يتلونه حقّ تلاوته


لجين محمد عادل فارس



أيّام قليلة ويهلّ علينا شهر رمضان المبارك بنفحاته وبركاته وخيراته .. شهر الصيام والقيام والعتق من النيران وهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان .

ومن الملاحظ أن معظم المسلمين يقبلون على تلاوة القرآن في هذا الشهر ويحرص كثير منهم على أن يختم القرآن أكثر من مرّة خلال رمضان، وهذا أمر طيّب بلا شكّ ، ولكنني عبر السنوات ومن خلال الأحاديث التي يتبادلها الناس في أيام رمضان، لاحظت أموراً أجد التنبيه اليها مفيداً لكي نتعاون على الطاعات وتكون عبادتنا لله سليمة خالصة لوجهه الكريم .

بداية لا بدّ من التنبيه الى أن تلاوة القرآن لا تختصّ برمضان وحده، وليس من السائغ اهمال التلاوة طوال العام والانكباب عليها في رمضان وحده، فالقرآن كتاب الله أنزله الينا ليبيّن لنا طريق الهداية وهو منهج الحياة ودستورها فكيف نغفل عنه أحد عشر شهراً في العام ولا نتذكره الا في رمضان ؟ وكيف للمرء أن يعرف ربّه ودينه ان لم يقرأ القرآن كل يوم ؟ نعم لا بدّ من زيادة التعاهد في رمضان لكن يحرص المرء على ورد يوميّ يتلوه ولا يتركه مهما كانت مشاغله ، وقد يزيد عليه في أيّام فراغه ان أراد ... وكثيراً ما سمعت – من النساء – أنهن لا يجدن وقتاً لتلاوة جزء من القرآن كل يوم على مدار السنة فأقول : ومن قال لكِ إن الورد اليومي يجب أن يكون جزءاً كاملاً ؟ اختاري ما يلائمك ويناسب وقتكِ فقليل دائم خير من كثير منقطع ، ولأن تقرأي صفحتين أو خمساً كل يوم خير من ألا تفتحي القرآن الا في رمضان .

يبدأ رمضان ويقبل الناس على التلاوة راجين الأجر والثواب من الله، ويضع بعضهم نصب عينيه أن يختم القرآن في رمضان ثلاثاً أو عشراً ، ويجد أن وقته يقصر عن هذا فيحاول التلاوة بسرعة بالغة لينهي أكبر قدر من التلاوة في كل جلسة، وهذا أمر مذموم اذ يحوّل ساعات العبادة الى سباق محموم، تمرّ فيه الكلمات على لسانه مروراً سريعاً فلا يفهم ما يقرأ ولا يعي منه شيئاً بل ربّما أخطأ أو لَحَن لسرعته فلم يفطن للحنه، وغاية ما يجنيه أن يضيف الى رصيد تلاوته صفحات ذوات عدد ... نعم من المستحبّ أن تتلو في هذه الأيام قدر استطاعتك وأن تستزيد من الحسنات والخيرات، ولكنّ للقرآن هيبته وجلاله، فلا ينبغي أن تعامله معاملة طالب في الابتدائية لدروسه ، فلا بدّ من اللفظ السليم والعناية بالتلاوة والبعد عن الهذرمة والهذرفة ،والحرص على نطق كل حرف نطقاً سليما فلا تدخل الكلمات ببعضها ، ولا تسقط بعض الحروف سهواً ، لتكون القراءة صحيحة سليمة ... واحرص - ان أردت الاستزادة من التلاوة - على تخصيص مزيد من الوقت للتلاوة، فهي من أيسر العبادات وأنفعها ومن أجلّ ما تُقضى فيه الأوقات .

ولأنّ رمضان شهر القرآن فلا بدّ من العناية بالعلوم التي تعين على تلاوته وفهمه ، فمن المستحسن أن يخصص المرء وقتاً للقراءة في كتاب من كتب التفسير، فإنّها تساعد على فهم المعاني وادراك المغزى وتحصيل الفوائد،ولئن لم تجد وقتاً لقراءة كتاب تفسير من أوله الى آخره فليس أقلّ من اختيار سورة أو عدّة سور وتدارس تفسيرها ومعانيها ... ومما وجدته نافعاً لي أن أضع بقربي حين التلاوة قلماً وكرّاساً أدوّن فيه الكلمات والآيات التي تستوقفني ، فأبحث فيها بعد ذلك وأتبحّر لأصل الى الفهم الذي أرجوه .

ومن العبادات الأخرى التي تتعلّق بالقرآن ما نغفل عنه كثيراً ألا وهو التدبّر، وهو أعمق من الفهم العامّ المباشر الذي نستفيده من التفسير، فالتدبّر كما عرّفه بعضهم هو التفكّر للوصول الى معان جديدة يحتملها النصّ القرآنيّ وفق قواعد اللغة العربية ويعين عليه ربط الجمل القرآنية ببعضها ، وربط السور ببعضها والبحث في الجوانب التي تتكشف من هذا الربط ... والتدبّر لا يأتي الا بعد قراءات متنوعة في التفسير ومعرفة لا بأس بها باللغة العربية ، ويحتاج فوق ذلك تأنّياً وعناية واطلاق فكر .. فأنت قد تتلو جزءاً كاملاً في نصف ساعة، لكنك قد تحتاج أيّاما لتدبّر آية واحدة، ولعلّ من المفيد بدايةُ أن تطّلع على ما كتبه الفضلاء وما دوّنوه ونشروه من حصيلة تدبّرهم ، وهناك العديد من المواقع على الشبكة العنكبوتية التي تهتمّ بالتدبّر وتنشر نفائس مما كُتب فيه ، فابحث وانهل واستمتع .

ومن الجميل بعد ذلك كلّه تخصيص وقت للحفظ أو مراجعة المحفوظ من القرآن، أو القراءة على معلّم لاتقان التلاوة وتصحيح المخارج أو طلب الإجازة، فكلّ ذلك ممّا ينفع ويعين على تعاهد القرآن والعناية به ، وشهر رمضان أولى من غيره للقيام بهذه الأعمال الجليلة ، والأجر فيه أعظم بإذن الله.

وختاماً فلنتذكّر دائماً أن الغاية من تلاوة القرآن تطبيقه والعمل به، فلا تكن التلاوة – على أجرها وأهميتها – مبلغ همّنا بل نحرص على الفهم والعمل وتمثّل الآيات في حياتنا ومعاملاتنا وسلوكنا .

ولا ننسَ أبداً عند التلاوة أن هذا القرآن كلام الله أنزله الينا، فلنقبل عليه إقبالنا على ما نحبّ ، نتفرّغ من المشاغل لأجله، ونفرّغ قلوبنا من كل شيء الّاه، ونقرأ الآيات ونحن نستشعر أنّها تنزّل علينا وأن ربّنا جلّ وعلا يخاطبنا بها، فتخبت لها قلوبنا وتذوب حبّاً وشوقاً ورهبة ، وتخشع جوارحنا ، وتفيض مدامعنا إجلالاً وتعظيماً .


اللهمّ بلّغنا رمضان وأعنّا على صيامه وقيامه صبراً واحتساباً وتقبّله منّا انَك أنت السميع العليم .