والنور, أو ترك العمل به ومعصية أوامره، والإقبال على هدي غيره؟!

    فمحمد[ جاء بالكتاب والسنة , وفيهما الهداية التامة، والنور التام، والنجاة في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} (طه: 123) كما قال: {فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
    فاحذر يا عبد الله, واحذري يا أمة الله، من الإعراض أو الكفر أو الغفلة عما جاء به محمد[، وترك الاعتصام بما جاء عليه الصلاة والسلام به، والإيمان به، ثم العمل به، ودعوة الخلق إليه؛ حتى يثبتنا الله وإياكم جميعا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (15)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي





    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.



    ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.

    ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.







    • الحديث الثاني عشر :



    7288- حدثنا إسماعيل: حدثني مالك, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة, عن النبي [ قال: «دعوني ما تركتكم , إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم, واختلافهم على أنبيائهم, فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه, وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

    الشرح:

    الحديث الثاني عشر في هذا الباب، حديث أبي هريرة - رضي الله عنه وأرضاه - يرويه البخاري - رحمه الله - عن إسماعيل بن أويس الأصبحي قال: حدثني مالك قال عن أبي الزناد, واسمه عبد الله بن ذكوان القرشي المدني ثقة فقيه، وأبو الزناد لقبه، وكان يغضب إذا قيل له : أبو الزناد، لكن هذا اللقب أو هذه الكنية غلبت عليه واشتهر بها، فلم يجد أهل الحديث بداً من أن يذكر بها, وهذا من المواضع التي تباح فيها الغيبة، وهو إذا كان الرجل لا يعرف إلا بلقبه، فإنه يجوز تلقيبه به, فهذا من الوجوه التي تسوغ فيها الغيبة، فإذا كان لا يعرف إلا بالأعرج, بالأعمش, أو بالأخفش, أو بالأفطس, أو بالطويل, أو بالقصير, إذا كان لا يعرف إلا بهذا الوصف فإنه يجوز تلقيبه بذلك ليعرف, أما إذا أمكن تحاشي هذه الألقاب فالواجب على المسلم أن يتحاشاها لئلا يقع في الغيبة, كما قال تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} (الحجرات: 11).

    قوله: عن الأعرج، هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني، ثقة ثبت عالم، وهو أحد المكثرين في الرواية، عن أبي هريرة -رضي الله- عنه عن النبي [ قال: «دعوني ما تركتكم» وفي رواية: «ذروني ما تركتكم» وهي بمعنى: دعوني, وقد ذكر الإمام مسلم سبب هذا الحديث: وهو أن الرسول [ خطب الناس فقال: «يأيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت الرسول [ حتى قالها ثلاثا فقال: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم, ذروني ما تركتكم». وجاء في حديث ابن عباس عند الطبري أن الله تعالى أنزل عند ذلك: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (المائدة: 101), وسيأتي الكلام فيما يتعلق بالسؤال في الباب القادم.

    فقوله: «ذروني ما تركتكم» يعني: اتركوني مدة تركي إياكم بغير أمر ولا نهي, إذا تركتكم فلم آمركم ولم أنهكم فاتركوني، فلا تسألوا في تلك المدة التي لم آمركم فيها بشيء، ولم أنهكم فيها عن شيء, لأن هذا من عفو الله تعالى, فالمراد ترك السؤال عن شيء لم يقع؛ خشية أن ينزل فيه تحريم أو إيجاب.

    فالرسول [ كان رؤوفا رحيما بالأمة, ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما, وكان يكره أن يسأله أصحابه عن شيء لم يحرم فيحرم, وقد قال [ – كما في حديث مسلم-: «إن من أشد الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته».

    وهذا ترهيب أن يُسأل عليه الصلاة والسلام عن شيء لم يحرم ولم يقع فيحرمه من أجل المسألة، وهذا الأمر - كما تعلمون - قد انتهى بوفاة النبي [, إذ بوفاته [ اكتمل الشرع, وكملت الفرائض, واكتملت الأحكام الشرعية، وشرعت الحدود.

    وأيضا قوله: «دعوني ما تركتكم» نهي عن كثرة السؤال, لأن كثرة السؤال توقع الإنسان في العنت وفي الشدة, يعني: لا تكثر من الأسئلة ولا تكثر من الاستفصال الذي لا فائدة منه، ولا تنقب كما فعلت بنو إسرائيل لما أمروا أن يذبحوا بقرة: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (البقرة: 67)؛ فبنو إسرائيل لما أمروا أن يذبحوا بقرة تلكؤوا وتباطؤوا , ولو أخذوا أدنى بقرة وذبحوها لكفتهم، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم؛ ولهذا قال [: «إنما أَهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم» فبنوا إسرائيل شددوا على أنفسهم في البقرة، فقالوا: ما هي؟ ما سنها, ما لونها, ما وصفها؟ وفي كل مرة ينزل عليهم فيها تشديد، حتى إنهم - فيما ذكر أهل التفسير - لم يجدوا البقرة الموصوفة إلا عند رجل باعها بملء جلدها ذهبا! فهؤلاء لو أنهم أخذوا أي بقرة كما أخبرهم نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}، وأخذوا عضوا من أعضائها وضربوا به الميت لأحياه الله عز وجل ولأخبرهم بمن قتله, لكنهم شددوا حتى وقعوا في الشدة, وقد جاء ذلك مرفوعا إلى النبي [ عن أبي هريرة: «لو اعترض بنو إسرائيل أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم» رواه ابن أبي حاتم في تفسيره والبزار وفيه ضعف، ومعناه ورد عن ابن عباس وغيره.

    إذًا هذا سبب هلاك السابقين: كثرة سؤالهم واعتراضهم على أنبيائهم, إما سؤالهم عن أشياء لم تقع، أو كثرة استفصالهم عند الأمر والنهي وعدم المسارعة للاستجابة.

    وأيضا: كثرة الأسئلة المتكررة التي يحصل فيها عنت ومشقة.

    ثم إن النبي [ دلهم على الواجب عليهم، وهو الاستجابة الفورية، وترك كثرة السؤال، فهذا هو الواجب على المؤمنين، كما قال [ في حديثه الآخر: «فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

    فيا عبد الله! اترك عنك كثرة القيل والقال, وترديد السؤال, واعمل بالواجب حالا، فهذا إرشاده [ للخلق أن يشتغلوا بما أمروا به. وإذا رأيت إنسانا يطلب علما لا فائدة منه، أو يكثر من السؤال عن أمور لا تنفعه ولا يترتب عليها عمل، أو يشتغل مثلا بأعراض العلماء والدعاة أو العاملين في مجال الدعوة بغير حق، فعليك أن تنصحه وتقول له: اشتغل بما أمرت به, وانته عما نهيت عنه؛ فالله تعالى أمرك بأن تجتنب محارمه، وأمرك بطاعته.

    وكذا السؤال على وجه التعنت أو التكلف، أو السؤال عما لا يفع أصلا, فهذا أيضا من الذي نهينا عنه في هذا الحديث؛ لأن هناك ما هو أهم منه, فالحديث يشير إلى أن المسلم يجب عليه أن يشتغل بالمهم من الأمور، وما يحتاج إليه عاجلا أو آجلا, فربما لا أحتاج اليوم إلى معرفة أحكام الزكاة أو الحج؛ لأني لا أملك النصاب أو المال للحج, لكن أتعلم أحكام الزكاة والحج؛ لأني في المستقبل سيرزقني الله مالا وتجب علي الزكاة والحج.

    وقوله [: «فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه مطلقا؛ لأنه لم يذكر الاستطاعة, وهذا عام في جميع المناهي الشرعية, فأي شيء نهاك الله تعالى عنه أو ورسوله [ فاجتنبه, هذا هو الأصل، إلا ما أكرهت عليه أو إلا ما اضطررت إليه، كأكل الميتة لمن خاف الهلاك مثلا؛ فقد قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام : 119), فحال الضرورة والاضطرار، أو حال الإكراه, هذه مسائل استثنائية، وإلا فالأصل أن الإنسان يترك جميع المنهيات الواردة في الكتاب والسنة, وقد جمعها جماعة من العلماء والمؤلفين قديما وحديثا باسم: «المنهيات الشرعية» أو الكبائر, يعني ما نهى الله عنه في كتابه، وما نهى عنه رسوله, وأعظم المنهيات الشرعية»، الشرك بأنواعه أما أعظم ما أمر الله تعالى به، فالتوحيد ومقاماته، كالتوكل والمحبة والخوف والتعظيم والرغبة والرهبة وغيرها.

    فقوله: «إذا نهيتكم عن شيء» يعني: أي شيء فاجتنبوه, وهذا يدلنا على أن الأصل في النهي التحريم لا الكراهة؛ لأن الرسول [ يقول: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» فالأصل الاجتناب والبعد، فإذا نهاك الله عن شيء أو نهاك رسوله عنه، فالأصل فيه الاجتناب , إلا ما اضطررتم إليه.

    وهاهنا مسألة: هل مما اضطررنا إليه أن نتداوى بالحرام؟!

    والجواب: لا؛ لأن الرسول [ سأله رجل عن الخمر يصنعها؟ فقال [: «هي حرام» قال: إني أصنعها للدواء، فقال [: «إنها داء، وليست بدواء» رواه مسلم. فمنعه من التداوي بالخمر والحرام.

    وفيه جواب لبعض الناس إذا سألوا: ما حكم شرب بعض دماء الحيوانات؟ يقولون بقصد التداوي!! كما يشرب بعضهم دم الضب بقصد التداوي؟! نقول: إنه داء وليس بدواء؛ فلا يجوز أن يتداوى الإنسان بحرام! وهو [: «نهى عن الدواء الخبيث» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة، رضي الله عنه.

    وهو القائل [: «تداووا عباد الله؛ فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء» رواه أحمد وأصحاب السنن.

    فالحرام ليس بدواء، وهو وإن شفى شيئا من الأمراض، أورث أمراضا أخرى!! ولو لم يكن من الأمراض التي يورثها إلا الخدش والطعن في الدين والعقيدة لكفى, وهذا مرض عظيم, أن الإنسان يشفى من مرض البدن ويصاب بمرض القلب والروح والعقيدة! وأيهما أولى بالسلامة وأن يحافظ عليه الإنسان؟! لا شك أن العقيدة والقلب والروح أولى بأن يحافظ عليها المسلم من الداء الذي يدخلها النار والعياذ بالله, وأما مرض البدن فإنه وإن بقي في الدنيا فالإنسان مأجور عليه في الدنيا والآخرة.

    وأيضا يقول العلماء: إن اجتناب المنهي لا يحصل إلا باجتماع جميعه, «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه», فلا تكون مجتنبا للنواهي حتى تجتنبها جميعا, أما بالنسبة للأمر فـ «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم», وهذا من جوامع الكلم النبوي كما قال النووي وغيره؛ لأنه يدخل فيها قواعد الإسلام وكثير من الأحكام الشرعية.

    قوله: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، فمن لا يستطيع أن يصلي قائما نقول له صل قاعدا، ولا نقول له: اترك الصلاة!! لأن النبي [ يقول: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، فإن لم تستطع أن تصلي قاعدا فصل على جنب, وإذا لم تستطع أن تغسل جميع أعضاء الوضوء فاغسل منها ما استطعت ولا تترك الوضوء كله, وإذا لم تستطع أن تغتسل من الحدث الأكبر فاغسل ما استطعت، أو انتقل إلى التيمم, وإذا لم تستطع أن تستر العورة في الصلاة فاستر منها ما استطعت وصل, وإذا لم تستطع أن تؤدي زكاة الفطر عن نفسك وأهلك، فابدأ بنفسك، فإن فضل شيء فبزوجتك ثم ولدك، فلا يترك زكاة الفطر بالكلية، بل يؤدي منها ما استطاع.

    وهكذا، فهذه قاعدة عظيمة، معمول بها في الشرع المطهر.

    فكثير من الواجبات إذا عجز الإنسان عن شيء منها لا تسقط بالكلية، وإنما ينتقل المكلف إلى مرتبة أدنى، فمن أمر بشيء فعجز عن بعضه ففعل المقدور، فإنه يسقط عنه ما عجز عنه؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وسعها} (البقرة: 286).

    ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن كثرة المسائل التي لا يترتب عليها عمل أو حكم شرعي، أو لا يترتب عليها فائدة للسائل , وهذه صفة في كثير من الناس أنه يسأل عن شيء لا ينفعه، وإنما هو إما من باب التطفل، أو إما من باب التدخل في شؤون الآخرين، وقد قال [: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وهو حديث حسن.

    فأترك السؤال الذي لا ينفعك واسأل عما ينفعك, والحديث لا ينهى عن السؤال النافع؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43), فما يحتاج إليه المسلم والمسلمة من أمور الدين والفقه فيه, ومعرفة ما أنزل الله تعالى على نبيه [ من الفرائض والأحكام نحن مأمورين بأن نبحث فيه, ونسأل عنه ونقرأ وندرس؛ لأن الله تعالى يقول: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (ص: 29).

    ومن فوائد الحديث: أن فيه إشارة أو تنبيها على أن الإنسان يبدأ بالأهم فالمهم، فإذا أراد أن يتعلم العلوم فيجب عليه أن يقدم الأهم, فيقدم علم العقيدة والتوحيد, ثم معرفة كتاب الله ثم سنة رسول الله [, فإن بقي عنده وقت اشتغل بالنحو والعربية , إن بقي عنده وقت اشتغل بالرد على أهل الأهواء والبدع, لكن لا يعكس مراتب العلوم فيقدم فروض الكفاية على فروض الأعيان؟! فهناك علوم تلزم كل مسلم بعينه، وهناك علوم تجب على العلماء وطلبة العلم والدعاة, فإذا كان عند الإنسان سعة من الوقت والعمر بحث فيها وتعلمها.

    والحديث أيضا فيه : ذم المراء والجدال الذي لا طائل من ورائه من باب أولى؛ لأن المراء والجدال لا نفع فيه! فهو مذموم كالسؤال الذي لا نفع فيه.
    هذا، والله أسأل أن ينفعنا وإياكم بما قلنا من الحق، وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (16)




    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    • الباب الثالث: باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف مالا يعنيه وقوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} (المائدة: 101).

    • الحديث الأول:

    7289 – حدثنا عبد الله بن يزيد المقري: حدثنا سعيد: حدثني عقيل، عن ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه: أن النبي [ قال: « إن أعظم المسلمين جُرماً، مَن سأل عن شيءٍ لم يحرّم، فحُرم من أجل مسألته « [ طرفه في: مسلم: كتاب الفضائل، باب توقيره [ وترك إكثار سؤاله. رقم: 2358 ].

    < الشرح:

    الباب الثالث من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف مالا يعنيه، وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة:101), أي: هذه الآية على كراهة كثرة السؤال، وورد في ذلك آيات من الكتاب وأحاديث شريفة أخرى تدل على الكراهة – كراهة كثرة السؤال -.

    وأيضا: وردت آيات وأحاديث تدل على كراهة تكلف ما لا يعني، واستدل البخاري رحمه الله بهذه الآية الكريمة من سورة المائدة: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (المائدة:101).

    فالله سبحانه وتعالى ينهى في أول هذه الأمة عن كثرة السؤال عن أشياء لم تبد لهم، ولم تشرع ولم تبين لهم، ولم يحكم الله سبحانه وتعالى فيها، وليس في الآيات ولا الأحاديث المنع من السؤال عن بيان معنى آية، أو بيان معنى حديث، فهذا غير داخل في معنى الآية، وإنما المقصود السؤال عن النوازل التي لم تقع إلى أن تقع؛ فقد روى البزار والحاكم: من حديث أبي الدرداء ] عن النبي [: «ما أحلّ الله في كتابه فهو حلالٌ، وما حرّم الله فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن ينسى شيئا. ثم تلا الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: 64)، فما أحله الله لكم في الكتاب فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت الله عنه، فقد سكت عنه رحمة بكم من غير نسيان، فلا تسألوا عنه، وتفتشوا فيه، فإن الله عز وجل لم يكن لينسى شيئا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: 64).

    وورد في حديث أنس ] أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا قد نُهوا أن يسألوا النبي [ شيئا، قال: «كنا نُهينا أن نسأل رسول الله [ عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية، فيسأله ونحن نسمع».

    فالصحابة نُهوا عن سؤال النبي [، وكانوا يفرحون أو يعجبون إذا جاء رجل غريب من غير أهل المدينة والمهاجرين، فيسأل النبي [ وهم يسمعون.

    وفي حديث ابن عمر ]: «أن الرسول عليه الصلاة والسلام كره المسائل وعابها». والمقصود به: المسائل التي لم تقع بعد، وسبب الحديث أن رجلا جاء إلى النبي [ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن وجد الرجل مع امرأته رجلا أفيقتله فتقتلوه؟ أم كيف يفعل؟». فالنبي عليه الصلاة والسلام كره سؤاله هذا؛ لأن هذا السؤال عن شيء لم يقع بعد! وعاب النبي [ المسائل التي من هذا النوع.

    وروى الإمام مسلم: عن النواس بن سمعان ] قال: أقمت مع رسول الله سنةً بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي [، أي: إنه كان في حكم الوافدين إلى المدينة، لكن كان يكره أن يكون مهاجرا خشية أن يمنع من السؤال، فاستمر بهذه الصورة إلى قريب من سنة، خشية أن يصير مهاجرا فيمتنع عليه السؤال.

    فهذه الآية منعت الصحابة من السؤال عن النوازل التي لم تقع، ومنعتهم من ابتداء الرسول [ بالسؤال عن الحكم.

    فإن قيل: قد ورد في القرآن أسئلة كثيرة كقوله سبحانه {وَيَسْأَلُونك عَنِ الْيَتَامَى} (البقرة: 220)، {يَسْأَلُونك عَنِ الْأَهِلَّةِ} (البقرة: 189)، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: 219)، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} (البقرة: 215)، {وَيَسْأَلُونك عَنِ الْمَحِيضِ} (البقرة: 222)، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (البقرة: 217)، وغيرها من الأسئلة التي وردت في القرآن، فكيف يمكن الجمع بين هذا وبين هذه الآيات؟

    والجواب: إما أن يكون هذا قبل النهي؛ لأن المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة، وإما أن يكون النهي لا يتناول ما يحتاج إليه المكلف من الأحكام الشرعية الواقعة، أو الحاجات الضرورية اليومية، كمسائل اللباس والطعام والشراب، والذبح، وما يتعلق بحياة المسلم ومعاملته مع زوجه وأبويه، وما أشبه ذلك من المسائل التي تقع.

    وقد ورد عن الصحابة والتابعين آثار تدل على كراهيتهم لكثرة المسائل التي لم تقع، فورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن. ووردت أيضا آثار أخرى مشابهة.

    أما الأمر الآخر الذي نُهينا عن السؤال عنه: فهو السؤال عن الأمور الغيبية التي ورد الشرع بوجوب الإيمان بها وبمعانيها، مع ترك البحث والنظر والسؤال عن كيفياتها، كالسؤال عن وقت الساعة، وأمور الآخرة، وأشراط الساعة، وكالسؤال عن الروح، والسؤال عن عُمر هذه الأمة، وأمثال هذه الأشياء التي لا تعرف إلا بالنقل والسماع، فهذه الأمور يجب الإيمان بها من غير بحث، والبحث فيها يوقع الإنسان في الشك والحيرة، وسيأتي في حديث أبي هريرة مرفوعا إلى النبي [: « لا يزال الناس يتساءلون: من خلق كذا، من خلق كذا؟ حتى يقولوا: من خلق الله؟!». وهذا ناتج من كثرة السؤال عما لا يجوز.

    وأيضا مما كرهه السلف: كثرة التفريع، أي: الإكثار من التفريع على المسائل الفقهية، وربما ذكر بعض الفقهاء مسائل لا أصل لها في الكتاب والسنة! بل قد تكون مسائل نادرة الوقوع جدا، والبحث والتفريع في المسائل النادرة الوقوع جدا، هو من تضييع الزمان بلا طائل ولا فائدة، فهذا أيضا ينبغي أن يترك التوسع فيه؛ لما سبق من الآية والحديث.

    ولا شك أن كثرة السؤال في هذه الأمور، توقع الإنسان في التنطع والتكلف الذي نهينا عنه.

    أما البحث عن معاني كتاب الله سبحانه وتعالى، أو البحث في شرح السنة النبوية ومفرداتها، وأحكامها وفوائدها، فهذا لا يدخل في هذا الباب بلا شك.

    وأيضا يمكن أن يقال: إن هذه الآية {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)، أن هذا في العهد النبوي خاصة دون غيره؛ خشية أن ينزل من الآيات ما يشق على المكلفين امتثاله، فالرسول [ أمر الصحابة بأن يتركوا سؤاله لهذا السبب، وقد مر معنا في الحديث الماضي أنه [ لما قال: « إن الله كتب عليكم الحج فحجوا «، فسأله رجل: «أكلّ عام يا رسول الله؟» ، كان هذا السؤال في الحقيقة نوعا من التكلف، فرسول الله [ قال: « إن الله كتب عليكم الحج فحجوا»؛ ولهذا الرسول [ لم يجب السائل أول مرة، حتى سأل ثلاث مرات، فقال عندها: « دعوني ما تركتكم أو ذروني ما تركتكم» فمنعهم [ من السؤال إلا عن شيء نافع، أما البحث والتنقيب والتنطع فقد نهى الله تعالى عنه عباده، وُنهي عنه الصحابة خصوصا في زمن الوحي؛ خشية أن ينزل عليهم ما يشق عليهم القيام به من الواجبات، أو أن يحرم عليهم شيء من المباحات، كما سيأتي في الحديث الأول في هذا الباب.

    < الحديث الأول:

    حديث سعد بن أبي وقاص ] القرشي، وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وقال علي ]: ما سمعت النبي [ يجمع أبويه لأحد غير سعد، قال له: « ارمِ فداك أبي وأمي « وذلك يوم أحد. رواه البخاري (6184).

    وعامر: هو ابن سعد بن عامر بن سعد من ثقات التابعين، وممن روى عن أبيه وتفقه عليه. وابن شهاب هو الزهري قد مر معنا مرارا، وعقيل كذلك، وسعيد: هو ابن أبي أيوب الخزاعي مولاهم، المصري ثقة ثبت، وعبد الله بن يزيد المكي المقرئ ثقة فاضل، وأحد الحفاظ، ومن مشايخ البخاري.

    قوله: عن النبي [ أنه قال: «إن أعظم المسلمين جُرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته».

    وفي رواية لمسلم: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرما، من سأل عن شيء لم يحرم فحرم»، وهذا الحديث فيه ترهيب من السؤال عن المسائل التي لم تقع، أو السؤال في الأمور التي لم تحرم، فالنبي [ شدد فقال: إن من أعظم المسلمين « وهذا تشديد وتفخيم، وقوله: (جرما) «يدل أيضا على أنه أجرم في حق المسلمين؛ بسبب مبالغته في البحث والاستقصاء، فيحرم على المسلمين الشيء بسببه.

    وهذا كما قلنا سابقا: لا يدخل فيه السؤال عما يحتاج إليه من الأحكام التي وردت في القرآن أو السنة، فلو سأل سائل عن كيفية الصلاة والزكاة أو عن أمور من الطهارة، فهذا لا يدخل في هذا الباب، فهذه الأمور لا بد فيها من العلم والتفقه، ولأن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالسؤال عن أحكام الشريعة فقال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل: 43).


    وكذا من حصلت عنده نازلة، أو وقعت عنده واقعة لا يعلم حكمها، فسأل عنها فهذا لا شيء عليه، ولا إثم يلحقه؛ لأن السؤال في هذه المسائل وهذه الأمور مطلوب بنص القرآن كما ذكرنا.

    أما المنهي عنه: فهو السؤال الذي بسببه يصير الشيء المباح حراما؛ فيضيق بسبب السائل على جميع المسلمين والمكلفين، وهذا كما قلنا خاص بالعهد النبوي، وإلا فالأحكام الآن قد تمت، وأكمل الله سبحانه وتعالى الدين؛ فلا يضاف إليه شيء بعد وفاة النبي [.
    وهذا الحديث يستفاد منه فائدة: أن الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يرد الشرع بخلاف ذلك.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب"الإعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (39)
    : التحذير من التشبه بالأمم


    الشيخ.محمد الحمود النجدي





    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.


    - الباب الرابع عشر:


    14 – باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم».

    الحديث الأول:

    7319 – حدثنا محمد بن يونس: حدثنا بن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشر وذراعا بذراع» 0 فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: «ومن الناس إلا أولئك؟!».

    الحديث الثاني:

    7320 – حدثنا محمد بن عبدالعزيز: حدثنا أبو عمر الصنعاني – من اليمن – عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم «قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى»؟ قال: «فمن؟!» (طرفه:3456 ).


    - الشرح:

    الباب الرابع عشر: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، والسنن: بفتح السين وضمها، والأكثر على الفتح، والمقصود بالسنن: الطرق والسبل.

    ثم روى البخاري بسنده عن شيخه أحمد ابن يونس، وهو ابن عبدالله الكوفي التميمي اليربوعي، ثقة حافظ. قال: حدثنا ابن أبي ذئب، وهو عبدالرحمن بن أبي ذئب المدني، من الأئمة الأعلام المشهورين بالحفظ والإتقان، وكان قوالا بالحق. عن المقبري، وهو سعيد بن أبي سعيد كيسان المقبري، أبو سعد المدني، ثقة تغير قبل موته بأربع سنين، من الرواة المكثرين عن أبي هريرة.

    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك؟!».

    في الحديث إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم باتباع هذه الأمة للقرون من قبلها كما سيأتي بيانه، والقرون: جمع قرن، وهم الأمة من الناس، وقيل: القرن ثمانون سنة، وقيل: القرن مائة سنة، وهو الأشهر.

    وفي الحديث الذي بعده، الذي رواه البخاري عن شيخه محمد بن عبدالعزيز وهو ابن محمد العمري، أبو عبدالله الرملي، صدوق يَهِمُ. قال: حدثنا أبو عمر الصنعاني، وهو حفص بن ميسرة العُقيلي، ثقة ربما وهم. وقول الراوي: من اليمن، يعني هو من أهل اليمن، والصنعاني نسبة إلى صنعاء اليمن، لا صنعاء الشام؛ لأن الشام كان بها أيضا بلد يسمى صنعاء، فأراد التنبيه.

    عن زيد بن أسلم، وهو العدوي، أبوعبدالله وأبو أسامة، أحد الثقاة المشهورين بالحديث والتفسير. عن عطاء بن يسار التابعي الجليل المشهور، ومضى الكلام عليه.

    قال: عن أبي سعيد الخدري، وهو سعد بن مالك بن سنان الأنصاري، أحد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فوق الألف كما مر معنا.

    قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا شبرا، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟».

    قوله: «لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم «أو» سُنن من كان قبلكم» فيه إخبار من المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر الغيبي، والذي هو من دلائل النبوة وعلامات الساعة الواقعة في الأمة، وهي خصلة إتباع سبيل من سبقها من الأمم، وطرق من سبقها من القرون، وهي أمم ضلت عن سواء السبيل، وانحرفت عن الصراط المستقيم، فسيكون أناس من هذه الأمة يأخذون بأخذها، والأخذ: يعنى السير على سيرتها، يقال: أخذ فلان بأخذ فلان، يعني: عمل بسيرته، وفعل مثل فعله، وقصد مثل قصده.

    قوله: «شبرا بشبر، وذراعا بذراع» هذا للتشبيه، فالشبر والذراع من المقاييس، وهذا كله للتشبيه والتمثيل، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، هذا للتمثيل أيضا، والضب هو الحيوان المعروف، وقد قال العلماء: إن جحره ضيق، ويضرب به المثل في الضيق والسوء.

    فهذا يدل على أن هناك طوائف من هذه الأمة ستأخذ بسيرة من قبلها من القرون من اليهود والنصارى، وفارس والروم، كما في الرواية الثانية، وكان فيهم يهود ونصارى، ولو كان شيئا فيه ضيق وسوء كالجحور! ولو كان أمرا مستقبحا، أو خلاف الفطرة، فإنهم سيقلدونهم ويتابعونهم عليه كالعميان!

    وورد في أحاديث أخرى أيضا التحذير من هذه الخصلة التي ستكون في هذه الأمة، وفي أواخر هذه الأمة، وهي التشبه بالأمم، وهي تزداد بابتعاد الناس عن العصر النبوي والعلم الشرعي.

    فقد ورد في حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لا تترك هذه الأمة شيئا من سنن الأولين حتى تأتيه» رواه الطبراني في (الأوسط)، يعني: كل الذنوب وكل الأفعال والأحوال والأقوال التي مضت فيمن سبق، سترتكبها طوائف ممن ينتسبون لهذه الأمة.

    قال ابن بطال رحمه الله: أعلمَ صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور، والبدع والأهواء، كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائما عند خاصة من الناس.

    قال الحافظ ابن حجر: قلت: وقد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم وسيقع بقية ذلك.

    وقال صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه أحمد وغيره.

    وقال صلى الله عليه وسلم: « ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى «رواه الترمذي عن ابن عمرو رضي الله عنه.

    فقوله: «ليس منا» تبرؤ ممن يقع في هذا الفعل المحرم.

    وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: «كفارس والروم» لما سئل فقال: «ومن الناس إلا أولئك؟!».

    وفي الحديث الثاني: قلنا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» يعني: فمن الناس إلا هؤلاء، وذلك لأن فارس والروم كانوا أكبر ممكلتين في الدنيا، وأوسع أمتين في الأرض، وأكثرهم رعية، وأوسعهم بلادا.

    وفي الحديث الآخر قال: «اليهود والنصارى»؛ لأن اليهودية والنصرانية كانتا أعظم ديانتين يدين بهما الناس قبل الإسلام، فقال أهل العلم: إن طوائف من هذه الأمة ستتبع ما يتعلق بالدنيا والسياسات أعظم أمتين سابقتين فيها، وهما فارس والروم، وأما فيما يتعلق بالديانات، وأصولها، وفروعها فسيحصل التقليد والتشبه باليهود والنصارى، وهذا الحديث يدل على ذم التشبه باليهود والنصارى، وغيرهما من الأمم من باب أولى؛ لأن اليهود والنصارى أهل كتاب، فكيف بغيرهما ممن لا كتاب له ولا نبي؟! فهذا أقبح.

    وهذا الفعل الواقع في الأمة، هو مذموم، كما ذكرنا.

    وقد وردت آيات من كتاب ربنا سبحانه وتعالى في ذلك، وهي تؤيد الأحاديث النبوية الصحيحة السابقة في ذم اتباع الأمم، كقوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18).

    أي: قد شرعنا لك شريعة كاملة، تدعو إلى كل خير، وتنهى عن كل شر، فاتبعها فإن فيها السعادة في الدنيا والآخرة، ولا تتبع أهواء الجهلة الذين لا علم لهم ولا كتاب، بل يمشون وراء أهوائهم الفاسدة وشهواتهم الدنية.

    وكقوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة: 51).

    فينهى الله عز وجل عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، أي: أحبابا وأنصارا وأصفياء مقربين، بعد أن بين صفاتهم غير الحسنة في ثنايا كتابه الكريم، وتوليهم عن طاعة ربهم ورسله الكرام.

    وغير ذلك من الأحاديث والآيات في هذا الباب، والتي تدل على حرمة التشبه بالأمم قبلنا؛ لأن الله تبارك وتعالى قد جعلنا على شريعة واضحة، ودين كامل شامل رضيه لنا وأتمه علينا، كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3 ).

    وقد بدأ التشبه بالأمم الكافرة يسري إلى هذه الأمة لما دخل طوائف من اليهود والنصارى إلى الإسلام، ولما كثرت الفتوحات في الدولة المسلمة، فدخلت بعض العادات والتقاليد من البلاد المفتوحة إلى أبناء المسلمين الجهلة، ولا يزال هذا الأمر يعظم ويكثر كلما كثر الجهل بدين الله، واندثر العلم.

    وقد كتب كثير من السلف والخلف في هذا الموضوع كتبا وبحوثا، يحذرون من الصفات الرديئة والعادات الطارئة التي دخلت على الأمة، وتبين خطرها على العقيدة والخلق والسلوك وعلى العبادة، بأن الله سبحانه وتعالى قد نهانا عن التشبه بغيرنا عقيدة وشريعة وخلقا وسلوكا، والتساهل في هذا الباب يضيع هوية المسلم وشخصيته، ولاسيما عند ضعف التقوى والأيمان.


    وقد دخلت عادات الغربيين والشرقيين من الكفار والمشركين، في هذه الأيام إلى أبناء كثير من المسلمين عبر أجهزة الإعلام المختلفة، وخاصة الفضائيات التي تنقل الغث والسمين، وتنقل أحوال الكفار وملابسهم وعاداتهم، وتنقل عبرها احتفالاتهم واجتماعاتهم وأعيادهم الوثنية والشركية، فيراها أبناء وبنات المسلمين ويقلدونها، ويريدون أن يكون للمسلمين مثلها، ومعلوم أن الإنسان الجاهل والخالي الوفاض من العلم النبوي، يحب التقليد لغيره، أما إذا ذكر له سير الصالحين، وأحوال النبيين، وعلم أخبارهم، فإنه يحب أن يكون مثلهم، وإذا وضعت أمامه أحوالهم وأقوالهم وعاداتهم وذكرت له ملابسهم وزينهم، فإنه يحب أن يكون كذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (40)

    إثم من دعا إلى ضلالة




    الشيخ.محمد الحمود النجدي




    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.




    الباب الخامس عشر:




    15 – باب إثم مَن دعا إلى ضلالة , وسنّ سنة سيئة؛ لقول الله تعالى: {ومن أوزار الذين يضلونهم} (النحل: 25).




    7321 – حدثنا الحميدي: حدثنا سفيان: حدثنا الأعمش, عن عبدالله بن مرة, عن مسروق, عن عبدالله قال: قال النبي[: «ليس من نفسٍ تقتل ظلما, إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها – وربما قال سفيان: من دمها - لأنه أولُ من سنّ القتل أولا».




    طرفه في: 3335 .




    الشرح :




    الباب الخامس عشر هو: باب إثم من دعا إلى ضلالة, وسن سنة سيئة؛ لقول الله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (النحل: 25).




    ترجم البخاري - رحمه الله - لهذا الباب بحديثين ليسا على شرطه, واكتفى بما يؤدي معنى الحديثين, وهما حديثان أخرجهما صاحبه وتلميذه الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري .




    فأما حديث: «من دعا إلى ضلالة» فأخرجه الإمام مسلم عن العلاء بن عبدالرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال [: «منَ دعا إلى هدى كان له من الأجر، مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا, ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».




    وأما حديث: «من سن سنة سيئة» فأخرجه الإمام مسلم من رواية عبدالرحمن بن هلال عن جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - قال: قال[: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا, ومن سن في الإسلام سنة سيئةً، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا».




    فهذا الباب في معنى هذين الحديثين العظيمين، ويبين أن من دعا إلى هدى جاء به النبي [, وأحياه وذكر به الناس, وعلم به الجاهل، فإن له أجر من استجاب له وعمل به، من غير أن ينقص من أجره شيئا وذلك إلى يوم القيامة, وإذا دعا إلى ضلالة, إذا ابتدع ضلالة أو ابتدع بدعة فعليه وزرها، ووز من عمل بها بعده، لا ينقص ذلك من وزره شيئا، والعياذ بالله .




    وقوله [: «من سن في الإسلام سنة حسنة» يعني: أحيا سنة نبوية ميتة؛ فإن السنن تموت وتحيا, تموت بظهور البدع والمحدثات، وتحيا السنن بموتها, كما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «ما أحييت بدعة إلا وأميتت سنة»، فإحياء البدع معناه موت السنن, وهذه نتيجة طبيعية؛ وذلك أن للإنسان طاقة محصورة، وعمرا ووقتا محدودا, فإذا اشتغل بالبدع والمحدثات لم يبق له وقت, ولا جهد, ولا قصد, ولا همة لإحياء السن والاشتغال بها؛ لأنه قد اشتغل بضدها, وهكذا إذا اشتغل المسلم بالسنن, وملأ حياته بالاقتداء بسيد الخلق [, لم يبق عنده وقت للالتفات إلى المحدثات والبدع, أو إلى العادات السخيفة والطرائق التي تخالف طريقة نبينا عليه الصلاة والسلام.




    ويدخل في إحياء السنن: العمل بكل ما أمر الله تعالى به, وما أمر به رسوله [؛ لأن سبب هذا الحديث أن الرسول [ دعا الناس إلى البذل والنفقة في سبيل الله؛ لمجيء قوم عراة أو لا يلبسون إلا ما يكاد يستر عوراتهم، فدعا الناس للإنفاق, فقام رجل بُصرة قد عجزت كفه عن حملها, وجاء آخر بثياب, وجاء آخر بطعام, حتى توافر لدى النبي [ كوم من طعام وكوم من ثياب؛ فتهلل وجهه عليه الصلاة والسلام, وقال هذا الحديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا».




    وأما الآية في الباب: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (النحل: 25), أي: إن من أضل إنسانا عن سبيل الحق، ودعاه إلى الباطل، وقلده في قوله وعمله بجهل، فإنه يحمل وزره، ووزر من أضله إلى يوم القيامة على ظهره في المحشر.




    وكذا من حمل أحدا على ارتكاب معصية, ومن زين لإنسان معصية ووقع فيها فعليه وزرها, فإنه يحمل ذنبه وذنب من أضله؛ ولهذا قال مجاهد إنهم يحملون ذنوب أنفسهم, وذنوب من أطاعوهم، يعني من زينوا لهم البدعة أو زينوا لهم المعصية فأطاعوهم, ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم شيئا؛ لأن من أطاع غيره في ارتكاب معصية فهو مسؤول عن نفسه, ومسؤول عن معصيته لكن من أمره بالمعصية فأطاعه يكون ذنبه مضاعفا .




    واستدل البخاري بحديث ابن مسعود الذي ساقه من طريق شيخه الحميدي, والحميدي هو عبدالله بن الزبير , وهو أحد الحفاظ وصاحب المسند المعروف باسمه اليوم, وهو مطبوع في مجلدين باسم (مسند الحميدي)، قال: حدثنا سفيان, وهو شيخه سفيان بن عيينة الهلالي أبو محمد، قال: حدثنا الأعمش, وهو سليمان بن مهران كما مر معنا, عن عبدالله بن مرة وهو الهمداني تابعي ثقة.




    عن مسروق وهو ابن الأجدع الهمداني، أبوعائشة الكوفي، ثقة فقيه مخضرم، وأحد أصحاب عبدالله بن مسعود، عن ابن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه - قال: قال النبي [: «ليس من نفس تقتل ظلماً، إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها أو كفل منها؛ لأنه سن القتل أولا».




    وابن آدم الأول هو الذي قص الله سبحانه وتعالى علينا قصته في سورة المائدة في قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة: 27 - 28) .




    وحاصل القصة: أن أحد الرجلين اختلف مع أخيه في شيء، قيل: في زواجه من أخته التي معه بنفس البطن, وقيل: غير ذلك، فأمرهما أبوهما آدم عليه السلام أن يقربا قربانا، فمن تقبل قربانه فهو على الحق والصواب, والذي لا يتقبل قربانه فهو على الباطل والخطأ، فتقبل الله تبارك وتعالى قربان أحدهما, وذلك بنار تنزل من السماء فتأكل القربان؛ فعند ذلك اغتاظ الآخر وقال: لأقتلنك, فذكّره بالله تعالى، وأن هذا الفعل عدوان وظلم وحرام، وأخبره أنه لو أراد قتله فإنه لن يقتله, ولن يدافع عن نفسه, فقام أخوه, ويقال في التفسير أنه هابيل, قام على أخيه بصخرة عظيمة فشدق بها رأس أخيه قابيل وهو نائم.




    فالنبي [ يذكر في هذا الحديث أنه لا تقتل نفس في الأرض ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل, والكفل: هو الحظ والنصيب, كما في قوله تعالى: {ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها} (النساء: 87).




    والمعنى: إلا كان على ابن آدم الأول نصيب من وزرها , وكفل من إثمها ودمها، لماذا؟ لأنه كان أول من سن وابتدأ القتل.




    فأول من أظهر هذه الجريمة في الأرض وهي القتل، هو هابيل، فاتبعه من تبعه من فجرة بني آدم في قتل النفوس ظلما, وتجاوز لحدود الله والوقوع في حرماته, والدعوة إلى هذا الفعل.




    وهذا الباب في التحذير من الضلال, واجتناب البدع ومحدثات الأمور, والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين, وقد قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115).




    وهذا الباب: فيه التحذير من الآثام التي تلحق المرء ولو بعد موته، فتكون من السيئات الجارية والعياذ بالله، من عمل بمعصية فاشتهرت عنه, وعمل بها الخلق من بعده؛ لأنه الأصل في إحداثها أو الدعوة إليها, ويدخل في ذلك في زماننا ما يكتبه وينشره أصحاب الكتب المنحرفة, والمناهج الهدامة, والبدع المضلة، الداعية للبدع والشركيات، وأصحاب المجلات الساقطة التي فيها الصور العارية الخليعة, وأصحاب إنتاج أشرطة (الفيديو كلب), والأفلام الخبيثة, وأشرطة المعازف والغناء، وكذا المغنون والمغنيات, والممثلون والممثلات, ومن على شاكلتهم من أصحاب الدعوات الباطلة والمنكرة، كلهم داخلون في هذا الباب والعياذ بالله تعالى؛ لأنهم دعاة إلى الشر, يدعون الناس إلى البدع والضلالات، أو الفسوق والفجور والعصيان, ويزينون للخلق كافة مخالفة ربهم, وعصيان رسوله [, فتكون لهم هذه الأعمال، سيئات جارية مستمرة حتى بعد خروجهم من الدنيا.




    نحن سمعنا عن الصدقات الجارية ، كأن تحفر بئرا، أو تورث مصحفا، أو تبني مسجدا، أو تبني بيتا لابن السبيل أو لليتيم أو للأرملة، أو ما أشبه ذلك من الأوقاف الخيرية التي هي صدقات جارية لك بعد مماتك, لكن هل سمعنا عن السيئات الجارية؟! إنها التي يدعو فيها الإنسان الخلق إلى معصية الله, وارتكاب حرماته فتكتب وتسجل عليه، ثم كل من قلده فيها ووافقه وسار على نهجه كتب له من أوزارهم على ظهره كما قال الله عز وجل: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (النحل: 25).




    فوالله العظيم، لو علم هؤلاء الدعاة إلى الضلال والشر والباطل, ماذا عليهم من الإثم لكفوا وانتهوا عن ذلك!





    لو أنهم حكموا عقولهم، ونظروا بعين البصيرة ماذا يكون عليهم من الآثام في إضلالهم لخلق الله سبحانه وتعالى, ودعوتهم إلى الشر والمنكر والباطل , لكفوا عن ذلك وابتعدوا، واكتفوا على الأقل بسيئات أنفسهم.

    وانظروا اليوم إلى السبل الكثيرة التي يراها المسلمون, والطرائق الخبيثة التي تعرض عليهم صباح مساء في الفضائيات, وفي الجرائد والمجلات، والأسواق وغيرها, حتى المسلم - أو المسلمة - إذا خرج على الناس وقد صنع بنفسه شيئا منكرا فقلده عليه غيره من خلق الله، فإنه يكون داعية إلى ذلك الشر, ويكون داخلا في قول الرسول [: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه, لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (41)

    الإجماع وعمل أهل المدينة


    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.





    الباب السادس عشر:

    16- باب ما ذكر النبيُّ [ وحضّ على اتفاق أهل العلم، وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة، وما كان بها من مشاهد النبي [ والمهاجرين والأنصار، ومصلى النبي [ والمنبر والقبر.

    الحديث الأول:

    7322 – حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله السلمي: أن أعرابيا بايع رسول الله [ على الإسلام، فأصاب الأعرابي وعكٌ بالمدينة، فجاء الأعرابي إلى رسول الله [ فقال: يا رسول الله، أقلني بيعتي، فأبى رسول الله [، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله [: «إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها وينصع طيبها « (طرفه في: 1883).

    الشرح:

    الباب السادس عشر: باب ما ذكر النبي [ وحض على اتفاق أهل العلم، وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة، وما كان بها من مشاهد النبي [ والمهاجرين والأنصار، ومصلى النبي [ والمنبر والقبر.

    فهذا الباب ذكر فيه البخاري رحمه الله ثلاثة وعشرين حديثا، فيها حث النبي [ وتحريضه على الاتفاق قدر المستطاع، والبعد عن الاختلاف والتنازع، وذكر حجية ما اجتمع عليه أهل الحرمين مكة والمدينة النبوية؛ لما كان فيهما من توافر أصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار.

    وأما الإجماع فهو كما ذكر أهل العلم: اتفاق مجتهدي العصر من أمة محمد [ على أمر من الأمور الدينية.

    وكان الإمام مالك رحمه الله يرى أن عمل أهل المدينة حجة على غيرهم وأنه إجماع، وعلل ذلك بأن المدينة النبوية هي مأوى النبي [، ودار إقامته، وهي محل إقامة أصحابه رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار من بعده؛ فعملهم حجة على غيرهم، بل عملهم حجة على فهم النصوص والعمل بها أو عدم العمل، هكذا رأى الإمام مالك؛ ولهذا لم يأخذ الإمام مالك رحمه الله بحديث: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» وهو متفق عليه؛ لأن أهل المدينة لم يكونوا يعملون به، والصحيح: أن عمل أهل المدينة لا شك في قوته وحجيته، لكن لا يمكن أن يقدم عملهم على النصوص الشرعية الواضحة الصريحة، بل النص الشرعي يقدم على قول كل أحد، وعمل كل أحد، كائنا من كان.

    ثم إن أصحاب النبي [ خرج كثير منهم بعد وفاة النبي [ من المدينة إلى الفتوحات والبلدان المختلفة، واستقروا في البلاد المفتوحة، معلمين للخلق الدين والسنن، سنن نبينا [، فكانوا نعم القادة ونعم السادة المعلمون، المفقهون، المفهمون لكتاب الله تعالى وسنة رسوله [.

    إذًا إجماع أهل المدينة حجة ما لم يخالف النص، ولا شك في أفضلية المدينة وأفضلية أهل المدينة، لكن الفاضل من الصحابة وغيرهم قد يخطئ كما هو معلوم، بل قد يخطىء الفاضل ويصيب المفضول.

    وهناك أيضا من ذهب إلى حجية عمل أهل الكوفة؛ بحجة أن أهل الكوفة كان عامة علمائهم من أصحاب رسول الله [؛ لأنها من البلدان التي كثر فيها نزول الصحابة بعد فتحها في عهد عمر رضي الله عنه، أو تخطيطها في زمن عمر رضي الله عنه.

    ونقول نحن: إن أفضلية المكان وأفضلية أهله، وكذا أفضلية الزمان، لا يدلان على إصابة الحق دائما، بل الحجة تدور مع النص حيث دار، وكما قيل: اعرف الحق تعرف أهله.

    ويمكن أن يقال: إن الإمام مالك بن أنس رحمه الله بنى ذلك على ندرة مخالفة أهل المدينة للنصوص الشرعية، وهذا صحيح، لكن ليس دائما.

    وعلى كل حال فإن عمل أهل المدينة حجة ما لم يخالف نصا من كتاب الله، أو سنة رسوله [.

    ثم ذكر البخاري رحمه الله في أول ما ذكر من الأحاديث: حديث جابر بن عبدالله السلمي، يرويه عن إسماعيل وهو بن أبي أويس، قال: حدثني مالك، وهو الإمام المشهور مالك بن أنس إمام دار الهجرة، عن محمد بن المنكدر المدني، ثقة فاضل وهو من المكثرين في الرواية عن جابر.

    عن جابر رضي الله عنه: «أن أعرابيا بايع النبي [ على الإسلام؛ فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة « يعني: أصابته وعكة ومرض، وهذا مما يصيب من سكن المدينة أولا، كما جاء في حديث ابن عمر مرفوعا: «لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد، إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» رواه مسلم (2/1004). واللأواء: حمى المدينة.

    فجاء الأعرابي إلى رسول الله [ فقال: «يا رسول الله أقلني بيعتي» يعني: ردّ علي بيعتي لأني أريد أن أخرج من المدينة، فهو هاجر إلى المدينة، وبايع رسول الله على الهجرة، ثم إنه أراد ترك الهجرة والرجوع إلى البادية، فأبى رسول الله [ أن يرد عليه هجرته؛ لأنه لا يرد من بايعه، ولا يقيل من بايع على الهجرة أبدا.

    قوله: «ثم جاءه مرة أخرى، وقال: أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه الثالثة فأبى [، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله [: «إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها، وينصع طيبها».

    هذا الحديث استدل به البخاري على تفضيل المدينة النبوية على غيرها من المدن، بما خصها الله تعالى به من سكنى رسول الله وأصحابه الكرام، وبما أنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد، والمقصود به خبث الناس أو الخبيث من الناس، فالمدينة تنفي الخبيث من الناس كما ينفي الكير خبث الحديد، والكير هو منفاخ الحداد الذي ينفخ به في النار حتى ينصهر الحديد، فكما أن الكير ينفي خبث الحديد إذا صهر، فكذلك المدينة تنفي الخبيث من الخلق والناس، وهذا كما قلنا يدل على فضل المدينة وسكناها.

    وليس هذا الوصف المذكور عاما لها في جميع الأزمنة، بل هو خاص بزمن الرسول [؛ لأنه لم يكن أحد يخرج منها رغبة عن الإقامة فيها، إلا من لا خير فيه، فلا يخرج أحد من المدينة التي يقيم فيها رسول الله [، رسول رب العالمين، معلما، مفقها، تاليا للقرآن، محدثا عن الله، ذاكرا للواجبات، مبينا للمحرمات، لا أحد يخرج من هذا المكان وهذه البلدة، إلا من لا خير فيه من الخلق.

    أما بعد وفاته [، وبعد اكتمال الدين والشريعة، وتمام القرآن والسنة النبوية، فقد خرج جماعة كثيرة من خيار الصحابة رضوان الله عليهم، وسكنوا خارج المدينة حتى ماتوا في تلك البلاد المفتوحة كما قلنا، وهم كثر، ومن أشهرهم: ابن مسعود، وأبوموسى الأشعري، وعلي، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم، فقد سكنوا الكوفة، بل إن عليا ] وهو رابع الخلفاء الراشدين جعل الكوفة مقرا لخلافته، أي: نقل مقر الخلافة من المدينة إلى الكوفة، وكذلك سكن أبو ذر خارج المدينة، وعمار، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وغيرهم كثير سكنوا الشام، ومنهم من سكن المدائن بفارس، ومنهم من سكن مصر، وهكذا، وكما قلنا مقصدهم في ذلك مقصد عظيم وشريف، وهو إمارة البلدان وقيادتها وتعليم أهلها القرآن والسنن النبوية، وبيان ما أمر الله تعالى به وما نهى عنه من الدين.

    فهذا كله يدل على أن قوله [: «إنما المدينة كالكير تنفي خبثها» أنه خاص بزمنه [؛ حيث كانت الآيات القرآنية تنزل، والأحاديث تتلى، ولوجوب نصرته [ بالهجرة إليه والجهاد.

    ومما يدل على ذلك أيضا: ما يقع في زمن الدجال عندما يحاصر المدينة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، يخرج على أثرها منها كل منافق ومنافقة.

    فهذا الحديث: يدل أنه قد يسكن المدينة منافقون ومنافقات؛ لأنه إذا حاصر الدجال أهل المدينة رجفت المدينة فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا وخرج منها، فهذا يوم الخلاص الذي تتخلص فيه المدينة النبوية من المنافقين والمنافقات، والفاجرين والفاجرات الذين يستعلنون بنفاقهم، أو أنهم يخفونه حسب قوتهم، وترى أحيانا بعض ما لا يرضيك منهم في مكة أو المدينة من الساكنين فيها، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر الحرمين منهم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (42)

    الإجماع وعمل أهل المدينة (2)


    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.



    الحديث الثاني:

    7323 – حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا عبدالواحد: حدثنا معمر, عن الزهري, عن عبيدالله بن عبدالله قال: حدثني بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أقرئ عبدالرحمن بن عوف، فلما كان آخر حجةٍ حجها عمر، فقال عبدالرحمن بمنى: لو شهدت أمير المؤمنين، أتاه رجل قال: إن فلانا يقول: لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا, فقال عمر: لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم.

    قلت: لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس, يغلبون على مجلسك, فأخاف ألا ينزلوها على وجهها, فيطير بها كل مطير, فأمهل حتى تقدم المدينة دارَ الهجرة ودار السنة, فتخلُص بأصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار, فيحفظوا مقالتك وينزّلوها على وجهها، فقال: والله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة.

    قال ابن عباس: فقدمنا المدينة، فقال: إن الله بعث محمدا [ بالحق, وأنزل عليه الكتاب, فكان فيما أُنزل آية الرجم. (طرفه في: 2462).

    الشرح:

    الحديث الثاني في هذا الباب حديث ابن عباس عن عبدالرحمن بن عوف, والغرض منه هنا كما قال الحافظ ابن حجر: ما يتعلق بوصف المدينة بدار الهجرة، ودار السنة، ومأوى المهاجرين والأنصار.

    وفي الحديث لما سمع عمر ] قول بعض الناس: لو مات أمير المؤمنين عمر لبايعنا فلانا وفلانا؟! فغضب عمر من هذه المقالة التي لا تستند إلى علم ولا دليل, ولا إلى رأي لمن جعله الله تعالى أهلا للحل والعقد, فأراد عمر ] أن يقوم فيخطب في أهل الموسم ممن حضر الحج في تلك السنة, وأن يحذرهم من هذه الأقاويل الفاسدة؛ لأن هذا الأمر ليس لكل أحد أن يبت فيه، أو أن يتكلم فيه أو أن يحكم فيه.

    فقال له عبدالرحمن بن عوف: لا تفعل فإن موسم الحج يجمع رعاع الناس، وهم العوام من الناس، أو من لا رأي له, فقال له: أخاف ألا ينزلوا كلامك على غير وجهه، فيحصل به شر وفتنة، ويطير بها كل مطير.

    قوله: «فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار»، وهذا موقع الشاهد للترجمة من هذا الحديث وهو قول عبدالرحمن بن عوف: «أمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة», فوصف المدينة بأنها دار الهجرة ودار السنة, وأن فيها أصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار الذين يفهمون مقالتك، وينزلونها على وجهها.

    فدل هذا الحديث على تفضيل المدينة ووصفها بأنها دار الهجرة, وهي كذلك؛ فإنها مهاجر النبي [ ومأواه, وبها المهاجرون والأنصار, ومر معنا في الحديث الماضي قول من قال بحجية إجماع أهل المدينة، لكثرة من كان بها من أصحاب رسول الله [, وأقوى منه قول من قال بحجية إجماع الصحابة؛ وذلك لأن الصحابة شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، وعاصروا الرسول [ وسمعوا الحديث.

    ولا شك أن إجماع الصحابة أقوى من إجماع أهل المدينة، والراجح كما ذكرنا في الحديث الماضي أن إجماع أهل المدينة، القول به أقوى من القول بغيره، ما لم يخالف نصا مرفوعا إلى الرسول [, وما ذاك إلا لفضل أهل المدينة، وقربهم من العلم, ولكون المدينة كانت دار السنة ودار الهجرة .

    الحديث لثالث: قال البخاري رحمه الله:

    7324 – حدثنا سليمان بن حرب: حدثنا حمادٌ, عن أيوب, عن محمد قال: كنا عند أبي هريرة, وعليه ثوبان ممشقان من كتان, فتمخط، فقال: «بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان, لقد رأيتني وإني لأخرّ فيما بين منبر رسول الله [ إلى حجرة عائشة مغشيا عليّ, فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي, وُيرَى أني مجنون, وما بي من جنون, ما بي إلا الجوع».

    الشرح:

    الحديث الثالث في هذا الباب حديث أبي هريرة رضي الله عنه, يرويه البخاري عن شيخه سليمان بن حرب عن حماد, وهو زيد بن درهم أحد الحمادين ومن الثقات الأثبات, عن أيوب هو ابن أبي تميمة السختياني, قال: عن محمد, وهو ابن سيرين الإمام المشهور التابعي الثقة, واشتهر بتأويل الرؤى والأحلام, وله كتاب مشهور في الأسواق وفيه بعض الأشياء الغريبة التي تدل غرابتها على أنها زيدت في الكتاب, وبعض أهل العلم يقول: إن هذا الكتاب مدسوس على ابن سيرين! لكن الذي يظهر والله أعلم أن ابن سيرين كان له اشتغال بالرؤى كثيرا، وقد فسرت وأول وكتبت, لكن جاء بعض الناس وزاد على هذا الكتاب أشياء، لأن الكتاب قديم, وله نسخ مخطوطة كثيرة.

    قال: «كنا عند أبي هريرة ] وأرضاه وعليه ثوبان ممشقان» ممشقان يعني: مصبوغان بالمشق, والمشق هو الطين الأحمر.

    قوله: «من كتان»: وهو نبات معروف تصنع منه الثياب.

    قوله: «فتمخط فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان» وهذا بعد النبي [, وبعد أن حصل الرخاء, كثرت الأموال وفتحت, وبسطت الدنيا على الصحابة رضي الله عنهم بعد الضيق والشدة التي كانوا بها.

    قوله: «فقال: بخ بخ» هذه الكلمة تقال للتعجب, وتقال أيضا للفرح، وفيها لغات.

    قوله: «لقد رأيتني» هو يحكي حاله من قبل في زمن النبي [، حيث الحاجة والفقر هي الغالبة على حال الصحابة رضوان الله عليهم.

    قوله: «وإني لأخرَّ فيما بين منبر رسول الله [ إلى حجرة عائشة مغشيا علي» أي: وهو مكان القبر الشريف الآن.

    قوله: «فيجيء الجائي» أي: فيأتي الرجل من الناس» فيضع رجله على عنقي, ويرى أني مجنون «يعني: يظن أني مجنون ولهذا أصرع, وما بي من جنون, ما بي إلا الجوع»، فهو - رضي الله عنه وأرضاه - من شدة الجوع كان يخر مغشيا عليه، حتى يظن بعض الناس الذين يرونه مغشيا عليه، أن به صرعا من الجنون، فيضع رجله عليه, وما كان به من جنون, وإنما سبب وقوعه مغشيا عليه هو الجوع الشديد.

    وهذا فيه بيان ما كان عليه أبو هريرة ] خاصة من الصبر على الجوع الشديد وقلة الطعام, والفقر والشدة من أجل ملازمة النبي [ في طلب العلم الشرعي, والحرص على مجالسة النبي [، وسماع الحديث النبوي منه، أي: إنه ترك السعي وراء الدنيا, والمعاش حرصا على ملازمة رسول الله [ وسماع أقواله كلها، فجوزي على ذلك بما انفرد به من كثرة الحديث عن رسول الله [، ونقله لأحاديثه حتى صار أكثر الصحابة حفظا, وهو راوية الإسلام بحق؛ فالمنقول عن أبي هريرة في الكتب الستة وغيرها يفوق الخمسة آلاف حديث، في حين أن أكثر الصحابة حديثا كأنس وابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم، لا يزيد حديثه على ألفين وكسر من الأحاديث.

    ولهذا كثرت الطعون على هذا الصحابي الجليل من أعداء الإسلام والحاسدين، وكثر الكلام على ما نقله من الحديث النبوي الشريف, ووجهوا الاتهام له بالكذب, وهو ] وأرضاه بعيد عن ذلك كله, فأعداء الإسلام قديما وحديثا خاضوا في عرض هذا الصحابي الجليل، واتهموه بافتراء الكذب على النبي [؛ من أجل أن يسقطوا السنة النبوية وأحكامها, ومعلوم أن الطعن في الصحابة طريق الزنادقة والملاحدة، كما قال أبو زُرعة الرازي رحمه الله: هم يريدون أن يجرحوا شهودنا, والجرح بهم أولى، وهم زنادقة، وإنما نقل لنا الإسلام والسنة النبوية الصحابة.

    يعني: إذا جرحوا الصحابة سقطت شهادتهم، وبذلك تسقط أحكام الإسلام التي نقلوها، وتندثر السنن، ويضيع الدين, وهذا هو مقصود الزنادقة والمنافقين قديما وحديثا, وفي هذا العصر أيضا كثرت المؤلفات والكتب من المؤلفين الحاقدين والمندسين بين أهل الإسلام وغيرهم من أهل الفرق المنحرفة، والطاعنين على أصحاب رسول الله [ وحملة الآثار والأحاديث؛ لصد الناس عن سبيل الله والاستقامة على دينه.


    والمقصود من هذا الحديث: أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه لما صبر على الشدة والجوع وشظف العيش بالمدينة النبوية، جازاه الله تعالى بما انفرد به من كثرة الحديث المحفوظ عنه [ ونشره بين الناس.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (43)

    الإجماع وعمل أهل المدينة (2)


    الشيخ.محمد الحمود النجدي


    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    الحديث الرابع:

    7325 – حدثنا محمد بن كثير: أخبرنا سفيان, عن عبدالرحمن بن عابس قال: سئل ابن عباس: أشهدت العيد مع النبي [؟ قال: نعم, ولولا منزلتي منه ما شهدته من الصغر, فأتى الَعَلَم الذي عند دار كثير بن الصلت, فصلى ثم خطب, ولم يذكر أذانا ولا إقامة, ثم أمر بالصدقة, فجعل النساء يُشرن إلى آذانهن وحُلوقهن, فأمر بلالا فأتاهن ثم رجع إلى النبي [. (طرفه في: 977).

    الشرح:

    الحديث الرابع في هذا الباب: باب ما ذكر النبيُّ [ وحضّ على اتفاق أهل العلم, وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة, وما كان بهما من مشاهد النبي [ والمهاجرين والأنصار, ومصلى النبي [ والمنبر والقبر. حديث عبد الرحمن بن عابس وهو ابن ربيعة النخعي الكوفي، تابعي ثقة. عن ابن عباس رضي الله عنه لما سئل: «أشهدت العيد مع النبي [؟ قال: نعم، ولولا منزلتي منه ما شهدته من الصغر» إشارة من ابن عباس أن صغير أهل المدينة وكبيرهم، ورجالهم ونساءهم بل وخدمهم، ضبطوا العلم معاينة عن النبي [ في مواطن عملية أخذوها عنه مشافهة، وليس لغيرهم من الناس هذه المنزلة.


    قوله: «ولولا منزلتي منه ما شهدته من الصغر» أي: لصغر سنه، حضر موعظة النساء، وضبطه يدل على ذكائه وحفظه.

    وقال بعض أهل العلم: قوله: «ولولا منزلتي منه ما شهدته من الصغر» أن ابن عباس قصد أنه أخذ بعض كلامه [ وحاله من أهله، فهو ابن عمه أولا، وميمونة رضي الله عنها زوج النبي [ خالته، وهذا أيضا مما قربه إلى مجلس النبي [ , إذ كان يدخل عليه في بيت خالته ميمونة كما جاء في الحديث: «بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي [ يصلي من الليل فقمت معه «الحديث عند البخاري, فحظي بمجالس للنبي [ خاصة.

    فلهذا وصل إلى هذه المنزلة في العلم، ثم هو صحابي ممن شاهد وعاصر.

    ثم ذكر فعله [ فقال: «فأتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت» العلم: بفتحتين هو الشاخص الذي جعلوه علامة يعرف به المصلى، ودار كثير بن الصلت بنيت بعد العهد النبوي، واشتهرت باسمها، والغرض منه ذكر موضع المصلى النبوي للعيد بالمدينة النبوية.

    قوله: «فصلى» يعني: في مصلى العيد ثم خطب ولم يذكر أذانا ولا إقامة؛ لأن صلاة العيد لا أذان فيها ولا إقامة , هذه هي السنة النبوية.

    قوله: «ثم أمر بالصدقة، فجعل النساء يشرن إلى آذانهن وحلوقهن» يعني: جعل النساء يأخذن بأيديهن من أقراطهن إلى آذانهن، أي: إلى الأقراط التي تعلق بالآذان عند النساء «وإلى حلوقهن» يعني: إلى القلائد التي في الرقاب، أي: إنهن رضي الله عنهن لما دعاهن رسول الله [ إلى الصدقة والإنفاق، بادرن إلى التصدق من حليهن وذهبهن, ولم يؤخرن الاستجابة لله والرسول [.

    «فأمر النبي [ بلال فأتاهن ثم رجع إلى النبي [»، أمر بلالا أن يجمع ما ألقين من الحلي والقلائد وغيرها, وجاء به إلى النبي [.

    هذا الحديث الغرض منه ذكر ما اختص به أهل المدينة من وجود المصلى النبوي عندهم, وأن أهل المدينة لهم مصلى للعيد يصلون به العيد, وهذه سنة النبي [، فلم يكن يصلي العيد بالمسجد، مع أن مسجده [ من أشرف المساجد والصلاة فيه بألف صلاة, إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يصلي به العيد، بل كان يخرج للصلاة خارج المسجد, وما ذاك إلا لأن الشرع جاء بإحياء صلاة العيد خارج المسجد.

    وقول ابن عباس: «لولا مكاني من الصغر ما شهدت»، فيه أيضا: فضل أهل المدينة, وأن هذا الفضل لا يختص بالكبير وحده، بل يعم الكبير والصغير والنساء والخدم والعبيد وغيرهم؛ لأن هؤلاء كلهم ضبطوا العلم عنه [، وعاينوا المصطفى [, وما كان يفعل بالمدينة وأفعاله وعباداته وسمع أقواله, فهذا فيه فضل لهم.

    يعني أن هذا الفعل ليس خاصا بكبار الصحابة, بل كل من كان في المدينة في عهده [ رأى النبي [ لكن ابن عباس يختص بمزيّتين: أولاهما: أنه ابن عم النبي [, فالعباس أبوه, وعم النبي [.

    وثانيتهما: أن خالة ابن عباس هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية, أخت أم ابن عباس. فالمقصود أن أهل المدينة لهم من الخصائص ما لا يشاركهم فيه من بعدهم, وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء, والله ذو الفضل العظيم.

    الحديث الخامس:

    قال البخاري رحمه الله:

    7326 - حدثنا سفيان, عن عبدالله بن دينار, عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي [ كان يأتي قباء ماشيا وراكبا. (طرفه في: 1191).

    الشرح:

    الحديث الخامس حديث ابن عمر ] , يرويه البخاري رحمه الله عن شيخه أبي نعيم وهو: الفضل بن دكين الكوفي، مشهور بكنيته, ثقة ثبت. قال: حدثنا سفيان وهو ابن عيينة, عن عبدالله بن دينار هو التابعي الجليل, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي [ كان يأتي قباء ماشيا وراكبا.

    المقصود من هذا الحديث أن النبي [ كان يعاينه الصحابة ماشيا وراكبا في تنقلاته المختلفة, ومنها ذهابه لمسجد قباء ماشيا، وهو مشهد من المشاهد التي لا يراها إلا من كان عنده بالمدينة, هذا هو المقصود، فإن هذا المشهد , وهو خروجه [ إلى الصلاة في مسجد قباء, وهو أول مسجد أسس في الإسلام, هذا المشهد لا يراه إلا أهل المدينة فهو خصيصة وفضل لأهل المدينة، لا يشاركهم فيه غيرهم.

    الحديث السادس:

    قال البخاري رحمه الله:

    7327 – حدثنا عبيد بن إسماعيل: حدثنا أبو أسامة, عن هشام, عن أبيه, عن عائشة: قالت لعبدالله بن الزبير: ادفنّي مع صواحبي, ولا تدفني مع النبي [ في البيت؛ فإني أكره أن أزكَّى. (طرفه في: 1391).

    الشرح:

    الحديث السادس وهو حديث عائشة رضي الله عنها, يرويه البخاري عن عبيد بن إسماعيل وهو القرشي الهباري، ثقة، عن أبي أسامة وهو حماد بن أسامة القرشي مولاهم، مشهور بكنيته، ثقة ثبت. عن هشام وهو ابن عروة بن الزبير, عن أبيه عروة, عن عائشة رضي الله عنها، وهي خالته؛ لأن أمه هي أسماء بني أبي بكر رضي الله عنهما.

    قالت عائشة لعبدالله بن الزبير - وهو ابن أختها -: «ادفني مع صواحبي» صواحبي جمع صاحبة، تريد أزواج النبي [. يعني: ادفني بمقبرة البقيع, مع بقية أزواج النبي [ أمهات المؤمنين.

    قولها: «ولا تدفني مع النبي [ في البيت، فإني أكره أن أزكى» أي: لا أحب أن يثني علي أحدٌ بما ليس فيَّ, بل بمجرد كوني مدفونة مع النبي [ دون سائر نسائه؛ فإني إذا دفنت مع النبي [ في الحجرة التي دفن فيها, وهو بيتها أصلا, فإن الناس سيظنون أني خصصت بهذا الفضل دون سائر أزواجه [.

    وهذا من العجب الذي لا ينقضي! كيف أن عائشة رضي الله عنها تواضعت هذا التواضع البليغ، وكرهت أن تزكى وأن تمدح بأنها دفنت مع النبي [ في حجرته, وفرت من هذا المقام خشية أن يظن بها أنها أفضل أزواج النبي [ مطلقا! مع أنها من أفضل نسائه، وأحبهن إلى رسول الله [، ولكنه التواضع.

    وقد اختلف في التفضيل بينها وبين خديجة رضي الله عنها, فقال بعض العلماء: إن خديجة أفضل من عائشة, وقال آخرون: إن عائشة أفضل من خديجة, وعلى كل حال فإن عائشة أفقه من خديجة بلا شك؛ لأن خديجة ماتت أول الإسلام تقريبا, ولمّا تنزل بقية أحكام الشريعة والدين, ولما تثبت السنن وتستقر, وعائشة رضي الله عنها أيضا ماتت بعد النبي [ , وقد ملأت الدنيا علما وفقها وحديثا, بل إنها كانت تحكم بين الصحابة فيما كانوا يختلفون فيه من المسائل الفقهية, ولا سيما السنن البيتية، وقضايا الطهارة، كما جاء في الصحيح: أن الصحابة كانوا إذا اختلفوا في شيء، رجعوا إلى أم المؤمنين عائشة، فيجدون عندها علما، فرحمها الله تعالى رحمة واسعة ورضي عنها، وانتقم ممن طعن عليها بالزور والباطل، ورماها بالبهتان العظيم، من المنافقين وأشباههم إلى يوم الدين.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (44)

    -الإجماع وعمل أهل المدينة (4)


    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    الحديث السابع:

    7328 – وعن هشام عن أبيه: «أن عمر أرسل إلى عائشة: ائذني لي أن أدفن مع صاحبيّ، فقالت: إي والله، قال: وكان الرجل إذا أرسل إليها من الصحابة قالت: لا والله، لا أوثرُهم بأحدٍ أبدا».

    الشرح:

    الحديث السابع في الباب: قال البخاري: وعن هشام عن أبيه، وهو هشام بن عروة ابن الزبير، وهو موصول بالسند الذي قبله، وعروة لم يدرك زمن إرسال عمر إلى عائشة، لكنه محمول على أنه سمعه من عائشة.

    قوله «أن عمر أرسل إلى عائشة: أن ائذني لي أن أدفن مع صاحبيّ « صاحبي: بالتثنية، أي: مع رسول الله [ وأبي بكر، وهذا جاء مطولا في قصة مقتل أمير المؤمنين عمر ] وأرضاه؛ فإنه لما طعن أرسل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يستأذن، وقال للرسول: قل لعائشة: إن عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، ولا تقل لها: إن أمير المؤمنين يستأذن، فإني اليوم لست أميرا للمؤمنين، فجاء الرسول إلى عائشة رضي الله عنها، وبلّغها مطلب عمر رضي الله عنه، فقالت: إي والله، وكلمة (إي) عند العرب تعني: نعم، وجاءت هذه اللفظة في كتاب الله تبارك وتعالى جارية على لغة العرب في خطابهم في قوله سبحانه: {وَيَسْتنبئونك أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (يونس: 53).

    قوله: «فقالت عائشة - وهي تأذن للرسول -: إي»، أي: نعم لا بأس، إني راضية في أن يدفن عمر في الحجرة النبوية، «وكان الرجل إذا أرسل لها من الصحابة قالت: لا والله، لا أوثرهم بأحد أبدا». يعني كانت عائشة رضي الله عنها إذا استؤذنت في أن يدفن أحد مع أبي بكر وقبله مع رسول الله [، لا تأذن في ذلك، ولا تؤثر أحدا على نفسها في القرب من النبي [ وأبيها، ثم إن عائشة رضي الله عنها كرهت أن تدفن معهم؛ خشية أن يظن أحد أنها من أفضل الصحابة بعد النبي [ وصاحبيه، وأنها أفضل أزواج النبي [ كما مر معنا، ولهذا دفنت بالبقيع مع بقية أزواج النبي [ رضي الله عنهن جميعا.

    وسأل هارون الرشيد رحمه الله الإمام مالك رحمه الله عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي [ في حياته؟ فقال الإمام مالك: كمنزلتهما منه بعد مماته. يعني: إذا أردت أن تعرف منزلة أبي بكر وعمر من النبي [، فإن منزلتهما منه [ في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته.

    فالإمام مالك زكّى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بقربهما منه في البقعة المباركة، وفي التربة التي دفنوا فيها جميعا؛ فاستدل بذلك على أنهما أفضل الصحابة باختصاصهما به.

    والحديث أيضا مما يدل على مزايا المدينة، وفضل من جاور بالمدينة كما هو ظاهر.

    الحديث الثامن:

    قال البخاري:7329 – حدثنا أيوب بن سليمان: حدثنا أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن صالح بن كيسان: قال ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك: أن رسول الله [ كان يصلي العصر، فيأتي العوالي، والشمس مرتفعة. وزاد الليث عن يونس: وبُعد العَوالي أربعة أميال أو ثلاثة. (طرفه في: 548).

    الشرح:

    الحديث الثامن في الباب حديث أنس رضي الله عنه، يرويه البخاري من طريق شيخه أيوب بن سليمان وهو ابن بلال القرشي المدني ثقة. عن أبي بكر بن أبي أويس، وهو عبد الحميد بن عبد الله الأصبحي، مشهور بكنيته، ثقة. عن سليمان بن بلال وهو التيمي مولاهم، ثقة. عن صالح بن كيسان وهو المدني، أبو محمد، ويقال: أبو الحارث، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقة ثبت فقيه، فالسند كله مدنيون.

    عن أنس: أن رسول الله [ كان يصلي العصر فيأتي العوالي والشمس مرتفعة.

    ما وجه إيراد البخاري رحمه الله لهذا الحديث في هذا الباب الذي هو باب فضل المدينة وكونها مأوى النبي [ والمهاجرين والأنصار؟ ذكر المهلب: أن هذا الحديث تستطيع أن تعرف منه وقت صلاة العصر، ومتى كان النبي [ يصلي العصر؛ لأنه [ كان يصلي العصر في مسجده فيأتي عوالي المدينة، وهي تبعد عن مسجده أربعة أميال، والشمس لا تزال مرتفعة، يعني: لا تزال بيضاء غير نازلة ولا مصفرة، فبهذا الحديث تستطيع أن تعرف به مقدار الوقت الذي كان يصلي فيه النبي [ صلاة العصر، فتمشي عليه.

    وهذا المعنى لا يوجد في أي بلد من العالم إلا في المدينة النبوية؛ لأن الرسول [ كان يصلي بها. ولم يقو هذا القول الحافظ ابن حجر، بل قال: فيه تكلف ! إنما كأنه على مثل الحديث السابق، وهو أنه [ كان يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا، فيكون المقصود منه أن النبي [ كان أيضا يراه من كان في طريقه إلى العوالي، والعوالي منطقة قريبة من المدينة كما ذكرنا.

    الحديث التاسع:

    قال البخاري:7330 – حدثنا عمرو بن زرارة: حدثنا القاسم بن مالك، عن الجعيد: سمعت السائب بن يزيد يقول: كان الصاع على عهد النبي [ مدا وثلثا بمدكم اليوم، وقد زيد فيه. (طرفه في: 185).

    الحديث العاشر:

    7331 – حدثنا عبدالله بن مسلمة، عن مالك، عن إسحاق بن عبدالله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك: أن رسول الله [ قال: «اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم ومدهم «. يعني أهل المدينة. (طرفه في: 2130).

    الشرح:

    الحديث التاسع يرويه البخاري عن شيخه عمرو بن زرارة وهو ابن واقد الكلابي أبو محمد النيسابوري، ثقة ثبت. والقاسم بن مالك هو المزني، ثقة، وثقه الجمهور وليّنه بعضهم. عن الجعيد، ويكبَّر فيقال: الجعد وهو ابن عبد الرحمن بن أوس الكندي ويقال: التميمي، ثقة.

    عن السائب بن يزيد ] قال: كان الصاع على عهد النبي [ مدا وثلثا بمدكم اليوم، وقد زيد فيه.

    والصاع أربعة أمداد، والمد قدر ملء كفي الرجل المعتدل.

    فهذا الحديث فيه أن قدر الصاع هو ما اجتمع عليه أهل المدينة النبوية، فالصاع الشرعي إذاً هو صاع أهل المدينة، واستمر العمل على اعتباره، وإن كان قد زاد فيه بنو أمية في العهد الأموي.

    وأيضا: فيه تقدير الأنصبة الشرعية المقدرة بالصاع، بصاع أهل المدينة، وأن المرجع في تقدير نصاب الزكاة مثلا للزروع، وهو خمسة أوسق - والوَسَق ستون صاعاً - وأيضا تقدير الكفارات وغيرها بالأصواع.

    فالمرجع في تقدير الصاع، هو صاع أهل المدينة، فهذا ما قصد البخاري رحمه الله التنبيه عليه، وأن المعتبر شرعا هو الصاع النبوي الذي كان عند أهل المدينة.


    والحديث العاشر:

    أما سنده فقد مر معنا، وهو حديث أنس في الدعاء لأهل المدينة بالبركة في صاعهم ومدهم، فالرسول [ خصّ أهل المدينة بأن دعا لهم بالبركة في صاعهم ومدهم؛ مما دفع كثيرا من الخلق إلى قصدهم من أجل هذه البركة، وأنه [ جعل صاعهم معيارا للمقادير الشرعية التي ذكرناها, وأن من تبع أهل المدينة في تقدير صاعهم فقد أدى ما فرضه الله عليه؛ إذ لا غنى لأهل الأرض عن صاع أهل المدينة، وتقديرهم له، وهذا مما خص الله تبارك وتعالى به أيضا أهل المدينة.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •