العظماء.. مالك والليث


موسى آل هجاد الزهراني


هل حدث يوماً أن اختلفت مع صديق في الرأي، واشتد النقاش، حتى تقاطعتما، وتهاجرتما، ثم ألجأتك الدنيا إليه في حاجة، بعد القطيعة، فلبى حاجتك، ونسي ما كان بينكما، بل وأكرمك زيادة على ما طلبت؟ هل سمعتم بمثالية أعظم من هذه ؟ وهل وقع مثل هذا في زماننا؟.
كنت أتصفح سيرة الإمام الليث بن سعد (ت:175ه) عالم مصر، وأسطورتها؛ إن جاز لي استعمال هذا اللفظ في المبالغة في المديح..فوجدت عجباً، وحزنتُ كيف أن تلاميذه أهملوا مذهبه، وإلا لأصبح أوسعها انتشاراً. حتى إن الإمام الشافعي قال عنه:( *اللَّيْثُ *أفقهُ من مَالكٍ إِلَّا أَن أَصْحَابه لم يقومُوا بِهِ).
كان الليث من العلماء الأغنياء، وكان كسبه كل عام يقدر ب 80 ألف دينار (أي 40 مليون ريال). لكنه كان سخياً إلى أقصى ما يكون السخاء والبذل، فما كان يحول عليه الحول؛ ولم تجب عليه زكاة؛ لأنه كثير الإنفاق والصدقات. قيل إنه كان يتصدق كل يوم على ثلاثمائة مسكين. وكان يعطي كل من سأله في المسجد، كل يوم.
وكان أبو جعفر المنصور (ت‏158هـ) الخليفة العباسي العظيم معجباً بالليث وعلمه، فأراد أن يوليه على مصر فيكون حاكماً لها، فأبى الليث إباءً شديداً، وامتنع من ذلك، لكنه رشح له رجلاً صالحاً يصلح أن يكون والياً على مصر، وهو عثمان بن الحكم الجذامي، فولاه أبو جعفر المنصور ولاية مصر.
تتوقعون أن هذا الوالي الجديد سيشكر الليث بن سعد لأنه هو من رشحه لتلك الولاية العظيمة؟! كلا، بل غضب على الليث، وأقسم ألاّ يكلمه؛ لأنه كان سبباً في فتنته بالولاية، وهذا من عجيب تلك النفوس، في تلك الأزمنة الفاضلة.
كان الإمام مالك بن أنس (ت179ه) إماماً لدار الهجرة، وشهرته بلغت الآفاق، وكان من أصول مذهبه أنه يرى أن عمل أهل المدينة الذي توارثوه جيلاً عن جيل هو أقوى الأدلة، فكأنه الحديث المتواتر في قوته.وكان الليث بن سعد يخالفه في هذا، وكتب إليه الإمام مالكٌ معاتباً، وردَّ عليه الليث بجواب طويل، وهكذا كانت المراسلات بينهما على أشدها. ولم يتفقا حول هذه المسألة.
من أعجب العجاب أنهما كانا في غمرة خلافهما فكتب إليه الإمام مالك: إنَّ علي *ديناً، فبعث إليه بخمس مئة دينار!. أتدرون كم تساوي اليوم ؟ قرابة 250 ألف ريال. وعندما احتاج مالكٌ أن يزوّج ابنته كتب إِلَى *اللَّيْث: إِنِّي أريد أن أُدخل ابنتي على زوجها، فأحبُّ أن تبعث إلي بشيءٍ من عصفر. والعُصُفُر نوع من أنواع الصبغ الغالي جدا، فبعث إليه بثلاثين جملاً محملاً بالعُصْفُر، فصبغ لابنته، وباع منه بخمس مائة دينار، وبقي عنده فضلة.ولم يقف الليث عند هذا الحد؛ بل كان يبعث بمرتبٍ سنوي للإمام مالك مقداره خمس مائة دينار كل عام أي 250 ألف ريال.
وعندما حج الإمام الليث وزار مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَهْدَى إِلَيْهِ *مَالِكُ *بْنُ *أَنَسٍ رُطَبًا عَلَى *طَبَقٍ فَرَدَّ إِلَيْهِ الليثُ عَلَى الطَّبَقَ أَلْفَ دِينَارٍ من الذهب. 500 ألف ريال.لاحظوا أنهما لم يتفقا على تلك المسألة، ولم يكن ذلك مانعاً من بقاء الود بينهما.لماذا اختار مالكٌ الليث بالذات وهو على بُعد مسيرة شهرين من المدينة؟ وفي المدينة من ينتظر من مالكٍ إشارةً حتى يتشرف بخدمته.

ولماذا بالغ الليث في إكرام مالكٍ؟ ولم ينقص قدره عنده عندما طلب منه المال بل ازداد قدره عنده..
إنهم العظماء الذين لن ينجب التاريخ مثلهم..
رحمهما الله..