ملتقطات حول الصيام.. مع الشيخ يوسف بن عيسى القناعي


محمد أحمد العباد


باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فهذه مقالةٌ أصلُ مادتها مأخوذ مما كتبه الأستاذ الكبير الشيخ يوسف بن عيسى القناعي رحمه الله، الذي لا يوجد مشروع في وطنه قام على دعائم البر والإحسان إلا وله فيه يد، ولا طريق من طرق الإحسان إلا وله فيه أثر، وكان من أشهر مؤلفاته كتاب (تاريخ الكويت)، وكذلك كتاب (الملتقطات) الذي لم يتحر فيه ترتيباً موضوعياً معيناً، بل جعل الموضوعات منثورة هنا وهناك، فانتقيت من الكتابين مواقف وأحكاماً تتعلق بشهر الصيام، فإلى المادة:

- أحداث وذكريات رمضانية في الكويت:

أ – رمضان ربيع الفقراء في الكويت:

لأهل الكويت مناقب يمتازون بها عن غيرهم، وإن كانت بلادهم لا تخلو من الطيبين رجال الفضل والإحسان إلا أن الكويتيين نسبة لحالتهم المالية وقلة عددهم يفوقون غيرهم في ذلك... «فمن مناقبهم: إكرام الضيف، والأجنبي، إذا نزل بساحتهم لا يعد إلا كواحد منهم، منازلهم في رمضان مفتوحة لإفطار الصائمين من الفقراء والمساكين، وتجد الفقير في رمضان كالشاة في أيام الربيع». انظر: تاريخ الكويت ص62، 63 (بتصرف).

ب – مسألة صوم يوم الشك تعزل قاضياً!

منذ عام 1208 هـ كان يتولى القضاء الشيخ محمد بن صالح العدساني إلى أن تولى الشيخ علي بن شارخ القضاء من سنة 1225 هـ؛ حيث باشر ابن شارخ القضاء نحو ثلاث سنين، والسبب: أنه جرى خلاف بين محمد صالح العدساني، وابن شارخ في صوم الثلاثين من شعبان إذا غم عليه، ثم عاد محمد للقضاء بعد وفاة ابن شارخ. انظر: تاريخ الكويت ص38 (بتصرف).

2 - طرائف ونوادر:

أ - الحج في رمضان:

« كنا في السبيليات (وهي قرية في البصرة) في سفينة للسيد خَلَف النقيب فزارنا أحد التجار وآثار الصيام بادية عليه، فلما جلس قال للسيد: إن الصيام في الصيف شديد، فكيف إذا كان الحج في رمضان؟ فقلت له: وهل يكون الحج في رمضان؟!

فانتبه لنسيانه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ألهتنا التجارة حتى صرنا نخلط الأوقات ولا نميزها». (الملتقطات ج2 ص234 ط: 2).

ب – شمس إلى نصف الليل!!

كان رجل يجلس عند أبي يوسف ولا يتكلم فقال له أبو يوسف: لماذا لا تتكلم؟ فقال: متى يفطر الصائم؟ فأجابه أبو يوسف: إذا غابت الشمس. فقال له: فإن لم تغب إلى نصف الليل؟ فأجابه: أصبتَ في صمتك وأخطأتُ في استدعاء نطقك. (الملتقطات ج2 ص257).

ج - نادرة:

«جرت مذاكرة عند الشيخ محمد العدساني في زكاة الفطر، وأنها تكون من غالب قوت البلد، فقال رجل من طلبة العلم: نعم، ولكن البر أفضل من غيره؛ لأنه هو غالب قوت البلد في رمضان.

فرد عليه القاضي: إذن فلتكن الفطرة تشريبة (أي ثريداً)!!». انظر: تاريخ الكويت ص40.

3 - فوائد من الفقه

أ - الرجوع إلى أهل الاختصاص أولى:

«إذا قطر الإنسان بأذنه ماء أو دهناً لا يفطر بذلك؛ إذ لا منفذ من الأذن إلى الدماغ بخلاف الأنف فإن السعوط يصل منه إلى الجوف»، وهذا القول اعتمده القاضي حسين والفوراني، وصححه الغزالي.

أقول: «إن الأطباء يرون أن لا منفذ من الأذن إلى الدماغ وهم أدرى من الفقهاء القائلين بالوصول». (الملتقطات ج1 ص25).

ب - صوم المسافر الذي يطيق الصوم:

«الذي أراه هو: إن كان السفر مريحا مثل السفر في البواخر الكبيرة فأولى للإنسان أن يصوم، وإن كان السفر فيه كلفة ومشقة فيجب الإفطار {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وأما المريض فيجب عليه الإفطار ولا يحمل نفسه ما لا تطيق». (الملتقطات ج3 ص384).

ج - مسألة في الصوم انفرد بها ابن تيمية:

«أن من أكل في شهر رمضان معتقداً أنه ليل فبان نهاراً فلا قضاء عليه»، كما هو في الصحيح عن عمر بن الخطاب وبعض التابعين وبعض الفقهاء..، والرسول [ يقول: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، فالحديث يؤكد قول من قال: إن الصيام صحيح، (الملتقطات ج2 ص286، ج3 ص385).

4 - مخاطبة رمضان كأنه شخص!!

نقل الشيخ يوسف قصيدة في وداع رمضان منها:

خليلي شهر الصوم زمَّت مطيه

وسارت وفود العاشقين بمسراه

فقوموا بنا نبكي على حسن عهده

وما فاتنا منه ونذكر حسناه

فيا شهر لا تبعد لك الخير كله

فأنت ربيع الوصل يا طيب مرعاه

ترى زمر الأحباب في كل ليلة

وقوفاً على أقدامِ ذُلٍّ به تاهوا

فمن قائم خوف الإله قصاره

ومن عاكف خوف الحبيب حمياه

عليك سلام الله يا شهر لا يكن

بآخر عهد من لقاك عهدناه

فعلَّق الشيخ رحمه الله بعد ذلك بقوله:

«إن وداع رمضان هو أن يودع بالطاعة وأعمال البر، وأما ما يفعله الخطباء من مخاطبة رمضان كأنه شخص يريد السفر فما لها أصل في كتاب الله ولا في سنة رسوله». اهـ (الملتقطات ج3 ص380-382 ط:2).

5 – من مختارات الشيخ يوسف من كتاب (الإفصاح) لابن هبيرة (1):

ذكر الشيخ يوسف في كتابه (الملتقطات ج4 - ص445 – 446 ط: 2) العديد من أحكام الصوم نقلاً عن كتاب (الإفصاح) لابن هبيرة، فمن ذلك قوله:

< اتفقوا على إباحة الفطر للمرضع إذا خافت على نفسها أو ولدها وإن صامت صح صيامها.

< واتفقوا على أنه إذا أكل وهو يظن أن الشمس قد غابت أو أن الفجر لم يطلع ثم تبين خلافه فعليه القضاء.

< واتفقوا على أن الحجامة لا تفطر، إلا أحمد فإنه يرى إفطار الحاجم والمحجوم.

< وأجمعوا على أن من غلبه القيء فصومه صحيح.

< وأجمعوا على أن كفارة المجامع في رمضان عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا، ثم اختلفوا هل هي على الترتيب أو على التخيير؟

< واتفقوا على أن المرأة الموطوءة في نهار رمضان مكرهة أو نائمة قد فسد صومها وعليها القضاء ولا كفارة عليها، وأن الموطوءة برضائها قد فسد صومها وعليها القضاء. ثم اختلفوا في وجوب الكفارة عليها.


ختاماً: أسأل الله سبحانه - في هذه الأيام المباركة - أن يرزقنا أحسن القول والعمل، وأن يعيد هذا الشهر الكريم على بلادنا في نماءٍ من العز، وعلوّ من القَدْر، وتمامٍ من السّرور، ومزيدٍ من النّعمة.. آمين آمين.

هوامش:

1 - وهو كتاب يقتصر على اتفاقات القول المعتمد لدى المذاهب الفقهية الأربعة فحسب.