تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 30 من 30

الموضوع: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    -شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (45)

    -الإجماع وعمل أهل المدينة (5)


    الشيخ.محمد الحمود النجدي


    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    الحديث الحادي عشر:

    قال البخاري رحمه الله:

    7332 – حدثنا إبراهيم بن المنذر: حدثنا أبو ضمرة: حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع عن ابن عمر: أن اليهود جاءوا إلى النبي [ برجل وامرأة زنيا؛ فأمر بهما فرُجما، قريبا من حيث توضع الجنائز عند المسجد. (طرفه في: 1329).

    الشرح:

    الحديث الحادي عشر روى فيه البخاري رحمه الله تعالى عن شيخه إبراهيم بن المنذر وهو ابن عبدالله الأسدي الحزامي، صدوق تكلم فيه الإمام لأجل القرآن، عن أبي ضمرة وهو أنس بن عياض المدني ثقة، عن موسى بن عقبة وهو ابن أبي عياش الأسدى، ثقة فقيه إمام في المغازي، وهو صاحب كتاب (المغازي)، ووجد منه أجزاء مخطوطة كمغازي الإمام ابن إسحاق.

    قال: عن نافع وهو أبو عبدالله المدني، مولى ابن عمر ثقة ثبت فقيه مشهور. قال: عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاءوا إلى النبي [ برجل وامرأة زنيا؛ فأمر بهما فرجما قريبا حيث توضع الجنائز عند المسجد.

    في هذا الحديث إثبات حدّ الرجم بسنة رسول الله [ الفعلية، والرجم فريضة أنزلها الله تبارك وتعالى في آية من كتابه من سورة الأحزاب، وهي قوله «والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجمهما ألبته نكالا من الله والله عزيز حكيم» ثم نسخت تلاوة هذه الآية، وبقي حكمها، وقد أورد الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث للتدليل على أن الرجم ذكر في القرآن في آية، ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها، وخطب عمر ابن الخطاب ]، وهو المحدَّث الملهم فقال: إن الرجم في كتاب الله تعالى حق، نزلت آية الرجم فقرأناها ووعيناها، فيوشك أن يضل قومٌ بترك فريضة أنزلها الله تبارك وتعالى في كتابه، فيقولوا: لا نجد الرجم في كتاب الله! وقد رجم رسول الله [ ورجمنا بعده.

    فإذاً الرسول [ قد رجم، ورجم الخلفاء من بعده.

    ومن الأدلة من السنة على وقوع الرجم هذا الحديث؛ إذ رجم رسول الله [ الزانيين من اليهود، وأيضا جاء في (صحيح مسلم): عن عبادة بن صامت أن النبي [ قال: « خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهم سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».

    وثبت في (صحيح مسلم) أيضا: عن علي رضي الله عنه: أنه لما زنت شُراحة، وكانت محصنة جلدها مائة جلدة ورجمها في اليوم التالي، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله [.

    فالرجم إذاً ثابت في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، وهذه الحادثة أيضا التي حدثت في عهد النبي [، هي من الأدلة على ثبوت الرجم لمن أحصن، والمحصن: هو من ثبت له الدخول بزوجة بعقد صحيح، فإن وقع في الزنى بعد ذلك، فصاحبه مستحق للرجم حتى يموت.

    واليهود لما حصلت عندهم هذه الحادثة، جاءوا إلى النبي [ يتحاكمون إليه، وكانوا يظنون أنه سيخفف عنهم أو يغير لهم حكم الله تعالى، لكن الرسول [ أمر بالزانيين المحصنين أن يرجما، وكان ذلك في مصلى الجنائز الذي اعتاد [ أن يصلي فيه على الجنائز، قريبا من مسجده [. فالحديث هنا لإثبات هذه السنة العملية عنه [، وفيه رد كما قلنا على أهل الأهواء والفرق الضالة من الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا هذه الفريضة.

    الحديث الثاني عشر:

    قال البخاري:

    7333 – حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن عمرو مولى المطلب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله [ طلع له أحد، فقال: « هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها». تابعه سهل عن النبي [ في أحد. (طرفه في: 371).

    الشرح:

    الحديث الثاني عشر يقول فيه البخاري: حدثني إسماعيل، وهو ابن أبي أويس، حدثني مالك، وهو الإمام المشهور، عن عمرو مولى المطلب وهو ابن حنطب عن أنس، الصحابي الجليل المشهور أن رسول الله [ طلع إلى أحد فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه». وهذا قاله عند رجوعه [ من إحدى الغزوات، ويمكن أن يكون عند رجوعه من الحج [، بدا له جبل أحد، وهو جبل كبير بالمدينة طوله ما يقرب من ثمانية كيلو مترات، وارتفاعه حوالي خمسمائة متر.

    وقال [: «جبل يحبنا» فأثبت المحبة للجبل، وهذا كما قال كثير من أهل العلم إن الجمادات جعل الله تبارك وتعالى لها شيئا أو نوعا من الإدراك بأمره سبحانه وتعالى، كما حصل أنين الجذع بمسجده لرسول الله [، وهو جذع نخلة قد قطع ويبس ووضع بالمسجد، ومع ذلك حصل له حنين وصوت كصوت ولد الناقة إذا صاح.

    ومثله أيضا تسليم الحجر عليه [. وذكر أيضا الإمام الحافظ ابن كثير شيئا من الكلام عن هذه المسألة عند قوله تبارك وتعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} (الكهف: 77). فالله سبحانه وتعالى يقول عن الجدار: {يريد أن ينقض} وهذا بأمره سبحانه وتعالى، فنسب للجدار شيئا من الإرادة.

    فجبل أحد من معالم المدينة النبوية، وقال عنه [: « يحبنا ونحبه « أي: نبادله المحبة، وعند جبل الرماة بجبل أحد، حصلت غزوة أحد الشهيرة المذكورة في سورة آل عمران.

    وقوله [: « اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها » فنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حرم مكة، بمعنى: بين للخلق تحريم مكة وأبلغهم ذلك، وإلا فمكة حرمها الله سبحانه وتعالى يوم خلق السموات والأرض، كما قال [: « إن مكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض، ولم يحرمها الناس « فيجمع بين هذا الحديث، وبين قوله [ هاهنا: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة» يعني أن إبراهيم عليه السلام أظهر للناس تحريم مكة، وأبان لهم أن الله عز وجل جعل هذا البلد حراما، ومعنى كونه حراما جاء بيانه وتفصيله في أحاديث أخر، وهو: «أنه لا يصاد صيده، ولا ينفر، ولا يقطع شجره» فالبلد الحرام الأول هو مكة.

    والبلد الثاني الذي حرم على لسان نبينا محمد [، هو المدينة، فهي بلد حرام، لا يصاد صيده، ولا ينفر، يعني: لا يذعر ويطرد عن وكره، أو يجرى خلفه؛ فلا يجوز أن يصطاد المسلم فيه لا طيرا ولا أرنبا ولا غزالا.

    وروى البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «والله لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها، سمعت رسول الله [ يقول: «إنها حرام إنها حرام ، أو إنه حرم ما بين لابتيها».

    فمعنى كون البلد حراما أنه لا يصاد صيده، ولا ينفر أو يذعر.

    أما إذا صيد خارج المدينة ثم جيء به إلى داخل المدينة فلا بأس، واستدل لذلك بحديث أن الرسول [ لما رأى طائرا صغيرا يلعب به أخ صغير لأنس قال له: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ « وهو طائر صغير يقال له: النغير. لكن هذا الطائر صيد خارج المدينة ثم أدخل إلى المدينة.

    وكذلك الشجر، لا يجوز قطعه، وهو الشجر الذي ينبت بنفسه، لا ما استزرعه الإنسان، يعني ما أنبته الإنسان وزرعه من النباتات والثمار والزروع، فهذا يجوز له أن يقطعه، كما يجوز له أن يأكل الدجاج والدواجن التي يربيها، لكن المقصود بالذي لا يقطع من الشجر، الذي ينبت بنفسه.

    ويجب الانتباه إلى أنه لا يثبت حكم الحرمة لسوى مكة والمدينة على وجه الأرض، وقد نبه أهل العلم على خطأ شائع بين المسلمين، وهو قولهم عن المسجد الأقصى - حرره الله بفضله وقوته - يقولون عنه: ثالث الحرمين؟! ويقولون: أولى القبلتين وثالث الحرمين! وهذا خطأ؛ لأنه لم يثبت تحريم أرض بيت المقدس، لا في القرآن ولا في السنة، والصحيح أنه أولى القبلتين كما ورد صحيحا في الحديث.

    وأيضا: بيت المقدس من الأمكنة الشهيرة حيث تنزل الوحي ببيت المقدس مهد الرسالات السماوية السابقة، ولاحظ كيف أن الله سبحانه وتعالى جمع بين الأرضين المباركة المقدسة، التي نزل فيها الوحي في قوله سبحانه وتعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ < وَطُورِ سِينِينَ < وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (التين: 1-3) فالتين والزيتون: شجر يشتهر به بيت المقدس وما حوله، هذا الشجر يكثر نباته في فلسطين وما حولها، وطور سينين : جبل الطور الذي كلم الله سبحانه وتعالى عنده موسى عليه السلام، ونزلت عليه الرسالة فيه. والبلد الأمين: هو مكة، حيث ابتدأ نزول الوحي فيه.

    وقوله: إن الرسول [ «حرم ما بين لابتيها» اللابتان: الحرة الشرقية والحرة الغربية، يعني: ما بين الحرتين، والحرة هي الأرض ذات الحجارة السود.


    قال البخاري رحمه الله تابعه سهل عن النبي [ في أحد، سهل هو ابن سعد الصحابي ]، تابع أنسا في هذا الحديث. ومعنى المتابعة: هي المشاركة في الرواية عن الشيخ نفسه، فإذا قلنا: إن سعد قد تابع أنسا يعني: قد شاركه في الرواية عن النبي [ في هذا الحديث، وبالمتابعات تتقوى الأحاديث ويزداد الاطمئنان واليقين، فإن الخبر إذا نقله اثنان، يكون أقوى من نقل الواحد له، فالخبر الواحد إذا نقله أكثر من واحد، حصل من الطمأنينة بالنقل أكثر مما يحصل بنقل الفرد الواحد، وذلك لأن الفرد الواحد معرض للخطأ وللنسيان وللغفلة، لكن إذا تتابع الرواة على نقل حديث واحد بنصه، حصل للسامع ولصاحب التأليف من أهل الحديث الثقة والطمأنينة، بأن هذا الخبر محفوظ لم يدخله تغيير ولا خطأ ولا نسيان، وقد اعتنى أهل الحديث قديما وحديثا بجمع المتابعات؛ لأنها كما ذكرنا تقوي الأحاديث النبوية، ولاسيما بعض الأسانيد الضعيفة إذا رواها شيخ فيه ضعف من جهة الحفظ والإتقان، فإذا تابعه شيخ آخر قوي خبره، وربما ارتفع الحديث من منزلة الضعيف إلى منزلة الحسن لغيره، وتارة يتقوى الحديث الحسن بغيره فيكون صحيحا لغيره، كما هو معروف في مصطلح الحديث.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (46)

    -الإجماع وعمل أهل المدينة (6)


    الشيخ.محمد الحمود النجدي


    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    الحديث الثالث عشر:

    قال البخاري رحمه الله:

    7334 - حدثنا ابن أبي مريم: حدثنا أبو غسان: حدثني أبو حازم، عن سهل: «أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر ممر الشاة». (طرفه في: 496).

    الشرح:

    الحديث الثالث عشر رواه البخاري -رحمه الله- من طريق شيخه ابن أبي مريم وهو سعيد بن الحكم بن محمد الجمحي، أبو محمد المصري، ثقة ثبت فقيه. عن أبي غسان وهو محمد بن مطرف الليثي المدني، ثقة. عن أبي حازم، وهو سلمة بن دينار الأعرج المدني القاضي، ثقة عابد.

    قال: عن سهل وهو ابن سعد الساعدي الخزرجي رضي الله عنه الصحابي المشهور، له ولأبيه صحبة.

    قوله: «أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة، وبين المنبر ممر الشاة. يعني بقوله: مما يلي القبلة: أي من جهة القبلة، وبين المنبر ممر الشاة. ففي هذا الحديث بيان القدر الذي كان بين جدار المسجد وبين المنبر، فإن سأل سائل: ما القدر بين جدار المسجد الذي هو من جهة القبلة وبين المنبر؟ فالجواب: أن بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر من المسافة، قدر ما تمر فيه الشاة.

    وورد في سنته [: أنه كان يجعل هذا القدر بينه وبين السترة التي يستتر بها في صلاته، فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام يصلي، اتخذ سترة تستره عن المارين قدر ذلك، وهذا العمل من السنن التي هجرها كثير من المسلمين والمسلمات اليوم بجهلهم بالسنة، فتجد أحدهم يصلي في وسط المسجد أو في وسط البيت، والناس يمرون بين يديه، والمرأة تصلي وسط الدار، والصبيان يمرون بين يديها، وهذا خلاف السنة! النبي [ يقول: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها، ولا يدعن أحدا يمر بين يديه، فإن جاء أحدٌ يمر فليقاتله فإنما هو شيطان». رواه أبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان. وقوله: قليقاتله: يعني: ليدفعه وليمنعه من المرور.

    وقال [ في حديث آخر: «لا تصل إلا إلى سترة» بل كان النبي [ في مكة يتخذ السترة، كما جاء في الحديث أنه [ صلى إلى جدار الكعبة.

    والحكمة - كما قال بعض أهل العلم - في اتخاذ السترة، أن الإنسان إذا كان يخاطب عظيما أو ملكا، فإنه يكره كراهية عظيمة أن يقف أحد بينه وبينه، أو أن يمر بينه وبينه؛ لأنه يقطع مناجاته، ويقطع كلامه، وربما يقطع حديثه وخلوته، وكذلك العبد إذا قام يصلي فهو يناجي ربه فيكره أن يمر أحد بين يديه.

    نعم ورد في السنة: أن مرور المرأة البالغة بين المصلي – رجلا كان أو امرأة - وبين موضع سجوده يقطع الصلاة، بخلاف مرور الرجل أو الطفل أو الطفلة فإنهم لا يقطعون الصلاة إذا مروا بين يدي الرجل أو المرأة.

    وإذا قال القائل: لماذا يتخذ الإنسان سترة في موضع لا أحد فيه؟ أو إذا قال قائل: أنا أصلي في غرفة لا يمر فيها أحد بين يدي، فهل يشرع لي استخدام السترة؟ نقول: نعم؛ لأن الرسول [ يقول: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، لا يقطع الشيطان عليه صلاته» فأخبر أن هناك عدوا آخر يخطر بين الإنسان وبين صلاته - يعني يمر بينه وبين صلاته – ألا وهو الشيطان.

    فهذا الحديث فيه تنبيه إلى ما كان عليه الأمر في العهد النبوي من اتخاذ السترة، وتنبيه إلى أن منبر رسول الله [ لم يكن كبيرا، بحيث إنه يقطع الصف الأول، كما ترى ذلك في بعض المساجد القديمة، أن المنبر يتخذ من الخشب ويكون حجمه ضخما بحيث إنه يكاد يقطع الصف الأول والثاني.

    الحديث الرابع عشر:

    قال البخاري رحمه الله:

    7335 – حدثنا عمر بن علي: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي: حدثنا مالك، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله [: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي». (طرفه في: 1196).

    الشرح:

    الحديث الرابع عشر حديث أبي هريرة يرويه البخاري عن شيخه عمر بن علي وهو ابن عطاء المقدمي الواسطي، ثقة وكان يدلس. عن عبدالرحمن بن مهدي، وهو العنبري مولاهم، ثقة ثبت حافظ، من أمراء الحديث النبوي المشهورين بالرواية والعلم، قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه بالحديث. وعبدالرحمن بن مهدي هو الذي أشار على الإمام الشافعي -رحمه الله- بأن يضع له كتابا موجزا في القواعد الفقهية والأصول الفقهية، التي يجب على طالب العلم معرفتها، فكتب له الإمام الشافعي رحمه الله كتاب: (الرسالة) الذي لم تر الدنيا قبله مثله، وكان هذا الكتاب ربما اللبنة الأولى في علم أصول الفقه، ومن بعده أصل عليه العلماء والفقهاء الأصول الفقهية، أو علم ما يسمى بأصول الفقه، وفائدته عظيمة لطالب العلم؛ حيث إنه يعلم الإنسان طريقة الوصول إلى الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة، وقد استهان بعض طلبة العلم في زماننا بهذا العلم، ولم يولوه العناية المطلوبة؛ فحصل منهم الزلل والخطأ في استنباط الأحكام الشرعية.



    قال: عن الإمام مالك، قال: عن خبيب بن عبدالرحمن، وهو ابن خبيب الأنصاري أبو الحارث المدني، تابعي ثقة. عن حفص ابن عاصم، وهو ابن عمر ابن الخطاب، تابعي ثقة. قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله [: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي».

    قوله: «ما بين بيتي ومنبري»، وجاء عند ابن عساكر: «ما بين قبري ومنبري»! ولكنها لفظة لا تصح! إذ كيف يقول النبي [: ما بين قبري، وهو لا يزال حيا؟!

    وورد عند الطبراني: «ما بين بيت عائشة ومنبري، روضة من رياض الجنة». وهذا كأن بعض المحدثين روى هذه اللفظة بالمعنى، أو أن المقصود: ما بين بيتي - الذي هو بيت عائشة الذي أنا فيه الآن – وبين منبري روضة من رياض الجنة.

    ثم اختلف العلماء، ما معنى قول النبي [: «روضة من رياض الجنة»؟

    فقال طائفة من أهل العلم: المقصود بذلك ما كان يعقده عليه الصلاة والسلام من حلق للذكر والعلم والتعليم، روضة من رياض الجنة، كما قال [ في الحديث الحسن: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قالوا: يارسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: «حلق الذكر». رواه أحمد والترمذي، وفيه ضعف.

    فشبه حلق العلم ببساتين الأشجار والأزهار ذات المياه والنضارة.

    فكان مسجد النبي [ آنذاك عامرا بحلق الذكر والعلم، والفتيا، وتلاوة ما أنزل الله سبحانه في كتابه من الآيات والفرائض والأحكام، وكذا الصلوات والطاعات، ويكفي الجالس في تلك المجالس المباركة العظيمة التي لم تر الدنيا قبلها مثلها، ولا بعدها مثلها، يكفي الجالس في تلك المجالس بركة الجلوس مع سيد الخلق [، وشفيع الناس يوم القيامة، وخير من وطئت قدماه الثرى [، والاستفادة من علمه الزاخر، والفوز ببركة صحبته [؛ فإن منزلة الصحبة لا تدانيها منزلة في الدنيا بعد النبيين والمرسلين.

    وقيل: إن الحديث يعني: إن هذا الموضع الذي ذكره رسول الله [ وهو: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» أن هذا الموضع بعينه: ما بين بيت رسول الله [ الذي مات فيه وهو بيت عائشة، وبين منبره، أنه بعينه سينتقل إلى الدار الآخرة، فيكون روضة من رياض الجنة.

    وقيل: هو كروضة من رياض الجنة في تنزل الرحمات للموجود بها.

    وقوله: «ومنبري على حوضي» وهذا على ظاهره، أن منبره [، الذي كان يقوم عليه فيخطب الجمع والأعياد وغيرها في بعض الأوقات، أن هذا المنبر سينصب له [ على حوضه في الدار الآخرة، وهذا من الأخبار الغيبية التي أخبر بها النبي [، ففيه شرف هذه البقعة من المدينة النبوية الشريفة والتي هي من الخصائص التي لا توجد في مكان آخر.

















    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (47)


    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    الإجماع وعمل أهل المدينة (7)

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.


    الحديث الخامس عشر:

    قال البخاري رحمه الله:

    7336 – حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا جويرية, عن نافع, عن عبدالله قال: سابق النبي [ بين الخيل, فأرسلت التي ضمرت منها, وأمدها إلى الحفياء إلى ثنية الوداع, والتي لم تضمر أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق, وإن عبدالله كان فيمن سابق. (طرفه في: 42).

    الشرح:

    الحديث الخامس عشر يرويه المصنف عن شيخه موسى بن إسماعيل وهو التبوذكي, عن جويرية وهو ابن أسماء الضبعي البصري, ثقة وقصر الحافظ فقال: صدوق, ولا يعلم فيه جرح. عن نافع وهو أبو عبدالله المدني, ثقة ثبت فقيه مشهور.

    عن عبدالله بن عمر الصحابي الجليل قال: سابق النبي [ بين الخيل فأرسلت التي ضمرت منها, وأمدها إلى الحفياء إلى ثنية الوداع, والتي لم تضمر أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق, وإن عبدالله كان فيمن سابق.

    يخبر عبدالله بن عمر أن النبي [ أجرى سباقا بين الخيل بالمدينة, والخيل كما تعلمون, كانت وسيلة الجهاد العظيمة في ذلك الوقت, ومركوب الغزاة في سبيل الله تعالى, يحققون على ظهورها النصر للإسلام, والعزة للمسلمين, والحماية لدار الإسلام والمسلمين, بل لشرف هذه الخيل - خيل المجاهدين والغزاة - أقسم الله تبارك وتعالى بها في آيات من كتابه فقال: {وَالْعَادِيات ضَبْحًا} {العاديات}: أي الخيل التي تعدو وتجري, {ضبحا} يعني: صوت نَفََسَ الخيل إذا ركضت, وكذا قوله {فَالْمُورِيات قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} (العاديات: 2-5) وهذا كله قسم بخيل المجاهدين والغازين في سبيل الله وأحوالها.

    والإسلام لا يعارض الرياضة بكل أحوالها وأشكالها, إنما دعا إلى الرياضة النافعة التي فيها نفع للإنسان في بدنه وصحته وعافيته, ونفع لأهل الإسلام؛ ولهذا جاء الحث من النبي [, ومن الخلفاء الراشدين بعده على تعلم ركوب الخيل؛ لأنها كما قلنا كانت مركوب الجهاد وآلته, وعلى تعلم السباحة, وتعلم الرمي؛ يقول [: « كل لهو باطل, إلا تعلم الرجل السباحة, وركوبه الخيل, ومشيه بين الغرضين, ومداعبته لأهله «.

    وأيضا ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل.

    وأيضا كان عمر رضي الله عنه يقول لابن عباس: تعال أباقيك تحت الماء. يعني: يأخذ نفسا وينزل تحت الماء وينظر أيهما يبقى في الماء أكثر، وهو نوع من الرياضة والتمرين. وكان الصحابة يتسابقون على الأقدام, بل إن النبي [ سابق عائشة كما في الصحيح, فهذه الرياضات النافعة هي مما ينتفع بها الإنسان في نفسه, وينفع بعد ذلك بها أمته في جهادها لأعدائها, ولو نظرنا نظرة عابرة اليوم إلى الرياضات الموجودة, لرأينا أن أكثرها لا فائدة منه, بل هو بعيد كل البعد عن الإسلام وشريعته, ونهج النبي [ وسنته, فرياضة المصارعة التي ورد أن الصحابة كانوا يتصارعون أحيانا, وورد أن النبي [ صارع أعرابيا يسمى ركانة, لو نظرنا إلى هذه الرياضة اليوم لرأينا أنها يتعرى فيها المصارعون! إلا من ملابس لا تكاد تستر السوءة, وهناك رياضات تخالف الشرع كرياضة الملاكمة؛ لأنها قائمة على لكم الوجه ولطمه, والرسول [ قد نهى عن ذلك بقوله [: « إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه « متفق عليه.

    وإذا رأينا رياضة السباحة رأينا فيها تعري الرجال, وإذا كان الأمر بالنسبة للنساء فهو أشد وأشد, ثم إن رياضات النساء التي تنتشر اليوم على اختلاف أشكالها وصورها, تنقل للأسف الشديد على شاشات الفضائيات في بيوت المسلمين اليوم؟ ويشاهدها ملايين الرجال؟! فهذه رياضات قصدها الفساد والإفساد, لا الفائدة والنفع للمسلم وأمته, فالمرأة فيها لا تلبس إلا القليل من الثياب! التي ربما لا تستر إلا السوءة! ثم تقوم برياضة (الجمباز) أو ما يسمونه زورا برياضة (الباليه)! أو رياضة التنس الأرضي – الإسكواش – التي تلبس فيه المرأة الشورت القصير؟! فكلها رياضات للأسف الشديد تحارب الخلق الكريم, وتدعو إلى الرذيلة والتفسخ وكشف العورات, وتنشر الفساد في ديار الإسلام والمسلمين, بين الأبناء والبنات، وإذا تكلمنا في هذا الأمر قالوا: إن هذا إنسان جامد, أو إنسان رجعي, لا يعرف ولا يقدر قيمة الرياضة!

    فالرسول [ كما في هذا الحديث سابق بين الخيل في المدينة, وجعل السباق على نوعين: سباق للخيل المضمرة, وهي الخيل التي حصل لها التضمير, وهو تقليل الطعام وتجليل الجسد, أي وضع الجِلال وهي الثياب التي توضع على بدن الحصان فيعرق ويذهب عنه الشحم, فلا يبقى فيها إلا العضل, ويكون بعد ذلك سريعا جدا، فالخيل المضمرة جعل لها النبي [ أمدا أطول من أمد الخيل التي لم تضمر، أي: التي بقيت على حالها؛ لأن قدرتها في الجري أقل.

    وفي الحديث: أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان فيمن سابق وشارك في ذلك السباق.

    الحديث السادس عشر:

    قال البخاري:

    7337 – حدثنا قتيبة, عن ليث, عن نافع, عن ابن عمر، ( ح ): وحدثني إسحق، أخبرنا عيسى بن إدريس, وابن أبي غنية, عن أبي حيان, عن الشعبي, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت عمر على منبر النبي [. (طرفه في: 4619).

    الحديث السابع عشر

    7338 – حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب, عن الزهري: أخبرني السائب بن يزيد: سمع عثمان بن عفان خطبنا على منبر النبي [.

    الشرح:

    الحديث السادس عشر يرويه البخاري رحمه الله تعالى بإسنادين: الإسناد الأول من طريق قتيبة, وهو ابن سعيد بن جميل, أبو رجا البَغلاني, ثقة ثبت, وأحد أئمة الحديث. قال عن ليث, وهو ابن سعد، أبو سعد الفهمي المصري عالم مصر ومفتيها في زمنه, كان يقرن بالإمام مالك رحمه الله في العلم والفقه، وكان له مذهب وأتباع. قال: عن نافع عن ابن عمر (ح), وحرف (ح) هذا اختصار لكلمة: تحويل, أي: أن المحدث سيحدث بهذا الحديث من طريق آخر غير الطريق السابق. قال البخاري: وحدثنا إسحاق, وهو ابن إبراهيم بن راهويه الإمام المشهور, قال أخبرنا عيسى وابن إدريس, وابن أبي غنية, ابن إدريس هو عبدالله ابن إدريس الأودي الكوفي, ثقة فقيه عابد, وابن أبي غنية هو يحيى بن عبدالملك الخزاعي, صدوق.

    عن أبي حيان واسمه يحيى بن سعيد بن حيان التيمي, ثقة عابد, قال: عن الشعبي، ومضى معنا, قال: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت عمر على منبر النبي [.

    والحديث الذي بعده قال البخاري فيه: حدثنا أبو اليمان, وهو الحكم بن نافع, أخبرنا شعيب وهو ابن أبي حمزة عن الزهري قال: أخبرنا السائب بن يزيد أنه سمع عثمان بن عفان خطيبا على منبر النبي [.

    والمقصد من سرد هذين الحديثين بيان أن المنبر واستعماله, سنة نبوية متبعة, وكان معروفا عند الخلفاء الراشدين بعد رسول الله [, فالخطابة على المنبر من السنن النبوية, ولا سيما في الأمور المهمة؛ إذ بالمنبر يمكن للخطيب إيصال الموعظة والتذكير, وإيصال الحديث والكلام يحصل إذا أشرف الخطيب على المنبر.

    وأشار البخاري رحمه الله في هذين الحديثين إلى المنبر النبوي, وأن المنبر النبوي بقي إلى عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما لم يتغير بزيادة ولا نقص, وكانا يقومان على منبر النبي [ خطيبين فيما تحتاجه الأمة, فهذا كان عملهما واتباعهما لسنة المصطفى [.

    وجاء أيضا في غير هذا الموضع أن المنبر النبوي بقي على حاله أزمانا طويلة, إلى أن زاد فيه بعض الخلفاء في عدد درجاته, وفي حجمة, وارتفاعه.

    وقد كان منبره [ ثلاث درجات يصعد الخطيب الدرجة الأولى, ثم الدرجة الثانية, ثم يقف على الدرجة الثالثة, وهذا يدل على أن منبر النبي [ لم يكن عاليا علوا زائدا عن العادة؛ لأن هذا العلو يعني ارتفاع الخطيب ارتفاعا زائدا عن قدر الحاجة, وأيضا يستدعي في كثير من الأحيان أن يمتد المنبر ويطول فيقطع الصف الأول! لأجل امتداد الدرجات, فما كان منبره [ إلا ثلاث درجات, لا يزاد عليه, وهذه هي السنة النبوية, والحمد لله أن وزارة الأوقاف أخذت بهذا وعممته على المساجد التي تتولى الإشراف على بنائها, لكن بعض الناس إذا بنوا المسجد لا يدرون ما السنة! ولا يستشيرون أهل العلم فيبنون المنبر أعلى من المطلوب!


    وأيضا من البدع التي حصلت ونراها في هذه الأيام كون المسجد له منبران منبر عن اليمين, ومنبر عن الشمال! وهذا من البدع المحدثة التي لا أصل لها, وإنما أحدثها من أحدثها بقصد الزينة وتزيين المسجد بزعمه! إذ يقول: كيف يكون المسجد له منبر عن اليمين مزخرف ويكون الجانب الأيسر بلا منبر مزخرف, فجعل في الجانب الأيسر أيضا منبرا مزخرفا.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (48)
    -الإجماع وعمل أهل المدينة (8)


    الشيخ.محمد الحمود النجدي





    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    (من السنن النبوية في التطهر - الحلف)

    قال البخاري رحمه الله :

    7339 – حدثنا محمد بن بشار: حدثنا عبد الأعلى: حدثنا هشام بن حسان: أن هشام ابن عروة حدثه: عن أبيه: {أن عائشة قالت: كان يوضع لي ولرسول الله [ هذا المركن، فنشرع فيه جميعا} (طرفه في: 25)

    الشرح:

    الحديث الثامن عشر حديث عائشة الذي يرويه البخاري رحمه الله من طريق شيخه محمد بن بشار وهو العبدي أبو بكر، وهو الحافظ المشهور ولقبه بندار، قال: حدثنا عبد الأعلى وهو ابن عبد الأعلى السامي البصري، ثقة. قال: حدثنا هشام بن حسان، وهو القردوسي البصري، ثقة من أثبت في ابن سيرين. أن هشام بن عروة حدثه عن أبيه عروة بن الزبير، عن خالته عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت: كان يدفع لي الرسول [ هذا المركن فنشرع فيه جميعا. المركن: هو إناء من أدم أي: جلد، شبيه الحوض الصغير من النحاس.

    قوله: «فنشرع فيه جميعا» أي: نتناول من الماء الذي فيه بأيدينا بغير إناء، أي: أنها رضي الله عنها كانت تغتسل مع النبي [ من إناء واحد، والشروع أصله الورود على الماء للشرب، ثم استعمل في كل حالة يتناول فيها الماء.

    وهذا الحديث فيه شيء من سنن النبي [ في الطهارة وغيرها، أولها: بيان مقدار ما يكفي الزوج وزوجته من الماء إذا اغتسلا، فإنه[ كان لا يسرف في وضوئه ولا في غسله من الجنابة، فقد روت عنه عائشة رضي الله عنها: أنه كان [ يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد . متفق عليه.

    والمد هو: ملء كفي الرجل المعتدل الخلقة، والصاع أربعة أمداد، فكان [ يغتسل بهذا المقدار من الماء، وهو قليل بالنسبة لما تعود عليه كثير من الناس اليوم ، من الإسراف في استعمال الماء عند الوضوء والغسل، بفتح الماء عن آخره وصبه شديدا، فيهدر المياه ويخالف السنة النبوية الشريفة.

    وقد صح في الحديث: أن النبي [ مرّ على سعد رضي الله عنه وهو يتوضأ، فقال: يا سعد! ما هذا السرف في الوضوء؟! فقال: وفي الوضوء سرف يا رسول الله؟! قال: «نعم، ولو كنت على نهر جار». رواه أحمد وغيره.

    يعني: أنه لا يشرع للإنسان أن يتوضأ بماء كثير، ولو كان على نهر جار.

    وأيضا: روى عبدالله بن المغفل رضي الله عنه - كما في سن أبي داوود - عن النبي [ أنه قال: «سيكون أقوام يعتدون في الطهور والدعاء». والاعتداء: معناه مجاوزة الحدّ والإسراف، فمن الاعتداء مثلا: أن يتوضأ المسلم أربعا أربعا، لأن السنة وردت بثلاث غَسَلات فقط، فمن زاد عليها فقد تعدى الحد الشرعي. وثبت أيضا في السنن: أنه [ توضأ ثلاثا ثم قال: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم».

    وورد في الحديث أيضا: «من توضأ كما أمر، وصلى كما أمر، غفر له ما قدم من عمل» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان.

    فقوله: «من توضأ كما أمر» تنبيه على المتابعة.

    وقال: «من توضأ مثل وضوئي هذا». فلا بد من متابعة الرسول [ في العبادات وكيفياتها وأعدادها وأوقاتها وأماكنها.

    وإذا قال بعضهم: إني بحاجة إلى التنظيف، وغسل الرأس بالصابون، والبدن مع غسل الجنابة أو مع غسل الحيض، فنقول: اجعل غسل الجنابة آخرا بعد أن تنظف وتغسل رأسك بالصابون، فعند ذلك إذا أردت الخروج فاغتسل الغسل الشرعي، وخفف فيه من استعمال الماء، وعلى كل حال فالإسراف مذموم، قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } (الإسراء: 26- 27).

    ففي هذا الحديث بيان ما يجب أن يتبع من سنة النبي [ في مقدار ما يكفي من الغسل.

    وفيه أيضا: أن النبي [ كان يلاطف أهله أحيانا ويؤانسهم فيغتسلا جميعا. وفيه أيضا: دليل لمن أباح نظر كل من الزوجين لعورة صاحبه، وغير ذلك من الفوائد المذكورة في مظانها.

    والله تعالى أعلم .

    الحديث التاسع عشر:

    قال البخاري رحمه الله:

    734 – حدثنا مسدد: حدثنا عباد بن عباد: حدثنا عاصم الأحول، عن أنس قال: «حالف النبي [ بين الأنصار، وقريش في داري التي بالمدينة» (طرفه في: 2294).

    {وقنت شهرا يدعو على أحياء من بني سليم} (طرفه في : 1..1)

    الشرح:

    الحديث التاسع عشر في الباب: حديث أنس ]، يرويه البخاري رحمه الله من طريق شيخه مسدد، وقد مضى. قال: حدثنا عباد بن عباد، وهو ابن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، ثقة. قال حدثنا عاصم الأحول، هو ابن سليمان أبو عبدالرحمن البصري، ثقة قال عن أنس رضي الله عنه: «حالف النبي [ بين الأنصار، وقريش في داري التي بالمدينة».

    الحلف هو: المعاهدة، ومحالفة النبي [ بين الأنصار وقريش أي المهاجرين، لأنهم جاؤوا من مكة وغالب أهلها من قريش، هذا الحلف محمول على المؤاخاة التي حصلت بالمدينة بين المهاجرين والأنصار، فالرسول [ عندما هاجر إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى كما جاء في صحيح البخاري بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكان هذا الحلف أو هذه المؤاخاة عظيمة متينة إلى درجة أن سعد بن الربيع كان له زوجتان فقال لعبد الرحمن بن عوف: إني ذو مال كثير فخذ شطر مالي، ولي زوجتان، فانظر إلى أجملهما لك حتى أطلقها، فإذا انقضت عدتها تزوجتها، فقال له عبد الرحمن، وما أعجب ما قال! قال له: بارك الله لك في مالك وأهلك وأبى أن يأخذ منه شيئا، ثم قال: دلوني على السوق، فباع واشترى رضي الله عنه حتى تزوج بعد ذلك وكثر ماله، فكان من أثرياء الصحابة ] .



    وقال بعض أهل العلم :إن الرسول [ آخى بين أصحابه مرتين: مرة بمكة آخى بين أهل مكة، من أسلم من أصحابه من أهل مكة آخى بينهم، أي: جعل الرابطة بينهم هي رابطة الإيمان والإسلام دون رابطة القبيلة والنسب، من أجل أن يصيروا قلبا واحدا، وبدنا واحدا.

    وهكذا كان أصحاب رسول الله [.

    والمؤاخاة الثانية الثابتة: حصلت لما هاجر النبي [ إلى المدينة، فآخى بين المهاجرين والأنصار، جعلهم إخوة في الإسلام دون إخوة النسب، وكان أول الأمر إذا مات الأنصاري، ورثه أخوه المهاجري إلى أن نزل قوله سبحانه وتعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّه} (الأنفال: 75)، أي: أرجع الله الأمر إلى سابقه ، وهو: أنه إذا مات الميت، ورثه قرابته من أهله وعصبته.

    وإذا قال قائل : كيف نجمع بين هذا الحديث، وهو: «أنه [ حالف بين المهاجرين والأنصار بالمدينة»، وبين قوله [: «لا حلف في الإسلام» رواه مسلم. وهو حديث صحيح رواه مسلم وغيره؟!

    والجواب: أن الحلف المنهي عنه في قوله [: «لاحلف في الإسلام» هو الحلف الذي يخالف الشرع، فقد كان العرب يتحالفون في الجاهلية على النصرة والإغاثة، ولو كان أحدهم ظالما، فينصر بعضهم بعضا، ولو كانوا ظالمين معتدين، فنهى النبي [ عن ذلك وقال: «لا حلف في الإسلام» يعني: لا حلف يبيح لك تعدي حرمات الله، والوقوع فيما حرم الله، وأما التحالف على الحق، ونصرة الحق وأهله، التحالف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتآخي والتعاهد والتواصي بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وحفظ القرآن، وقيام الليل، وصيام التطوع .. إلخ، التواصي بذلك والتآخي عليه، فهذا لا بأس به في الإسلام، بل هو مما يحبه الله تبارك وتعالى، ويحبه رسوله [.


    وقوله: في «داري التي بالمدينة» فيها فضل المدينة النبوية، وفضل الدار التي حصلت فيها المؤاخاة، وأنس ] من صغار الصحابة، لكن كانت أمه، وهي أم سليم من الصحابيات اللاتي كان لهن مكانة في المدينة، وذكرت في غير ما حديث.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (49)

    الإجماع وعمل أهل المدينة (9)

    الشيخ.محمد الحمود النجدي
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.




    - حديث: «وقنت شهرا على أحياء من بني سليم».

    هذا الحديث رواه البخاري بسنده السابق عن أنس قال: «وقنت شهرا على أحياء من بني سليم», وهي القصة المعروفة ببئر معونة؛ وذلك أن أحياء من الأعراب جاءوا إلى النبي [ وطلبوا منه أن يرسل معهم من يعلمهم القرآن والإسلام, فأرسل النبي [ معهم سبعين رجلا كان يقال لهم القراء, يعني ممن حفظوا كتاب الله أو حفظوا جملة من كتاب الله تعالى, وأحكام الدين والشرع, أرسلهم معهم يعلمونهم القرآن والإسلام، فلما كانوا ببعض الطريق غدروا بهم فقتلوهم أجمعين, فقنت النبي [ عليهم في الصلوات الخمس يدعوا عليهم ويلعنهم, حتى نهي عن ذلك [ بقول الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران: 128).

    والقنوت له معان كثيرة تصل إلى عشرة, فمن معاني القنوت: الطاعة والعبادة والدعاء والخشوع والقيام والقراءة وطول القيام, كل هذه من معاني القنوت, لكن المراد بالقنوت هنا: هو الدعاء في الصلوات الخمس والذي يعرف بقنوت النوازل, إذا حصلت بالمسلمين نازلة من حرب أو عدو أو سيل أو قحط شديد أو ما أشبه ذلك, فللإمام أن يقنت في صلاته يدعو للمسلمين, وذكر علماؤنا أنه ينبغي أن يكون ذلك بإذن ولي الأمر؛ لئلا تحدث في المسلمين فوضى وتشويش على المصلين, فإنه إذا صار هذا المسجد يقنت, وذلك المسجد لا يقنت, ويختلفان, فإن هذا يؤدي إلى الاضطراب والاختلاف؛ ولذا فيربط بوزارات الشؤون الإسلامية التي هي الجهة المسؤولة عن تدبير وتصريف أمور المساجد والأئمة والمؤذنين.

    ولو قال قائل: هل تحجرون الدعاء للمسلمين وتربطونه بإذن أحد من الناس؟

    نقول: أبدا لا نمنع الدعاء, بل الدعاء متاح ومفسوح في الوقت كله, فلك أن تدعو في صلاتك, في سجودك بما تشاء, وقبل السلام بما تشاء, ولك أن تصلي في بيتك وتدعو بما تشاء, فالدعاء ليس محصورا في قنوت النوازل بل هو أمر واسع, والحمد لله رب العالمين.

    الحديث الواحد والعشرون:

    رواه البخاري رحمه الله:

    7341 - 7342 - حدثني أبو كريب: حدثنا أبو أسامة: حدثنا بريد: عن أبي بردة قال: قدمت المدينة, فلقيني عبدالله بن سلام, فقال لي: انطلق إلى المنزل, فأسقيك في قدح شرب فيه رسول الله [, وتصلي في مسجد صلى فيه رسول الله [, فانطلقت معه, فسقاني سويقا, وأطعمني تمرا, وصليت في مسجده. (طرفه في: 3814).

    الشرح:

    حديث أبي بردة, وهو ابن أبي موسى الأشعري ], يرويه البخاري رحمه الله من طريق شيخه أبي كريب, وهو محمد بن العلاء الهمداني الحافظ, قال: حدثنا أبو أسامة, وهو حماد بن أسامة القرشي الكوفي, مشهور بكنيته, ثقة ثبت ربما دلس. قال: حدثنا بريد وهو ابن عبدالله بن أبي بردة, تابعي ثقة.

    قال: عن أبي موسى الأشعري قال: قدمت المدينة فلقيني عبدالله بن سلام, وجاء من طريق آخر عند البخاري قال: أرسلني أبي إلى عبدالله بن سلام لأتعلم منه, فسألني من أنت؟ فأخبرته فرحب بي, وهذا من الرحلة في طلب الحديث, وهو أمر مشهور عند السلف رحمهم الله تعالى من أجل الاستزادة في العلم والفقه والقرآن, كانوا يسافرون ويرحلون.

    وعبدالله بن سلام حبر من أحبار اليهود, أي: عالم من علمائهم, وفقه الله سبحانه وتعالى للإسلام, وحبب إليه الإيمان, فآمن بمحمد [ وحسن إسلامه, وقد كان معظما عند يهود المدينة, فنبذوه بعد إسلامه وتبرؤوا منه, ولو آمن معه تسعة لآمنت يهود بأسرها, كما قال عليه الصلاة والسلام: « لو آمن بي عشرة من اليهود, لآمن بي اليهود « رواه البخاري.

    والمقصود بالعشرة كما قال أهل العلم: عشرة من العلماء والكبار منهم, لكن الذين آمنوا بالرسول [ من الأحبار - أي العلماء – في عهده كانوا قلة, مع أنه كان يجب عليهم المبادرة إلى الإيمان بالرسول [, لأنهم كانوا يعلمون أنه رسول الله [؛ يقينا, بصفاته المذكورة في التوراة والإنجيل, بلا شك ولا ارتياب, لكن كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفرقان: 43 - 44).

    بل كان علماؤهم ممن يصدون عن الإيمان بالرسول [! ويكابرون ويقولون: ليس هو النبي الذي بشرنا به في التوراة!! مع أنهم كانوا يعلمون يقينا أنه هو عليه الصلاة والسلام, ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم, كما أخبرنا القرآن بذلك.

    قوله: «فلما جاء أبو بردة إلى عبدالله بن سلام قال له: انطلق معي إلى المنزل فأسقيك في قدح شرب فيه رسول الله [«.

    والقدح بالفتح هو الذي يُشرب ويؤكل فيه.

    وهذا الحديث: فيه فضل الصحابة رضي الله عنهم؛ إذ كان عندهم من آثار النبي [ وأوانيه ما ليس عند غيرهم, وهذا مقصود هذا الباب, وهو فضل أهل المدينة, وما كان عند أهل المدينة من العلم بالشرع وأحواله ما ليس عند غيرهم, فكان عبد الله بن سلام يحتفظ بهذا القدح الذي شرب فيه الرسول [.


    وفيه: مشروعية التبرك بآثار النبي [.

    وأما التبرك بغيره فلا يشرع على الصحيح؛ لأنه لم يرد عن الصحابة أنهم تبركوا بأبي بكر الصديق أو عمر الفاروق أو غيرهما من الخلفاء الراشدين, أو بأحد العشرة المبشرين, أو بأهل بدر أو غيرهم.

    قوله: «وتصلي في مسجد صلى فيه النبي [« والمراد بالمسجد هاهنا مكان السجود, أي: المكان الذي سجد فيه النبي [ ووضع جبهته عليه.

    قوله: «فانطلقت معه فسقاني سويقا» والسويق: هو الدقيق الذي يطرى بشيء من الماء. قال: وأطعمني تمرا, وصليت في مسجده.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (50)

    الإجماع وعمل أهل المدينة (10)


    الشيخ.محمد الحمود النجدي


    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.


    قال البخاري رحمه الله :

    الحديث الثاني والعشرون :

    7343 – حدثنا سعيد بن الربيع: حدثنا علي بن المبارك، عن يحي بن أبي كثير: حدثني عكرمة، عن ابن عباس : أن عمر رضي الله عنه حدثه قال: حدثني النبي[ قال: «أتاني الليلة آت من ربي، وهو بالعقيق، أن صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة وحجة». وقال هارون بن إسماعيل: حدثنا علي: «عمرة في حجة» (طرفه في: 1534).

    الشرح :

    حديث ابن عباس يرويه البخاري عن سعيد بن الربيع وهو العامري الحرشي، ثقة وهو من أقدم شيوخ البخاري وفاة. قال حدثنا علي بن المبارك، وهو الهنائي بضم الهاء ثقة، قال عن يحي بن أبي كثير وهو الطائي مولاهم، ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل، قال حدثني عكرمة، وهو أبو عبدالله البربري، تابعي ثقة مشهور.

    قال إن عمر رضي الله عنه حدثه عن النبي [، أنه قال: «أتاني الليلة آت من ربي» أي: بالمنام أتاه آت في المنام ، وهو بالعقيق، ورؤيا الأنبياء حق كما هو معلوم ووحي كما قال الله تبارك وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} (الصافات: 1-2) ، فجعل ما يراه في المنام أمرا من عند الله تبارك وتعالى، وذلك أن الأنبياء - كما قال عليه الصلاة والسلام-: «وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم» رواه البخاري . فقلوبهم محل الوحي ، وتنزل كلام الله تبارك وتعالى عليها ، ومخاطبة الله تعالى لهم بواسطة الملك .

    قوله: «وهو بالعقيق»، والعقيق: واد قريب من المدينة، ووصف بأنه مبارك, فالله تبارك وتعالى أمره أن يقول فيه: «عمرة وحجة» أي: يقرن بين العمرة والحج، فكان [ في حجته التي لم يحج غيرها قارنا ، وفي رواية: «قل عمرة في حجة» يعني: عمرة قد دخلت فيها حجة.

    ففي هذا الحديث: وصف النبي [ الوادي المذكور، بأنه مبارك، وأنه يستحب لمن أحرم بالمدينة أن يصلي فيه ركعتين، لأنه أمر فيه [ أن يصلي فيه ركعتين.

    وفيه: فضل الإحرام من المدينة، لأن المواقيت الأخرى لا يوجد فيها مثل هذا الفضل، فلم توصف بما ذكر [ من وجود بقعة مباركة أمر فيها النبي [ أن يصلي فيها ركعتين، ولهذا قال من قال من أهل العلم: إنه ليس للإحرام صلاة خاصة، لأنه [ إنما صلى في هذا الوادي بأمر الله تبارك وتعالى لا للإحرام، وهذا القول هو الصحيح، ونصره غير واحد من أهل العلم المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، لكن إذا احرم المسلم وكانت هناك صلاة حاضرة، فإنه يستحب له أن يحرم عقبها، يعني إذا حضرت صلاة الظهر والإنسان بالميقات، استحب له أن يحرم عقب الصلاة، أو أنه يتوضأ وينوي بصلاته ركعتي الوضوء ثم يحرم عقب الصلاة، وأما مجرد الإحرام فليس له صلاة تخصه، ولهذا فمن أحرم بالطائرة فإنه لا يلزمه أن يصلي ركعتين قبل الإحرام.



    الحديث الثالث والعشرون:

    قال البخاري رحمه الله:

    7344 – حدثنا محمد بن يوسف: حدثنا سفيان، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر: وقت النبي[ قرنا لأهل نجد، والجحفة لأهل الشام، وذا الحليفة لأهل المدينة، قال: سمعت هذا من النبي[، وبلغني أن النبي[ قال: «ولأهل اليمن يلملم». وذكر العراق، فقال: لم يكن عراق يومئذ .

    الشرح :

    الحديث الثالث والعشرون: حديث ابن عمر يرويه البخاري من طريق شيخه محمد بن يوسف وهو الفريابي، عن شيخه سفيان، وهو الثوري مر معنا، وهو الإمام المشهور بالسنة، عن عبدالله بن دينار، وهو العدوي مولاهم، مولى ابن عمر ، ثقة من أفاضل التابعين.

    قوله : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «وقت النبي [ قرنا لأهل نجد، والجحفة لأهل الشام، وذا الحليفة لأهل المدينة، قال: سمعت هذا من النبي [ «في ذكر المواقيت التي هي للحاج والمعتمر.

    والمواقيت كما هو معلوم مواقيت مكانية، ومواقيت زمنية، والمذكور في هذا الحديث هي المواقيت المكانية التي يحرم منها الحاج والمعتمر، فالسنة أن يحرم الإنسان منها بحسب بلده ومكانه الذي هو فيه، فإن كان من أهل نجد وما قبلها، وما كان من ناحيتها، فإنه يحرم من قرن، أو قرن المنازل، وهو المعروف اليوم: بالسيل الكبير.

    وما كان من أهل الشام فإنه يحرم من الجحفة، والجحفة اليوم قرية خربة، فيحرم من رابغ، وهي قبلها بيسير.

    وما كان من أهل المدينة فإنه يحرم من ذي الحليفة، والتي سبق ذكرها في الحديث الماضي.

    وهذه المواقيت هي مواقيت مكانية محددة شرعا، لا يشرع للإنسان أن يحرم قبلها بغير ضرورة.

    يعني لو قال الإنسان: أنا أريد أن أطول زمن الإحرام، فأحرم من بيتي هنا في الكويت مثلا، حتى أصل للبيت!

    يقول: لأجل أن أطول زمن التلبية!

    نقول: إن هذا خلاف هدي النبي [، وخلاف الإعتصام بسنته المباركة!

    وقد سئل الإمام مالك رحمه الله بنحو هذا: جاء إليه رجل فقال له: من أين أحرم ؟ قال: من حيث أحرم رسول الله [ يعني من ذي الحليفة - فقال له: أني أريد أن أحرم من بيتي! يعني من بيته بالمدينة، فقال له مالك: لا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة! فقال: وأي فتنة، وإنما هي أميال أزيدها! فقال له الإمام مالك رحمه الله: وأي فتنة أعظم، من إنك ترى أنك خصصت بفضل، لم يخص به رسول الله [!

    وهذا من الفقه العميق للإمام مالك، فقد ردّ به على هذا الرجل، وقال له: إني أخاف عليك الفتنة والضلال! وهو يشير إلى قول الله تبارك وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63). فلمن تكون الفتنة؟ ولمن يكون العذاب الأليم؟ يقول تعالى في الآية: هي لمن خالف أمر الرسول [، وهديه في فعله وقوله، والإمام مالك قال له: إذا رأيت أن الإحرام من بيتك بالمدينة أفضل من الإحرام من الموضع الذي أحرم منه رسول الله [، فمعنى ذلك: أنك قد خصصت بفضل لم يخص به رسول الله [ فصرت في منزلة وعبادة هي أفضل من المنزلة والعبادة التي كان عليها الرسول [، وإذا ظننت ذلك فقد هلك؟ لأن الله تبارك وتعالى قد جعل منزلة رسوله [ من الدين والعلم منزلة لا يصلها أحد من الأمة.

    وقد قال [: «والذي نفسي بيده أني أتقاكم لله وأعلمكم به « متفق عليه. فأتقى الناس هو رسول الله [، وأعلم الناس بالله، وبأسمائه وصفاته هو رسول الله[، وأعلم الناس وبدينه وبشرعه هو أيضا ، فلا يمكن أن يستدرك مستدرك على رسول الله [ أحد، ولا أن يقول إني أفعل هذا وإن لم يفعله رسول الله [، كما يحصل من كثير من المبتدعة الذين يحتفلون مثلا بمولده[ ويعتقدون أنهم سبقوا إلى خير لم يسبق إليه المهاجرون والأنصار! بل لم يسبقهم إليه سيد المهاجرين والأنصار وهو رسول الله [، فمعنى ذلك أنهم سبقوهم إلى الفضل والعبادة والدرجة، والعياذ بالله.

    ثم قال: «سمعت هذا من النبي [، وبلغني أن النبي [ قال: «ولأهل اليمن يلملم». هذا من دقة الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنهما وإتقانه للحديث ، فإنه ميز ما سمعه مشافهة عن النبي [ عما بلغه عنه من طريق صحابي آخر، والصحابة كما تعلمون كلهم ثقات وعدول، وإنما قد يحصل الوهم لبعض الصحابة أحيانا والنسيان لأنهم بشر، ويعرف ذلك إذا عرضت مروياته على مرويات الآخرين من الصحابة .

    فوقّت النبي [ لأهل اليمن ميقات اسمه: يلملم، وهي المعروفة اليوم بالسعدية.

    قوله: «وذكر العراق» ولم يذكر في الحديث: من الذي ذكر العراق في السؤال؟ فقال ابن عمر: لم يكن عراق يومئذ، يعني لما سأله سائل: ما ميقات أهل العراق؟ فقال ابن عمر: لم يكن عراق يومئذ. المقصود أنه لم يكن بأيدي المسلمين عراق يومئذ، لأن العراق في عهد النبي [ كانت بأيدي كسرى ونوابه من الفرس والعرب، يعني جزء منها بيد الفرس وجزء بيد العرب من المناذرة، فكأنه يقول له: لم يكن في العراق مسلمين حينئذ حتى يوقت لهم ميقاتا.

    ويمكن أن يقال: النبي [ ذكر أهل الشام مع أنهم لم يسلموا في عهده [!

    والجواب عن هذا: أن ابن عمر لعله أراد الكوفة والبصرة، وهما مصران أنشئا في عهد عمر رضي الله عنهما، ولم يكونا في عهده [.


    وهذا الحديث هو ما علمه ابن عمر، لأنه قد جاء في الحديث الصحيح: أن النبي [ «وقت لأهل العراق ذات عرق» وهذا ثابت عنه [.

    واستدل أهل العلم بتوقيته [ لأهل الشام الميقات الذي يحجون منه ويعتمرون، ولأهل العراق الميقات الذي يحجون منه ويعتمرون أن النبي [ يكون قد بشر أمته أو بشر أصحابه بأن هذه البلاد ستصير وتؤول إلى ملك المسلمين، حتى أنهم سيحجون منها ويعتمرون، وهذه بشارة نبوية.

    وأيضا: هي دلالة من دلالات نبوته [، وإخباره بالغيب الذي لم يحصل بعد .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (51)

    قنـوت النبـي صلى الله عليه وسلم


    الشيخ.محمد الحمود النجدي


    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    الباب السابع عشر:

    17 - باب قول الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128).

    قال الإمام البخاري رحمه الله:

    7346 – حدثنا أحمد بن محمد: أخبرنا عبدالله: أخبرنا معمرٌ، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أنه سمع النبي [ يقول في صلاة الفجر - ورفع رأسه من الركوع - قال: «اللهم ربنا ولك الحمد - في الأخيرة - ثم قال: «اللهم العن فلانا وفلانا»، فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (طرفه في 4559).

    الشرح

    الباب السابع عشر باب قول الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128)، وروى فيه البخاري الحديث عن شيخه أحمد بن محمد وهو ابن موسى أبو العباس السمسار، ثقة حافظ. قال: أخبرنا عبدالله، وهو ابن المبارك المروزي، الإمام الثقة الثبت الفقيه العالم الجواد المجاهد. قال: أخبرنا معمر، وهو ابن راشد الصنعاني، عن الزهري وقد تقدما، عن سالم، وهو ابن عبدالله بن عمر بن الخطاب رحمه الله، وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة، ثقة عابد، كان يشبّه بأبيه في الهدي والسمت.

    عن أبيه وهو ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع النبي [ يقول في صلاة الفجر، ورفع رأسه من الركوع، قال: «اللهم ربنا ولك الحمد»، فكان [ يقول بعد رفعه من الركوع: اللهم ربنا ولك الحمد، وهي إحدى صيغ التحميد بعد الرفع من الركوع، وورد أيضا عنه: اللهم ربنا لك الحمد، وورد أيضا دون قوله: اللهم، فيقول: «ربنا ولك الحمد»، وورد «ربنا لك الحمد» بدون حرف الواو.

    قوله « في الأخيرة « يعني: في الركعة الأخيرة. وهو موضع القنوت في النوازل والوتر.

    قوله: ثم قال: «اللهم العن فلانا وفلانا « وهذا كان بعدما جرى ما جرى يوم أُحد من مصائب على النبي [ وصحبه رضوان الله عليهم ما رفع الله تعالى به درجاتهم، وكفر به من سيئاتهم، فالنبي [ شُج رأسه وكُسرت رباعيته، فقال: «كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم؟!».

    وجعل [ يدعو على رؤساء المشركين مثل: أبي سفيان قبل أن يسلم، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، فكان يذكرهم بأسمائهم، ويلعنهم في صلاته، فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله [ نهيا عن الدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله، وهو قوله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ < وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: 128-129).

    والقنوت الذي في الحديث هو قنوت النوازل، ويكون بعد الرفع من الركوع، لا قبل الرفع من الركوع، من الركعة الأخيرة، وأما قنوت الوتر فيكون قبل الركوع وبعده، كما في الأحاديث الصحيحة.

    وأما كونه في صلاة الصبح، فكان [ يقنت في كل الصلوات، لكن كان يخص الصبح والمغرب بمزيد من القنوت، وإن كان هو [ يقنت في كل الصلوات.

    والرسول [ دعا شهرا أو أقل، ثم انتهى.

    وفي الحديث: «أن النبي [ كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع... « رواه البخاري في المغازي (4560).

    وقيل: إن هذا الحديث قد لعن رعل، وذكوان، وهما قبيلتان عربيتان كانتا قد خانتا النبي [ فقتلنا القراء من أصحابه وهم سبعون رجلا، بعثهم النبي [ إلى رعل وذكوان لأجل أن يعلموهم الإسلام، ويقرئهم القرآن، فلما كانوا ببعض الطريق غدروا بهم، وقتلوهم عن آخرهم، فقنت النبي [ يدعو عليهم بأعيانهم وبأسمائهم.

    ولا مانع من كون النبي [ دعا على المذكورين جميعا في صلاته، حتى نزلت الآية فيهما.

    وقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} شبيه بقوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} (البقرة: 272)، وبقوله سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ} (القصص: 56)، فالله تعالى يقول لنبيه [: إنما عليك البلاغ والإرشاد، ودعوة الخلق إلى الحق، والحرص على مصالح الناس ورحمتهم وهدايتهم، وأما أمر التعذيب، أو أمر المغفرة والرحمة، وكذا الهداية والإضلال، فهي بيد الله سبحانه وتعالى وحده؛ ولذا منعه تبارك وتعالى من الدعاء عليهم بالهلاك؛ لأنه جل وعلا يمنّ على من يشاء من عباده، فيتوب على من يشاء، فضلا منه ورحمة وإحسانا، ويعذب من يشاء عدلا منه وحكمة، وبظلم العبد نفسه وعمله، كما قال: {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران: 128).

    فسبب عذابهم أنهم ظالمون، ولاحظ كيف أن الله تعالى لما ذكر التوبة نسبها إلى نفسه، فقال {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}؛ لأن الله عز وجل هو الذي يوفقهم للتوبة، ويخلق الرغبة فيها بقلوبهم، وأما إذا عذّبهم فبظلمهم لأنفسهم، فهو سبحانه وتعالى حكمٌ عدل حكيم، لا يظلم أحدا، ولا يضع العقوبة إلا في موضعها، كما قال تعالى {وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون} (آل عمران: 117).

    وقال {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} (هود: 101).

    ولما نفى الله عن رسوله الله [ أنه ليس له من الأمر شيء، قرر أن الأمر له وحده، فقال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (آل عمران: 129).

    فالجميع ملكٌ له وعبيد، وهو سبحانه وتعالى متصرّف فيهم، فكل من في السموات من الملائكة وغيرهم، ومن في الأرض، من الإنس والجن، والحيوان، والجماد، وغيره كله ملك لله سبحانه وتعالى، والجميع عبيد له مخلوقون مدبرون، يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء أو يتوب عليه، ويعذب من يشاء بأن يكله إلى نفسه الظالمة الجاهلة، ويعذبه على ذلك.

    ثم ختم الله سبحانه وتعالى الآية باسمين كريمين له، فقال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ليدل عباده على أن رحمته غلبت غضبه، فهو سبحانه وتعالى وإن كان يعذب الظالمين، وإن كان ينتقم ممن عصاه، إلا أن رحمته سبحانه وتعالى وإحسانه قد عما الجميع، فمغفرته تغلب مؤاخذته، ورحمته تغلب غضبه تبارك وتعالى، نسأله تبارك وتعالى أن يتغمدنا جميعا برحمته، ويدخلنا في زمرة عباده الصالحين.

    أما مناسبة هذا الحديث من كتاب الاعتصام، فقد قال ابن بطال المالكي ما معناه: إن مناسبة هذه الترجمة في كتاب الاعتصام كون النبي [ دعا باللعنة على من لم يذعن لطاعته، ويعتصم بقوله وبكلامه، فدعا على المذكورين لكونهم لم يذعنوا للإيمان به [، وبرسالته فاستحقوا اللعنة.


    فهذا تحذير من الدخول تحت دعاء النبي [، ولعنته على من عصاه.

    وهذه الترجمة وهذا الحديث قد مر معنا قبل ثمانية أبواب: باب هل للنبي [ أن يجتهد في الأحكام أم لا؟






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (52 )

    أدب جــدال



    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    الباب الثامن عشر :

    18- باب قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (الكهف: 54)، وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).

    الحديث الأول :

    قال البخاري رحمه الله:

    7347 – حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيبٌ، عن الزهري (ح) حدثني محمد بن سلام: أخبرنا عتاب بن بشير عن إسحاقَ عن الزهري : أخبرني علي بن حسين: أن حسين ابن علي -رضي الله عنهما- أخبره: أن علي بن أبي طالب قال: إن رسول الله[ طرقه وفاطمة عليهما السلام بنت رسول الله[، فقال لهم: «ألا تصلون؟!» فقال علي: فقلت: يا رسول الله إنما أنفُسنا بيد الله، فإذا شاء أن يَبعثنا بعثنا. فانصرف رسول الله[ حين قال له ذلك، ولم يَرجع إليه شيئا، ثم سمعه وهو مدبرٌ ، يضرب فخذه ، وهو يقول: «وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا».

    قال أبو عبدالله: ما أتاك ليلا فهو طارق، ويقال: الطارق النجم، الثاقب: المضيء، يقال: أثقب نارك للموقد. (طرفه في: 1127).

    الشرح :

    الباب الثامن عشر قال البخاري رحمه الله باب قوله تعالى: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} (الكهف: 54)، وقوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).

    ترجم البخاري رحمه الله لهذا الباب بآيتين كريمتين، الآية الأولى من سورة الكهف: {َكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف: 54)، أي: كان الإنسان أكثر الخلق مجادلة، فالإنسان مجبول على هذا الخلق وهو الجدال، والدفاع عن النفس، فهو من حيث الطبع مجبول على الذب عن نفسه بالقول والعمل، ولكن ينبغي له أن يجاهد نفسه على قبول النصيحة من غيره، وألا يدافع ويجادل إلا بالاعتدال، بغير إفراط ولا تفريط.

    وأما أهل الكفر والعناد فهو دافعهم للجدال بغير حق، ولو كانت الحجة لا قصور فيها ولا خفاء، ولذا يأتيهم العذاب.

    وأما قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46)، فهو إرشاد من الله سبحانه وتعالى إلى مخاطبة أهل الكتاب، وجدالهم بالتي هي أحسن، وسيأتي.

    ونعلم من الآية أن الجدال أقسام: والجدال هو المفاوضة والمنازعة والنقاش.

    فالجدال والخصام أقسام منه: حسن، وأحسن، وقبيح، فما هو أحسن هو الذي طلبه الله تبارك وتعالى من عباده، فقال: {َلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46)، يعني: التمسوا أحسن الطرق في مجادلة أهل الكتاب، فيؤخذ منه القيام بدعوة أهل الكتاب، لكن على الوجه الذي هو أحسن، والحسن ما كان دون الأحسن، وأما القبيح، فهو ما كان مؤديا إلى الخصام أو مؤديا إلى الحرام كالسباب والحقد والضغينة والقطيعة، أو كان مجادلة في حق بعد ما تبين، أو ما كان محتويا على الكذب أو التدليس، فالجدال مراتب من حيث أنه أحسن، وحسن، وقبيح.

    وأيضا الجدال منه ما هو واجب على الإنسان، مثل نصر الحق إذا لم ينصره أحد ولم يدفع عنه، فإنه يتعين على من عنده علم وقدرة ذلك.

    ومنه ما هو مستحب، مثل إذا كان هناك من يغني عنك بجداله بالحق، ويرد عن الإسلام والمسلمين، وعم عقيدتهم ودينهم، فإن هذا لا يكون واجبا في هذه الحالة، وإنما يكون مستحبا.

    ومنه ما هو مباح، فما كان في المباح، فهو مباح.

    ثم أورد البخاري رحمه حديثين في الباب:

    الحديث الأول : حديث علي رضي الله عنه، يرويه من طريق شيخه أبي اليمان واسمه: الحكم بن نافع البهراني قال: أخبرنا شعيب، وهو ابن أبي حمزة الأموي، ثقة عابد من أثبت الناس في الزهري، كان من خاصة أصحاب الزهري.

    ( ح ) وهذا إسناد آخر لهذا الحديث، وهو من طريق شيخه محمد بن سلام، قال: أخبرنا عتاب بن بشير عن إسحاق عن الزهري، قال: أخبرني علي بن حسين، وهو الهاشمي الذي يقال له زين العابدين ، ثقة ثبت عابد مشهور، قال الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه .

    أن حسين بن علي- رضي الله عنهما- أخبره أن علي رضي الله عنه قال: أن رسول الله[ طلبه وفاطمة فقال لهما: «ألا تصلون»، وفي رواية شعيب «ألا تصليان» بالتثنية، وهذا جائز أن يقال للاثنين أو أن يُخاطب الاثنان فما فوقهما بخطاب الجماعة، ذلك لأن أقل الجمع اثنان، أو للتعظيم، أن يقال ذلك للتعظيم لا بأس.

    ومعنى طرق : قال أبو عبدالله - والمقصود به البخاري - فإذا قال : قال أبو عبد الله فهو يعني نفسه ، وهذا من المواضع التي يعلق فيها الإمام البخاري على الأحاديث ومعناها، فالبخاري يقول: ما آتاك ليلا فهو طارق، وشرح البخاري قول الله تبارك وتعالى: {والسماء والطارق} قال: الطارق هنا بمعنى النجم، الطارق هو: النجم الثاقب، أي: المضيء، يقال: أثقب نارك للموقد، يقال للذي يوقد النار أثقب نارك يعني: أضيء نارك، فالنجم الثاقب هو النجم المضيء، وقال بعض أهل التفسير يقال: له طارق، لأن ضوءه يطرق، يعني أنه يضيء ثم يخفت، يضيء ثم يخفت بالنسبة للناظر.

    نعود فنقول: إن النبي[ جاء ليلا إلى بيت علي وفاطمة رضي الله عنهما، وقال لهما: «ألا تصليان» فالنبي[ حثهما على الصلاة، وحثهما على الطاعة والقربة، وهذا من أمره[ لابنته ولزوج ابنته، وهو صهره، ولغة يقال صهره، ولا نسيبه! وحثه على الصلاة، وقيام الليل، فهذا من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر للأقارب، فالرسول[ كان يتفقد أهله يتفقد ابنته وزوجها، وقد أمره ربه سبحانه وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم 6) .

    فالواجب على الأب وعلى الأم أن يتفقدوا الأبناء والبنات، وأن يأمروهم بالصلاة، لأنها من أعظم واجبات الدين، ولا مانع أن يدخل عليهم في محل نومهم لتفقد الأحوال، فهذا فعله[، ولا يدخل في التجسس المنهي عنه، إذا كان بطرق الباب والدخول، مالم يخش الإنسان أو يرتاب ، فله أن ينظر ولو بخفية.

    فوله: فقال لهم: «ألا تصلون»؟ فقال علي: فقلت يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا.

    علي رضي الله عنه اعتذر بالقدر! فقال: إنما أنفسنا بيد الله إذا شاء الله تعالى أن يبعثنا للقيام، ويمكنا منه فعل، ولما احتج بالقدر تعجب النبي[ من قوله، وضرب فخذه تعجبا من جوابه.

    ويحتمل أن يكون تعجب النبي[ من سرعة جواب علي رضي الله عنه وفهمه وعقله، واستحضاره الجواب، فيكون تسليما لما قاله علي رضي الله عنه.

    وقال بعض الشراح: إن جواب علي يحتمل أن يكون من الاعتذار بالتي هي أحسن، والمجادلة بالتي هي أحسن، لأنه يحتمل أن يكون لهما عذرا يمنعهما من الصلاة فاستحيا علي من ذكره ، وأراد دفع الخجل عن نفسه وعن أهله فاحتج بالقدر.


    ويستفاد من الحديث أيضا: جواز ضرب الإنسان بعض بدنه أو بعض أعضائه تعجبا، وكذا أسفا.

    والحديث أيضا: يدل على فضيلة ظاهرة لعلي رضي الله عنه، إذ أن عليا -رضي الله عنه - روى هذا الحديث مع ما في الحديث قد يدل على معاتبة النبي[ له، لكن هذا من تواضعه ، من تواضع علي ومن أمانته في تبليغ ونقل كلام النبي[ للأمة، فروى هذا الحديث ولم يلتفت إلى وجود العتاب فيه في حقه.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (53 )

    أدب جــدال (2)



    الشيخ.محمد الحمود النجدي







    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    الباب الثامن عشر:

    18- باب قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (الكهف: 54)، وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).

    الحديث الثاني:

    قال البخاري رحمه الله:

    7348 - حدثنا قتيبة: حدثنا الليثُ، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: بينما نحن في المسجد، خرج رسول الله [ فقال: «انطلقوا إلى يهود» فانطلقنا معه حتى جئنا بيت المدراس، فقام النبي [ فناداهم فقال: «يا معشرَ يهود، أسلموا تَسلموا». فقالوا: قد بلّغت يا أبا القاسم، قال: فقال لهم رسول الله [: «ذلك أريد، أسلموا تسلموا». فقالوا: قد بلغتَ يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله [: «ذلك أريد» ثم قالها الثالثة، فقال: «اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئا فليَبعه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله» (طرفه في: 3167).

    الشرح:

    الحديث الثاني: يرويه البخاري عن شيخه قتيبة، وهو ابن سعيد كما مر معنا، قال: حدثنا الليث، وهو ابن سعد الفهمي عالم مصر ومفتيها في وقته، قال: عن سعيد، وهو ابن أبي سعيد المقبري، عن أبيه واسمه كيسان المدني، تابعي ثقة ثبت، ومن المكثرين عن أبي هريرة ].

    قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد خرج رسول الله [ فقال: انطلقوا إلى يهود، ولم يُعرّفْ النبي [ هذا الاسم، أي: لم يذكرهم بالألف واللام، إما لكونه قصد بعض اليهود، أو أنه [ لم يرد أن يعظم هذا الاسم، فقال: انطلقوا إلى يهود بغير ألف ولام.

    قال أبو هريرة: فخرجنا معه حتى أتينا بيت المدراس، وبيت المدراس: هو البيت الذي يتدارسون فيه التوراة.

    قوله: «فقام النبي [ فناداهم «يظهر من هذا أنه ناداهم من خارج البيت فقال: «يا معشر يهود، أسلموا تسلموا» أسلموا أي: ادخلوا في دين الإسلام، واشهدوا أني رسول الله تسلموا في الدنيا والآخرة، ففيه فضل الإسلام، والشهادة لرسول الله [ أنه رسول الله حقا وصدقا، وأن ذلك سبب للسلامة من الآفات ومن العذاب والفتنة والشر والبلاء في الدنيا والآخرة، ففيه فضل الاعتصام بالرسول [ وقوله وهديه، وأنهم إذا أسلموا سلموا من الشرور والعقوبات في الدنيا والآخرة.

    وهكذا كل من انقاد لرسول الله [، ولم يخالف أمره فإنه يسلم من الشرور والعقوبات، قال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور 63). فحذر الله عز وجل من مخالفة أمر الرسول [، وأخبر أن من يخالف أمره أنه يعاقب بعقوبة عاجلة أو آجلة، بفتنة في دينه وشرك، أو شر وعذاب.

    قوله: «قالوا: بلغت يا أبا القاسم» ولم يقولوا يا رسول الله ؟! بل خاطبوه بكنيته [، فقال لهم رسول الله [: «ذلك أريد» يعني: أنا أريد البلاغ وإيصال الحجة، وإقامة الحجة عليكم.

    قوله: «أسلموا تسلموا» أعاد عليهم [ عرض الإسلام والدعوة إليه، قالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله [: «ذلك أريد»، قالها الثالثة، يعني: كرر عليهم [ الدعوة والبلاغ ثلاث مرات، وهذا من التأكيد عليهم، وقد قال الله تعالى له: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67).

    فهو مأمور [ بالبلاغ وأداء الرسالة التي كلفه الله بها، وجاء إلى اليهود ودعاهم إلى الإسلام والاعتصام به.

    فقالوا له: بلغت ! لكن لم يذعنوا له بالطاعة والاتباع، فأعاد عليهم وبالغ، وهذا التكرير من المجادلة بالتي هي أحسن؛ لأنه [ لم يعنفهم، ولم يغلظ عليهم، ولم يسبهم أو يلعنهم مع أنهم مستحقين لذلك، وإنما دعاهم بالحسنى، كما قال تعالى {وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي أحسن} (النحل: 125).

    وهذا موافق لقول الله تبارك وتعالى هاهنا: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).

    فجادلهم [ كما أمره الله تبارك وتعالى في كتابه.

    وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وهي قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ....} (التوبة: 5).

    وقيل: إن مجادلة أهل الكتاب هي فيمن له عهد وأمان، وفيمن يؤدي الجزية، وأما أهل الحرب، فإنه يشرع قتالهم بالسيف لدفع شرهم؛ لأنه [ أمر أن يقاتل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن لا يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، كما قال الله له: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة: 29).

    فالنبي [ أمر بمقاتلة الكفار جميعا، وهم كل من لم يؤمن به عليه الصلاة والسلام، فيدخل فيهم الأميون الذين لا كتاب لهم ولم يكن لهم نبي سابق، ويدخل فيهم أيضا أهل الكتاب الذين لا يؤمنون برسالة محمد [ من اليهود والنصارى.

    ثم إن النبي [ أعلمهم أنه يريد أن يجليهم عن المدينة، وبعد ذلك يجليهم عن جزيرة العرب كلها، كما أمر وأوصى [ أصحابه فقال: «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب» رواه مسلم من حديث عمر ].

    وقال عن المشركين أيضا: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب..» رواه الشيخان.

    وقال [: «لئن عشت - إن شاء الله - لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب» رواه الترمذي.

    ثم قال لهم: «اعلموا أن الأرض لله ورسوله» أي: هذه الأرض التي أنتم فيها هي لله ورسوله؛ لأنها مهبط الوحي على محمد [، وفيها مشاهد الإسلام، وعلامات النبوة، وبيت الرسالة، و«إني أريد أن أجليكم»، الجلاء بمعنى الخروج عن هذه الأرض، «فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله». ثم إن النبي [ أجلاهم بعد ذلك إلى خيبر.

    فهذه وصايا نبوية شريفة نافعة للمسلمين لو أخذوا بها، لكن انظروا اليوم إلى واقع المسلمين والمسلمات، حيث ضعف التمسك والاعتصام بالسنن، وصاروا يتساهلون في إحضار اليهود والنصارى إلى جزيرة العرب، بل الوثنين من البوذيين والمجوس عبدة النار وعبدة الأبقار، من غير ضرورة، فترى مئات الألوف من العمال والخدم الكفار، فضلا عن أهل الكتاب، يملؤون جزيرة العرب، وهي مخالفة صريحة للنبي الله [، ولا شك أن ما يصيبنا اليوم من بلاء وتقهقر ورجوع وذلة، إنما هو بسبب مخالفتنا للاعتصام بسنة رسول الله [ وبهديه وبقوله وعمله.

    وجزيرة العرب محدودة بالبحار: ببحر عمان أو ما يسمى بالخليج العربي، وبحر عدن، والبحر الأحمر، هذه جزيرة العرب على الصحيح؛ لأنها مهبط الوحي ومنها شعت أنوار النبوة، وهي مهد الرسالة فلا يجوز التساهل بإدخالهم إليها.

    فحاصل هذا الباب الوصية بالمجادلة بالتي هي أحسن للناس جميعا، إلا الذين ظلموا منهم، يعني من ظلم أهل الإسلام، فحاربهم وامتنع عن بذل الجزية، فإنه يقاتل وينتقل معه من المجادلة بالتي هي أحسن إلى المقاتلة؛ لأنه ظلم نفسه أولا، وظلم أهل الإسلام فحاربهم، وأبى الدخول في الإسلام، وأبى أن يدفع لهم الجزية، فعند ذلك إذا عاند انتقلنا معه من المجادلة إلى المجالدة، من المجادلة بالبيان والحجة بطريق الإنصاف، إلى طريق المقاتلة بالغلظة والقوة، وهي مجالدة بالسيف.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي

    شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (54)

    وسطيـة الأمـة


    الشيخ.محمد الحمود النجدي



    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

    الباب التاسع عشر:

    19 - باب قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: 143)، وما أمر النبي [ بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم.

    قال البخاري رحمه الله:

    7349 – حدثنا إسحق بن منصور: حدثنا أبو أسامة: حدثنا الأعمش: حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله [: «يجاء بنوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب، فتُسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير؟ فيقول: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ رسول الله [: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.

    وعن جعفر بن عون: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي [ بهذا. (طرفه في: 3339).

    الشرح:

    الباب التاسع عشر من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح الإمام أبي عبدالله البخاري، باب قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}، الأمة الوسط فسرها النبي [ في رواية لهذا الحديث الصحيح: بالعدل. رواه البخاري في التفسير (4487). وهي العدالة، فهذه الأمة موصوفة بأنها أعدل الأمم، والعدل: الخيار، وهو خير الأمور وأوسطها، فامتن الله تبارك وتعالى على هذه الأمة بالعدالة والهداية لأوسط الأمور .

    قال الطبري: الوسط في كلام العرب الخيار، يقولون : فلان وسط في قومه وواسط، إذا أرادوا الرفع في حسبه. قال: والذي أرى أن معنى الوسط في الآية الجزء بين الطرفين، والمعنى أنهم وسط لتوسطهم في الدين فلم يغلوا كغلو النصارى، ولم يقصروا كتقصير اليهود ، ولكنهم أهل وسط واعتدال ( الفتح 8/ 172 – 173 ) .

    ولا شك أن أهل السنة والجماعة من هذه الأمة الإسلامية، وهم أهل العلم بالقرآن الكريم والسنة النبوية والعلوم الشرعية، هم الذين ينطبق عليهم وصف العدل والوسط والخيار؛ لأن أهل الجهل ليسوا عدولاً، كما هو معلوم، وكذلك أهل البدع ليسوا عدولا، ولهذا استنبط البخاري رحمه الله من هذه الآية: وجوب لزوم جماعة أهل السنة والجماعة، وهم أهل العلم والحديث والأثر .

    فقال البخاري: وما أمر النبي [ بلزوم الجماعة، وهم أهلُ العلم.

    وهذا استنباط نفيس، يدل على بعد نظر الإمام البخاري رحمه الله ، وسعة علمه.

    وقال الإمام ابن بطال: المراد بالباب: الحض على الاعتصام بالجماعة؛ لقوله تعالى:{لِتَكُونُ وا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة: 143).

    وشرط قبول الشهادة: العدالة، وقد ثبتت لهم هذه الصفة بقوله: {وسطا} (البقرة: 143)، والوسط، العدل، والمراد بالجماعة: أهل الحل والعقد من كل عصر (الفتح) .

    وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي [ تأمر بلزوم الجماعة وتنهى عن الفرقة، فمنها: حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ولما سئل عنها [ عنها قال: «هي الجماعة» رواه أهل السنن، وهو حديث صحيح ومشهور، وإن شكك في ثبوته أهل البدع.

    وقال أيضا [: «عليكم بالجماعة»، وفي رواية: «الجماعة رحمة والفرقة عذاب» رواه ابن أبي عاصم في (السنة) وعبدالله في (المسند).

    وخطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطبته بالجابية من أرض الشام فقال: «عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد» إلى أن قال: «ومن أراد بُحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة « رواه ابن أبي عاصم.

    و«بحبوحة الجنة» تعني: باحتها وساحتها الواسعة.

    وقوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: 143).

    مقتضى ذلك عصمة الجماعة المؤمنة من الخطأ فيما أجمعوا عليه قولا وعملا، وذلك أن الأمة بجماعتها أو بعمومها معصومة من الخطأ، أي: الإجماع على الخطأ! وورد هذا صريحا في الحديث الصحيح فيما رواه ابن أبي عاصم في (السنة) وأحمد وغيرهما: قال [: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» رواه الترمذي وابن أبي عاصم والحاكم وغيرهم.

    فالجماعة معصومة من الاجتماع على الخطأ، وهذا من فضل الله العظيم على هذه الأمة، في حين أن الفرد معرض للخطأ والضلال؛ ولهذا رغب السلف بلزوم الجماعة، وهي التي تكون على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله [، بفهم سلف الأمة الصالحين، وحضوا على ملازمتها، وحذروا من مفارقة جماعة المسلمين القائمة بالكتاب والسنة قولا وعملا واعتقادا.

    ومجرد حدوث اختلاف بينك وبين أحد من جماعة المسلمين السابقة الذكر، فإنه لا يبيح لك أن تفارق جماعتهم وتهجرهم! وتلحق بسواهم! وهذا يحصل لكثير من أفراد المسلمين، أنهم يحصل بينهم وبين إخوانهم القائمين بالكتاب والسنة سوء فهم واختلاف، فيدعوه ذلك إلى مفارقتهم! بل ربما الانتساب إلى دعوات أخرى مخالفة ومبتدعة!

    فلا بد من الصبر إذًا على لزوم جماعة المسلمين، وهو واجب من واجبات الاعتصام بالكتاب والسنة؛ لأنه لا يحصل الاعتصام إلا بذلك والمراد بالجماعة كما ذكرنا: أهل العلم المجمعون على التزام الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.

    وهو الأصل في المسلمين عامة، وبلاد المسلمين، أنهم على هذا الطريق، إلا من شذ وابتدع، أو تأثر بجماعة بدعية، أو دعوة خارجية ونحو ذلك.

    ثم روى البخاري -رحمه الله- من طريق شيخه إسحق بن منصور وهو ابن (بهرام الكوسج)، التميمي المروزي، ثقة ثبت، قال: حدثنا أبو أسامة، وهو حماد بن أسامة القرشي الكوفي الثقة الثبت، قال: حدثنا الأعمش، ومر معنا مرارا، واسمه سليمان بن مهران الكوفي، قال: حدثنا أبو صالح وهو السمان ومر أيضا، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله [: «يُجاء بنوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب ، فتُسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير» أي: يجحدون الرسالة، يجحدون أن يكون قد جاءهم نذير ورسول من عند الله تعالى، فالله تعالى سيسأل الأمم عن الرسل هل بلغوا رسالاته؟ وسيُسأل الرسل عنا: هل أجبناهم واتبعناهم؟ كما قال سبحانه: {فَلَنَسْألن الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ} (الأعراف: 6) وقال: {َيَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} (المائدة: 109) وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ} (القصص:65)، وقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزُّخرف:44).

    وقال النبي [ في خطبة الوداع: «وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» رواه مسلم.

    والمشركون سيُسألون يوم القيامة عن شركهم بالله تعالى، وكذبهم عليه سبحانه، وتكذيبهم لرسله، وافترائهم على دينه ورسله وملائكته عليهم السلام ، كما قال: {وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (الزُّخرف: 19).

    وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} (النحل: 56)، وهكذا كل من كذب على الله تعالى أو نسب إلى دينه ما ليس منه، أو أخرج منه ما هو منه، فأحل المحرمات، أو حرم المباحات؛ اتباعاً لهواه أو لأهواء الناس وأذواقهم ومصالحهم ، فويل له من يوم يُسأل فيه عن ذلك كله، كما ذكر لنا كتاب الله.

    والله تعالى أرسل الرسل ، وأنزل الكتب؛ لئلا يكون للناس عليه حجة ولا عذر، كما قال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما} (النساء: 165).

    وقال سبحانه: {يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير} (المائدة: 19).

    وقوله هنا في الحديث: «فيقول: من شهودك؟» أي: فيقال لنوح عليه السلام: من شهودك؟ أي من يشهد لك أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة، ونصحت لأمتك؟ لأن أمته تنكر رسالته؛ طلبا لنجاتهم من النار والعذاب، كما قال الله عنهم: {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} (الأنعام : 22 – 24).

    فالمشركون يحلفون بالله يوم القيامة إنهم ما كانوا مشركين!

    روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: يا بن عباس سمعت الله يقول: {والله ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام: 23). قال : أما قوله {والله ربنا ما كنا مشركين} فأنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة ، فقالوا: تعالوا فلنجحد! فيجحدون، فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ولا يكتمون الله حديثا.

    (حسن التحرير 2/111).

    قوله: «فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون».

    وزاد الإمام أحمد: أن هذه الأمة إذا جيء بها لتشهد لنوح عليه الصلاة والسلام يقال لهم: «ما علمكم أن نوح عليه الصلاة والسلام قد بلغ؟ فيقولون: أخبرنا نبينا [ أن الرسل قد بلغوا فصدقناه».


    فهذا قول الأمة المسلمة يوم القيامة، أنها تشهد للرسل بأنهم قد بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وجاهدوا في الله تعالى حق الجهاد، حتى توفاهم الله، فيشهدون لنوح عليه السلام.

    وليس الأمر خاصا لنوح عليه الصلاة والسلام، بل هو لجميع الأمم، ولجميع الرسل، ثم قرأ [ الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة : 143).

    وهذا الحديث قد رواه أيضا أبو أسامة عن جعفر بن عون عن الأعمش بالسند نفسه، والقائل: وعن جعفر بن عون، هو أبو أسامة الذي روى عن الأعمش الرواية السابقة.

    وقيل: إن قوله «وعن جعفر بن عون...» هو من قول الإمام البخاري؛ فيكون هذا السند معلقا عنده من هذا الطريق.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •