الفتوحات الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة






كتبه/ محمود عبد الحميد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
بدأت تظهر رغبة القيادة النبوية الشريفة في نشر الإسلام وإعلاء كلمة الله خارج جزيرة العرب، فكانت غزوة تبوك سنة "9هـ"، وبَعْث أسامة بن زيد سنة "11هـ" مؤشراً عسكرياً واضحاً علي ذلك، وعلى القدرة على الرد على تحديات أقوى دول العالم إذ ذاك.
فانطلق أسامة ومن ورائه زهرة قوات المسلمين لم يتخلف منهم أحد وعلى رأسهم المهاجرون الأولون، متقدماً باتجاه الشمال، وعسكر في الجرف على بعد فرسخ من المدينة ريثما يتم تجميع المقاتلين، هناك بلغته أنباء مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتوقف عن المسير وظل معسكراً بجنده، لينظر ما الله قاضٍ برسوله –صلى الله عليه وسلم-.
وبعد قليل لحق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، وتولى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- قيادة الأمة، وبدأت الخلافة الراشدة، ثم بدأت بوادر الارتداد عن الطريق تتحرك، واشرأبت -كما تقول عائشة رضي الله عنها- اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية.
وهنا أعلن أبو بكر -رضي الله عنه- أنه سيقف بوجه الردة وسيُقاتلها ولو تخطفته الذئاب، وأصرّ في الوقت نفسه على أن يمضي جيش أسامة إلى هدفه كما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وعندما اعترض عليه الصحابة بأن قاعدة الإسلام مهددة من كل جانب ولا جيش فيها، قال: "ما كنت لأرد جيشاً جرده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
ما لبث أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أن حول خطة الجهاد صوب الأهداف التي بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- التحرك نحوها في أعقاب صلح الحديبية بالكلمة حيناً والسلاح حيناً آخر، والتي جاءت الردة بمثابة عائق مؤقت عن مواصلة التحرك في سبيلها؛ تلك هي السعي من أجل تنفيذ عالمية الإسلام وإسقاط كافة النظم الباغية الكافرة التي تقف في طريق هذا الهدف السامي، إن هذا هو المغزى الأوحد لحركة الفتح الإسلامي في مدى العقدين اللذين أعقبا وفاة رسول -صلى الله عليه وسلم-.
ويتهافت قول عدد من المؤرخين المعاصرين: بأن دافع الفتح الإسلامي إنما هو اقتصادي صرف، يتمثل في السعي من أجل الغنى بعد الفقر، والشبع بعد الجوع، ومغادرة فقر الصحراء وجدبها صوب الأراضي الخصبة المعطاءة، وإننا بمجرد إدراك شرعية الجهاد في الإسلام من قوله -تعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)(الأنفال:39)، نصل إلى رفض هذه المقولة.
أما في الواقع التاريخي أي من خلال مجريات الفتح ومعطياته وما صدر خلال ذلك كله من تصريحات لقادة المسلمين وسفرائهم، مما نجد تفاصيله في بطون مصادرنا التاريخية، فإنه يُقدم لنا الدليل العملي على صدق التوجه الديني الخالص لهذه الفتوحات وخطأ القائلين بالدافع المادي للفتح.
إن ما قاله المغيرة بن شعبة بن عامر لرستم قائد الفرس، وما قاله المغيرة بن زرارة لكسرى نفسه، ليس سوى نماذج فحسب لما قيل في هذا الاتجاه: "ما لهذا -أي لطلب المال- جئناكم، فوالله لإسلامكم أحب إلينا من صلحك، الله بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
وبمجرد الرجوع إلى الوقائع التاريخية نفسها يتهافت قول القائلين: بأن الفتح الإسلامي جاء محاولة من أبي بكر -رضي الله عنه- لإشغال العرب عن العودة إلى ردة جديدة، وكأنه ليس جهاداً إيمانياً يتوجب على المسلمين القيام به لفتح العالم وإعادة تنظيمه.
فنحن نقرأ في الطبري على سبيل المثال الرواية التالية: كتب أبو بكر -رضي الله عنه- إلى قائديه خالد وعياض: "أن استنفرا من قاتل أهل الردة، من ثبت على الإسلام بعد وفاة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا يغزون معكم أحد ممن ارتد"، ونقرأ كذلك: "ولا تستعينوا بمرتد في قتال عدو حتى أرى رأيي"، ثم يعلق الطبري قائلاً: "فلم تشهد الأيام -أي الفتوحات في عهد أبي بكر- مرتداً".
فانطلقت قوات المسمين تعمل على جبهتين عريضتين: العراق والشام:
في الجبهة الأولى:
تمكن عدد من القادة: المثنى بن حارثة الشيباني، وعياض بن غنم، ثم خالد بن الوليد من تحقيق عدد من الانتصارات المهمة ضد المواقع الفارسية في جنوب غرب العراق توّجت في مدى يقل عن السنتين بدخول الحيرة عاصمة المناذرة حلفاء الفرس في العراق، ثم ما لبث أمر أبي بكر أن صدر إلى خالد بمغادرة العراق، لإسناد إخوانه في اليرموك ضد الجيش البيزنطي هناك، وأعقب خالداً في العراق عدد من القادة أبرزهم -ولا ريب- سعد بن أبي وقاص الذي حقق انتصاراً رائعاً على الفرس في معركة القادسية عام "15هـ" حيث سحق زهرة قواتهم في العراق.
وأعقب هذا الانتصار الحاسم بانتصارين آخرين تمثل أحدهما بتوجيه ضربة أخرى للقوات الفارسية في جلولاء، وتمثل الآخر باكتساح المدائن عاصمتهم القديمة في العراق، وبعد أربع سنوات حشد الإمبراطور الساساني الأخير قوى قيل أنها جاوزت الخمسين ألفاً عدداً، وعند نهاوند على الحدود الجنوبية الفاصلة بين العراق وبلاد فارس جرى لقاء حاسم لا يقل خطورة عن معركة القادسية، انتصر فيه المسلمون وجاء انتصارهم بمثابة تحطيم نهائي لآخر سدود العسكرية الساسانية وقُتل آخر أباطرتها في أقصى الشمال، ومن ثم أطلق العرب على معركة نهاوند اسم فتح الفتوح.
وثمة فرق عسكرية أخرى كانت قد تفرغت لفتح الأقاليم الشمالية، وبخاصة الجزيرة الفراتية وأذربيجان وأرمينيا، وقد حققت هي الأخرى نجاحاً مُذهلاً في اختزال الزمان والمكان والوصول إلى أهدافها بسرعة منقطعة النظير.
أما في الجبهة الشامية:
فقد انطلقت أربع فرق، إحداها بقيادة عمرو بن العاص، ووجهته فلسطين، والأخرى بقيادة شرحبيل بن حسنة، ووجهته الأردن، والثالثة بقيادة يزيد بن أبي سفيان ووجهته دمشق، والرابعة بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح، ووجهته حمص.
ولقد استنفرت البدايات الأولى للانتصارات التي حققتها هذه الفرق القيادة البيزنطية التي أخذت تُدرك أكثر فأكثر خطورة الدولة الإسلامية الناشئة على وجودها في بلاد الشام، فحشد الإمبراطور هرقل جيشاً كبيراً، ولى قيادته أخاه فردريك الذي تحرك صوب أواسط الشام، فكان على قادة الفرق الأربع أن يستشيروا القيادة المركزية في المدينة، فكان جواب أبي بكر أن اجتمعوا عسكراً واحداً، والقوا زحف المشركين بزحفكم فأنتم أنصار الله، والله ناصر من نصره وخاذل من كفر به.
وعند اليرموك في أواسط سوريا تم اللقاء الحاسم بين الطرفين، وإذ طال اللقاء دون ظهور نتيجة نهايته أصدر أبو بكر -رضي الله عنه- أمره المعروف إلى خالد أن يغادر جبهة العراق ويهرع لنجدة إخوانه في الشام، فقرر خالد اختزال الزمن ذي الأهمية الكبيرة في الحروب واجتياز الصحراء عبر خط مستقيم إلى هدفه بدلاً من الطريق التقليدي الطويل.
وبعد أيام قلائل لقيت فيها قوات خالد المصاعب والمتاعب وصل معسكر إخوانه في اليرموك، وتولى قيادة المعركة الحاسمة التي انتهت بسحق القوات البيزنطية وفتح الطريق أمام المسلمين لاجتياح المواقع والمدن الشامية الواحدة تلو الأخرى.
وفي فلسطين تمكن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عند أجنادين من تحقيق انتصار لا يقل أهمية عن اليرموك، فتح الطريق لتصفية المدن الفلسطينية وحصار القدس، ثم استسلامها أخيراً وتوقيعها شروط الصلح بحضور الخليفة عمر بن الخطاب نفسه -رضي الله عنه- الذي ما لبث أن عقد مع كبار قادته مؤتمراً في الجابية؛ لتحديد إستراتيجية الفتوحات في المرحلة التالية.

فانطلق عمرو بن العاص -رضي الله عنه- ففتح مصر والإسكندرية وبرقة وطرابلس الغرب، وفتح أبو عبيدة -رضي الله عنه- دمشق واستخلف عليها يزيد بن أبي سفيان، وبعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف، وكانت موقعة القادسية التي انتصر فيها المسلمون على الفرس، وتم فتح المدائن، وفتحت همذان ثم الري، ثم أذربيجان.

وفي خلافة عثمان حاول الفرس والروم استرداد بعض مواقعهم القديمة، فقاموا بسلسلة من حركات التمرد تمكن الخليفة من سحقها بسهولة، وتم أول قتال بحري في عهده -رضي الله عنه، فقد سمح لرجليه في مصر والشام: ابن أبي سرح ومعاوية أن يبنيا أسطولاً إسلامياً تمكن خلال سنوات قلائل من تحقيق عدداً من الانتصارات كان أبرزها فتح قبرص ورودس، ومعركة ذات الصواري التي تم فيها سحق الأسطول البيزنطي المكون من خمسمائة قطعة بحرية، ثم كانت أحداث الفتنة في مرحلتيها الأولى والثانية بمثابة توقف زمني قصير لم يتجاوز السنوات العشر.
نسأل الله أن يُعيد للمسلمين هذه الأمجاد، وأن يردهم إلى رشدهم، والعمل بدينهم فهو سبيل عزهم.