الصورة الكاملة!









كتبه/ أحمد شهاب


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

إن رؤية أي صورةٍ بكاملها ضروري للحكم عليها، فإن رؤية جزء من الصورة قد يُغَيب عنك جزءًا من الحقيقة، بل قد تغيب عنك الحقيقة كلها، بل وأكثر من ذلك فإنه قد يصوِّر لك عكس الحقيقة.

رغم أنك ترى جزءًا من الصورة؛ إلا أن غياب جزء منها ولو صغير هو خلل قد يؤدي إلى خطأ كبير في الحكم، بحسب أهمية ذلك الجزء الغائب وتأثيره في الحكم، فماذا لو كان الجزء الغائب كبيرًا، بل ومؤثرًا في الحكم؟!

فإذا علمنا أن الجزء الأكبر من قصة الوجود والحياة هو في الآخرة، لدرجة أن الدنيا ما هي إلا تمهيد له وما بعد الموت يمثِّل الحياة الحقيقية "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان"، وما الموت إلا باب للانتقال من مرحلة إلى مرحلة، والعبور من دار إلى دار، فإذا تخيلنا أن الحياة هي لوحة كبيرة مرسوم عليها قصة الحياة الدنيا والآخرة، فإن الدنيا ستمثِّل قدرًا ضئيلًا من اللوحة حتى وإن كانت ممتلئة بالتفاصيل.

وهذا يجعلنا نطرح سؤالًا عن مدى إمكانية الحكم على الإسلام بحدوده وأحكامه وتشريعاته، إلخ، بعيدًا عن تلك الصورة الكاملة واللوحة المترابطة التي تكتمل فيها قصة الحياة الدنيا والآخرة؟!

لذلك قبل أن نتناقش في تفاصيل شبهة أو إثبات حكم أو الدفاع عن شعيرة أو شريعة؛ فلا بد أن نتفق على أصلي الإيمان بالله واليوم الآخر؛ فلنتفق أولًا ثم نختلف، أما البدء بالاختلاف الفرعي فلن يوصل إلى شيء!

فهل يعقل أن أتناقش مع مَن ينكر وجود الله حول تشريع مثل الجهاد أو عقد الذمة، إلخ!

فالبداية من الإيمان بالله واليوم الآخر.

ولذلك تجد الشرع يعلِّق كثيرًا من الأحكام على الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم هو بالتبع يثمر جميع شعب الإيمان "من كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يشربِ الخمرَ، من كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يجلسْ على مائدةٍ يشربُ عليها الخمرَ، من كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يخلوَنَّ بامرأةٍ ليس بينَه وبينَها محرمٌ" ، "مَن كانَ يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فليُكرِمْ جارَه، مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليَقُلْ خيْرًا أو لِيَصْمُتْ، مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، فليُكرِمْ ضَيفَهُ"، "مَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلا يَبِيعَنَّ مَغْنَمًا حتى يُقْسَمَ، ومَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، فلا يَرْكَبَنَّ دابَّةً من فَيْءِ المسلمينَ حتى إذا أَعْجَفَها رَدَّها فيه، ومَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلا يَلْبَسَنَّ ثوبًا من فَيْءِ المسلمينَ حتى إذا أَخْلَقَه رَدَّه فيه"، وغيرها الكثير من الأحاديث.

وقال الله تعالى: "لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ . إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ" وقال تعالى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وكذلك "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"، وذلك كله إنما "يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"، وجِماع ذلك كله: "أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"، فبالإيمان بالله واليوم الآخر تصلح أعمال الإنسان وأقواله، وعباداته، ومعاملاته، وكل شيء.


(فإذا امتلأ قلب المسلم بمعاني تعظيم الآخرة ووسيلية الدنيا -أي: كونها وسيلة لبلوغ الآخرة- أصبحت القرون المفضلة في وعيه أرقى المجتمعات وأشرفها بما بلغته من تنوير العلوم الإلهية، ومنازل العبودية، ثم الاجتهاد في تحصيل وسائلها الدنيوية الممكنة مع عدم الركون إليها، وأصبح المجتمع الغربي في نظره حالة من الانحطاط والظلامية بسبب ما سُلِبه من تنوير العلوم الإلهية والإعراض عن الله، والاستغراق في تدبير المعاش الحاضر وعلم ظاهر الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون) (مآلات الخطاب المدني، ص301).