وعلى الذين يطيقونه فدية


محمد أكرم الندوي




بسم الله الرحمن الرحيم

سألني سائل عن معنى قوله تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين".

قلت: يتوقف فهم معناه على النظر في الآيات الثلاث: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون". (سورة البقرة الآيات 183-185)

اتفقوا على تأخر نزول الآية الثالثة (شهر رمضان الذي أنزل ... ) عن الآيتين الأوليين، واختلفوا في تأويل "أياما معدودات"، والأرجح أن المراد به شهر رمضان، قال أبو جعفر الطبري بعد نقل الأقوال المختلفة فيه: "وأولى ذلك بالصواب عندي قول من قال: عنى الله جل ثناؤه بقوله "أياما معدودات" أيام شهر رمضان، وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوما فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان، ثم نسخ بصوم شهر رمضان، وأن الله تعالى قد بين في سياق الآية أن الصيام الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات بإبانته عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومها بقوله "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"، فمن ادعى أن صوما كان قد لزم المسلمين فرضه غير صوم شهر رمضان الذين هم مجمعون على وجوب فرض صومه ثم نسخ ذلك سئل البرهان على ذلك من خبر تقوم به حجة".

والآن نرجع إلى قوله "وعلى الذين يطيقونه"، ما معناه؟

قال أبو جعفر في تفسيره بعد ذكر الأقوال المختلفة فيه: "وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال" وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، منسوخ بقول الله تعالى ذكره "فمن شهد منكم الشهر فليصمه". لأن "الهاء" التي في قوله "وعلى الذين يطيقونه"، من ذكر "الصيام "ومعناه وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعام مسكين. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن من كان مطيقا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوم شهر رمضان، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين كان معلوما أن الآية منسوخة".

قلت: وهذا الذي رجحه أبو جعفر مشكل من وجوه:

الأول: أنه لو كان المطيقون للصوم مخيرين بينه وبين الفدية لناقض ذلك مفتتح الآية "كتب عليكم الصيام"، فالمكتوب هو المفروض، فإذا رخص للمطيقين لما كان لفرضية الصوم معنى.

والثاني: أنه ينقضه أيضًا قوله تعالى "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، فإذا كان المرضى والمسافرون وجب عليهم الصوم، وإذا لم يصوموا وجب عليهم القضاء، فهل يشدد على المرضى والمسافرين كل هذا التشديد، ويرخص للمقيمين الأصحاء؟

والثالث: أنه لو كان الأمر كما ذهب إليه أبو جعفر لما كان لتكرير قوله "ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" من معنى.

والرابع: أنه قال بعد ذلك: "فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم"، وهو أيضًا مناقض لقوله "كتب عليكم الصيام".

قلت: فالتأويل الصحيح أن معنى قوله "وعلى الذين يطيقونه": يطيقون الطعام فدية، وعلى هذا فالمعنى أن الرخصة لم تكن للقادرين على الصوم المطيقين له، وإنما كانت الرخصة للمرضى والمسافرين أن يقضوا تلك الأيام، أو يطعموا عن كل يوم مسكينا إن قدروا على الإطعام، وإن لم يقدروا فليس لهم إلا قضاء تلك الأيام.

ثم نسخ ذلك الترخيص ولم يبق للمرضى والمسافرين إلا القضاء، وأعيد أمر المسافرين والمرضى في الآية التالية "فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة" تنبيها وتأكيدا على أن رخصة الفدية قد نسخت، وأن ليس عليهم إلا القضاء.

ويشكل على هذا التأويل أن الطعام لم يسبق ذكره في الآية، ورجوع الضمير إلى المتأخر قبيح، وهذا ما يعبر عنه بالإضمار قبل الذكر، ولم يبحه أئمة النحو.

قلت: هذا الذي اخترناه ليس بدعا، قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله" وعلى الذين يطيقونه": وعلى الذين يطيقون الطعام"، وقد ذهب الشاه ولي الله الدهلوي أيضًا إلى أن "يطيقونه" معناه "يطيقون الطعام" وإن كان له تأويل مختلف عن تأويلنا.

ولا شك أن الإضمار قبل الذكر قبيح، ولكن هذا الذي نحن فيه ليس من تلإضمار قبل الذكر، فالاسم الذي يرجع إليه الضمير قد يتقدم على الضمير لفظا وحكما، وقد يتقدم عليه لفظا لا حكما، وقد يتقدم عليه حكما لا لفظا، وكل ذلك سائغ، فمثال الأول: جاء زيد وهو راكب، فالضمير "هو" يرجع إلى "زيد"، و"زيد" متقدم عليه لفظا وحكما، ومثال الثاني: نصر زيدا أخوه، فالضمير في "أخوه" راجع إلى زيد، وهو متقدم عليه لفظا، لا حكما، لأن "زيدا" مفعول به، وحكمه أن يتأخر عن "أخوه" الذي هو الفاعل، ومثال الثالث: نصر أخاه زيد، فالضمير في "أخاه" راجع إلى "زيد"، و"زيد" متأخر عنه لفظا، ولكنه متقدم عليه حكما لأنه فاعل.


والآن ننظر في قوله "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، فـ"على الذين يطيقونه" خبر مقدم، و"فدية طعام مسكين" مبتدأ، وحق المبتدأ التقديم، وحق الخبر التأخير، فالضمير في قوله "يطيقونه" راجع إلى "طعام"، وهو متقدم عليه حكما.