قال العلامة العثيمين رحمه الله تعالى في «القول المفيد على كتاب التوحيد» (1/ 164) :
«لأن كل من أثبت سببا لم يجعله الله سببا شرعيا ولا قدريا; فقد جعل نفسه شريكا مع الله. فمثلا: قراءة الفاتحة سبب شرعي للشفاء. وأكل المسهل سبب حسي لانطلاق البطن، وهو قدري; لأنه يعلم بالتجارب.
والناس في الأسباب طرفان ووسط:
الأول: من ينكر الأسباب، وهم كل من قال بنفي حكمة الله; كالجبرية، والأشعرية.
الثاني: من يغلو في إثبات الأسباب حتى يجعلوا ما ليس بسبب سببا، وهؤلاء هم عامة الخرافيين من الصوفية ونحوهم.
الثالث: من يؤمن بالأسباب وتأثيراتها، ولكنهم لا يثبتون من الأسباب إلا ما أثبته الله سبحانه ورسوله، سواء كان سببا شرعيا أو كونيا.
ولا شك أن هؤلاء هم الذين آمنوا بالله إيمانا حقيقيا، وآمنوا بحكمته; حيث ربطوا الأسباب بمسبباتها، والعلل بمعلولاتها، وهذا من تمام الحكمة.»
ولبس الحلقة ونحوها: إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله; فهو مشرك شركا أكبر في توحيد الربوبية; لأنه اعتقد أن مع الله خالقا غيره.
وإن اعتقد أنها سبب، ولكنه ليس مؤثرا بنفسه; فهو مشرك شركا أصغر لأنه لما اعتقد أن ما ليس بسبب سببا; فقد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سببا. وطريق العلم بأن الشيء سبب:
إما عن طريق الشرع، وذلك كالعسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} 1، وكقراءة القرآن فيها شفاء للناس، قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } 2.
وإما عن طريق القدر، كما إذا جربنا هذا الشيء فوجدناه نافعا في هذا الألم أو المرض، ولكن لا بد أن يكون أثره ظاهرا مباشرا كما لو اكتوى بالنار فبرئ بذلك مثلا; فهذا سبب ظاهر بين،
وإنما قلنا هذا لئلا يقول قائل: أنا جربت هذا وانتفعت به، وهو لم يكن مباشرا; كالحلقة، فقد يلبسها إنسان وهو يعتقد أنها نافعة، فينتفع لأن للانفعال النفسي للشيء أثرا بينا;
فقد يقرأ إنسان على مريض فلا يرتاح له، ثم يأتي آخر يعتقد أن قراءته نافعة، فيقرأ عليه الآية نفسها فيرتاح له ويشعر بخفة الألم،
كذلك الذين يلبسون الحلق ويربطون الخيوط، قد يحسون بخفة الألم، أو اندفاعه، أو ارتفاعه، بناء على اعتقادهم نفعها. وخفة الألم لمن اعتقد نفع تلك الحلقة مجرد شعور نفسي،
والشعور النفسي ليس طريقا شرعيا لإثبات الأسباب، كما أن الإلهام ليس طريقا للتشريع.



وقال الشيخ صالح أل الشيخ في«التمهيد لشرح كتاب التوحيد» (ص93):
والقاعدة في هذا الباب: أن إثبات الأسباب المؤثرة وكون الشيء سببا: لا يجوز إلا من جهة الشرع فلا يجوز إثبات سبب إلا أن يكون سببا شرعيا، أو أن يكون سببا قد ثبت بالتجربة الواقعة أنه يؤثر أثرا ظاهرا لا خفيا فمن لبس حلقة أو خيطا أو نحوهما لرفع البلاء أو دفعه فإنه يكون بذلك قد اتخذ سببا ليس مأذونا به شرعا،
وكذلك من جهة التجربة: لا يحصل له ذلك على وجه الظهور وإنما هو مجرد اعتقاد من الملابس لذلك الشيء فيه، فقد يوافق القدر، فيُشفى مِن حِين لُبس أو بعد لبسه، أو يدفع عنه أشياء يعتقد أنها ستأتيه فيبقى قلبه معلقا بذلك الملبوس، ويظن بل يعتقد أنه سبب من الأسباب، وهذا باطل.


وقال أيضا في التمهيد :
قوله: من أثبت سببا - يعني: ادّعى أنه يُحدِث المسبَّب، أو يُحْدِث النتيجة - لم يجعله الله سببا، لا شرعا، ولا قدرا: فقد أشرك، يعني الشرك الأصغر.
هذه القاعدة صحيحة - في الجملة - لكن قد يُشْكِل دخول بعض الأمثلة فيها، لكن المقصود من هذا الباب: إثبات أن الأسباب لا بد أن تكون إما من جهة الشرع، وإما من جهة التجربة الظاهرة، مثل: دواء الطبيب بالنار، ومثل: الانتفاع ببعض الأسباب التي فيها الانتفاع ظاهر، كأن تتدفأ بالنار أو تتبرد بالماء أو نحو ذلك، فهذه أسباب ظاهرة بَيِّنَةُ الأثر،

وقال العلامة عبد الرحمن السعدي القول السديد شرح كتاب التوحيد ط النفائس» (ص43):
«إذا علم ذلك فمن لبس الحلقة أو الخيط أو نحوهما قاصدا بذلك رفع البلاء بعد نزوله، أو دفعه قبل نزوله فقد أشرك ; لأنه إن اعتقد أنها هي الدافعة الرافعة فهذا الشرك الأكبر.
وهو شرك في الربوبية حيث اعتقد شريكا مع الله في الخلق والتدبير.
وشرك في العبودية حيث تأله لذلك وعلق به قلبه طمعا ورجاء لنفعه، وإن اعتقد أن الله هو الدافع الرافع وحده ولكن اعتقدها سببا يستدفع بها البلاء، فقد جعل ما ليس سببا شرعيا ولا قدريا سببا، وهذا محرم وكذب على الشرع وعلى القدر.
أما الشرع فإنه ينهى عن ذلك أشد النهي، وما نهى عنه فليس من الأسباب النافعة.
وأما القَدَر فليس هذا من الأسباب المعهودة ولا غير المعهودة التي يحصل بها المقصود، ولا من الأدوية المباحة النافعة.
وكذلك هو من جملة وسائل الشرك؛ فإنه لا بد أن يتعلق قلب متعلقها بها، وذلك نوع شرك ووسيلة إليه.
فإذا كانت هذه الأمور ليست من الأسباب الشرعية التي شرعها على لسان نبيه التي يتوسل بها إلى رضاء الله وثوابه، ولا من الأسباب القدرية التي قد علم أو جرب نفعها مثل الأدوية المباحة كان المتعلق بها متعلقا قلبه بها راجيا لنفعها، فيتعين على المؤمن تركها ليتم إيمانه وتوحيده؛ فإنه لو تم توحيده لم يتعلق قلبه بما ينافيه، وذلك أيضا نقص في العقل حيث التعلق بغير متعلق ولا نافع بوجه من الوجوه، بل هو ضرر محض. والشرع مبناه على تكميل أديان الخلق بنبذ الوثنيات والتعلق بالمخلوقين، وعلى تكميل عقولهم بنبذ الخرافات والخزعبلات، والجد في الأمور النافعة المرقية للعقول، المزكية للنفوس، المصلحة للأحوال كلها دينيها ودنيويها والله أعلم »