فتح مكة وعاقبة المتقين








كتبه/ أحمد الفيشاوي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الله بحكمته ورحمته يقدر لأنبيائه وأوليائه أحسن المقادير، ويجعل عاقبتهم أحسن العواقب، وينشر لهم الثناء والذكر الحسن في حياتهم، وبعد مماتهم.

وتمام ذلك أن ينصرهم، ويخزي أعداءهم، ويضل أعمالهم، ويرد عليهم كيدهم ومكرهم، وينتقم منهم، ويجعل عاقبتهم أسوأ العواقب، وينشر لهم اللعنة، وسوء الذكر في حياتهم، وبعد مماتهم، وجعل الله ذلك عبرة ظاهرة، وموعظة بليغة، وآية بينة على صدق أنبيائه وبرهم، وكذب مكذبيهم وظلمهم.

وما زال الناس يعلمون أن من عظم بره ونفعه حسنت عاقبته وأُتـْبِع الثناء والحمد، ومن عظم ظلمه وضرره ساءت عاقبته، وأُتبِع اللعنة والذم.

وأعظم الناس برًا ونفعًا هم الأنبياء، ولذلك يجعل الله -عز وجل- عاقبتهم أحسن العواقب، وأعظم الناس ظلمًا وضررًا من تنبأ على الله، وافترى على الله، وزعم أنه أوحي إليه ولم يوحَ إليه شيء، ولذلك يجعل الله -عز وجل- عاقبتهم أسوأ العواقب، وكذلك عاقبة المكذبين للرسل، لا سيما من ناوأهم وقاتلهم؛ فإن الله يجعل لهم من سوء العاقبة بقدر عداوتهم وتكذيبهم لرسله وأنبيائه، ولذلك قال الله- تعالى-: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) (الزمر:32)، والآيات نحو هذا كثير.

ولذلك يقص الله في كتابه في كثير من المواطن قصص الأولين؛ ليعتبر الناس، فيذكر حال الأنبياء وأتباعهم، وكيف نجاهم الله -تبارك وتعالى-، ونصرهم على عدوهم، ويذكر حال المكذبين للرسل، وكيف أهلكهم الله -تعالى-، وأخزاهم وأذلهم، فمن تأمل حال هؤلاء وهؤلاء علم أن الله -عز وجل- إنما فعل ذلك بأنبيائه وأتباعهم، رضًا عنهم وعن دينهم، وفعل ذلك بمكذبيهم سخطـًا عليهم وعلى دينهم، كذكره -عز وجل- لقصة موسى وفرعون، ونوح وقومه، ولوط وقومه، وهود، وصالح، وشعيب، وأقوامهم، وغير ذلك كثير يذكره الله -سبحانه وتعالى- آية وحجة، وموعظة وذكرى؛ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وعاقبة الأنبياء والمرسلين آية عظيمة على صدقهم ونبوتهم، وكذلك عاقبة أعدائهم من المتنبئين والمكذبين، آية عظيمة على كذبهم وافترائهم.

وهذا النوع من الدلائل وإن كان قد يستغرق زمنـًا ليس بقصير، إلا أن أثره في النفوس والقلوب أبلغ وأوقع، فهو من: جهة حجة وبرهان، ومن جهة أخرى: ذكرى، وترغيب وترهيب، وموعظة بليغة.

ولما كان محمد -صلى الله عليه وسلم- هو النبي الأعظم الخاتم، المبعوث للعالمين, جعل الله -عز وجل- عاقبته أحسن العواقب، وعاقبة من كذبه وناوأه أسوأ العواقب.

ولعل من أبرز الأيام التي ظهرت فيها عاقبته وعاقبة عدوه يوم فتح مكة، ذلك اليوم الذي تسلط فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون على بلد الله الحرام، وأزالوا عنها يد الكفر والطغيان؛ فقد تواترت عند العرب قصة نبي الله إبراهيم وبناؤه الكعبة بيت الله الحرام مع ابنه إسماعيل -عليهما السلام-، وكيف كان مبدأ سكنى العرب لتلك البلدة؛ ولذلك عظـَّمت العرب تلك البلدة المحرمة، وعظمت أهلها، وعرفت لهم فضلهم وشرفهم؛ لجوارهم لبيت الله، وقيامهم به.

ولما وقعت قصة الفيل وحفظ الله -عز وجل- بلده وبيته، وأهلك أبرهة وجنده، تأكد ذلك التعظيم لتلك البلدة وأهلها، وذاع ذلك بين الناس: العرب وغيرهم، فحازت قريش بذلك من تعظيم الناس لها ما أمـَّنهم في بلدتهم، وأمـَّنهم في أسفارهم وتجارتهم، وكان ذلك سببًا في سعة أرزاقهم ومعايشهم، وعلم الناس أن من أراد تلك البلدة أو أهلها بسوء أخزاه الله، ورد كيده في نحره، وانتقم منه، وجعل عاقبته كعاقبة أصحاب الفيل، قال الله-تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ . أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ . وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ . تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(الفيل)، وقال -عز وجل-: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ . إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ . فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(قريش).

قال الشيخ السعدي -رحمه الله-:

"قال كثير من المفسرين: أن هذه السورة، أي: سورة "قريش" لها تعلق بالسورة التي قبلها، أي: سورة "الفيل"، أي: فعلنا ما فعلنا بأصحاب الفيل؛ لأجل قريش وأمْنِهم، وانتظام رحلتهم في الشتاء لليمن، وفي الصيف للشام؛ لأجل التجارة والمكاسب؛ فأهلك الله من أرادهم بسوء، وعظـَّم أمر الحرم وأهله في قلوب الناس حتى احترموهم، ولم يعترضوا عليهم بسوء في أسفارهم" اهـ تيسير الكريم الرحمن بتصرف.

فهذا من أسرار ترتيب تلك السورة بعد سورة الفيل، وعلى كلٍ فإن الله -عز وجل- يمتن على قريش، ويذكرهم بما هم فيه من الأمن والأمان الذي لم يقتصر على إقامتهم ببلد الله الحرام، بل سعدوا به في أي مكان ذهبوا إليه، مع أن حال جزيرة العرب حينئذٍ على خلاف ذلك، فكان العرب يغير بعضهم على بعض، ويسبي بعضهم بعضًا، ولم يسلم من ذلك أحد إلا أهل مكة؛ لمكانة البيت الحرام لا سيما بعد ما سمعوا وشاهدوا عاقبة من أرادهم بسوء من أصحاب الفيل؛ قال الله -تعالى-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)(العنكبوت:67).

وكذلك يسر الله لهم أرزاقهم ومعايشهم مع أن طبيعة بلدهم لا تؤهلها لذلك؛ فمكة وادٍ ضيق تحيطه الصحاري والجبال، ليس بها زرع، ولا تصلح لذلك أصلاً، وهي بعيدة عن بلاد الزرع والثمار، والأقاليم العامرة، فلا هي قريبة من الشام، ولا العراق، ولا اليمن، ومع أنها تتوسطهم جميعًا، إلا أن بينها وبينهم مفاوز وصحاري موحشة.

وهي أيضًا ليست من البلاد ذات الجو المعتدل أو المحتمل، بل جوها في أكثر أيام العام شديد الحرارة، فليس بها من مرغبات الإقامة ومقومات الحياة شيء يذكر، ومع ذلك كله جعل الله -عز وجل- قلوبهم تهواها وتأنس بها، ورزقهم فيها من كل الثمرات، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، فحالهم من أعجب الأحوال.

فلم يبقَ من سبب لذلك إلا مجاورتهم لبيت الله الحرام، وقيامهم به، فإذا انتزع الله -عز وجل- منهم ذلك الأمن والرزق، وألبسهم لباس الجوع والخوف، وسلط عليهم وعلى بلدتهم قومًا آخرين؛ فلن يكون ذلك إلا لفضل هؤلاء القوم وصدقهم وبرهم، وظلم قريش وطغيانهم، قال -تعالى- في شأنهم: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ . وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) (النحل:112-113)، وقال -تعالى-: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِين َ أَمْثَالُهَا) (محمد:10)، ثم قال الله -تعالى- بعد ذلك: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ)(محمد:13).

ولذلك لما وقعت غزوة "بدر" وانتصر المسلمون فيها على قريش نصرًا مؤزرًا، وكسروا شوكتهم، ونكسوا رايتهم، وقتلوا صناديدهم وأئمتهم رغم قلة عددهم وعدتهم، وعدم تهيئتهم للغزو والحرب كان نصرهم ذلك آية بينة، وحجة باهرة على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- وتأييد الله له، وإيذانـًا بزوال المشركين عن بلد الله الحرام حتى أثر ذلك في نفوس مشركي العرب أيما تأثير، وكان من تتمة ذلك أن يظهر عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في بلدهم وعقر دارهم، في بلد الله الحرام التي طالما نعموا برعاية الله لهم بسببها، فلو كان محمد -صلى الله عليه وسلم- متنبأ كاذبًا لكان هو وجنده شرًا من أبرهة وجنده، ولكانت عاقبتهم أسوأ من عاقبة أصحاب الفيل؛ فلما دخل -صلى الله عليه وسلم- عزيزًا آمنًا منتصرًا على قريش، كان هذا آية عظيمة في قلوب كثير من الناس -لا سيما العرب- على صدقه ونبوته، ودخل الناس حينئذٍ في دين الله أفواجًا بفضل الله -تبارك وتعالى-.

روى البخاري عن عمرو بن سلمة: "وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ -أي تنتظر- بِإِسْلاَمِهِمِ الْفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهْوَ نَبِيُّ صَادِقٌ. فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلاَمِهِمْ ".


وأشار النبي -صلى الله عليه وسلم- لنحو ذلك بقوله: (إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِين َ) (متفق عليه).

فمن عرف قصة إبراهيم -عليه السلام- وفضل مكة، وقصة أصحاب الفيل، وعرف فضل قريش وعزتها ومنعتها؛ بان له كيف كان فتح مكة آية للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وعاقبة من أحسن وأعجب العواقب.

فالحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.