إنما بُعثت لأتمــــم مكــــارم الأخــــلاق


مجلة الفرقان





د. خالد شجاع العتيبي:



كان النبي صلى الله عليه وسلم يحسن التعامل مع الجاهل الذي يخطئ ولم يعنّفه ولم يؤذه

جاءت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لإعلاء مكارم الأخلاق ونشر معاني الرحمة والتسامح والصدق والأمانة، وكل ما من شأنه أن يرسخ الأخلاق الحسنة في المجتمع، وينبذ الأخلاق الذميمة، قال - صلى الله عليه وسلم-: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وفي لفظ (لأتمم صالح الأخلاق)، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم- حصر دعوته في نشر الأخلاق وتتميمها وتكميلها، وقد امتدح الله -سبحانه وتعالى- نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم- فقال: «وإنك لعلى خلق عظيم»، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل.

وقد ضرب لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة في قيامه بمثل هذه الأمور؛ حيث كان أول الناس امتثالاً لما يأمر به، وأول الناس انتهاءً عما ينهى عنه، قال فيه ربه -سبحانه وتعالى- {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، كما حثّ الأمة على التأسي به - صلى الله عليه وسلم- فقال -سبحانه-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.

حرص النبي - صلى الله عليه وسلم- على تبليغ الرسالة

ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصًا كل الحرص على أن يُبلّغ رسالة ربه، فما من خير يعلمه لأمته إلا ودلّها عليه، وما من شر يعلمه إلا وحذّر أمته منه، فكان لزاما على المسلم أن يعرف ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولا سيما في سيرته العطرة التي تُعد ترجمة عملية لأقواله الشريفة - صلى الله عليه وسلم-، فإن الأوامر والنواهي والمندوبات والمكروهات التي بيّنها النبي - صلى الله عليه وسلم- في أقواله، ترجمها لنا عمليا في أفعاله من خلال سيرته - صلى الله عليه وسلم .

الحث على الخلق الكريم

لا شك أن النصوص كثيرة في الحث على الخلق الكريم، وعلى التحلي بالأخلاق والحرص عليها؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديثه -صغُر مبناه لكن عظُم معناه- ما يدلنا على أهمية الأخلاق، قال - صلى الله عليه وسلم-: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم»! هل رأيتم صائمًا لا يفطر؟ وقائما لا يفتر؟ من حَسّن أخلاقه كان بهذه المثابة، كمن يصوم كل يوم، ويقوم كل ليلة، مع عِظَم هذا العمل الذي يؤديه الإنسان من صيام النهار وقيام الليل، إلا أنّ الإنسان إذا حَسّن أخلاقه كان بهذه المنزلة؛ فهذا يدل على أهمية الأخلاق والتحلي بها. ويقول - صلى الله عليه وسلم-: «ما من شيء أثقل في ميزان العبد من حسن الخلق». ولما سُئِل النبي - - عصلى الله عليه وسلمن أكثر ما يُدخل الناس الجنة قال: «تقوى الله وحسن الخلق». وقال - صلى الله عليه وسلم-: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة -أي أطرافها- لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خلقه».

حُسن الخلق شيء عظيم

إنَّ حُسن الخلق شيء عظيم، وليس بالأمر السهل، لذلك الإنسان يحتاج لممارسة حُسن الخلق؛ فهناك أناس جبلهم الله -تعالى- على حسن الخلق ورزقهم بعض الصفات، ولكنَّ هناك أخلاقا كثيرة تحتاج إلى اكتساب وإلى تعليم وتعوّد. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم» يعوّد الإنسان نفسه حتى يصل إلى هذه الخصلة وهذه المكرمة، وحديث أشج عبد القيس عندما جاؤوا وفدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فلما أقبلوا على مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم- نزلوا عن ركائبهم يهرولون فرحين، يريدون رؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن أشج عبد القيس تأخر عنهم وعَقَلَ ركائبهم، ثم لبس ملابس جديدة فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله، الحلم والأناة». جاء في بعض الروايات أنه قال: «يا رسول الله، أهما خلقان جبلني الله عليهما أم اكتسبتهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما». فهذا يدل على أن الأخلاق منها ما يكون جبلي، ومنها ما يكون اكتسابا؛ فكم من إنسان قبل الاستقامة والالتزام كان سريع الغضب، وغليظا في التعامل، لكن لما جاء الالتزام بتعاليم الإسلام هذّب أخلاقه؛ وهكذا كثير من الصحابة كانوا في الجاهلية على لون فلما جاء الإسلام تغيروا إلى لون آخر.

مواقف للنبي - صلى الله عليه وسلم

وهذه إشارات لبعض المواقف للنبي - صلى الله عليه وسلم -، تدلنا على حُسن تعامله مع الآخرين، وتحلّيه بهذه الأخلاق الكريمة التي ينبغي أن نتأسى بها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم:

الأخلاق لها نور

إنّ حسن الخلق له نور على الشخص، والإنسان الذي يتحلى بالأخلاق، يُحَب، ويٌقبَل عليه، ويَأْلَف ويُؤْلَف، كما جاء في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم- للمؤمن، «المؤمن يَأْلَف ويُؤْلَف»، بينما يترك الناس غيره بسبب شره وشدته وغلظ تعامله، يقول الله -تعالى- {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وهذا معناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان رحيما بالمؤمنين، وحريصا عليهم، ويريد الخير للناس، ويحرص على إيصال الحق إلى الخلق، فلما رأى عبدالله بن سلام - رضي الله عنه - وكان من سادات اليهود- النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: علمت أن وجهه ليس بوجه كاذب؛ ذلك لأن الخلق الكريم له صبغة على الشخص، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»؛ لذلك يقول بعض أهل العلم عند هذا الحديث: ألا ترى أنّ الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، كلٌّ على شاكلته، ونحن نجد اليوم أن الإنسان المستقيم يمشي مع المستقيمين. والإنسان الذي عنده معاص وشر وفسوق يمشي مع من يكون على شاكلته.

وهذا عدي بن حاتم كان من نصارى العرب - رضي الله عنه - فلما أسلموا جاء النبي - صلى الله عليه وسلم- واستضافه، يقول: في الطريق لقيته امرأة عجوز، يقول عدي: فوقف النبي معها طويلا، فعلمت أن هذا خلق نبي.

قصة الأعرابي الذي بال في المسجد

وفي قصة الأعرابي الذي دخل المسجد فبال في ناحيته دليل واضح على حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم- وحسن خلقه، فقد فقام الصحابة -رضي الله عنهم- ليقعوا به -يريدون ضربه- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: دعوه، لا تذرموه -أي لا تقطعوا عليه بوله- فلما فرغ، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا هذا، إن هذه المساجد لم تُبن لمثل هذا وإنما هي للصلاة والذكر وقراءة القرآن». فلما رأى حُسن تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم- معه قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا؛ فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم- وقال: «لقد حجّرت واسعا». فهذا يدل على حُسن تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الجاهل الذي أخطأ ولم يعنّف عليه ولم يؤذه.

حديث معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه

وهذا معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - يقول: صليت مع رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم- فعطس رجل من القوم؛ فقلت يرحمك الله؛ فرماني القوم بأبصارهم؛ فقلت واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم؛ فعرفت أنهم يصمتوني؛ فقال عثمان: فلما رأيتهم يسكتوني لكني سكت، قال: فلما صلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأبي وأمي ما ضربني ولا كهرني ولا سبني، ثم قال: «إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس هذا، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن «، فالرفق مطلوب والإحسان إلى الناس مطلوب كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم.

إئذن لي بالزنا

وجاء في الحديث عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: إن فتى شابًّا أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال: «ادنه»، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: «أتحبه لأمك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»، قال: «أفتحبه لابنتك؟»، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم»، قال: «أفتحبه لأختك»، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم»، قال: «أفتحبه لعمتك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعمَّاتهم»، قال: «أفتحبه لخالتك»، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه، وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فَرْجَه»، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. رواه أحمد بإسناد صحيح.

وهذا ما نحتاجه اليوم، الخطاب العقلاني، الخطاب المؤصل مع علم، وليس التعنيف والسب والشتم؛ فبعض الناس -مع الأسف- عندما يبذل النصيحة، يبذلها وكأنه هو الأفضل والمنصوح هو الأقل، قد يكون هذا المنصوح عند الله أفضل من الناصح، لذلك على الإنسان أن يرفق بالناس، وأن ينصحهم كما لو كان هذا المنصوح هو المتفضل عليك بقبول النصيحة، فالنصيحة عند تقديمها أحيانا يكون بها مرارة وصعوبة، تحتاج إلى شيء يسوّغها ويجعلها سهلة، وهكذا نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حريصا على هداية الناس، يريد لهم الخير، يحرص على نشر الفضيلة بينهم، وبمثل هذه الأخلاق ساد الصحابة -رضي الله عنهم- ونشروا الخير.

نحتاج إلى التطبيق


هذه إشارة بالقليل على الكثير، وتنبيه بالجزء على الكل، وليس المقصود الاستقصاء؛ لأن الحديث عن الأخلاق يطول، ولكن نحتاج إلى التطبيق. فنحن نسمع عن الكرم، لكن من الذي يمتثل من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره. أين نحن من إغاثة الملهوف وإعانة المحتاج، كان الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. أيضا في الشجاعة، النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء عن الصحابة كان إذا حمي الوطيس قالوا: كنا نحتمي برسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فكان أشجع الناس. ويوم حنين صمد - صلى الله عليه وسلم- في أرض المعركة وقال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، فرجع الناس إليه واستعادوا قوتهم. وأيضا في قوته البدنية. وهذا يدلنا على صفات كثيرة تحلى بها النبي - صلى الله عليه وسلم- وتَخَلّق بها، نحتاج إلى معرفة ما جاء في سيرته - صلى الله عليه وسلم- وأن نمتثلها وأن نستكمل مثل هذه الأخلاق. فالإنسان يسعى دائما إلى الأفضل، وكما قيل: (صاحب البيت أدرى بما فيه) فأنت أدرى وأبصر بنفسك، تعرف ما عندك من نقص فتستكمله في الكرم، في الشجاعة، في فعل الخير وإيصاله للناس.