شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (47)
الشيخ.محمد الحمود النجدي
الإجماع وعمل أهل المدينة (7)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الحديث الخامس عشر:
قال البخاري رحمه الله:
7336 – حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا جويرية, عن نافع, عن عبدالله قال: سابق النبي [ بين الخيل, فأرسلت التي ضمرت منها, وأمدها إلى الحفياء إلى ثنية الوداع, والتي لم تضمر أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق, وإن عبدالله كان فيمن سابق. (طرفه في: 42).
الشرح:
الحديث الخامس عشر يرويه المصنف عن شيخه موسى بن إسماعيل وهو التبوذكي, عن جويرية وهو ابن أسماء الضبعي البصري, ثقة وقصر الحافظ فقال: صدوق, ولا يعلم فيه جرح. عن نافع وهو أبو عبدالله المدني, ثقة ثبت فقيه مشهور.
عن عبدالله بن عمر الصحابي الجليل قال: سابق النبي [ بين الخيل فأرسلت التي ضمرت منها, وأمدها إلى الحفياء إلى ثنية الوداع, والتي لم تضمر أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق, وإن عبدالله كان فيمن سابق.
يخبر عبدالله بن عمر أن النبي [ أجرى سباقا بين الخيل بالمدينة, والخيل كما تعلمون, كانت وسيلة الجهاد العظيمة في ذلك الوقت, ومركوب الغزاة في سبيل الله تعالى, يحققون على ظهورها النصر للإسلام, والعزة للمسلمين, والحماية لدار الإسلام والمسلمين, بل لشرف هذه الخيل - خيل المجاهدين والغزاة - أقسم الله تبارك وتعالى بها في آيات من كتابه فقال: {وَالْعَادِيات ضَبْحًا} {العاديات}: أي الخيل التي تعدو وتجري, {ضبحا} يعني: صوت نَفََسَ الخيل إذا ركضت, وكذا قوله {فَالْمُورِيات قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} (العاديات: 2-5) وهذا كله قسم بخيل المجاهدين والغازين في سبيل الله وأحوالها.
والإسلام لا يعارض الرياضة بكل أحوالها وأشكالها, إنما دعا إلى الرياضة النافعة التي فيها نفع للإنسان في بدنه وصحته وعافيته, ونفع لأهل الإسلام؛ ولهذا جاء الحث من النبي [, ومن الخلفاء الراشدين بعده على تعلم ركوب الخيل؛ لأنها كما قلنا كانت مركوب الجهاد وآلته, وعلى تعلم السباحة, وتعلم الرمي؛ يقول [: « كل لهو باطل, إلا تعلم الرجل السباحة, وركوبه الخيل, ومشيه بين الغرضين, ومداعبته لأهله «.
وأيضا ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل.
وأيضا كان عمر رضي الله عنه يقول لابن عباس: تعال أباقيك تحت الماء. يعني: يأخذ نفسا وينزل تحت الماء وينظر أيهما يبقى في الماء أكثر، وهو نوع من الرياضة والتمرين. وكان الصحابة يتسابقون على الأقدام, بل إن النبي [ سابق عائشة كما في الصحيح, فهذه الرياضات النافعة هي مما ينتفع بها الإنسان في نفسه, وينفع بعد ذلك بها أمته في جهادها لأعدائها, ولو نظرنا نظرة عابرة اليوم إلى الرياضات الموجودة, لرأينا أن أكثرها لا فائدة منه, بل هو بعيد كل البعد عن الإسلام وشريعته, ونهج النبي [ وسنته, فرياضة المصارعة التي ورد أن الصحابة كانوا يتصارعون أحيانا, وورد أن النبي [ صارع أعرابيا يسمى ركانة, لو نظرنا إلى هذه الرياضة اليوم لرأينا أنها يتعرى فيها المصارعون! إلا من ملابس لا تكاد تستر السوءة, وهناك رياضات تخالف الشرع كرياضة الملاكمة؛ لأنها قائمة على لكم الوجه ولطمه, والرسول [ قد نهى عن ذلك بقوله [: « إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه « متفق عليه.
وإذا رأينا رياضة السباحة رأينا فيها تعري الرجال, وإذا كان الأمر بالنسبة للنساء فهو أشد وأشد, ثم إن رياضات النساء التي تنتشر اليوم على اختلاف أشكالها وصورها, تنقل للأسف الشديد على شاشات الفضائيات في بيوت المسلمين اليوم؟ ويشاهدها ملايين الرجال؟! فهذه رياضات قصدها الفساد والإفساد, لا الفائدة والنفع للمسلم وأمته, فالمرأة فيها لا تلبس إلا القليل من الثياب! التي ربما لا تستر إلا السوءة! ثم تقوم برياضة (الجمباز) أو ما يسمونه زورا برياضة (الباليه)! أو رياضة التنس الأرضي – الإسكواش – التي تلبس فيه المرأة الشورت القصير؟! فكلها رياضات للأسف الشديد تحارب الخلق الكريم, وتدعو إلى الرذيلة والتفسخ وكشف العورات, وتنشر الفساد في ديار الإسلام والمسلمين, بين الأبناء والبنات، وإذا تكلمنا في هذا الأمر قالوا: إن هذا إنسان جامد, أو إنسان رجعي, لا يعرف ولا يقدر قيمة الرياضة!
فالرسول [ كما في هذا الحديث سابق بين الخيل في المدينة, وجعل السباق على نوعين: سباق للخيل المضمرة, وهي الخيل التي حصل لها التضمير, وهو تقليل الطعام وتجليل الجسد, أي وضع الجِلال وهي الثياب التي توضع على بدن الحصان فيعرق ويذهب عنه الشحم, فلا يبقى فيها إلا العضل, ويكون بعد ذلك سريعا جدا، فالخيل المضمرة جعل لها النبي [ أمدا أطول من أمد الخيل التي لم تضمر، أي: التي بقيت على حالها؛ لأن قدرتها في الجري أقل.
وفي الحديث: أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان فيمن سابق وشارك في ذلك السباق.
الحديث السادس عشر:
قال البخاري:
7337 – حدثنا قتيبة, عن ليث, عن نافع, عن ابن عمر، ( ح ): وحدثني إسحق، أخبرنا عيسى بن إدريس, وابن أبي غنية, عن أبي حيان, عن الشعبي, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت عمر على منبر النبي [. (طرفه في: 4619).
الحديث السابع عشر
7338 – حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب, عن الزهري: أخبرني السائب بن يزيد: سمع عثمان بن عفان خطبنا على منبر النبي [.
الشرح:
الحديث السادس عشر يرويه البخاري رحمه الله تعالى بإسنادين: الإسناد الأول من طريق قتيبة, وهو ابن سعيد بن جميل, أبو رجا البَغلاني, ثقة ثبت, وأحد أئمة الحديث. قال عن ليث, وهو ابن سعد، أبو سعد الفهمي المصري عالم مصر ومفتيها في زمنه, كان يقرن بالإمام مالك رحمه الله في العلم والفقه، وكان له مذهب وأتباع. قال: عن نافع عن ابن عمر (ح), وحرف (ح) هذا اختصار لكلمة: تحويل, أي: أن المحدث سيحدث بهذا الحديث من طريق آخر غير الطريق السابق. قال البخاري: وحدثنا إسحاق, وهو ابن إبراهيم بن راهويه الإمام المشهور, قال أخبرنا عيسى وابن إدريس, وابن أبي غنية, ابن إدريس هو عبدالله ابن إدريس الأودي الكوفي, ثقة فقيه عابد, وابن أبي غنية هو يحيى بن عبدالملك الخزاعي, صدوق.
عن أبي حيان واسمه يحيى بن سعيد بن حيان التيمي, ثقة عابد, قال: عن الشعبي، ومضى معنا, قال: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت عمر على منبر النبي [.
والحديث الذي بعده قال البخاري فيه: حدثنا أبو اليمان, وهو الحكم بن نافع, أخبرنا شعيب وهو ابن أبي حمزة عن الزهري قال: أخبرنا السائب بن يزيد أنه سمع عثمان بن عفان خطيبا على منبر النبي [.
والمقصد من سرد هذين الحديثين بيان أن المنبر واستعماله, سنة نبوية متبعة, وكان معروفا عند الخلفاء الراشدين بعد رسول الله [, فالخطابة على المنبر من السنن النبوية, ولا سيما في الأمور المهمة؛ إذ بالمنبر يمكن للخطيب إيصال الموعظة والتذكير, وإيصال الحديث والكلام يحصل إذا أشرف الخطيب على المنبر.
وأشار البخاري رحمه الله في هذين الحديثين إلى المنبر النبوي, وأن المنبر النبوي بقي إلى عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما لم يتغير بزيادة ولا نقص, وكانا يقومان على منبر النبي [ خطيبين فيما تحتاجه الأمة, فهذا كان عملهما واتباعهما لسنة المصطفى [.
وجاء أيضا في غير هذا الموضع أن المنبر النبوي بقي على حاله أزمانا طويلة, إلى أن زاد فيه بعض الخلفاء في عدد درجاته, وفي حجمة, وارتفاعه.
وقد كان منبره [ ثلاث درجات يصعد الخطيب الدرجة الأولى, ثم الدرجة الثانية, ثم يقف على الدرجة الثالثة, وهذا يدل على أن منبر النبي [ لم يكن عاليا علوا زائدا عن العادة؛ لأن هذا العلو يعني ارتفاع الخطيب ارتفاعا زائدا عن قدر الحاجة, وأيضا يستدعي في كثير من الأحيان أن يمتد المنبر ويطول فيقطع الصف الأول! لأجل امتداد الدرجات, فما كان منبره [ إلا ثلاث درجات, لا يزاد عليه, وهذه هي السنة النبوية, والحمد لله أن وزارة الأوقاف أخذت بهذا وعممته على المساجد التي تتولى الإشراف على بنائها, لكن بعض الناس إذا بنوا المسجد لا يدرون ما السنة! ولا يستشيرون أهل العلم فيبنون المنبر أعلى من المطلوب!
وأيضا من البدع التي حصلت ونراها في هذه الأيام كون المسجد له منبران منبر عن اليمين, ومنبر عن الشمال! وهذا من البدع المحدثة التي لا أصل لها, وإنما أحدثها من أحدثها بقصد الزينة وتزيين المسجد بزعمه! إذ يقول: كيف يكون المسجد له منبر عن اليمين مزخرف ويكون الجانب الأيسر بلا منبر مزخرف, فجعل في الجانب الأيسر أيضا منبرا مزخرفا.