مثل في فهم الصحابة لكتاب الله


العلامة عبد الرحمن الجزيري






عن صالح ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت له وهو يسألها عن قوله تعالى:[حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] {يوسف:110}.قال: قلت: أكُذبوا أم كُذِّبوا ؟ قالت عائشة: كُذِّبوا. قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذَّبوهم ؟ قالت: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها! قلت: فما هذه الآية ؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدَّقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك ) رواه البخاري في كتاب التفسير.

معنى هذا الحديث:


أن عروة بن الزبير سأل خالته السيدة عائشة رضي الله عنهما عن معنى قوله تعالى: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] {يوسف:110}. والذي أشكل على عروة في هذه الآية أمران: أحدهما: يأس الرسل من نصر الله تعالى مع أن الله تعالى قد وعد الرسل بالنصر ؛ وثانيهما: ظن الرسل أنهم قد كُذبوا (بالتخفيف) أي: أُخبروا بالكذب، (يقال: كُذب الرجل بضم الكاف وتخفيف الذال إذا أخبره غيره بالكذب) مع أن ذلك لا يجوز في حق الرسل عليهم السلام، فأجابته السيدة عائشة رضي الله عنها بأن كُذبوا مثقلة لا مخففة.

فالآية وظنوا أنهم قد كُذبوا بمعنى أن قومهم كذبوهم، فلا ارتباط لإخبار الله تعالى إياهم بهذا؛ ولكن عروة لم يقتنع بهذه الإجابة، فقال لها: إن الرسل قد استيقنوا بأن قومهم كذَّبوهم، والقرآن يقول: وظنوا أنهم قد كذبهم قومهم، فكيف يتفق هذا مع ذاك؟ فقالت له: أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك.فقال لها عروة: إذا استيقنوا بأن قومهم قد كذًّبوهم فلا يكون للآية معنى إلا أن الرسل قد ظنوا أنهم قد أخبروا بالكذب، لأنه لا واسطة بين هذين المعنيين، فالمسألة إما أن تقرأ الآية بتشديد الذال ويكون المعنى أن قومهم كذبوهم، وهذا لا يتناسب مع قوله:وظنوا أنهم قد كذبوا، لأن قومهم قد كذبوهم يقيناً، وإما أن تقرأ بتخفيف الذال ويكون المعنى أن الرسل قد ظنوا أن الخبر الذي وعدوا فيه بالنصر قد كذِبوا فيه. فقالت له السيدة عائشة: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها! فقال لها عروة: فما معنى هذه الآية حينئذ؟ فقالت له: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم الاضطهاد من أعدائهم وتأخر النصر الذي وعدوا به، يئسوا من انتصارهم على من كذَّبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذّبوهم، فجاءهم نصر الله عند ذلك.

وحاصل ما تريده السيدة عائشة رضي الله عنها من هذا الجواب أن تقول: إن الذين استيقنوا بتكذيب الرسل هم غير أتباعهم، والآية إنما يراد بها أتباع الرسل الذين آمنوا بهم، فهؤلاء الأتباع الذين وعدوا على لسان الرسل بالنصر على خصوهم الكافرين قد ظنوا أن الرسل قد كذبوهم فيما وعدوهم به من النصر ؛ ومعناه: أن الرسل قد يئسوا من إيمان من كذَّبهم من قومهم، فحالة الرسل بإزاء ذلك تكون حرجة كل الحرج، لأنهم بين ظن أتباعهم الكذب في خبرهم، وبين تمادي الكافرين من غير أتباعهم المكذبين بهم، وعند ذلك يجيء النصر الذي وعدهم الله به، ولعل حكمة هذا التأخير هو امتحان المؤمنين الذين صدقوا برسلهم، وتمرينهم على احتمال الشدائد والمشقات، ليضاعف الله لهم الأجر، ويزيد في سرورهم بالنصر على أعدائهم الذين آذوهم وآذوا رسلهم، فإنه سبحانه قد يبتلي المؤمنين بالمصائب الدنيوية حتى يعلم الصابرين منهم فيجزيهم على الصبر أحسن الجزاء.

وقد ورد في كثير من القرآن الكريم ما يؤيد ذلك المعنى: قال تعالى: [وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ] {محمد:31}. وقال: [وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ] {البقرة:155}. إلى غير ذلك.

هذا الذي فهمته السيدة عائشة رضي الله عنها من الآية الكريمة، هو الظاهر المتبادر، ولا يرد عليه شيء، إلا أن ظاهر هذا إنكار القراءة الواردة بتخفيف الذال من كذبوا، وهي قراءة متواترة، قرأ بها حفص، وهي قراءة ابن عباس وعلي كرم الله وجهه وابن مسعود ومجاهد وطلحة والأعمش، وبها قرأ الكوفيون، وعلى هذا فماذا يكون التأويل؟ وقد عرفت أن كذبوا بضم الكاف وكسر الذال مخففة معناه أنهم أُخبروا بالكذب، وهو فعل مبني للمجهول، فمن الذي أكذبهم أو أخبرهم بالكذب؟ لا ريب في أن الذي أخبرهم بذلك عن الله عزَّ وجل هو الوحي، وهو معصوم عن الخطأ فضلاً عن الكذب بلا مراء، فليس من المعقول أن الرسل تظن أن الوحي قد أخبرهم عن الله كذباً، وظنُّ ذلك محال على الرسل، لأنهم بذلك الظن يهدمون الشريعة التي جاءوا بها من أساسها، فإن من أهم صفات الرسل التي يجب اعتقادها العصمة عن الخطأ في كل ما يبلغ إليهم من ربهم، ولذا قد أنكر المحققون حديث الغرانيق المشهور، وقالوا إنه موضوع، لعصمة الرسل عن الخطأ فيما يبلغونه عن الله، وليس من المعقول أيضاً أن يقدر الفاعل: أنفسهم أو رجاؤهم فيقال: كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بالنصر، أو كذبهم رجاؤهم النصر، لأن هذا إنما ينفع إذا لم يكن النصر قد أوحى به إليهم ومتى أوحى به إليهم فكيف تكذيبهم أنفسهم الوحي الذي يجيئهم من عند الله؟ ومن الصعب جداً ما روى عن بعضهم أن ابن عباس قال: كذبوا بمعنى أخلفوا وكانوا بشراً، فإن هذا لا يصح أن يقوله ذلك الإمام الجليل، فإن معنى ذلك أن الرسل ظنوا أن الله تعالى قد أخلفهم وعده بالنصر.

وهل هذا يليق بالرسل سواء قلنا إن الظن بمعناه المشهور وهو إدراك الطرف الراجح، أو بمعنى الشك أو الوهم؟ لا ريب أن مقام الرسل فوق هذا. ولهذا ذكره الزمخشري بعبارة تدل على إنكاره فقال: إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في النفس، وحديث النفس لا يترتب عليه شيء من المؤاخذة لأنه من مقتضى الطبيعة البشرية، أما الظن وهو ترجيح أحد الطرفين فلا يليق بالمسلم فضلاً عن الرسول. وهذا حسن لا شك فيه، لأنه لم يرد عن ابن عباس أنه فسر بهذا التفسير من طريق صحيح، بل يستحيل على ابن عباس أن يجوز على الرسول أن نفسه تحدثه بأن الله يخلف وعده، ولابد أن يكون المعنى الذي ذكرته السيدة عائشة هو الذي أراده ابن عباس. فقوله تعالى:[حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] {يوسف:110}.بتخفيف الذال، معناه: حتى إذا يئس الرسل من إيمان الكافرين، وظن أتباعهم أن الرسل قد كذبوهم، جاءهم النصر من عند الله. وقد روى الطبري هذا المعنى عن سعيد بن جبير، فقال: يئس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم من أتباعهم أن الرسل كذبوا، وهذا هو الذي يليق بابن عباس رضي الله عنهما.

بقي إشكال آخر، وهو أن ظاهر الكلام يفيد أن عائشة تنكر القراءة بتخفيف الذال مع أنها من القراءات المتواترة. وقد أجاب بعضهم بأن عائشة لم تنكر القراءة وإنما أنكرت التأويل الذي ترتب عليها، فإن قراءة كذبوا بالتخفيف تحتمل المعنى الذي لا يليق فهمه بالرسل، بخلاف قراءتها بالتشديد فإنها لا تحتمل، فغرض السيدة عائشة من ردها على عروة تفهيمه أن الرسل يئسوا من إيمان قومهم، وأن المؤمنين من قومهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا.


وهذا المعنى تدل عليه القراءة بالتشديد حتماً، أما القراءة بالتخفيف فإنها توهم أن الرسل يئسوا من وعد ربهم وظنوا أن الله قد كذبهم وعده، فإذا انتفى هذا الإيهام وأولت الآية على الوجه الذي ذكرته فإنها لا تنكرها، وهذا هو اللائق بمقام السيدة عائشة التي كانت مرجعاً لكبار الصحابة في فهم كلام الله ورسوله في كل ما يشكل ويخفى، أما الجواب بأنها لم تكن تعلم بهذه القراءة المتواترة بين المسلمين يومئذ فإنه بعيد كل البعد.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة الأزهر ربيع الأول 1360