ولنا في ما مضى معتبر


(المؤمن كيّسٌ فطِن) هكذا وصف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المؤمنين؛ لأنهم يدركون الحقائق في أوضح صورها، مستهدين بذلك بنور الإسلام الذي يزكي النفوس ويطهر القلوب ويصفي العقول، فتكون النتيجة شخصية إسلامية نقية تنظر إلى الحياة نظرة المتبصر العارف بما يضر وينفع.
وقد دلنا الإسلام إلى طريقين في الاهتداء إلى أصلح الأمور وأنفعها وأصوبها في ديننا ودنيانا: فالأمر الأول يتمثل بأوامر الشرع ونواهيه، والثاني بالاعتبار بحال الآخرين سواء الأمم السابقة أو حتى في ما يحصل لهذه الأمة عبر تاريخها.
وقد أكد الكتاب والسنة على النظر والتفكر في أحوال الأمم السابقة، بل أوجب ذلك؛ ولهذا يرى علماء الأمة أن إهمال دراسة التاريخ سبباً من أسباب الجهل بحقيقة الشريعة الإسلامية، وسبباً من أسباب وقوع الأمة في المآسي والمحن؛ لعدم الأخذ بتجارب من سبق من الأمم.
وانطلاقاً من ذلك الواجب الشرعي سنحاول أن نتعرف على الأهمية الشرعية في دراسة التاريخ وأهمية الاعتبار بحال الأمم السابقة، وما وقع لها من الفتن والمهالك بسبب أعمالها، ومدى انعكاس ذلك على الأمة الإسلامية.
لماذا التاريخ؟
يقول ابن خلدون: "اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا".
ويتساءل بعض الناس عن أهمية دراسة التاريخ: أليس لدينا كتاب الله وسنة رسوله؟!، وفيهما ما يغني عن دراسة التاريخ؟!.
ويجيب الدكتور جاسم سلطان بأن العلم في كتاب الله عز وجل علمان: علم بالكتاب، وعلم أشار إليه الكتاب.
فالعلم الذي في الكتاب - سواءً القرآن أو السنة - هو العلم المتعلق بالعبادات، وشكلها التفصيلي، والأوامر والنواهي عموماً.
ولكن كتاب الله عز وجل أشار إلى علم آخر، ليس مكان البحث في تفاصيله في الكتاب (القرآن والسنة)، ويمكن أن نطلق عليه "علم أشار إليه الكتاب". يقول الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [آل عمران: 137]، هذا العلم - الذي مكان تحصيله واكتشاف قوانينه يتم عبر السير في الأرض، والنظر في أحوال الأمم - هو العلم المقصود الذي نتحدث عنه هنا. ويقول تعالى في الآيات التالية للآية السابقة: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 138- 140].
إن السير في الأرض وسيلة لاكتشاف القوانين، والقرآن يدلنا على مجال رحب لاكتشاف الظاهرة البشرية، واستخلاص العبر. ومعرفة هذه القوانين تجعل الإنسان صلباً في التعامل مع الأوضاع القائمة. فسياق الآيات يدل على أنها استخدمت في مجال الصراع، فهناك أناس مؤمنون يصيبهم القرح، وتدور عليهم الدائرة. والقرآن الكريم - بعد أن يأمرهم بالسير في الأرض - يخبرهم أن الآلام متبادلة بين كل البشر، وأن الأيام بين الناس دول.
يقول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. إن وظيفة المؤمن هي البحث عن هذه الآيات المنتشرة في الآفاق، حتى يكتشف حقائق الوجود. ولذلك يقول الله تعالى في آية أخرى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فالعلماء هم أهل الخشية، لعلمهم بهذه السنن المطروحة في الآفاق، ولرؤيتهم حقائق الكون وهي تسير وتتجانس مع ما أشار الله إليه سبحانه وتعالى.
إن دراسة التاريخ والبحث في السنن الكونية مطلب رباني، وهو مطلب عقلي أيضاً، فالتاريخ هو بيت الخبرة الإنسانية، ومن لا يعرف التاريخ يتعثر في مطبات كبيرة. أما من استفاد واتعظ ممن قبله، فحري به أن لا يجرب التجارب الفاشلة، وأن يزيد البناء لبنة.
يقول العلامة محمد رشيد رضا في (تفسير المنار) في قول الله تعالى: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }: "فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غيرها من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال، وبينها العلماء بالتفصيل، عملاً بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه. والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحيل إليه في مواضع كثيرة. وقد دلنا على مأخذه على أحوال الأمم، إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها".
والمتأمل في قصص القرآن الكريم عن الأمم السابقة يدرك مغزى طلبه منا الاعتبار - إن كنا من ذوى الألباب - حين يصف أحوال تلك الأمم من ترف عيش، وبطر حق، وكفر رب، وانتكاس فطرة، وارتكاس تصور، وكيف أصابها الدمار ولحق حضارتها التبار.
وبيّن الحق سبحانه وتعالى في ثنايا تلك القصص أو تعقيباً عليها سنن الله في خلقه ونواميسه المتحكمة في هذه الحياة والموجهة لها؛ لنتبين أسباب السقوط ودواعي النمو والإقلاع.
ويشير عماد الدين خليل إلى "أن القرآن الكريم يجيء بمعطياته التاريخية من أجل أن (يحرك) الإنسان صوب الأهداف التي رسمها الإسلام ويبعده - في الوقت ذاته - فرداً أو جماعة عن المزالق والمنعرجات التي أودت بمصائر عشرات بل مئات الأمم والجماعات والشعوب".
لعل خير ملخص لمنهج القرآن هو قول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.
فالكون تحكمه سنن متطابقة، وصيرورة الحياة البشرية التزاماً بالقيم أو انحرافاً عن السنن القويم والجادة المثلى تكاد تكون صوراً متكررة. لذلك فمن الضروري والواجب الحتمي لأي جماعة بشرية تسعى للتغيير وتحقيق قيم الحق والفضيلة، أن تنظر نظر استبصار وفحص واقتباس متعقل - منسجم مع الوقائع والأحداث - لآثار من سبقوها، مسترشدة بها في غير تقليد للأشكال وانبهار بالأنماط والنماذج غير القابلة للاستنساخ، مبدعة أساليب جديدة تحقق الهدف، وتوصل للغاية.
ذلك أن التاريخ البشري سلسلة وقائع آخذ بعضها بعنان بعض، لا تنفك في المآل، وإن تباينت في الأشكال. والعاجز من تجاوزها متجاهلاً بادئاً من الصفر بل من سالب الفعل. فإن تجارب البشرية ملك مشاع، أفلح من استفاد منه على الوجه المطلوب، وانبطح في حمأة الإفلاس ودرك الفشل من حاول التأسيس والانطلاق بعيداً عنها.
كما أن التأمل في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي حياة الأمم والشعوب يعطي العبد معرفة أصيلة بأثر سنن الله في الأنفس والكون والآفات.
وأوضح مكان لسنن الله وقوانينه كتاب الله تعالى: }يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{ [النساء: 26].
وسنن الله تتضح بالدراسة فيما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمطالعة في سنته صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقتنص الفرص والأحداث ليدل أصحابه على شيء من السنن، ومن ذلك أن ناقته صلى الله عليه وسلم (العضباء) كانت لا تسبق، فحدث مرة أن سبقها أعرابي على قعود له، فشق ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم كاشفاً عن سنة من سنن الله: (حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)، وقد أرشدنا كتاب الله إلى تتبع آثار السنن في الأمكنة بالسعي والسير، وفي الأزمنة من التاريخ والسير، قال تعالى: }قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ{ [آل عمران: 137ـ 138]، وأرشدنا القرآن الكريم إلى معرفة السنن بالنظر والتفكر، قال تعالى: }قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ{ [يونس: 101ـ102].
خصائص السنن الإلهية فيمن سبق
ومن خصائص السنن الإلهية في الذين خلوا من قبل، كما يقول الدكتور الصلابي:
ـ أنها قدر سابق:
قال تعالى: }مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا{ [الأحزاب: 38]، أي أن حكم الله تعالى وأمره الذي يقدره كائن لا محالة وواقع لا حيد عنه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ـ أنها لا تتحول ولا تتبدل:
قال تعالى: }لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُون َ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا{ [الأحزاب: 60ـ61ـ62].
وقال تعالى: }وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا{ [الفتح: 22ـ23].
ـ أنها ماضية لا تتوقف:
قال تعالى: }قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ{ [الأنفال: 38].
ـ أنها لا تخالف ولا تنفع مخالفتها:
قال تعالى: }أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ{ [غافر: 82ـ85].
ـ لا ينتفع بها المعاندون ولكن يتعظ بها المتقون:
قال تعالى: }قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ{ [آل عمران: 137ـ138].
ـ أنها تسري على البر والفاجر:
فالمؤمنون ـ والأنبياء أعلاهم قدراً ـ تسري عليهم سنن الله ولله سنن جارية تتعلق بالآثار المترتبة على من امتثل شرع الله أو أعرض عنه.
لكن البعض يخالف الهدف من التاريخ، وينحرف عن مفهومه ومقصوده كالتاريخ الفرعوني، فبدلاً من أن يكون عبرة وعظة خصوصاً في عمل الطغاة، نجد في هذا الزمان من يريد بذكره لذلك التاريخ عكس ما تريده الشريعة، ومن ذلك حسب ما جاء في موقع الإسلام (سؤال وجواب):
1. أنه يراد بتلك الحقبة تأصيل العنصرية في نفوس أهل تلك البلاد، بل إن بعضهم لينسب بلاده إلى "الفراعنة"، وكذا رأيناه في تسمية فرقهم الرياضية، وأخيراً – وليس آخراً – تسمية قناة فضائية باسم "الفراعنة".
2. أنه قد جُعل التاريخ الفرعوني بديلاً - في المناهج الدراسية – عن التاريخ الإسلامي.
قال الدكتور جمال عبد الهادي في مجلة (البيان):
ألغي في مصر التاريخ الإسلامي من المرحلتين الابتدائية والثانوية لحساب تاريخ الفراعنة والغرب، فبينما كان التاريخ الفرعوني يدرَّس في (75) صفحة، وفي المرحلة الإعدادية فقط: أصبح يدرَّس في المراحل الثلاث وفي (317) صفحة!.
هذا التوسع جاء على حساب التاريخ الإسلامي الذي كان يدرَّس في المراحل الثلاث في (307) صفحة، ليختزل في مرحلة واحدة هي الإعدادية إلى (32) صفحة!.
3. تعظيم الأصنام والأوثان الفرعونية، ورعايتها، وجعلها محطات سياحية، للنظر، والاستمتاع، فلا عبرة بزوال تلك الدولة وطغاتها، ولا اعتبار لتحريم الشريعة المطهرة لبقاء الأصنام شامخة تُرعى، وتُحرس، وتُعظَّم!.
4. تفتيت وحدة الأمة الإسلامية، وهدم عقيدة الولاء والبراء في النفوس؛ فبدلا من أن يكون الإسلام هو الوحدة الجامعة صارت هذه البلد فرعونية، والأخرى فينيقية، والثالثة آشورية، والرابعة بربرية قبلية.. وهكذا، إلى أن يفرقوا الأمة، ويلقوا التدابر والتهاجر بين أبنائها.

في ما مضى معتبر
وقد قص القرآن علينا مصارع الأمم الغابرة؛ لنقرأ سيرهم؛ فنحذر ما أحل بهم العذاب، ولكي نرى ما ينتظر الأمم التي تقع في أمثال هذه المعاصي والآثام، وجاء هذا التحذير في كثير من آيات القرآن الكريم، ومنها:
1- {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء:17].
قال القرطبي في تفسيرها: "ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم".
وقال: "وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قروناً كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به وتكذيب رسله على مثل الذي أنتم عليه، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جل ثناؤه، فيعذب قوماً بما لا يعذب به آخرين أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها آخرين".
2- {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الروم:41]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُ مْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال: 53، 54].
قال الشوكاني: "والمعنى أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
3- {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:42].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإِنما قَص اللَّه علينا قصص من قَبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا، فَنشبّه حالنا بِحالهِم، ونقيس أَواخر الأُمم بِأَوائلها، فَيكون للمؤمن من المتأَخرِين شبه بِما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرِين شبه بِما كان للكافر والمنافق من المتقدمين".
إلى أن قال: "فَينبغي للعقلاء أَن يعتبِروا بِسنة اللّه وأَيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم، لاسيما في مثل هذه الحادثَة العظيمة - أي التتار- التي طَبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأَطْلَع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أَنيابِه وأَضراسه، وكاد فيه عمود الكتاب أَن يُجتث ويُخترِم، وحبل الإيمان أَن ينقطع ويصطلم، وعُقر دارِ المؤمنين أَن يحل بِها البوار، وأَن يزول هذَا الدين بِاستيلاء الفجرة التتارِ. وظَن المنافقون والذين في قُلوبِهِم مَرَضٌ أَن ما وَعَدَهم اللّه ورسوله إلاّ غروراً، وأَن لن ينقلب حزب اللَّه ورسوله إلى أَهليهِم أَبداً، وزُين ذَلك في قلوبِهِم، وظَنوا ظَنّ السّوء وَكَانُوا قَوْماً بوراً، ونزلت فتنَة تركت الحليم فيها حيران".
ومن هنا نعى ابن الأثير الجزري رحمه الله على من لم يقم لعلم التاريخ وزناً، فقال: لقد رأيت جماعة ممن يدعي المعرفة والدراية ويظن بنفسه التبحر في العلم والرواية: يحتقر التواريخ ويزدريها، ويُعرِض عنها ويلغيها؛ ظنّاً منه أن غاية فائدتها إنما هو القصص والأخبار، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار؛ وهذا حال من اقتصر على القشر دون اللب نظره، ومن رزقه الله طبعاً سليماً، وهداه صراطاً مستقيماً: علم أن فوائدها كثيرة، ومنافعها الدنيوية والأخروية جمَّة غزيرة".
ومما ذكره – رحمه الله – من الفوائد الدنيوية: أن الملوك ومَن إليهم الأمر والنهي إذا وقفوا على ما فيها من سيرة أهل الجور والعدوان ورآها مدوّنةً في الكتب يتناقلها الناس، فيرويها خلف عن سلف، ونظروا إلى ما أعقبت من سوء الذكر، وقبيح الأحدوثة، وخراب البلاد، وهلاك العباد، وذهاب الأموال، وفساد الأحوال: استقبحوها، وأعرضوا عنها واطَّرحوها، وإذا رأوا سيرة الولاة العادلين وحسنها، وما يتبعهم من الذكر الجميل بعد ذهابهم، وأنّ بلادهم وممالكهم عمرت، وأموالهم درّت: استحسنوا ذلك ورغبوا فيه، وثابروا عليه وتركوا ما يُنافيه، هذا سوى ما يحصل لهم من معرفة الآراء الصائبة التي دفعوا بها مضرات الأعداء، وخلصوا بها من المهالك، واستصانوا نفائس المدن وعظيم الممالك، ولو لم يكن فيها غير هذا لكفى به فخراً".
4- {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188].
قال الطبري: "فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا من الخسف والمسخ والرجف والقتل وما أشبه ذلك من عقاب الله ولا هم ببعيد منه".
وذكرت الآيات أن المصائب والمهالك عقوبات تصيب الأمم بسبب ذنوبهم وآثامهم، فالله حكم عدل لا يظلم أحداً، ومن هذه الآيات:
1- {وَمَا أَصابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم فبما كسبت أيديكم يقول فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترحتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم، ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم فلا يعاقبكم بها".
2- {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَ اتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة:70].
3- {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44].
قال ابن مسعود: لو أخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في جحرها ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل كما قال: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]".
والعذاب والعقوبة التي أوعد الله بها الأمم لها موعد صدق يأتيها وإن طال على سبيل الاستدراج أو الإمهال، إذ هو سنة كونية يعذب الله بها الأمم أمة تلو أمة، وهذه السنن لا تحابي أمة، ولا تتجاوز مستحقاً للعذاب، وإن تأخر ذلك إلى حين أجله، وقد قال الله: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف:34]. أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون".
وقال تعالى: {َذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُه ُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [ن:44-45].
قال القرطبي: "واعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم بل سنة الله إمهال العصاة مدة". فالعقوبة الإلهية سنة من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل، كما قال الله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [آل عمران:137].
قال القرطبي: "المعنى قد خلت من قبلكم سنن يعني بالهلاك فيمن كذب قبلكم كعاد وثمود والعاقبة آخر الأمر وهذا في يوم أحد يقول فأنا أمهلهم وأملي لهم وأستدرجهم حتى يبلغ الكتاب أجله يعني بنصره النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهلاك أعدائهم الكافرين".
وقال: {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]. قال القرطبي: "سنة الله في خلقه يرفع من تخشع، ويضع من ترفع".
وقد ابتلى الله الأمم الغابرة بأصناف العذاب البالغة، وهذا العذاب على ضربين:
أولهما: عذاب الاستئصال، وهو الذي يودي بجميع الأمة فلا يبقي منها ولا يذر، كما حصل مع قوم نوح وعاد وثمود.
والثاني: هو ذلكم العذاب الشديد الذي يصيب الأمة ويزلزلها كالطواعين والطوفان والكوارث من خسف ومسخ، وقد عذب الله به فرعون وبني إسرائيل، وهذا النوع من العذاب لا يؤدي إلى فناء الأمة المعذبة برمتها.
وقد ذهب أهل العلم إلى أن النوع الأول قد رفعه الله عن البشرية ببالغ رحمته، ولو عذبهم به كان عادلاً جل وعلا: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45].
ولم يرفع من هذا العذاب أصل جنسه، إذ من الممكن أن يسلط الله الريح أو الحاصب على أمة من الأمم من غير أن يستأصلهم به.
قال الحافظ المقدسي – في (مفتاح دار السعادة)-: "وتأمل حكمته تعالى في عذاب الأمم السالفة بعذاب الاستئصال لما كانوا أطول أعماراً وأعظم قوى وأعتى على الله وعلى رسوله، فلما تقاصرت الأعمار وضعفت القوى رفع عذاب الاستئصال، وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين، فكانت الحكمة في كل واحد من الأمرين ما اقتضته في وقته".
ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية أن الاستئصال إنما رفع برسالة موسى عليه السلام فيقول: "وكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال عذاباً عاجلاً، يهلك الله به جميع المكذبين كما أهلك قوم نوح، وكما أهلك عاداً، وثمود، وأهل مدين، وقوم لوط، وكما أهلك قوم فرعون،.. إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال، بل قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} [القصص: 43]. بل كان بنو إسرائيل لما يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم، ويبقى بعضهم، إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر، ولهذا لم يزل في الأرض أمة من بني إسرائيل باقية".
ويقول ـ رحمه الله ـ مبيناً الصورة الجديدة التي أرادها الله لردع أعدائه، ألا وهي الجهاد لهؤلاء الكفار ومراغمتهم حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله: "المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة".
ولما بعث رسول الله كان رحمة للبشرية جمعاء كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، قال ابن عباس: "كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس، فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق"، ومقصوده الخسف الشامل، وإلا فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع بعضه فيما بينه وبين الساعة.
فأخبر بوقوع أصناف من العذاب العميم الذي يصيب بعض الأمة دون بعض كما في أحاديث المسخ والقذف والخسف الذي يكون بين يدي الساعة.
وأما حديث جابر لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهك)، قال: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: (أعوذ بوجهك) {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا أهون أو هذا أيسر)، ففيه قال ابن حجر: "الإعاذة المذكورة في حديث جابر وغيره مقيدة بزمان مخصوص، وهو وجود الصحابة والقرون الفاضلة، وأما بعد ذلك فيجوز وقوع ذلك فيهم"، أي وقوع العذاب لبعض الأمة دون بعض.
قال شيخ الإسلام: "وكان من حكمته ورحمته سبحانه وتعالى لما أرسل محمداً أن لا يهلك قومه بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم، بل عذب بعضهم بأنواع العذاب كما عذب طوائف ممن كذبه بأنواع من العذاب".
كما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان لأمته، حين سأل الله أن يرفع عنهم العذاب، فقال: (وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها وعشرون عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم وعشرون عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً).
قال شيخ الإسلام: "هذا الدعاء استجيب له في جملة الأمة و لا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد، وكلا الأمرين صحيح، فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة حاصل، و لولا ذلك لأهلكوا بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم".
ويورد القرآن والسنة في عشرات المواضع التي يتحدث الله فيها عن عذابه ورجزه الذي أنزله في الأمم السابقة، وكيف تنوعت صورة انتقام الله العظيم من أعدائه المجرمين والكافرين.
وقد تفاوتت العقوبات التي أصابت الأمم بتفاوت جرائمهم وعصيانهم لله عز وجل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم و جرائمهم، فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية التي لا يقوم لها شيء، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم، فجمع لهم بين الهلاك والرجم بالحجارة من السماء وطمس الأبصار وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين، وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان، وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة فماتوا في الحال .. ومن اعتبر أحوال العالم قديماً وحديثاً وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد وسفك الدماء بغير حق، وأقام الفتن واستهان بحرمات الله علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون".
قال السعدي: "فكل من هؤلاء الأمم المكذبة أخذنا بذنبه على قدره وبعقوبة مناسبة له".
كما أن هذه العقوبات الإلهية كانت - في كثير من صورها - صورة لما ارتكبته الأمم من جرائم وقبائح، فكان الجزاء من جنس العمل، يقول ابن القيم: "وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بد منه، فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لمنع الغيث من السماء والقحط والجذب، وجعل ظلم المساكين والبخس في المكاييل والموازين وتعدي القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا، ولا يعطفون إن استعطفوا، وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم، فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها، فتارة بقحط وجدب، وتارة بعدو، وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامة، وتارة بهموم والآم وغموم تحضرها نفوسهم، لا ينفكون عنها، وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم، وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزاً، لتحق عليهم الكلمة وليصير كل منهم إلى ما خلق له، والعاقل يسّير بصيرته بين الأقطار العالم فيشاهده، وينظر مواقع عدل الله وحكمته".
صور العذاب

صور العذاب كثيرة، منها:
1. الغرق والطوفان:
وهو أول عذاب استئصال عذب الله به الكافرين من قوم نوح {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـالِمُونَ} [العنكبوت:14].
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح:25]. قال ابن كثير: "من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم أغرقوا فأدخلوا ناراً".
ثم عذب الله فرعون وجنوده بالغرق في اليم {فَأَغْرَقْناهم فِي الْيَمِّ} [الأعراف:136]. {فَأَغْرَقْناهم أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:77].
كما عذب بالسيل والطوفان مملكة سبأ {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم ْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:16-17].
وهدد الله الآمنين من مكره بعذاب الغرق فقال: {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:69].
2. الريح:
وهو عذاب الله عذب به قوم عاد لما كفروا بربهم.
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة:6]. ويقول: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} [فصلت:16].
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24].
3. الصيحـة:
والصيحة هي كما قال القرطبي في تفسيرها: "صيح بهم فماتوا، وقيل صاح بهم جبريل، وقيل غيره". وقال أيضاً: "كانت صيحة شديدة خلعت قلوبهم".
وهي عذاب الله الذي عذب به قوم صالح {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67]. وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:31].
ويهدد الله المشركين بمثل هذا العذاب فيقول: {وَمَا يَنظُرُ هَـؤُلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} [ص:15].
4. الحـاصب:
والحاصب كما قال أبو عبيدة: "الحجارة"، وقال ابن حجر: "الحصباء في الريح".
وهو العذاب الذي عذب الله به قوم لوط لما كفروا وارتكبوا الموبقات فقال: {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} [العنكبوت:40]، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَـاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَـاهُم بِسَحَرٍ} [القمر:34].
وهو قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِي مِنَ الظَّـالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82 - 83].
ونقل القرطبي - في تفسيره {وَمَا هِي مِنَ الظَّـالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] - عن مجاهد أنه قال: "ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد".
وقال قتادة وعكرمة: "يعني ظالمي هذه الأمة، والله ما أجار الله منها ظالماً بعد".
وهو العذاب الذي عذب الله به أصحاب الفيل {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَـابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} [الفيل:1-4].
ومن جنسه الحد الذي جعله الله عقوبة للزاني المحصن، وهو الرجم.
والحاصب هو العذاب الذي حذر الله قريشاً به فقال: {أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَـٰصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:17].
وقال: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء:68].
5. الخسف:
والخسف هو كما عرفه القرطبي هو "الذهاب في الأرض"، وهو ذهاب المكان ومن عليه وغيبوبته في بطن الأرض.
وهو عذاب الله به قارون لما بغى وأفسد فقال: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ } [القصص:81]. {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ} [العنكبوت:40].
وهو أحد أنواع العذاب التي تكون في آخر الزمان كما في حديث عمران بن حصين حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، إذا ظهرت القينات والمعازف، وشرب الخمور).
وقد حذر الله العصاة من هذا العذاب {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [النحل:45]. وقال: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [سبأ:9].
ومن صور الخسف الزلازل التي تميد بالأرض فتخرب المدن بعد عمارها، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أن الزلازل تكثر بين يدي الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقتل.. وتكثر الزلازل).
قال ابن حجر: "وقد وقع في كثير من البلاد الشمالية والشرقية والغربية كثير من الزلازل، ولكن الذي يظهر أن المراد بكثرتها شمولها ودوامها".
6. الجوع والعطش وضيق الأرزاق:
وهو ما عذب به قوم سبأ حيث قال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112]. وقال أيضاً: {وَبَدَّلْناهم بِجَنَّـاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَـاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:16، 17].
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [العنكبوت:41].
قال ابن كثير: "بان النقص في الثمار والزروع بسبب المعاصي ليذيقهم بعض الذي عملوا". وقال: "يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه على صنيعهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي عن المعاصي".
وقال صلى الله عليه وسلم محذراً من وقوع بعض هذا البلاء: (يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن.. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).
7. الخوف والفرقة وتسليط الأعداء والذل وكثرة القتل والحروب:
وهذا النوع من العذاب عذب الله به بني إسرائيل فجعلهم فرقاً كثيرة وأضاف إلى ذلك الهوان والذلة إلى يوم القيامة {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء الْعَذَابِ} [الأعراف:167].
وقد صدق الله فكانوا أذل الأمم وأرذلها، وما نراه اليوم من عز وسؤدد فإنما هو بسبب تخاذل المسلمين عن قتالهم، ومصانعة النصارى لهم بحجة أنهم الشعب المبارك، وذلك قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النَّاسِ} [الأعراف:112].
ومنه قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الآيَـاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} [الأنعام:65].
8. المسخ:
وهو كما عرفه المباركفوري في (تحفة الأحوذي): "التغير في الصورة".
وقد عذب الله بني إسرائيل عندما اعتدوا في السبت {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَـاسِئِينَ} [البقرة:65]. وقال: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } [المائدة:60].
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا العذاب يكون في هذه الأمة، ووصف ذنب أولئك الممسوخين والذي بسببه يمسخهم الله، فقال صلى الله عليه وسلم كما جاء عند الترمذي وابن ماجة: (يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القـدر).
وعن عمران بن حصين مرفوعاً: (في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف فقال رجل: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمـور).
وفي صحيح ابن حبان: (لا تقوم الساعة حتى يكون في أمتي خسف ومسخ).
قال ابن تيمية: "المسخ واقع في هذه الأمة ولا بد، وهو واقع في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين قبلوا دينه، والمجاهرين المنهمكين في شرب الخمر والمحارم..".
ويوضح قائلاً: "إنما يكون الخسف والمسخ إذا استحلوا هذه المحرمات بتأويل فاسد، فإنهم لو يستحلوها مع اعتقاد أن الشارع حرمها كفروا ولم يكونوا من أمته، ولو كانوا معترفين بحرمتها لما عوقبوا بالمسخ كسائر من يفعل هذه المعاصي، مع اعترافهم بأنها معصية".
9. الأمراض والبلايا والطواعين:
وهو نوع آخر من العذاب يصبه الله على الأمم المتجبرة الكافرة أو المسلمة العاصية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون رجسٌ أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم).
وقد توعد الله فيه عصاة الأمم فيما جعل الطاعون رحمة وشهادة لهذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا).
قال القرطبي: "الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة"..
وكما يقول الدكتور جاسم سلطان فإن التغيير الداخلي للإنسان هو الذي يحدد مسؤوليته تجاه التاريخ والأحداث، وهذه القيمة التغييرية "بدلاً من أن تلقي على أكتافنا ثقل الأحداث تجعلنا نحدد إزاءها مسؤولياتنا. فبقدر ما ندرك أسبابها ونقيسها بالمقياس الصحيح، نرى فيها منبهات لإرادتنا وموجهات لطاقاتنا، وبقدر ما نكتشف من أسرارها، نسيطر عليها بدلاً من أن تسيطر علينا، فنوجهها ولا توجهنا هي؛ لأننا حينئذ نعلم أن الأسباب التاريخية تصدر عن سلوكنا وتنبع من أنفسنا، من مواقفنا حيال الأشياء، أي من إرادتنا في تغيير الأشياء تغييراً يحدد بالضبط وظيفتنا الاجتماعية كما رسمها القرآن في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]".
وقال: إن سنة التغيير لا تتخلف، وبقدر ما سنغير في منظومتنا النفسية الداخلية بقدر ما ستكون حضارتنا. وقد غير الغرب في منظومته الفكرية والنفسية، فتترس بالإرادة، وحطم المستحيل، وانطلق يكتشف الآفاق، وأسس حضارة مادية كبيرة. وعندما فشل في تغيير الشق القيمي والديني في منظومته، فإنه فشل في أن يتوج حضارته بالقيم الفاضلة، وأن يربطها بنداوة السماء.
أسباب وقوع العذاب على الأمم:
وفيما يلي بعض أسباب العذاب والمهالك التي تحيق بالمجتمعات:
1. الظلم والكفر:
قال تعالى محذراً من الشرك الذي أحل العقوبة بالأمم السابقة: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَـاهُم ْ لما ظلموا} [الكهف:59]. قال ابن كثير: "الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم.. وكذلك أنتم أيها المشركون: احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي، ولستم بأعز علينا منهم، فخافوا عذابي ونذر".
وقال تعالى يحكي عن مصارع الأمم المعذبة بسبب كفرها: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر:18-20].
وقال عن قوم فرعون وغيرهم {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَـاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَـاه ُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَـالِمِين}َ [آل عمران:11].
وقد جعل الله العقوبة للأمم الكافرة سنة له في خلقه، فقال: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
2. ظلم العباد:
ومن الأسباب التي تحل العذاب في الأمم استضعاف العباد وظلمهم كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَـاهُم ْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف:59].
والظلم من المعاصي التي يعجل الله عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم).
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب).
وحكى الله عن مصارع الأمم الظالمة الطاغية كقوم عاد وثمود وفرعون، فقال: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ} [الفجر:9-14]. وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَـالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الأنبياء:11]. وقال: {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج:45].
3. كثرة المعاصي والمنكرات وقلة الأمر بالمعروف:
ومن الأسباب التي تحل العذاب العاجل في الأمم فشو المنكرات وشيوعها، وذلك عندما تقصر الأمة بواجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]. وعن زينب بنت جحش أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فزعًا يقول: (لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحشٍ: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشا فيهم ولد الزنا فيوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب).
والمنكرات إنما تفشو وتظهر حين تقصر الأمة عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصبح المعصية في المجتمع ظاهرة مألوفة، وحينها تعم العقوبة الجميع (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم).
وعن عبد الله بن عمر قال أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا). قال القرطبي: "وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع".
ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما من قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقابٍ).
قال أبو الطيب الآبادي: "قال القاري: إذا كان الذين لا يعملون المعاصي أكثر من الذين يعملونها فلم يمنعوهم عنها عمهم العذاب". وقال العزيزي: "لأن من لم يعمل إذا كانوا أكثر ممن يعمل كانوا قادرين على تغيير المنكر غالبًا، فتركهم له رضًا به".
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تعمل الخاصة بعمل تقدر عليه العامة أن تغيره ولا تغيره، فذاك حين يأذن الله تعالى في هلاك العامة والخاصة)، قال المباركفوري: "تصيبكم عامة بسبب مداهنتكم".
قال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكرين أظهرهم، فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم".
4. العتو والكبر والغرور:
والأمة العاتية المغرورة المستكبرة أمة تعرضت لعقوبة الله ونازعت الله ما يستحقه من الكبرياء والعظمة قال تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم:50-52]. قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: وأنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، إنهم كانوا هم أشد ظلماً لأنفسهم وأعظم كفراً بربهم وأشد طغياناً وتمرداً على الله من الذين أهلكهم من بعد من الأمم، وكان طغيانهم الذي وصفهم الله به، وأنهم كانوا بذلك أكثر طغياناً من غيرهم من الأمم".
{أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9].
قال ابن كثير: "كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم.. وأكثر أموالاً وأولاداً، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعماراً طوالاً، فعمروها أكثر منكم، واستغلوها أكثر من استغلالكم".
5. الغلو في الدين:
قال رسول الله: (يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، قال المناوي في (فيض القدير): "إياكم والغلو في الدين أي التشديد فيه ومجاوزة الحد والبحث عن غوامض الأشياء والكشف عن عللها".
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
قال النووي: "المراد بهلاك من قبلنا هنا هلاكهم في الدين بكفرهم، وابتداعهم، فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل فعلهم".
وقال ابن حجر عن المسائل الوارد ذمها في الحديث: "ما كان على وجه التعنت والتكلف".
ويفسر ابن تيمية الاختلاف على الأنبياء بالمخالفة لما فيه، قال ابن تيمية: "فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللاً ذلك بأن سبب هلاك الأولين ما كان إلا لكثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة التي أمرهم بذبحها، لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو والله أعلم مخالفة للأنبياء، كما يقال: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه". ومن غلو أهل الكتاب إطراؤهم المسيح وقولهم أنه ابن الله، ومثله طاعتهم المطلقة لأحبارهم ورهبانهم.
6. كفران النعم:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، يقول الطبري في بيان معنى الآية: "ولئن كفرتم أيها القوم نعمة الله فجحدتموها بترك شكره عليها وخلافه في أمره ونهيه وركوبكم معاصيه إن عذابي لشديد، أعذبكم كما أعذب من كفر بي من خلقي".
وحكى الله مصارع الأمم التي كفرت نعم الله فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
7. التنافس في الدنيا والشح بما فيها:
ومن أسباب العذاب الركون إلى الدنيا والتسابق فيها، وهو الداء الذي أهلك الأمم السابقة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا). قال ابن حجر: "فيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين".
وهو ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه حين حذرها من فتنة الدنيا والتسابق فيها فقال: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم). وقال: (إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها).
فبسطة الدنيا على العباد سبب طغيانهم كما قال الله: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَـانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6، 7]، قال الطبري: "إن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه فيكفر به لأن رأى نفسه استغنت".
قال الله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْق لبغوا في الأرض ولمن ينزل بقدر ما يشاءَ} [الشورى:27]،. قال ابن كثير: "أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً".
الخلاصة
إذاً فنحن أمام هدف واحد أساسي، وهو ألا نقع في نفس أخطاء الأمم السابقة، وإذا وقعنا فيها لابد من الإسراع إلى التوبة قبل أن يصيبنا ما أصابها.
وقد كرر القرآن تلك التحذيرات وشدد عليها في أكثر من موضع؛ وذلك لتكون الصورة واضحة والحجة بينة.
وهناك هدف آخر متعلق بالهدف السابق، وهو النظر في حال أمتنا وواقعها، ومقارنتها بحال سابقاتها من الأمم؛ لمعرفة جوانب الاتفاق والاختلاف؛ وهذا يؤدي إلى معرفة أسباب الحال التي عليها الأمة وطرق ووسائل إصلاح الخلل ومداواة العلل.. وذلك بناء على القاعدة الشرعية: }سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا{.
ـــــــــــــ
المصادر
- (أداة فلسفة التاريخ)، د. جاسم سلطان.
- (الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار)، علي محمد الصًّلاَّبيَّ.
- (الاعتبار بمصارع الأمم)، د. منقذ بن محمود السقار.
منقول