أكرمُ الناس وأجودُهم - صلى الله عليه وسلم





أكرمُ الناس وأجودُهم


لعلَّك تظنُّ أنني أريدُ بقولي: «أكرم الناس» حاتماً الطائي . .
كلا، لستُ أريدُ ذلك، وإن كان حاتمٌ قد بلغ في الجود والكرم مبلغاً لا يُنكَر، ومنزلةً لا تُدرَك ـ وقد تحدَّثتُ عن كرمه، وعرضتُ شيئاً من أخبار جُوده في مقال العدد السابق ـ ، ولكنْ ليس هو الذي أريدُ بقولي: «أكرم الناس»، إذ هذا وَصْفٌ لا ينبغي أن يُصـرَفَ إلى غير النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
نعم .. وكيف لا يكونُ هو الموصوفَ بذلك، وقد جاء في وَصْف كرمه وجوده وسخائه ما لم يأتِ في أحد غيره؟! وكيف لا يكونُ هو المعنيَّ بذلك، وهو الموصوفُ بالجود والكرم في الجاهلية والإسلام؟!
فهذه أمُّ المؤمنين خديجةُ بنتُ خويلد رضي الله عنها تصفُه صلَّى الله عليه وسلَّم بقولها: «إنك لَتَصِلُ الرَّحِم، وتَصدُقُ الحديث، وتحملُ الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدوم، وتَقْري الضيف، وتُعينُ على نوائب الحق»، فوصفته بأنه يصلُ الرحم، أي: يُحسِنُ إلى القريب بالزيارة أو بالقول أو بالمال وما شابه ذلك، وبأنه يَصدُقُ الحديث، وهو الموصوفُ صلَّى الله عليه وسلَّم عند قريش قبل الإسلام بالصادق الأمين، وبأنه يحملُ الكَلَّ، أي: يُنفِقُ على الضعيف واليتيم وصاحب الحاجة، وبأنه يَكسِبُ المعدوم، أي: يُعطي المعدومَ (الذي لا يجدُ شيئاً) مالاً من غير أن يطلبَ منه عِوَضاً في العاجل أو في الآجل، وبأنه يَقْري الضيف، أي: يُكرمُه ويقومُ بحقِّه، وبأنه يُعينُ الناسَ على نوائب الحق، أي: يكون مع الناس في مصائبهم.
وكلامُ خديجةَ رضي الله عنها هذا كان في أول بعثته صلَّى الله عليه وسلَّم، عندما رجع إليها من غار حِراء، وقد أتاه جبريلُ أوَّلَ مرَّة، فهذا وَصْفُه عليه الصلاة والسلام في الجاهلية.
وإذا كان هذا وَصْفُه صلَّى الله عليه وسلَّم في الجاهلية، فما بالك بوَصْفه في الإسلام، وهو القائل: «إنما بُعِثتُ لأُتمِّمَ صالحَ الأخلاق»؟! وتأمَّل معي كيف رأى الناسُ في النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الجود والكرم ما لم يروا أو يسمعوا في أحدٍ قبلَه أو بعدَه.
فهذا جابر بن عبد الله، وأنسُ بنُ مالك، وسهلُ بنُ سعد، يقول كلُّ واحد منهم: ما سُئِلَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن شيء فقال: لا.
وهذا أنسُ بنُ مالك يروي لنا أن رجلاً جاء إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فسأله مالاً، فأعطاه غنماً بين جبلين (أي: تملأُ من كثرتها وادياً بين جبلين)، فرجعُ الرجلُ إلى قومه، وقال لهم: أسلِموا، فوالله إنَّ محمداً لَيُعطي عطاءَ مَنْ لا يخافُ الفقر.
وهذا صفوانُ بنُ أمُية يذكرُ لنا أنه حضر مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم غزوةَ حُنين، وهو يومئذٍ مُشرِك، فأعطاه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مئةً من الإبل والغنم، ثم أعطاه مئةً أخرى، ثم أعطاه مئةً أخرى، ويقولُ صفوانُ: والله لقد أعطاني رسولُ الله ما أعطاني، وإنه لأبغَضُ الناس إليَّ، فما زال يُعطيني حتى إنه لأحَبُّ الناس إلي.
وكذلك أعطى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عُيَينةَ بنَ حِصْن وعباسَ بنَ مِرْداس يومَ حُنين كلَّ واحد منهما مئةً من الإبل.
وأعجبُ من ذلك وأغربُ ـ وإن كان لا يُستَغرَبُ على سول الله صلَّى الله عليه وسلم ـ أنه كان إذا سأله سائلٌ، ولم يجد شيئاً يُعطيه، كان صلَّى الله عليه وسلَّم يَستَقرِضُ ويُعطي، ومن ذلك: ما رُوِيَ عن عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه أنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فسأله، فقال: «ما عندي شيءٌ أُعطِيك، ولكنِ استَقرِضْ حتى يأتيَنا شيءٌ، فنُعطِيَك»، فقال عمرُ: ما كَلَّفَكَ اللهُ هذا، أعطَيتَ ما عندَكَ، فإذا لم يَكُنْ عندَكَ فلا تُكَلَّف، قال: فكره رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قولَ عمر، حتى عُرِفَ في وجهه، فقال الرجلُ: يا رسولَ الله، بأبي وأُمِّي أنت، فأعْطِ ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا، قال: فتبسَّمَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقال: بهذا أُمِرتُ.
هذا شيءٌ من أخبار جُوده وكَرَمه صلَّى الله عليه وسلَّم، فَضْلاً عما اشتَهَرَ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم من أنه كان يأتيه المالُ الكثيرُ فما يقومُ من مجلسه إلا وقد فرَّقه بين الناس، ومن أنه كان يقبلُ الهديَّةَ ويُثيبُ عليها، أي: يُقابِلُ مَنْ أهداه بشيء أحسَنَ من هديَّته.
وبذلك كُلِّه تعلم أن عبدَ الله بنَ عباس ما جانَبَ الصواب إذ قال: كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجودَ الناس، وكان أجودُ ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل، فلَرسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجودُ بالخير من الريح المُرسَلَة.
فحريٌّ بك يا من تقتدي برسول الله صلََّى الله عليه وسلَّم، وتتخذ منه مَثَلاً أعلى: أن تحرصَ على هذا الخُلُق العظيم، وتُطهِّرَ نفسَك من الشُّحِّ والبخل، وخصوصاً فيما أمر الله فيه بالإنفاق، كالإنفاق على الأهل، والأرحام، والأقارب، والأيتام، والضعفاء، والفقراء، وما أشبه ذلك.


منقول